الأحد، 7 أكتوبر 2018

حدث في برلين.. كل هذه السرقات والغزل العشقي لإسرائيل!

إن موضوع النقل والاقتباس أو ما نُطلق عليه نقديا السرقات الأدبية، أو الفنية من الموضوعات التي ناقشها الكثيرون من النقاد في العالم على مرّ عمر الفنون حتى اليوم، ويبدو أنه موضوع لن ينتهي ما بقيت الفنون بمفهوما الواسع؛ ففي العصور العربية القديمة ومع بدايات علم النقد العربي رأينا كتاب "الوساطة بين المتنبي وخصومه" لعلي بن عبد العزيز الجرجاني، وهو الكتاب الذي تعرض فيه لسرقات أبي الطيب المتنبي وما اتهمه به الكثيرون من المعارضين له، كما أوضح في هذا الكتاب مفهوم السرقة، وما يصح أن نُطلق عليه سرقة وما لا يصح أن نُطلق عليه ذلك، كذلك رأينا أبا هلال العسكري في كتابه المهم "الصناعتين" الذي أفرد فيه جزءا مهما من أجل بيان السرقات الأدبية وكيفية الحكم عليها، أيضا لا يمكن نسيان  الكتاب العمدة "طبقات الشعراء" لمحمد بن سلام الجمحي، وهو الكتاب المهم الذي بحث في سرقات الكثيرين من الشعراء والكتاب في وقته مع تصنيفهم.
أي أن موضوع السرقات الأدبية والفنية هو موضوع قديم قدم الكتابة والفنون في حد ذاتها؛ وهو ما دفع الكثيرين من النقاد لتناول هذه المعضلة التي يلجأ إليها العديدون ممن يتعاطون فعل الكتابة على مر العصور. ولكن مع تطور الوقت والزمن وظهور الكثير من الفنون الأخرى غير الشعر والسرد مثل الفن التشكيلي والسينما وغيرهما من الفنون التي لم نكن نعرف عنها شيئا اتسع مفهوم الفن؛ ومن ثم اتسع المجال للسرقة من هذه الفنون وغيرها التي ظهرت مؤخرا؛ فبات من الممكن أن يسرق الكاتب من السينما، أو العكس، وهذا ينطبق على العديد من الفنون الأخرى؛ الأمر الذي أدى إلى ازدياد العبء على الناقد الذي يتناول هذه الفنون؛ لا سيما أن اكتشاف السرقات ليس من الأمور اليسيرة بل هو في حاجة إلى ناقد موسوعي، مطلع على الكثير من الفنون؛ كي يستطيع اكتشاف هذه السرقات.
في عام 1998م قام المخرج الفرنسي الكندي François Girard فرانسوا جيرارد بإخراج فيلم "الكمان الأحمر" The Red Violin، وهو الفيلم الذي اشترك في إنتاجه كل من إيطاليا وكندا، والمملكة المتحدة، والذي فاز بجائزة الأوسكار لأفضل موسيقى تصويرية، ويدور الفيلم حول قصة الكمان الذي صنعه أنطونيو ستراديفاري Antonio Stradivari الذي توفي عام 1737م، أي أن أحداث الفيلم تنطلق من الكمان المصنوع في القرن السادس عشر؛ ليتتبعه الفيلم طيلة ثلاثة قرون من الزمن وكيف ينتقل هذا الكمان من مكان إلى آخر في رحلة زمنية يكون الكمان هو بطلها الأول بينما الأحداث والأشخاص الذين لهم علاقة به مجرد هوامش لهذا الكمان.
قد لا يكون هناك الكثيرون الذين يتذكرون هذا الفيلم وقصته الآن، لكنه كان من الأفلام المهمة في تاريخ السينما العالمية، والذي ترك أثرا عميقا في نفوس الكثيرين ممن يتابعون السينما؛ لذلك حينما صدرت رواية "حدث في برلين" للروائي المصري هشام الخشن عن مكتبة الدار العربية للكتاب- وهي فرع من فروع الدار المصرية اللبنانية- كان من المثير للدهشة القصوى أن نقرأ على ظهر الغلاف ما يلي: "آلة كمان أثرية لا تُقدر بثمن، تنتقل عبر ثلاثة قرون قبل أن تصل ليد عائلة ألمانية تُعاصر الحكم النازي، فتصير الكمان إرث بنات العائلة اللاتي يتفرقن بعد سقوط النازية وتمدد حائط برلين. تتفرق السبل بهن بين بحث وهروب، ويلتقين بعد عقود طويلة في بلاد لم تكن أبدا في الحسبان. رواية مختلفة ترتحل بك عبر الأماكن لترى شتات أبطالها وتحولات مصائرهم"!!
حينما نقرأ هذا الاقتباس الذي جاء على ظهر غلاف الرواية ونكون قد شاهدنا الفيلم من قبل؛ لا بد أن يصيبنا الذهول أمام ما قرأناه؛ فالمكتوب على ظهر الغلاف هو قصة الفيلم الإيطالي "الكمان الأحمر" كما شاهدناه؛ لذلك سنتساءل العديد من الأسئلة حينها: هل جُن الروائي ووصل به الأمر لهذه الدرجة حتى أنه تخيل أن مثل هذه السرقة لا يمكن اكتشافها؟! هل يعتقد أنه الوحيد الذي يشاهد السينما العالمية فقط، أم أنه يعتمد على جهل القارئ الذي يخاطبه، وظن أن هذا الجهل سيساعده كمؤلف للعبور بما سرقه وهو مطمئن القلب؟ أم أن هناك شخص ما كتب له الرواية وأوقعه في هذه الورطة؛ ومن ثم لم ينتبه الخشن لذلك؟
لكن، من الموضوعية عدم الارتكان إلى كلمة ظهر الغلاف كي يتعالى صوتنا ونتهم الكاتب بالسرقة؛ لاسيما أن الاتهام بالسرقة ليس من الأمور الهينة؛ وإلا كنا غير موضوعيين وظلمناه كثيرا؛ لذلك كان لا بد من قراءة الرواية بروية، والعودة مرة أخرى إلى الفيلم الإيطالي لنرى أوجه الشبه والاختلاف بينهما.
تبدأ رواية "حدث في برلين" للروائي المصري هشام الخشن بمزاد ضخم في برلين لبيع كمان أثري ورثته حفيدتين لعائلة شميدت هما ليلى وجريتا، وخلال المزايدة على أسعار الكمان نرى أنه يصل إلى الملايين من الدولارات، لكن المزاد يتوقف فجأة بعدما يصدر قرار من النائب العام يفيد بأن الكمان مُتنازع على ملكيته وبالتالي لا بد من توقف هذا المزاد حتى يتم الحكم في النزاع على الملكية.
