الجمعة، 31 أغسطس 2018

غواية لا تود الحديث عنها.. الرهان على لعبة السرد

إذا ما كنا نعتبر "عملية الفن" في جوهرها عملية خلق أصيلة للعالم الفني الذي يُقبل عليه المُمارس للفن؛ وبما أن السرد الروائي جزءًا أصيلا من العملية الإبداعية الفنية؛ إذن فالسارد هنا لديه الكثير من الحرية المُطلقة في ممارسة السرد بالطريقة التي يراها مناسبة في خلق هذا العالم؛ فهو إلهه الوحيد الحقيقي الذي يعمل على تشكيله بالشكل الذي يراه مناسبا لعالمه؛ ومن ثم ينتفي هنا كهنوت ووصاية القارئ أو الناقد الذي يؤاخذ السارد على طريقته في تأسيس سرده.
إن جوهر العملية الإبداعية في الأساس يعود إلى السارد وحده من دون فرض أي شكل من الوصاية، سواء من ناحية الموضوع، أو آلية السرد والبناء وشكله، فإذا ما اكتمل البناء السردي في نهاية الأمر يكون دور الناقد هنا هو تأكيد أو نفي قدرة الكاتب على إجادة هذا الشكل الفني الذي اختاره السارد أم لا، وهل استطاع الكاتب فعليا إقناعنا بالشكل السردي الذي اختاره، أم فشل في ذلك.
من هنا تأتي عملية الخلق الفني الغير خاضعة لأي شكل من أشكال الوصاية؛ ومن ثم يستطيع المبدع التحليق بعيدا في ابتكار أساليب وطرق وموضوعات لم يسبقه إليها أحد ما دام الفن هو المعيار في النهاية من دون أي شكل من الأسقف التي قد تُحد حريته في الإبداع.
استنادا على هذا الشكل الحر، وإيمانا بحرية المبدع في اختيار الشكل الذي يروقه في نهاية الأمر اعتمد الروائي الأردني نائل العدوان على شكل غير مألوف في بناء وكتابة روايته "غواية لا تود الحديث عنها" رغم أنه ذهب بهذا السرد باتجاه الحافة، مُخاطرا بعملية السرد بالكامل التي إما أن يتقبلها القارئ أو يرفضها كلية منصرفا عنها؛ لعدم اعتياده هذا الشكل؛ فالأمر هنا لا يحتمل الحالة الوسط بين القبول أو الرفض، لكنها في النهاية مغامرة إبداعية تستحق الكثير من المخاطرة؛ لتميزها.
يبدأ العدوان مغامرته الإبداعية منذ الإهداء الذي يُعد مدخلا لروايته: "إلى روح تعيها جيدا لكنك لا تعرفها"، إذا ما قرأنا هذا الإهداء منذ المحاولة الأولى لفض مغاليق الرواية؛ فنحن بالتأكيد لن نربطها بالعالم الروائي الذي تحدث فيه الكاتب، ولكن بعد الانتهاء من الرواية وعودتنا مرة أخرى إلى بدايتها سيتضح أن الروائي ربط إهداءه بعالم الرواية بشكل وثيق؛ فثمة روح حقيقية يدركها بطل الرواية، وهذه الروح عاشت في الكثير من الأزمنة المتعددة، لكنه كبطل للرواية ليس لديه العلم، أو اليقين بكون هذه الروح تنقلت في العديد من الأزمنة، وإن كان يشعر بها. إنها روحه التي تنقلت في أزمنة مختلفة، وعاشت العديد من التجارب لتستقر فيه في نهاية الأمر.
إذن فالإهداء يدل على إدراك المؤلف الجيد لما يرغب أن يكتبه، أي أنه منذ البداية خطط جيدا لكتابة العمل بالكيفية التي يريدها وكأنه رسمها في شكل مجموعة من الأواني المستطرقة؛ ومن ثم تحولت عملية الإبداع فيما بعد إلى مجرد ملئ للفراغات التي تحتاج إلى ذلك.
ربما يؤكد ما ذهبنا إليه والارتباط الوثيق بين الإهداء والسرد تلك الإشارة التي كانت تالية للإهداء، والتي جاءت قبل بداية العمل الروائي: "سيظن بطل هذه الرواية أنه قادر على كشف الحقيقة من دون تدخلي، وأن الخيط الرفيع الذي يربط روحه بأجساد سابقة مجرد وهم أو صدفة عابرة لا غير، لكن ذلك لن ينطلي عليّ وسأكون حاضرا معه وستكونون أنتم حاضرين معي ومعه". قد تبدو هذه الإشارة في بداية العمل الروائي غرائبية؛ صحيح أنه ربط بينها وبين الإهداء، أي أنه أكد على وجود روح هائمة تتنقل بين العديد من الأجساد، لكننا نلاحظ أيضا أن المؤلف هنا يكسر الإيهام والتواطؤ اللذين يكونان بين كاتب العمل وقارئه منذ البداية، أي أنه يقول للقارئ: "انتبه، فأنا أكتب لك رواية، وسأتدخل كمؤلف طوال صفحات العمل الروائي"، وهذا بالتأكيد ما يكسر به الروائي ما هو معتاد؛ حيث المعتاد أن تكون هناك حالة دائمة من الإيهام باختفاء الروائي خلف شخصياته الروائية وعدم ظهوره مطلقا. لكن العدوان هنا يؤكد بكل جسارة أنه لن يتخفى خلف شخصياته الروائية، بل سيطل برأسه بين الفينة والأخرى في سطوره الروائية واضحا للعيان أمام القراء، وهو ينبههم إلى ذلك قبل بداية العملية السردية.