من خلال استخدام أسلوب المونتاج السينمائي وتقطيع المشاهد سينمائيا، وهي التقنية التي استخدمها الروائي هشام الخشن ببراعة داخل روايته تقوم الرواية بالكامل؛ ومن ثم يعود إلى عام 1938م خاصة الليلة الي أُطلق عليها تاريخيا "ليلة الكريستال" حينما حاول النازيون الهجوم على ممتلكات اليهود ومتاجرهم وألحقوا بهم خسارة فادحة، وقد اكتسبت الليلة اسمها لكثرة الزجاج المحطم في الشوارع. هنا نتعرف على عائلة الضابط الألماني شميدت وزوجته وابنتيه- ليليان وهيلدا- وتخبرنا الأحداث أن هيلدا عاشقة للموسيقى والعزف على الآلات الموسيقية، بينما ليليان منخرطة مع الشباب الألماني المعجب بهتلر ونزعته التي ترى الجنس الألماني متفوقا على غيره من الأجناس في العالم. ولكن في هذه الليلة يُنقذ شميدت- رجل الشرطة الملتزم- راشيل مائير ابنة جارهم المرابي اليهودي من الشباب المتحمس للفتك بها؛ وهو الأمر الذي سيؤدي إلى تقاعده قسرا فيما بعد؛ بسبب تعاطفه مع اليهود، ولكن هذه اللفتة الإنسانية منه ستكون السبب فيما بعد لأن يرد مائير اليهودي الجميل لشميدت ويهديه الكمان الذي ظل على أرفف متجره سنوات طويلة غير قادر على بيعه؛ ومن ثم تئول ملكية الكمان إلى شميدت وابنتيه حيث تعزف عليه هيلدا المحبة للموسيقى.
يجد الشباب عملا لليليان في إدارة الأمن العام للرايخ الثالث؛ نظرا لحماستها الكبيرة وإخلاصها لأفكار هتلر النازية؛ ومن ثم تصبح سكرتيرة أدولف أيخمان التي تهتم بمكتبه وتقاريره، ولكن بعد انتهاء الحرب العالمية وسقوط ألمانيا المروع وانفصالها إلى ألمانيتين شرقية وغربية وقيام سور برلين للفصل بينهما، يبدأ اليهود في الصراخ وتكدير صفو العالم بموضوع المحرقة والهولوكوست وما عانوا منه؛ فتصبح ألمانيا مُدانة وعليها الدفاع عن نفسها؛ ومن ثم تبدأ الملاحقات لكل النازيين ممن اشتركوا في الحرب سواء من قبل إسرائيل، أو من قبل الألمان أنفسهم؛ من أجل إثبات حسن نيتهم ورفضهم لما تم في الحرب العالمية الثانية، هنا يكون شميدت قد مات هو وزوجته، وتنتقل الابنتان إلى مكان جديد للسكنى فيه وتحاولا أن تُخفيا هويتهما حتى لا يطارد ليليان أحد باعتبارها كانت تعمل مع أدولف أيخمان فيحملان اسم أمهما- بيكر- بدلا من شميدت.
لكن بعدما قررت ألمانيا الشرقية منع عبور مواطنيها إلى القسم الغربي، أو استقبال أحد من ألمانيا الغربية كان لزاما على هيلدا أن تترك شقيقتها في ألمانيا الغربية لتعبر إلى الشرق من أجل "سيب" حبيبها ووالد جنينها الذي ينمو في بطنها، ومن ثم انفصلت الشقيقتان بسبب السياسة.
تتباعد الخطابات بين الشقيقتين وتعلم ليليان أن أختها هيلدا قد أنجبت طفلة جميلة، وتتواعدا على اللقاء بعدما تأخذ ليليان تصريح لزيارة ألمانيا الشرقية، لكنها حينما تذهب لزيارة شقيقتها تُفاجأ باختفائها هي وزوجها وابنتها؛ فتعود إلى ألمانيا الغربية وتقدم بلاغا عن اختفاء أختها وأسرتها، ومن هنا ينتبه إليها ملاحقو النازيين حينما يلمحون اسمها الحقيقي "شميدت" ويبدأون في التخطيط لملاحقتها والقبض عليها، إلا أنها تحاول الهروب من خلال شبكة "الأوديسا" التي كانت تعمل على تهريب النازيين المُطالب بالقبض عليهم؛ فتهرب من خلال سويسرا إلى إيطاليا ومنها إلى الإسكندرية؛ لتستقر في القاهرة.
في المعادي تُقابل الطبيب النازي الهارب كارل ديبوش وتعمل كممرضة لديه حتى يجد لها عملا آخر، كما تتعرف على أحد المصريين الذي تصبح حاملا منه، وتحاول إسقاط حملها حينما تعرف أنها كانت مجرد نزوة فقط بالنسبة له، لكن الطبيب يقنعها ألا تتخلص من حملها في مقابل أن يتبنى جنينها إحدى الأسر المحرومة من الإنجاب. توافق ليليان على العرض وبالفعل تنجب طفلتها ليلى التي ستنسب إلى الأسرة المصرية وتهرب ليليان إلى شيلي لتموت هناك بعد تكوين أسرة أخرى لها.
بوستر فيلم الكمان الأحمر
تشك الشرطة في ألمانيا الشرقية في "سيب" ظنا منهم أنه مناوئ للسلطة والشيوعية حيث يسخر من أدائهم المتراخي، فيلقون القبض عليه هو وهيلدا وابنتهما التي تذهب إلى الملجأ بينما يموت "سيب" من فرط التعذيب، وتعود هيلدا إلى ألمانيا الغربية بعد مفاوضات بين الألمانيتين. تتبنى إحدى الأسر جريتا ابنة هيلدا لكن حينما يموت الأبوان تعود مرة أخرى إلى الملجأ ليعمل النظام على تربيتها، وتصبح من بطلات السباق بالدراجات التي تمثل ألمانيا الشرقية في كل المحافل الدولية الرياضية وتجني لها الكثير من ميداليات البطولة، ولكن في أولمبياد سيول في كوريا الجنوبية تُصاب جريتا لينهار جسدها تماما فيما بعد وتصبح على شفا الموت بسبب كثرة العقاقير الطبية التي كان يحقنها بها مدربوها كي تنال الميداليات المتتالية لا سيما أنها اكتشفت فيما بعد أنهم كانوا حريصين على أن يعطوها يوميا حبة زرقاء باعتبارها فيتامينات بينما كانت مجرد هرمونات ذكورية؛ ونتيجة لكثرة العقاقير التي تناولتها طيلة فترة بطولاتها انهار جسدها تماما وباتت على شفا الموت.
تكتشف جريتا ما حدث لأسرتها بعد سقوط حائط برلين ومن ثم تبدأ في البحث عن ابنة خالتها بعدما ماتت خالتها ليليان في شيلي وأرسلت إلى ابنة اختها كل الوثائق التي تخص ليلى التي تعيش في القاهرة من خلال المحامي هيلموت، وبالفعل يصل المحامي إلى ليلى التي تذهب إلى ابنة خالتها في ألمانيا، وتخبرها جريتا عن أمر الكمان الذي تعرضانه في المزاد وتنجحا في نهاية الرواية في بيعه بمبلغ 10 ملايين دولار.
هذه هي أحداث رواية "حدث في برلين" للروائي هشام الخشن، وهي أحداث كان الروائي يأتي بها على شكل مشاهد سينمائية؛ ومن ثم كان هناك الكثير من التقديم والتأخير والقطع للعديد من الأحداث التي جاءت كشذرات متناثرة- لا تتبع أي تسلل تاريخي أو منطقي للحدث- وإن كان القارئ/ المشاهد يستطيع تجميع الأحداث في النهاية ليربطها ببعضها البعض في مشهد سينمائي حقيقي حرص الروائي عليه ونجح فيه.
هنا لا بد من العودة إلى فيلم الكمان الأحمر مرة أخرى وعلاقته بالرواية لنتساءل: هل نقل الروائي هشام الخشن الفيلم إلى روايته؟
لا يمكن الجزم بأن الروائي نقل الفيلم كما هو إلى روايته، أي أنه لم يحول الفيلم إلى عمل روائي سردي؛ فهناك الكثير من الأحداث في الفيلم التي لم نرها في الرواية، كما أن أحداث الرواية تختلف عن الفيلم، لكن الروائي كان من الذكاء ما جعله يقتبس التيمة الأساسية للفيلم فقط ويجعلها المحرك الأساس لأحداث روايته، وهي تيمة الكمان الأثري القديم الذي ينتقل من عصر إلى آخر ومن مكان إلى آخر لتنتهي الرواية بإتمام المزاد في نهاية الأمر، كما أن الفيلم يبدأ بمزاد كبير لبيع المزاد الأثري وهو نفس المشهد الذي تبدأ به رواية الخشن وتنتهي به أيضا، أي أن الروائي الذي أعجبته تيمة الفيلم الإيطالي اعتمد عليها اعتمادا كليا من أجل بناء روايته ليبدأ بها وينتهي بها أيضا من دون أن يشير إلى ذلك، في حين أنه لو كان قد أشار إلى أن هذه التيمة مأخوذة من فيلم الكمان الأحمر التي رأى أنه لا بد من العمل عليها بشكل مختلف، ما كان قد آخذه أحد، أو قلل من قيمة الرواية أو خياله الذي رأى أنه قد يُهان إذا ما أشار إلى ذلك. يكتب الروائي في روايته على لسان خبير المزادات: "هذه القطعة المدهشة صنعها أنطونيو ستراديفاري في حقبته الذهبية، ما بين عامي 1700م و1725م. كما تعلمون، فإن ستراديفاري هو أهم وأشهر صناع الكمان في التاريخ، كما أن آلاته لها خواص عجيبة لم يماثلها أحد من حيث نقاء الصوت وقوته. الجزء العلوي من الكمان مصنوع من خشب الصنوبر ومبطن بخشب الصفصاف، أما ظهره فمصنوع من خشب الجوز. جميع الأخشاب معالجة بخلطات اشتهر بها المُصنّع، أساسها البوراكس وأملاح الصوديوم والبوتاسيم. الدهان النهائي للكمان من ورنيش الفيرونيكا بيانكا، المصنوع من بياض البيض والصمغ العربي".
 إن الاقتباس السابق هو ما نراه في الفيلم ونقرأه في التاريخ ونراه في الرواية، وهنا نتساءل: لِمَ لم يُشر الروائي إلى  مصادره التاريخية التي أتى منها بالكلام الذي ورد على لسان مثمن المزادات؟ إن الإشارة للمصادر من الأمور المهمة التي سنعود إليها بعد قليل. وهنا يتضح لنا أن الخشن حينما سرق التيمة حاول سرقتها بشكل من الذكاء الذي لم يساعده كثيرا؛ لأن مثل هذه التيمات لا يمكن لها أن تتكرر، كما أنها ليست من الأفكار أو الأمور الوارد فيها توارد الأفكار أو تشابهها؛ لذلك لا يمكن القول: إن الأمر لا يعدو أكثر من توارد أفكار، بل هو نقل مع سبق الإصرار والترصد للفكرة، قام بنقلها بشكل كامل وإن اختلفت الأحداث بين الفيلم والرواية فيما بعد.
لكن هل اقتصر نقل هشام الخشن على الفيلم الإيطالي "الكمان الأحمر" وتيمته الرئيسية فقط، أم تعدى الأمر إلى أمور أخرى؟
إن القارئ الواعي لرواية "حدث في برلين" سيتبين له أن الروائي كان حريصا على نقل الأحداث التاريخية الخاصة بالنازية في ألمانيا نقلا أمينا، أي كما حدثت ونقلها لنا التاريخ تماما من دون أي إضافة أو نقصان، وهذا ليس عيبا في حقيقة الأمر، لكننا مع التقدم في قراءة الرواية سنجد أن معظم أحداث الرواية ليست سوى تاريخ محض تمت صياغته في قالب روائي من دون الإشارة إلى المصادر التي أخذ عنها الروائي، وكأنما الروائي رأى أن الإشارة إلى المصادر التاريخية قد ينتقص من قيمة عمله الروائي؛ ومن ثم كان حريصا على عدم الإشارة إلى هذه المصادر مفضلا في ذلك إيهام القارئ بأن كل ما ورد في الرواية من أحداث كان محض أحداث وشخصيات فنية من خياله الخصب وليست مجرد تاريخ محض نقله بشكل روائي.