قد يقول البعض: إن الروائي هنا يحاول التفلسف على القارئ، ولكن مع استغراقنا في قراءة النص الروائي يتضح لنا أن السرد ما كان له أن يتم إلا من خلال الصيغة التي انتهجها الروائي واختارها كأسلوب وتقنية سردية يرتضيها لعمله السردي، ورغم أنه بهذا الشكل الكتابي ينحرف انحرافا خطيرا ومقلقا بسرده نحو حافة المقامرة؛ لأن العملية السردية هنا إما أن نتقبلها بكاملها، أو نلفظها منذ الوهلة الأولى؛ وبالتالي قد ننصرف عن إكمال روايته، إلا أنه كان من المهارة السردية التي جعلته يمسك بتلابيب القارئ، قادرا على صياغة كتابة سردية تجعلنا في حالة دهشة وتساؤل دائمين، وهما المحركين الأساسيين لأي إبداع، والعاملين المهمين اللذين يجعلان المتلقي في حالة يقظة ورغبة في الاستمرار الدائم.
يتحدث الروائي هنا عن عدة عوالم في أزمنة مختلفة وإن كان يربط هذه العوالم ببعضها البعض روح واحدة متنقلة في الزمن عبر العديد من الأجساد المختلفة، صحيح أنه يشير غير مرة بأن هذه الروح تتذكر بعض الذكريات التي لا تدري متى حدثت لها، لكننا كقراء ندرك جيدا أن هذه الذكريات قد حدثت فعليا في عالم آخر مغاير، فتارة يتحدث عن العالم الرئيس للرواية وهو عالم الترابي حارس القلعة البسيط الذي يكتشف أن ثمة مؤامرة على السلطان عبد الرحمن الهاشلي يحيكها له قائد الدرك الأسعدي بن زيفون بالتعاون مع زوجة السلطان طروب بنت المكنون الصالح، وهي المؤامرة التي عرف خيوطها من خلال علاقته بخادمة القصر كريمة الهوزانية، وأكمل له خيوطها زميله الجندي محمد السافر، ويحدث ذات مرة أن يسكر الترابي مع صديقه السافر ويأخذه الانتشاء فيخرج إلى شوارع المدينة ليصيح بأعلى صوته كاشفا عن المؤامرة التي تُحاك للسلطان؛ الأمر الذي يُزعج السلطان ويطلب مثوله بين يديه؛ ومن ثم يعرف ما يتم ترتيبه له ويحاول اعتقال المتآمرين، لكنهم ينقلبون عليه ويسجنون السلطان والترابي أو الصفواني كما قدم نفسه للسلطان وهو سكران، ولكن أثناء ترحيل الترابي إلى السجن ينجح في الهروب وتنقذه إيلينا ابنة الراهب أوريتوس التي تحبه وتنجب منه بعد أن يطردها أبوها من رحمة الكنيسة حينما يعلم بالعلاقة بينها وبين الترابي المسلم، ثم يقوم بالإبلاغ عن الترابي الذي يذهب إلى المعتقل بعد أن يتحول إلى بطل شعبي في نظر المواطنين، وهناك في الجزيرة التي تم نفيه إليها مع السلطان وغيرهم يقوم بثورة ويحاول إنقاذ السلطان الذي يموت من جراء التعذيب المستمر له، ويعود الترابي إلى القلعة مرة أخرى باعتباره سلطانا.
رغم أن هذا هو العالم الأساس للرواية ولكن ثمة عالم آخر في زمن مختلف تهيم فيه نفس الروح، يكون فيه حمادة الشاب الذي تخرج في كلية الهندسة والذي ضاقت به سُبل العيش والرزق؛ مما جعله يعمل حمالا على إحدى السفن، ورغم نحافته وضآلته أمام العمال إلا أنه ينجح في حمل الكثير من الأثقال فيثبت جدارته بهذه المهنة أمام رئيس الحمالين الذي يوافق عليه، وحينما تتعرض السفينة إلى عاصفة في عرض البحر يطلب من القبطان أن يتركه ليقود السفينة وينقذها من هذه العاصفة، ورغم أنه لم يقد سفينة من قبل إلا أنه ينجح بالفعل في إنقاذها؛ الأمر الذي يجعل القبطان يختاره كمساعد له، لكنه لم يشعر بالراحة على ظهر السفينة؛ مما جعله يفكر في الهرب، وحينما ترسو السفينة على شواطئ إسبانيا للتزود بالوقود يستطيع الهروب بالفعل والدخول إلى الأراضي الإسبانية. كما لا ننسى حكاية حمادة الأخرى مع الفتاة اللاتينية صاحبة المظلة والتي قابلها بالمصادفة.