قد يتساءل البعض: وهل نقل الأحداث التاريخية وصوغها في قالب روائي يُعد من السرقات أو من الممكن أن نؤاخذ عليه الروائي؟
بالفعل، وهو سؤال في محله، إن عدم الإشارة إلى المصادر التاريخية التي يأخذ منها الروائي في روايته، لا سيما أن النسبة العظمى من أحداث الرواية تعتمد على هذا التاريخ يُعد سرقة حقيقية؛ لأن الخيال في الرواية لا يتعدى نسبة ضئيلة جدا من أحداثها في مثل هذا الموقف، وبالتالي تكون الرواية قائمة على التاريخ وليس على الخيال، وهنا لا بد من الإشارة إلى المصادر التي أخذ عنها الروائي خاصة أن الروائي كان حريصا على نقل التاريخ كما حدث تماما بالفعل من دون أي نقصان مثلما رأينا في اختطاف أدولف أيخمان مثلا من الأرجنتين على يد الموساد ونقله إلى إسرائيل ومحاكمته التي جاء بها الروائي حرفيا كما حدثت، ثم إعدامه في الرملة.
كما أننا لا بد لنا من التساؤل: لِمَ حرص الروائي على وجود بعض الهوامش في روايته وهي الهوامش التي أشار فيها إلى "ليلة الكريستال" حيث كتب في الهامش: "مصطلح أُطلق على ما حدث ليلتي 9 و10 نوفمبر 1938م ضد يهود ألمانيا، حيث حطمت محالهم واعتقل المئات منهم، واكتسبت الليلة اسمها لكثرة الزجاج المحكم في الشوارع"، وغيرها من الهوامش مثل تعريفه للجيتوهات: "منطقة يعيش فيها مجموعة من السكان، طوعا أو كرها، لهم خلفية عرقية أو دينية واحدة. ومعناها المعزل"، أو تعريفه للجستابو: "الشرطة السرية الألمانية، أُنهيت خدماتها 1945م"، وتعريفه للرايخ: "الاسم الرسمي لألمانيا في الفترة من 1871م إلى 1945م، ويعني الإمبراطورية الألمانية"، كذلك تعريفه للفوهرر: "لقب الزعيم النازي أدولف هتلر، وتعني القائد".
نقول إذا كان الروائي هنا قد حرص على وضع هذه الهوامش التي أشار فيها إلى بعض هذه الأشياء، ثم حرص على ألا يشير إلى أي مصدر تاريخي أخذ عنه أحداثه التاريخية التي تمثل متن الرواية فنحن لا يمكن لنا إلا أن نظن ظنا واحدا، وهو أن الروائي حينما وضع هذه الهوامش قد وضعها لإيهام القارئ بأمانته وموضوعيته، وأنه يشير إلى مصادره إذا ما اقتضى الأمر، في حين أن الأحداث التي كانت في حاجة فعلية للإشارة إليها لم يشر إليها بعدما وقع القارئ في شرك الظن بأمانة الكاتب؛ ومن ثم فلن يبحث خلفه فيما بعد إذا ما كان قد نقل معظم أحداث روايته أم لا، وهذا ما يمكن أن نُطلق عليه السرقة بذكاء من خلال إيهام القارئ بالنزاهة والأمانة في حين أنها منتفية تماما.
المخرج الكندي فرانسوا جيرارد
إن القارئ المُدقق إذا ما قرأ في الرواية مشاهد محاكمة أدولف أيخمان ثم بحث في شبكة الإنترنت عن محاكمة أيخمان لوجدها بالتفصيل سواء مسرودة بالكتابة أم مصورة بالفيديو، وسيتأكد بنفسه أن ما كتبه هشام الخشن لم يكن سوى تاريخ منقول حرفيا كما حدث من دون الإشارة إليه لدرجة أن طلب أيخمان لزجاجة النبيذ بعد إعلامه بالحكم عليه بالإعدام هو ما يوجد حرفيا في التاريخ، ومن هنا نندهش؛ لأن الكاتب لو كان قد أشار إلى مصادره كما أشار لبعض التعريفات من قبل لما كان هذا الأمر قد انتقص من روايته شيئا. يكتب الخشن: "طلب أيخمان زجاجة نبيذ ابتلع نصفها ودخن معها عشر سجائر وهو يكتب خطابا أخيرا لزوجته وأولاده. بعد ذلك قام فحلق ذقنه وغسل أسنانه قبل أن يلبس بنطالا بنيا وقميصا أبيض"، في موضع آخر يكتب: "احتفظ أيخمان بهدوئه طوال المحاكمة. حين كان يجلس على المكتب خلف قفصه الزجاجي، كان يقوم بتنظيفه فور جلوسه ثم يرتب بدقة أوراقه وكأنه على وشك بداية يوم جديد في عمله"، وكتب: "اختار دائما أن يوجه نظره إلى المدعي العام الجالس أمامه، ولم ينبس وجهه بأي رد فعل عما كان يُقال عنه مهما حمل المستند من اتهامات، أو جاشت عواطف الشهود الذين أتوا بهم ليعطوا تفاصيل معاناتهم في معسكرات النازي"، كما أن مشهد اختطاف أيخمان من الأرجنتين كُتبت من قبل الروائي كما ذكرتها مصادر التاريخ حرفيا، أي أن الروائي كان أمينا في النقل، لكنه لم يكن أمينا في الإشارة إلى المصادر التي نقل منها، وفي هذا سرقة واضحة لا يمكن تأويلها على أي تأويل آخر؛ لا سيما أنه قد وضع الهوامش من قبل لما هو أقل أهمية، وأقل قيمة، في حين أنه تغاضى عن الإشارة إلى ما هو أثقل وزنا.
هذا التاريخ نراه في العديد من الأحداث والشخصيات على طول الرواية منها كذلك شخصية الملاك أو الطبيب كارل ديبوش الذي هرب إلى مصر وعاش في المعادي، وحاول الموساد اغتياله أكثر من مرة من خلال استخدام الخطابات المفخخة، وهو الشخصية الذي كان المصريون يطلقون عليها "الدكتور دبوس" ليكون النطق عليهم أكثر سهولة. سنرى في الرواية هذه الشخصية أيضا كما ذكرها التاريخ تماما من دون أي اختلاف، بل سنرى الرجل النوبي في الرواية يُطلق عليه الدكتور دبوس تماما كما كان المصريون يفعلون حينما كان يعيش بين ظهرانيهم.
لكن لأن الروائي رأى أن عدم الإشارة إلى مصادره قد تُقلل من قيمة روايته، ولأنه رأى أن عدم الإشارة أفضل بالنسبة له؛ حيث سيوحي للقارئ بأن هذه الأحداث والشخصيات محض خيال فني يتميز به الروائي الذي ينطلق خياله في الآفاق العلا، ولأنه يظن أن القارئ بالضرورة جاهل غير مطلع ولا يقرأ؛ ومن ثم فلا يمكن له اكتشاف شيء؛ فقد فضل عدم ذكر أي مصدر من مصادره واكتفى بالنقل فقط.
هل ثمة من يذكر رواية "قرية الألماني" للروائي الجزائري بوعلام صنصال؟
أظن أن كل من سيقرأ رواية هشام الخشن "حدث في برلين" لا بد له أن يتذكر رواية "قرية الألماني" للروائي الجزائري؛ حيث يتناول صنصال في روايته حياة النازي الهارب هانز شيلر الذي شارك في جرائم القتل الجماعي في معتقل أوشفيتز، ثم اختفى عن الأنظار بعد عام 1945م، وسلك طرقا ملتوية من تركيا إلى مصر حتى استقر به المقام في الجزائر حيث جيش التحرير الجزائري، وانخرط فيه وبات مقاتلا مع الجزائريين ضد الاحتلال الفرنسي. يفضل هانز شيلر في رواية صنصال الاستقرار في قرية سماها الروائي "عين الذهب" بضواحي مدينة سطيف؛ لتدريب مناضلي جيش التحرير الوطني، وهناك ينال الجنسية الجزائرية ويعتنق الإسلام بعد الاستقلال ويصبح رمزا بطوليا، كما يصبح مبجلا في القرية لحكمته ومن ثم يتعلق به السكان، ونتيجة لذلك يقوم بمشاركتهم في حرب التحرير.
إن رواية بوعلام صنصال الصادرة في 2008م من الروايات التي كانت حريصة على تتبع أحد النازيين الذين هربوا إلى الجزائر وعاشوا فيها، وربما تعود أهمية الرواية الجزائرية إلى تأمل بوصنصال لما حدث في جيش التحرير الجزائري الذي اتبع مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، أي أن جيش التحرير لم يكن نقيا ولا مثاليا كما تصوره معظم الجزائريين، بل كان يضم بين صفوفه بعض النازيين الذين باتوا من جنوده لمجرد مساعدتهم في النضال وتدريبهم على القتال، وهذا ما عُرف فيما بعد بالصدفة؛ ليدمر فكرة نقاء ومثالية جيش التحرير الجزائري؛ الأمر الذي جعل بوعلام صنصنال يقف طويلا أمام الحدث محاولا صياغته روائيا؛ مما أدى إلى منع تداول الرواية في الجزائر.
لعل ثمة تشابها كبيرا بين رواية صنصال ورواية الخشن، وهذا التشابه لا يمكن رده إلى توارد الخواطر أو الأفكار، بل هو إعجاب بالفكرة مع سبق الإصرار والترصد؛ الأمر الذي جعل الخشن يكتب روايته التي تكاد تتشابه إلى حد كبير مع رواية صنصال؛ حيث يتتبع كل منهما حياة أحد الألمان ورحلته من ألمانيا إلى البلد الذي سيهرب إليه، ثم يتتبع حياته فيما بعد وما ستؤول إليه.
كما أن ثمة تساؤل لا يمكن تجاهله أو إبعاده عن الذهن حينما نقرأ رواية "حدث في برلين" للروائي هشام الخشن وهو: لم يكتب هشام الخشن عن النازية، والهولوكوست، وما عاناه اليهود، ومطاردة النازيين، وتتبع عائلة ألمانية من ألمانيا إلى مصر، ثم العودة إلى ألمانيا مرة أخرى؟ ما الذي يجعل كاتبا مصريا يتتبع التاريخ الألماني ويكتب عن شخصيات ألمانية وحياة ألمانية في حين أنه ليس بألماني الجنسية ولا الثقافة ولا المنشأ ولا الهوى؟ وهل موضوع الهولوكوست والنازية قد بات هما قويا لدى أحد الكتاب المصريين الذين لا يتقاطعون مع هذه الأمور من قريب أو بعيد لدرجة أن تلح عليه الفكرة وتجعله يصوغها في رواية؟ أظن أنه لو كان فلسطينيا فالأمر يمسه من قريب أو من بعيد، أي أن هناك ثمة تقاطعات- تجاوزا- لدى الفلسطيني إذا ما كتب عن الهولوكوست كما فعل ربعي المدهون- وهذا ليس تبريرا للمدهون، لكن محاولة لفهم الحدث-، كما أن ثمة تبريرا لدى بوعلام صنصال الذي وجد إحدى القرى الجزائرية التي يُطلق عليها قرية الألماني، ومن ثم حينما عرف سبب التسمية وأن ثمة نازيا كان يعيش فيها وشارك في حرب التحرير؛ فقد كان مبرره قويا لأن يكتب روايته، ولكن ما هو المبرر القوي والحقيقي الذي قد يدفع هشام الخشن لكتابة مثل هذه الرواية ويبحث في هذا التاريخ اللهم إلا مغازلة اليهود من خلال التباكي على محرقة الهولوكوست، وإدانة الألمان والنازية كما رأينا في الرواية.
إن من يقرأ رواية "حدث في برلين" إذا ما حذفنا اسم هشام الخشن من غلافها سيظن أنها إحدى الروايات المترجمة إلى العربية؛ نظرا لأن أحداثها ومشاكلها، وهمومها لا تمس القارئ المصري في أي شيء، وهذا يلقي بالكثير من ظلال الشك على الرواية والروائي معا، ويعود بنا إلى موضوع السرقات مرة أخرى؛ لتميل كفة الظن بالسرقة إلى هذه الرواية، أو أنها مجرد صفقة مع جهة من الجهات من أجل التباكي على اليهود والتعاطف معهم وإدانة الألمان كما رأينا فعليا في الرواية؛ ومن ثم الفوز بإحدى الجوائز العربية المشبوهة التي باتت تُمنح فقط لمن يبدي التعاطف مع اليهود كما حدث مع رواية "مصائر" لربعي المدهون التي نالت البوكر رغم سذاجتها، وفقرها اللغوي والخيالي، وسطحيتها المبالغ فيها؛ وبالتالي فنحن لا نستبعد أن تكون رواية " حدث في برلين" على رأس قائمة جائزة "البوكر" هذا العام؛ بما أنها تغازل اليهود كل هذا الغزل.