أي أن الرواية تدور في العديد من العوالم وفي الكثير من الأزمنة المختلفة وإن كان يربط بين هذه العوالم والأزمنة نفس الروح التي تنقلت عبر العديد من الأجساد.
يحاول العدوان من خلال هذه العوالم التي كان يتنقل بينها بالتبادل، أي فصل في هذا العالم ليتم القطع بشكل سينمائي للانتقال إلى العالم الآخر، أن يؤسس سرده الذي قام على إعطاء الكاتب/ العدوان الكثير من التعليمات والتوجيهات للراوي/ البطل، ومن خلال هذه التوجيهات يعمل على أن تسير أحداث الرواية وتحريك الراوي، أي أن المؤلف هنا لو توقف عن توجيهاته السردية للراوي لانفرط السرد تماما، وتحول إلى فوضى لا معنى لها؛ لاعتماد الراوي على الروائي كركيزة أساسية في تشكيل الحدث، ولنلاحظ كيف بدأ العدوان سرده الروائي معتمدا على أسلوبيته التي اختارها: "تقوم من نومك متعبا. أنت تفرك أسنانك كل صباح، فعل روتيني يفعله الجميع، تستيقظ وتهرع إلى الحمام لتتناول الفرشاة. ما الذي تُفكر به عند صعود ونزول الفرشاة فوق أسنانك الصفراء؟ حتما ستكون نقطة التركيز هي تنظيف الأسنان، وحلمك أن تكون أسنانك بيضاء كما كانت سابقا، ناصعة كما تراها في إعلانات معجون الأسنان، حيث يظهر رجل أبيض البشرة لا يهمنا معرفة اسمه. الآن يفرك أسنانه ويخطف قلب فتاة حسناء لا نعرف اسمها أيضا، لكنها تتبعه لمجرد أنه فتح فمه أمامها. يفتح الرجل الغامض فمه ببطء، تراقبه أنت بدون اهتمام، لكن الفتاة تراه وتشهق، وتحديدا هنا تُثيرك الفتاة الحسناء وهي تضع يدها فوق فمها الصغير، وقد تستغرب لم لمْ تفتح فمها على اتساعه، ولماذا أخفت أسنانها؟ ألا تستخدم المعجون ذاته؟ لا، ليس كما تفكر، لكنها عادة نسائية قديمة تدل على شعور بالحياء".
من خلال هذا المقطع السردي الذي بدأ به العدوان روايته تتضح لنا الآلية السردية التي اعتمدها لتقديم سرده الروائي الذي يُعد جديدا على القارئ باعتبار الكاتب موجودا بين كل سطور روايته، بل ويقدم التوجيهات للراوي مُحركا إياه وحاكيا لبطله الحكاية.
ربما لا يفوتنا أن الروائي نائل العدوان هنا يُمارس شكلا من أشكال اللعب بمهارة مستمتعا بما يفعله؛ فإذا ما تأملنا الفصل الأول على سبيل المثال سننتبه إلى أن الروائي استطاع من خلال هذا الفصل، وباعتماده على فوضى الأفكار وانسيالها تجميع عوالم الرواية بالكامل في هذا الفصل الذي لم يتعد السبع صفحات ونصف الصفحة فقط؛ فهو يبدأ مع فتاة المعجون التي تؤدي به إلى عوالم القلعة والحراس، ثم لا يلبث العودة إلى الفتى حمادة الذي هرب إلى إسبانيا عن طريق البحر من أجل توفير شيئا من الرزق وإيجاد عمل من أجل إتمام زواجه من خطيبته التي تركها تنتظره، انتهاءً بفتاة المظلة السوداء التي قابلها في إحدى محطات القطار. إذن فالروائي هنا يُدرك جيدا كيفية تشكيل عالمه الروائي، ويكاد أن يستعرضه بالكامل، وإن كان بشكل موجز، لينطلق بالقارئ في رحلة مبتسرة للعوالم التي عاشتها روح الراوي في أكثر من مكان، وفي أزمنة مختلفة.
هذه العوالم التي تتداخل مع بعضها البعض والتي قد تؤدي إلى إرباك القارئ غير المتمرس؛ فيلتبس عليه السرد يحاول الروائي غير مرة الربط بينها بالعديد من الإشارات التي تدخل السرد بشكل عفوي؛ فيلحظها القارئ الحصيف، وإن كان الكاتب يتعمد وجودها من أجل تنبيه القارئ لما يفعله، ولعل هذه الإشارات من الكاتب وتداخل العوالم تدل على مهارة الروائي الذي يمسك بالقارئ في حالة تساؤل منذ السطور الأولى حتى ينتهي من روايته، كما أن هذه الإشارات تعمل على تنبيهه وسد العديد من الفجوات، والإجابة على العديد من التساؤلات التي تنشأ في ذهنه أثناء تقدمه في عملية القراءة؛ فنراه يقول: "نرى أيضا أن لديك محاولات عديدة في الكتابة حول ذات الموضوع، وأهمها تلك التي تتحدث عن بحار لا تعرف اسمه، فأنت لم تُطلق عليه اسما قط، لكنك تناديه بالغريب، ربما لأنك تود أن يظل غامضا لدى القارئ. بحار هام في البحر مرة تاركا زوجته التي يحبها، والقصة تُركز على مشهد الحبيبة وهي تنتظر الغريب عند الشاطئ كل يوم، تبكي لأجله وتنظر إلى الشمس التي تبتلع الأمواج قرصها، وتنتهي القصة والمشهد ذاته يتكرر، ولا يعود الغريب قط، لكنك تذكر جملة مهمة قبل النهاية بأن الغريب سيجد زوجته في حياة أخرى لا تُحدد ميقاتها".