الروائي هشام الخشن
إن مغازلة اليهود وإدانة الألمان تبدو لنا واضحة تماما في رواية "حدث في برلين" منذ الصفحات الأولى في الرواية، وليس أدل على ذلك إلا ما كتبه الروائي قبل البدء في أحداث روايته حينما حرص على أن يكون تصدير الرواية بقوله: "لو استرقنا السمع، سيأتينا من بعيد أنين ضحايا البشر عبر التاريخ، يشكون ظلم نظرائهم الذين استظلوا بوجوبية ما اقترفوه من بشاعات.. سيؤرقنا الأنين بعض الوقت، ثم سيخفت سريعا حين تحيل ذاكرتنا أولئك الضحايا لأرقام مسلسلة في مدونة الزمن"، أي أن الروائي يشعر بالكثير من الألم الذي يقض مضجعه؛ فيجعله غير قادر على النوم راضيا من دون تأمل هذا الظلم الكبير الذي وقع على اليهود من قبل النازيين الأشرار، وهنا لا بد لنا أن نتساءل: إذا كان هذا التصدير عاما يخص الإنسانية- وهو ما لا يمكن تصديقه- فلِمَ يشعر الروائي بمثل هذا الذنب، ولِمَ لم يشعر بالشفقة والألم على الأرمن مثلا أو غيرهم الكثيرين ممن لاقوا الكثير من المذابح على مر التاريخ؟ أظن أن شعوره بمثل هذا الشعور تجاه الأرمن ومن ثم كتابة رواية عن معاناتهم كان من الأجدى به أن يفعله؛ نظرا لأن الآلاف من الأرمن هاجروا واستقر بهم المقام في مصر، وما زالوا يعيشون حتى اليوم بين ظهرانينا. هنا فقط يكون مثل هذا التصدير لرواية عن الأرمن منطقيا ومقبولا. كما لو أنها كانت عن معاناة الفلسطينيين الذين يرتبط بهم العرب ارتباطا يكاد يكون كالعقيدة الدينية- وليس قوميا فقط- سيكون الأمر أكثر منطقية وقبولا، لكن الروائي هنا فضل أن تكون الرواية عن الألمان والهولوكوست ومعاناة اليهود التي تشعره بالكثير من الألم والهوان والشعور بالذنب الذي لا شفاء منه؛ الأمر الذي جعله يكتب هذه الرواية؛ كي يتطهر، ومن هنا يكون هذا التصدير من قبيل الاعتذار لليهود فقط من دون غيرهم على ما حدث معهم، وليس موجها إلى الإنسانية والملايين من البشر والعرقيات الذين عانوا معاناة تفوق بمراحل ما عاناه اليهود.
في الخطاب الذي كتبته ليليان إلى شقيقتها هيلدا تقول: "الأغرب يا أختي هو لما أصبحت مُطاردة وكيف تحولت حياتي إلى هروب كبير. لم أكن سوى سكرتيرة بسيطة لأيخمان أنظم مواعيده وأضع ملفاته في مكانها. نعم كنت أستشعر عظمته وأنا أعمل إلى جواره، ولكن ألا تشعر كل فتاة تعمل إلى جانب ذي منصب عظيم بما شعرت نحوه. لم أعرف ولم يكن لي أن أعرف أي شيء عن الجرائم التي كانت تُرتكب؛ وهل عرف عوام الألمان ببشاعة ما اُقترف إلا بعد أن اندحرنا في الحرب؟ هأنذا على فراش موتي لا أجد سببا لما آلت إليه حياتي سوى أن أحدهم قرر أن مجاورتي لأيخمان سبب كاف أن أُجرم". في هذا الاقتباس ثمة تجريم حقيقي، وإدانة لما فعله الألمان باليهود في الحرب العالمية، وقد حرص الروائي هنا أن يأتي هذا التجريم والندم على هذه الجريمة على لسان ألمانية؛ ليكون بمثابة الاعتذار لليهود عما حدث معهم، كما أنه يحمل في طياته محاولة لإشعار القارئ بالعطف على اليهود وما حدث لهم، هذه المحاولة لاستمالة المشاعر باتجاه اليهود نراها غير مرة بين سطور الرواية حتى لكأنما يحرص الروائي على كتابة ذلك من أجل المزيد من الاعتذار والإشفاق على اليهود، واستمالة قلوب القراء باتجاه الظلم الواقع عليهم؛ فنراه يكتب عن عائلة مائير اليهودية أثناء هروبها: "حين وصلوا إلى ميونيخ، اختبأوا في بدروم أحد بيوت المتعاطفين الألمان ممن تبقت لهم شجاعة أن يناهضوا ضيم الحكام، ضد من اختاروا أن يضطهدوا ويطاردوا أينما كانوا"، وفي هذا القول إدانة حقيقية للألمان الذين يراهم المؤلف مجرمين، وإن كان هناك بعض الشرفاء منهم الذين تعاطفوا مع اليهود المظلومين، وهو ما نلاحظه أيضا حينما ينتقل الحديث إلى راشيل ابنة مائير فيكتب: "حين استعادت حريتها، قطعت على نفسها وعدا ألا تندثر أهوال ما عانته مع قومها يوما، وأن تستمر في حكي مأساتها ما دامت بها حياة. استكملت دراستها حتى حازت الدكتوراه وأصبحت أستاذة التاريخ اليهودي في جامعة برلين. درست الأجيال الظلم الذي ناله اليهود على يد هتلر، وكتبت قصتها في معسكرات الموت في كتاب حقق أعلى المبيعات. مرت السنون وهي وحيدة لا رفيق لها وهي مستمرة في حمل رمحها من أجل ما كرست حياتها له".
إن الروائي هنا يصر على استدرار الشفقة والدموع من القارئ الذي لا بد له أن يميل شعوريا باتجاه اليهود المظلومين الذين لاقوا من الظلم والهوان والعذاب ما لم يلاقه غيرهم في العالم- وكأنهم لا يفعلون ما هو أفدح بالفلسطينيين-؛ ومن ثم فإن شبهة مغازلة اليهود ومحاولة استدرار عطف العالم عليهم قد فاقت لدى هشام الخشن أكثر مما يفعله اليهود أنفسهم لكسب تعاطف العالم معهم!
لكن هل يكتفي هشام الخشن هنا بمحاولة التباكي واستدراج القارئ للوقوع في مشاعر التعاطف مع اليهود فقط؟
لا، إن الروائي من خلال روايته يحاول تقديم الشخصيات اليهودية في صورة ملائكية، وهذا ما نراه حينما يتحدث عن راشيل مائير فيكتب: "حين قابلت شيمون فايتسمان في الأسبوع الفائت، طال الحديث بينهما. جمعهما نفس المقهى الذي تقابلا فيه قبل سنين. تذكرين أني تحدثت معكِ منذ ما يقارب الثلاثين عاما. نعم تحدثت معي وقتها عن ليليان شميدت. وعدتيني أن تردي عليّ ولم تردي حتى اليوم. ما طلبته مني وقتها كان سيجعلني أشهد بما لم أعلم! لم أرد أن أشهد ضد إنسانة لا أظنها شريرة. لاحظت راشيل صدمته من ردها حين طال صمته؛ فبادرت تلطف الأجواء: لا تزال تصطاد النازيين.. أتابع أخبارك وانتصاراتك". في هذا الاقتباس يرغب المؤلف في تصوير الشخصية اليهودية باعتبارها شخصية ملائكية لا يمكن لها أن تظلم غيرها؛ فحينما طلب منها فايتسمان أن تشهد ضد ليليان شميدت باعتبارها كانت تعمل مع النازيين رفضت راشيل فعل ذلك مُبررة رفضها بعدم رغبتها في الشهادة ضد من لا تظنها شريرة! وفي هذا الموقف محاولة واضحة لاكتساب المزيد من التعاطف مع اليهود الذين يتحلون بالملائكية والمزيد من الصفات النبيلة، أي أن المؤلف هنا يعي جيدا ما يفعله من أجل تجميل صورة اليهود واستدرار المزيد من الدموع والشفقة عليهم.