من خلال هذه الإشارة المبكرة التي ترد في حكاية حمادة البحار نلاحظ أن الروائي يحاول أن يرشد القارئ ويؤكد عليه أنه يتحدث عن روح لها العديد من الحيوات المختلفة في الكثير من الأزمنة بتجليات مختلفة؛ فهذا المشهد الذي يتحدث عنه في حكاية حمادة هو حقيقي بالنسبة لحمادة الذي تنتظره خطيبته التي لن يعود إليها، لكنه من ناحية أخرى نفس المشهد في عالم الجندي الترابي الذي ستنتظره حبيبته بنفس الكيفية بعد اعتقاله، لكنه سيعود إليها في زمن الترابي، ولعل هذه الإشارات كانت من الأهمية بحيث تُزيل الالتباس لدى بعض القراء الذين لم يدركوا بعد آلية السرد وما الذي يريده المؤلف من هذا الشكل السردي الذي يلعب من خلاله لعبة سردية ممتعة بالنسبة له؛ لذلك كانت هذه الإشارات المبكرة من الأهمية لاستمرار السرد.
هذا الأمر نراه في غير موضع من الرواية فيقول حينما يستطيع حمادة النحيف حمل الكثير من الأكياس التي تفوقه وزنا: "لكن، من هو الذي حمل الكيس بخفة؟ حتما هو شخص لا نراه، وأنت أيضا لا تراه، لكنك تعي أنه كان موجودا في جسد آخر غير جسدك هذا. هذا المجهول هو حمادة ذاته، وهو بلا شك قادر على حمل كل هذه الأكياس دفعة واحدة، وهو أنت تماما لكن جسده مختلف، ما الذي يدريك؟"، ويقول أيضا في موضع غيره حينما يقود حمادة السفينة بمهارة لأول مرة في حياته: "بل إنك تخلع ملابسك وتقفز مثل قرد، وهي مهارة جاءتك فجأة، وقوة لا تعرف مصدرها، فأنت مُلم بهذه الأفعال، بل إنك تتقدم نحو القبطان الذي أنهكته عجلة القيادة وتطلب منه أن يتنحى جانبا" في تأكيد على الخبرات التي اكتسبتها الروح في حيوات سابقة وإن كان لا تفسير لها عند الشخصية، وهو ما نراه أيضا لدى الجندي الترابي: "بالرغم من السُكر الذي يداهم عقلك وقلبك في هذه الساعة، إلا أنك تُدرك أن الذي يحرك جسدك ليس أنت، وأن اللسان الشجاع الذي يعلو صوته هو ليس لسانك، طاقة تُحيل قلبك الواهن إلى قلب أسد لا يعرف الرحمة؛ فترتفع بصوتك ليسمع الجميع أنك لست خائفا من أحد"، أي أن الروح هي المسيطرة والمحركة للأجساد، وهو ما نراه أخيرا حينما يبوح الترابي بالمؤامرة التي تُحاك حول السلطان، وحينما يسأله السلطان من أنت يجيب: "أنا مجرد جندي من جنود قلعتك المهملين، فأنا أحرس الباب الشرقي منذ خمسة أعوام، ولكني لم أجد نفسي قط بهذا المكان أبدا، بل إني لا أحس بروحي مستقرة في جسدي، أشعر بأني شخص ما من زمن آخر، وأني لست بحارس، فأنا شاعر مرة، وبحار مرة أخرى، ومرات أخرى مهندس بناء، أنا كل هؤلاء وليس بأحدهم".
إذن فالروائي هنا حريص بالفعل على أن يزيل الالتباس الذي يحدث بسبب آلية السرد التي اختارها، وتداخل العوالم المتعددة التي يسردها، وهو ما يدل على إدراكه الجيد لما يفعله.