إلا أنه لا يكتفي بذلك فقط، بل يحاول الاعتذار لليهود نيابة عن الألمان الأشرار حينما يكتب على لسان المذيع الألماني الذي يتحاور مع ليلى: "ولكن جرائم النازية كانت شنيعة؛ ألا تتفقين معي؟ بلا شك، هي من أشنع ما ارتكبته البشرية من جرائم"، أي أن اليهود قد لاقوا ما لم تلاقه الإنسانية من توحش وظلم، وفي هذا الاقتباس تأكيد على ذلك من قبل المذيع وليلى أيضا. لكن المؤلف يشعر بأن كل هذا غير كاف من أجل التعاطف والاعتذار لليهود؛ فيعود مرة أخرى لتصويرهم في صورة الملائكة حينما يكتب: "ها نحن قد عدنا وما زالت ليلى عز الدين صاحبة الستراديفاري الثمين معنا.. احكِ لنا كيف انتهت القضية إلى الحفظ؟ بالإضافة إلى الأوراق التي بحوزتنا، كانت هناك شهادة في صالحنا أثبتت ملكيتنا للكمان. شهادة راشيل مائير؛ أليس كذلك؟ نعم، جارة أمي في برلين وقت الحرب.. وأبوها هو من أهداهم الكمان الذي كان مرهونا لديه في محل رهوناته. راشيل أستاذة تاريخ في جامعة برلين ومن ضحايا النازي وقضت عدة سنوات في معسكر أوشفيتز.. ألم تستغربي أن تشهد لصالحكم؟ أصبحنا في زمن نستغرب حين يشهد أحد بالحق.. أظن السيدة راشيل أدلت بما أملاه عليه ضميرها وبما عرفت أنه الحقيقة"!!
بالتأكيد علامات التعجب من عندنا؛ نظرا لأن الروائي هنا يرغب في الإيغال في أنسنة اليهود وإضفاء مسحة الإنسانية والملائكية والتزامهم بالحق، أي أنه يوغل في مغازلتهم والاعتذار لهم نيابة عن الألمان النازيين، بل نيابة عن العالم كله، وهو ما نراه في السؤال التالي حينما يقترح عليها بالتبرع بقيمة الكمان لليهود: "وألا ترين أن ضحايا الهولوكوست يستحقون مثل هذا التبرع؟ بالتأكيد هم تعرضوا لبشاعة وجرم عظيم.. دعني أنا أسألك: هل تم تعويض كل ضحايا الهولوكوست؟ بالتأكيد لا، ولكن كل من يستطيع أن يساهم يفعل ذلك"! إن الكاتب يرغب منا جميعا التبرع لليهود على ما أصابهم في الوقت الذي يبيدون فيه الفلسطينيين ويفعلون بهم أبشع مما فُعل بهم على يد النازي!
لكن، بما أن الروائي يدرك جيدا أنه يمارس لعبة مكشوفة تماما لمغازلة اليهود وأنسنتهم؛ فهو يحاول أن يحفظ القليل من ماء وجهه ويراوغ ليجعل ليلى تقول للمذيع في شكل من أشكال إخفاء جريمته التي أحكمها في كتابة روايته: "أو لعلي أتبرع لضحايا الصراع الفلسطيني، ومن شردوا وقتلوا طوال سنوات دفاعا عن وطن سُلب منهم"، وكأنه ظن أنه بهذه العبارة التي قد تتعاطف مع الفلسطينيين سيمحو روايته التي بناها بالكامل على الدفاع عن ضحايا النازي من اليهود ومحارق الهولوكوست.
لا يمكن إنكار أن رواية "حدث في برلين" للروائي المصري هشام الخشن من الروايات المحكمة التي عمل عليها الروائي بشكل كبير من الاهتمام والبراعة، ومن ثم خرجت في النهاية بشكل مُحكم من حيث البناء والأحداث، كما أن استخدام الروائي تقنية المونتاج السينمائي وتقطيع المشاهد كانت من الآليات السردية التي أفادته كثيرا في بناء الرواية لا سيما أنه كان حريصا على التقديم والتأخير في الأحداث الروائية؛ الأمر الذي يزيدها تشويقا وإحكاما ويعطيه الفرصة للمزيد من تأمل الحدث وتجويده، ولا يمكن نسيان براعته في استخدام تعدد الأصوات الروائية حيث كانت كل من ليليان وهيلدا وليلى وجريتا يتحدثن كل منهن بالضمير الأول- ضمير المتكلم- بينما باقي أحداث الرواية بضمير الغائب؛ الأمر الذي يحتاج معه القارئ إلى المزيد من التركيز والاهتمام بفعل القراءة كي يدرك المتحدث في كل مشهد من المشاهد.
الروائي الجزائري بوعلام صنصال
لكن رغم براعة البناء والسرد في رواية "حدث في برلين" وقع المؤلف في بعض الأخطاء التي لم يكن تأثيرها السلبي كبيرا على الرواية؛ نظرا لإحكامها في الكتابة والبناء؛ فنراه يكتب حينما تصل ليليان هاربة إلى مصر: "في التاكسي من محطة القطار حتى وجهتي، تناقض الزخم حتى خمد تماما على طريق يساره مزارع مترامية ويمينه النيل العظيم يجري شريانا وعلامة لبلد بأكمله". إن هذه الجملة السابقة التي تصف فيها النيل بالعظمة لا يمكن لها أن تُقال على لسان أجنبي لا يعرف شيئا عن مصر ويزورها للمرة الأولى في حياته، ولا ينتمي إليها؛ فأن تصف مصر والنيل بالعظمة لا يمكن وروده إلا على لسان مصري وليس أجنبي يزورها للمرة الأولى.