الروائي الأردني نائل العدوان
لكن، إذا ما تخطينا إشارات الكاتب المتعددة على طول الرواية سنلمح أنه بعدما يستقر تماما على أسلوبيته التي اختارها كطريقة للسرد؛ يبدأ إيغاله نحو التجريب فيه كيفما شاء بمهارة تجذب نظر القارئ، وتُثير تساؤله؛ لغرابة السرد غير المألوف بالنسبة للمتلقي: "لنتوقف قليلا هنا، ما الذي يحدث لك؟ لماذا يعتمر رأسك شعور غريب وأنت تنظر إلى جسدك، تشعر بغربة داخل هذا الجسد الهزيل، لحيتك نامية بشكل كث، عظام كتفيك تبرز بصورة لا تشي بأنك مجرد عامل فوق السفينة، وتسأل نفسك ذات السؤال: هل ينبغي حمل هذا القلب والطموح في وعاء لا يحتمله؟ حتى عيناك اللاتي تنظر بهما، دائما يأتيك شعور بأنهما منظار تتطلع منه لا غير، لو قُدر لك أن تختار جسدا، فماذا سيكون خيارك، وتتخيل أمامك صفا من الأجساد المتنوعة، أجساد مختلفة الأحجام والألوان، فهذا ضخم لدرجة أنك تحتار كيف ستحرك اليدين والرجلين فيه، وذاك ضئيل إلى حد مخجل، تبتسم للفكرة، أجل أنت تبتسم، بل إنك تضحك بملء شدقيك، وهو فعل لم يحبذه العمال والبحارة من حولك"، إن الكاتب/ العدوان هنا في حالة نقاش وحكي، وتوجيه، وإخبار للراوي/ البطل الروائي نفسه، وهذا غير مألوف في السرد الروائي العربي، أي أن الكاتب هنا يبدأ في التجريب واللعب من خلال السرد الروائي كيفما شاء مبتكرا أسلوبيته التي تخصه، والتي ارتضاها كطريقة للسرد تخصه وحده، وإن كانت هذه الأسلوبية على قدر غير هين من المغامرة؛ لأنها قد تؤدي فعليا بالقارئ إلى الانصراف فجأة عن الإكمال؛ بسبب عدم اعتياده على هذا الشكل السردي، أي أن الروائي هنا يُغامر مغامرة إبداعية حقيقية اعتمادا على قدرته الأسلوبية، وحريته كمبدع في اختيار الشكل السردي الذي يخصه.
إن إيمان المؤلف بأسلوبيته التي اختارها هنا يجعله مستمتعا بما يفعله؛ حتى أنه يبدأ اللعب فعليا من أجل المزيد من متعته الشخصية، وربما اتضح لنا ذلك حينما سألت خطيبة حمادة السابقة: "إنت بتحبني؟"، فيستمر الكاتب في سرده مباشرة بعد هذا السؤال مخاطبا الراوي/ حمادة: "إنها تتكلم معك، وأنت واجم، قل شيئا، لا تدع فتاة في مقتبل عمرها ذات شعر أسود كالليل ساهمة في انتظار إجابتك، حدثها عن الحب، عن العشق المخبأ، وهي خافضة رأسها واليأس ظاهر في عينيها العسليتين، من تكون هذه الفتاة أيضا؟ هل ستستمر علاقتك بها؟ وتتحسن حالتك المادية وتتزوجان وتنجبان أطفالا، وتعيشان بأسعد حال، هذا هراء! فكل هذا لن يحدث قط، وأنت تشعر بغيظ من سؤالها غير المبرر في هذه اللحظة، فهي تعرف تماما بأنك بلا عمل ومعدم، وأن فقرك الذي طال قد جعلك سئما، وهي تعلم علم اليقين أن بقاءكما معا مستحيل، هكذا هي المرأة، تطرح أسئلة محرجة لا ينبغي الإجابة عنها"، إذن فالسرد هنا في حالة احتمالية دائمة لا يمكن أن تقبل اليقين؛ فكل شيء جائز، وكل شيء قابل لعدم التحقق، وكل الأحداث يدخلها الشك والظن، كما نلاحظ أن المؤلف هنا في حالة حديث مع الراوي ونقاش وتوجيه دائم؛ فهو يخبره بما يجب عليه أن يفعله؛ كي تسير أحداث الرواية بمنطقية، كما أن المؤلف على يقين بأن الراوي لا يستطيع التصرف وحده، بل لا بد للمؤلف كي تكتمل الأحداث الروائية، وهو ما سبق أن رأيناه قبل بداية السرد حينما أكد المؤلف أن أحداث الرواية لا يمكن لها أن تكتمل من دون وجود المؤلف داخل العمل السردي، أي أن العدوان هنا يصر على التجريب والذهاب به إلى مداه الأقصى مهملا في ذلك القارئ الكلاسيكي الكسول الذي لم يعتد هذا الشكل السردي الجديد عليه.
هذه التجريبية التي تمنح الكاتب قدرا كبيرا من المتعة نراها حينما تقول سارة لحمادة: "أنت كنت تخدعني طول الوقت، إنت ما بتحبنيش"، هنا يستمر الكاتب في سرده موجها حديثه للراوي: "حقيقة أنك لم تكن تخدعها، ويبدو ذلك من هدوئك الذي لا نفهم سببا له، لكن هل تشعر بتأنيب ضمير أو ما شابه، لا أظن ذلك، بدليل أنك تُخرج سيجارة من جيب قميصك وتبحث عن ولاعة في جيبك الأخرى: طيب معاكي ولاعة؟ لقد سألت الفتاة هذا السؤال وهي في حالة من البكاء المرير، وقد أخفضت صوت بكائها قليلا لتستمع لسؤالك، الذي يبدو أنها لم تتوقعه، لعلها كانت تتأمل أن تناجيها بصوت حنون وتخبرها عن حبك الدفين. لكنك فاجأتها بالسؤال، هل فرغت الدنيا من الكلمات لتحاور فتاة مفجوعة بحبها بهذه الطريقة، وها هي ترفع يدها وتمسح الدموع فتتسخ بكحل أسود من عينيها، تبدو سارة وهي تبكي بصورة درامية كطفل أضاع لعبته، وأنت بكامل رزانتك تبحث عن شعلة لسيجارتك، لكنك لا تجدها فيتكدر مزاجك حينها"، نلاحظ هنا أن المؤلف لا يعطي التعليمات فقط، ولا يكتفي بالحديث مع الراوي، بل هو يحكي له المشهد واصفا إياه وكأن الراوي/ البطل داخل الرواية لا يعلم ما يحدث فنراه يقول: "وها هي ترفع يدها وتمسح الدموع فتتسخ بكحل أسود من عينيها، تبدو سارة وهي تبكي بصورة درامية كطفل أضاع لعبته"، فالكاتب هنا يتحدث من داخل السرد باعتباره هو من يعيشه راويا وواصفا إياه بدقة للراوي بافتراض أن الراوي هو الذي خارج السرد وليس داخله، أي أنه يمارس لعبة تبادل الأدوار بينه وبين بطل روايته، وفي هذا ما يدل على أسلوبية متميزة يبرع فيها الروائي، ويجعلنا كقراء قادرين على تقبلها والاستمتاع معه بها رغم عدم اعتيادنا لهذا الشكل من السرد الجديد علينا.
لعل هذه المتعة التي يكتسبها المؤلف من جراء ما يفعله بسرده يجعله يوغل إيغالا حقيقيا في المزيد من التجريب لدرجة أنه يبدأ في الكتابة بشكل يكاد أن يهدم من خلاله النص السردي تماما ويلغيه كلية: "حتما لم يعجبك النص إطلاقا، لربما كان لا بد من تخفيف حدة المصائب التي انهالت على رأسك تباعا، وهذا التعب الذي استهلك قواك مقبول إلى حد ما، لكن أن يتحول المشهد إلى موت اختياري فهذا ما لا يمكن القبول به، وتتذكر في هذه اللحظة الزوجة التي تنتظر عودة حبيبها الغريب من غياهب البحر في قصتك التي لم نعرف نهايتها، هي لا تعلم أنه ربما قد اختار طريقة الريس أبو الرز لينهي سأم حياته: الموت الاختياري، من يعلم ذلك، لكنك تحزن على تلك المرأة وتدرك أنك لم تنصفها يوما بكشفك لها هذه الحقيقة. ترى هل سيرجع لها حبيبها يوما ما؟"، أي أن المؤلف هنا لديه القابلية للنقاش مع بطله في أحداث الرواية؛ التي قد تسمح له بهدم النص وإعادة كتابته مرة أخرى، وكأن ما سبق أن قرأناه لم يكن؛ ومن ثم يتجاهله، لكنه حينما يتناقش مع بطله في هذه الإمكانية، أو هذا الافتراض يتذكر أن ثمة قصة قد بدأها من قبل عن زوجة تنتظر حبيبها ولا بد من إكمالها، أي أنه يناقشه في إمكانية الهدم والتغيير، لكنه سيتراجع بسبب وجود ما لم يكتمل سرديا من قبل، وهو ما يمنعه من هذا الهدم، بل إن المؤلف يدعي أمام القارئ والراوي عدم معرفته بصيرورة الأحداث في المستقبل، وينكر معرفته بافتراضية عودة الحبيب إلى الحبيبة المنتظرة وكأنه لا يد له في كتابة هذه الرواية التي نعلم تماما أنه يعلم أحداثها، وخططها بمهارة ودقة قبل الإقبال على كتابتها. إنها متعة الخلق الفني، واللعب بالسرد حتى مداه هو ما نراه من خلال ما يفعله المؤلف نائل العدوان من خلال صفحات روايته.
اللعب بالسرد حتى مداه الأخير يجعل المؤلف يزيد من جرعة المقامرة، والاتجاه إلى الحافة التي تخاطر بسرده ويهدم الإيهام بالكامل في مغامرته السردية حينما يكتب: "البارحة فقط كان ينهر هذا ويأمر ذاك، من يراه اليوم بهذا المنظر لن يربط ما كان بالأمس، وهو وضع تراجيدي يصلح ترجمته إلى مسرحية أو قصة طويلة منفصلة عن هذه الرواية، وأنت برغم الأحداث التي جلبتك إلى هذه الفوضى التي قد تفقد حياتك من أجلها، إلا أنك هادئ البال، لا تثيرك شتائم العامة من حولك وخشونة المعاملة من الحراس"، فالمؤلف هنا يُقرر بشكل مباشر وصريح أن ما يقرأه قارئه مجرد رواية، وأن بعض مشاهدها التي كتبها قد لا تصلح لأن تكون في هذه الرواية، وأنها صالحة لأن قصة منفصلة ومترجمة، أي أنه يتوجه بحديثه هنا إلى القارئ بشكل مباشر، ويحاول مناقشته في آلية السرد، وبعض الأحداث التي قد لا تروق للقارئ، كما أنها لا تروق له كمؤلف، ولعل العدوان هنا قد وصل إلى درجة من الثقة بما يفعله في عمله؛ ما جعله يتحدث إلى القارئ مباشرة بهذا الشكل الذي يكاد أن يقرب من شكل السخرية، بمعنى أنه يسخر منا نحن كقراء ارتبطنا ارتباطا وثيقا بالرواية التي يقدمها لنا؛ ومن ثم فهو من حقه أن يفعل بالسرد ما يرغبه واثقا أننا قد تقبلناه واستسلمنا تماما للآلية التي اختارها.