كذلك وجدنا الروائي يستخدم الحروف المنقوطة بثلاث نقط من دون تفسير السبب في ذلك؛ فنراه يكتب الإمبريالية بثلاث نقط تحت حرف الباء، وهو ما لا نستخدمه لغويا، كذلك الأمر مع مفردة الأوليمبية فيضع ثلاث نقاط أيضا تحت حرف الباء، ومفردة لوس أنجلوس حيث يضع ثلاث نقاط تحت حرف الجيم، وهو ما لم نعتده في كتابتنا العربية من قبل.
كما نلاحظ أن ليليان في خطابها الذي كتبته لأختها هيلدا تتحدث إليها عن أهل شيلي وتاريخها وسياستها، وهو ما بدا لنا مقحما في السرد ولا داعي له اللهم إلا استعراض الكاتب لمعلوماته؛ فلا علاقة لشيلي وسياستها وأهلها بما يدور في الرواية، كما أنه من غير المنطقي أن تتحدث ليليان التي هي على فراش الموت لشقيقتها عن شيلي وأهلها وسياستها في خطابها الأخير الذي تكتبه لها قبل الموت: "أهل شيلي مثلهم مثل أغلب بني البشر لا يتعلمون من دروس التاريخ ويجدون إلهامهم في صورة زعماء يحتالون عليهم بابتسامة تختفي يوم يتمكنون، ومن بعدها يبدأ التنكيل بمن يجرؤ على إعلاء صوته بالرفض. هذا ما فعله بينوشيه بهم على مدار السنين. أتدرين ما المضحك يا هيلدا! أن هذا الطاغية لم يعطه كرسي الحكم سوى زعماء الدول التي تسمي نفسها العالم الحر والتي تدعي أن غايتها أن تكون نبراس نشر الحرية في الأرض. أعطوه الكرسي وحافظوا على مكانه برغم جرمه ما دام يحقق أهدافهم ثم أزالوه لما انتهى دوره".
كذلك نلاحظ أن الروائي يُكرر نفسه بإعادة ما سبق أن قاله تفصيلا من قبل حينما يكتب: "طلبت منها السكرتيرة الانتظار حتى تبلغ مديرها بقدومها، فجلست على المقعد الجلدي الموضوع أمام المكتب. عادت الذكريات من جديد تتسابق في ذهنها. ابتسمت وهي ترى صور الشارع القديم ومنزل العائلة، وأيامها كطفلة ثم كفتاة جميلة يسعى لنيل رضاها شباب الحي. تذكرت الأيام التي كانت تساعد فيها أباها في العناية بالدكان، وكيف كان يعلمها تجارته ولا يمل من استعراض الرهونات الجديدة التي حازها، وكيف كان يفخر بالصفقات التي يبرمها. تقلصت ابتسامتها حين جرها ذهنها إلى أيام صعود هتلر وجوقته، وتمكنهم من حكم ألمانيا. لم يجعل الفوهرر عداءه لطائفتها سرا، وبدأت القوانين المعادية لليهود تستقر الواحد تلو الآخر حتى صاروا منبوذين بحكم القانون. فُرض عليهم أن يعلنوا عن أنفسهم، وضاقت عليهم الدوائر فأصبحوا مواطنين من درجات أدنى في وطن لم تعرف غيره. أصبح الخوف من المستقبل هو المسيطر على أحاديث والديها، بينما تتوالى أخبار القبض على المعارف والأقارب وترحيلهم. في البداية، استمسك أبوها بفضيلة الصبر وأعلن أنه لم يقترف خطأ وسيظل على التزامه، وبهذا سيأمن شرور الرايخ. ولكن الأحوال تفاقمت، مما دفعه في التفكير في كيفية الهروب من وضع جحيمي غدت نهايته محتومة، خاصة مع اندلاع الحرب وارتفاع صوت العداء لمن اختارهم هتلر كي يكونوا عدوه الداخلي، أصحاب المؤامرة الكبرى ضد ألمانيا"، هذا المقطع وما تلاه من تذكر للأحداث سبق أن كتبه الروائي بالتفصيل أثناء سرده لروايته؛ ومن ثم يكون مثل هذا السرد الآن مجرد حشو وتزيد لا داع له، بل يعمل على ترهل الرواية وانصراف ذهن القارئ عنه؛ لأنه يعرفه مسبقا بين طيات السرد.
كما أن حكاية الطبيب النازي كارل ديبوش والتطرق إليها بشكل مستفيض داخل الرواية بدا مقحما على الأحداث ولا ضرورة له مطلقا؛ فلم تكن هناك أي ضرورة فنية لذكره اللهم إلا المزيد من الثرثرة حول النازيين الألمان في مصر؛ فقد كان من السهل أن تستقر ليليان في المعادي وتعمل في أي شيء من دون وجود كارل ديبوش، لا سيما وأن حكايته لم تضف جديدا على السرد الروائي، ولم تكن حدثا محوريا يؤثر في الأحداث، بل إن حذف الحكاية بالكامل لن يؤثر على سير الأحداث الرواية، ولن ينقص من الرواية شيئا، بل سيزيدها تماسكا بدلا من الترهل الذي سببه ذكر هذه الحكاية.
يبقى الالتفات إلى كتابة الروائي: "لا نحتاج نحن الآريين لهذه الأدوات؛ تستعملها النساء الأدنى من الزنجيات ومثيلاتهن"، والصحيح هنا نحن الآريات وليس الآريين؛ حيث تتحدث ليليان هنا عن أدوات التجميل الخاصة بالنساء، كذلك قوله على لسان ديبوش: "هم يريدون موتي؛ لن يرتاحوا سوى بموتي، وليس موتة عادية.. بل موتة مهينة"، والصحيح هنا هو "ميتة" وليس موتة كما كتبها الروائي.
تأتي رواية "حدث في برلين" للروائي المصري هشام الخشن كرواية جديدة تستميت في مغازلة اليهود من خلال محرقة الهولوكوست، بل بدا لنا فيها الروائي كأنه يعتذر بالنيابة عن الألمان والعالم كله لليهود عما حدث لهم في الحرب العالمية الثانية؛ وهي محاولة مكشوفة وممجوجة من أجل مغازلة الجوائز والعديد من المنظمات الأجنبية كي ينال الرضى والتكريم من قبل العديدين، كما أن سرقة تيمة الفيلم الإيطالي والأحداث التاريخية التي تُشكل لب الرواية وقلبها، كانا من الأمور التي قللت كثيرا منها رغم إحكامها السردي وبنائها المُحكم؛ فضلا عن تشابهها الكبير مع رواية "قرية الألماني" للروائي الجزائري بوعلام صنصال.









محمود الغيطاني