إن إحكام الروائي للعبته السردية يجعله يتصرف في أحداث السرد أحيانا بشكل لاعقلاني، ورغم أنه يعرف لا منطقية، أو لا عقلانية الأحداث إلا أنه يُدرك جيدا أن القارئ سيتقبل الحدث مهما كان؛ نتيجة إحكامه وبراعته السردية من خلال القانون الذي فرضه على الرواية منذ بدايتها، وهو القانون الذي يجعل القارئ متواطئا معه، مُتقبلا أي شكل من الأحداث التي قد ترد على خاطره كمؤلف، وهو ما نقرأه في: "العامة من حولك تهدر بصوت عال: يحيا العدل، يحيا العدل. ولا تدري إن كان ذلك عدلا أم سوء تقدير، أو طالعا سيئا، فكل الأحدث المتسارعة شبيهة بألعاب الأطفال التي لا تدوم، وأنت مصفرّ الوجه بين جموع الجنود تقرر الهرب، تلوي يدك عدة مرات لتفك القيد، فتحز رسغك ويتقاطر الدم بغزارة مما يثير انتباه الحارس الذي يقرب وجهه من يدك ويحاول إحكام الوثاق، لكنك تلطمه على وجهه ثم تهرع هاربا بعد أن تفلت القيد من يدك، ويصرخ عندها الحارس بأعلى صوته: هرب السجين، هرب الترابي".
ربما نلحظ في هذا الحدث لا منطقية لا يمكن أن يتقبلها العقل؛ فالترابي بين رجال الحكومة بالكامل. وجميع أفراد الشرطة والجيش في المدينة يحيطونه، كما أن الشعب من حوله متحفز ضده، أي أن المدينة بالكامل تُحاصره وتريد التنكيل به، كما أنه لا يمكن أن يتخلص من القيد بمثل هذه السهولة التي وصفها في هذا المقطع، لكنه يجعله يتخلص من القيد ثم ينجح في الهروب من أهل المدينة بالكامل، وحكامها وشرطتها وجيشها؛ لأنه كمؤلف يريد له ذلك كي يكمل الحدث الروائي كما رسمه تماما، وكي يستمر السرد كما خطط له، والحقيقة أننا كقراء متواطئين، متقبلين الآلية السردية التي فرضها علينا منذ البداية سنتقبل ما هو غير منطقي باعتباره سردا منطقيا، ومن ثم لن نرى فيه أي خلل، وهذا إن دل فهو يدل على مهارة العدوان وقدرته على الإحكام السردي فيما أراد الذهاب إليه.
إنها اللامنطقية التي نتقبلها باعتبارها شيئا عاديا حينما يُقابل الترابي إيلينارو لأول مرة: "تُحضر إيلينارو عدة أرغفة من الخبز وقطعا من الدجاج المشوي وكأسا من الماء، وأنت ساهم بجلبابها الذي يفيض جمالا ويزيدها طولا وإشراقا. تقترب منك لتشتم رائحتها التي تشبه رائحة الأرض عند انهمار المياة عليها. "رائحتك تشفي جراحي وتأسر قلبي"، تقول بصوت مجهد وكله خشوع. "وأنا يصيب قلبي شعور غريب كلما اقتربت منك أيها الترابي، هل تعرفني من قبل؟"، "أنا أعرفك، أنا متيم بك، أنا هائم بصوتك وجيدك، سيغمى عليّ في الحال، اقتربي أود أن أضمك"، "بهذه السرعة، إننا لم نكد نتعرف على بعضنا البعض بعد، لكنني حتما أحلم، فأنت قريب مني، وأعرف هذا الصوت جيدا، بل إني أحفظه عن ظهر قلب. أيها الغريب هل أنت ساحر؟".
هذا المشهد السردي إذا ما قرأناه في أي عمل روائي آخر لا بد من رفضه، بل واتهام المؤلف بالسذاجة السردية والمراهقة؛ فكيف لرجل بمجرد أن يرى امرأة يدور بينهما مثل هذا الحوار الذي لا يمكن له أن يُقنع طفلا؟! لكننا إذا ما عدنا إلى آلية السرد التي فرضها علينا المؤلف منذ البداية، وإذا ما لاحظنا أن هذه الأحداث قد حدثت لهذه الأرواح في عالم آخر كما يؤكد السرد؛ سيكتسب المشهد السردي منطقيته وعقلانيته ومن ثم سنتقبله باعتباره مشهدا عاديا لا بد منه؛ لأن روح الترابي قد التقت بالفعل بروح إيلينارو في حياة أخرى، وهما يشعران بذلك لكنهما غير مدركين لما حدث في زمن آخر.
إن تقبل ما هو غير منطقي سرديا يجعلنا نتقبل من العدوان الإيغال في المباشرة السردية مستمتعين بأسلوبيته في التجريب: "هل تشعر بأنك كنت تتوهم العشق مع كريمة؟ بلا شك أنك ستجيب نعم، وحالة اللانتماء هذه لن نسميها أنانية في الوقت الحاضر، فأنت مجرد من المشاعر باتجاه كريمة، هكذا يبدو لنا. وبشكل أقرب إلى السقطة من فوق جبل، سقطت مشاعرك باتجاه كريمة، دون مقدمات أو جمل تراجيدية". ربما نلاحظ هنا أن الجميل السردية نفسها يتعمد فيها الكاتب افتقادها للأسلوب الروائي أو الشاعرية، أو الدفء، بل هي جمل تقريرية جافة أقرب إلى لغة النقد، أو لغة المنطق، أو التفلسف؛ أي أنه يغامر أيضا على مستوى الأسلوب واللغة مراهنا على القارئ الذي فهم الآلية التي يكتب بها المؤلف؛ ومن ثم اكتسب المؤلف قدرا غير هين من الثقة بأنه مهما شطح في آليات التجريب على كل المستويات الكتابية؛ فالقارئ قد بات منساقا له فيما يفعله مستمتعا معه باللعب السردي الذي يخص العداون نفسه.
لكن رغم تداخل الحكايات المتعددة التي يحرك فيها المؤلف شخصياته، ورغم انفصال هذه الحكايات عن بعضها البعض بشكل لا يمكن فيه أن تتلاقى؛ حتى أننا نتساءل: كيف سيربط هذه العوالم ببعضها البعض في النهاية، بغض النظر عن وجود الروح التي تهيم في الكثير من الأجساد في أزمنة مختلفة، وهو التساؤل الذي كان يدور في أذهاننا على طول العمل السردي، إلا أن العدوان لم يغب عنه هذا التساؤل الذي يوجب عليه ربط هذه العوالم ببعضها في نهاية الأمر لاسيما وأن كل هذه الشخصيات بتجلياتها المختلفة سواء كان حمادة، أو الترابي، أو الصفواني، أو غيرهم هي شخصية واحدة في حقيقة الأمر؛ لذلك يعمل المؤلف على حبك عمله الروائي بالتقاء النهايات للتدليل على أنه كان يسرد حكاية روح واحدة في أزمنة وأمكنة مختلفة، كما أنه يُدلل للقارئ على مهارته السردية متفاخرا بما فعله، وهذا ما رأيناه في الفصل قبل الأخير "نهاية لم تحبها" حينما اعتقلت الشرطة حمادة على تهمة لم يكن له يد فيها حينما حاول إنقاذ فتاة المظلة من السرقة فوقع السارق ومات، ومن ثم أخذوه في سيارة الشرطة: "الطريق ضيق وينتهي ببناء كبير ومضاء، يدهشك الهدوء الذي يحف بالمكان الذي يزينه صوت البحر، وهو ما يدعوك لإغماض عينيك مدة قصيرة. يفتح مؤخرة القفص رجل بدين، ويفيض الضوء بعينيك دون أن تستطيع فتحهما بسهولة، ويحيط بك الرجل حليق الذقن ممسكا بيديك المكبلتين، وبرغم غياب الكلام إلا أنك مذعن لما يطلبه منك، وأنت متيقظ وعاجز عن الكلام. يمسك الرجل البدين بكراس أبيض ويدوّن بعض الملاحظات، ثم يعرضها على الرجل ذي الذقن الحليق ليوقع بعدها، وليمسك يدك رجل آخر يرافق الرجل البدين. المبنى عبارة عن قلعة كبيرة من الحجارة الضخمة القديمة، الحجارة مرصوفة بعناية بعضها فوق البعض، والمدخل يأخذك إلى سنوات موغلة في القدم، وتحديدا أمام البوابة التي تنفتح بشكل طولي وبسلاسل حديدية يحركها رجلان عن طريق دواليب خاصة، تشعر بأنك تعرف المكان جيدا، بل تحس بنسمات البحر ورائحته التي تشبه رائحة سمك السردين التي تثير أنفك فتزيد أُلفتك مع المكان. تقف قليلا وتنظر إلى البحر، والشرطي الممسك بيديك يبدو متفهما لطلبك، وينشغل هو بترتيب أوراق بيديه، فيما تهيم بقلبك نحو البحر وبالجدران العظيمة التي أحاطت بالبناء منتظر مصيرك الذي لا نعرف نهاية له".
إذا ما تأملنا المقطع السردي السابق وهو المقطع الأخير من هذا الفصل الذي يليه الفصل الأخير مباشرة؛ سنلاحظ العديد من الملاحظات التي تُدلل على أن المؤلف يعرف في اللحظة المناسبة كيفية ربط العوالم مع بعضها البعض وتداخلها بشكل أقرب إلى السينما منه إلى السرد الروائي ليصبح العالم واحدا في النهاية كي يغلق روايته، أولى هذه الملاحظات أن هذا الحدث السردي في المقطع السابق قد حدث في عالم شخصية حمادة في إسبانيا، وبالتالي حينما اعتقلته الشرطة أخذته إلى معتقل هو أشبه بالقلعة التي نعرفها جيدا من خلال عالم الترابي- العالم الأصلي للعمل السردي-، أي أنه يمهد من خلال هذا المقطع لتداخل عوالمه الروائية لينتهي بعالم الترابي، كما نلاحظ أيضا العديد من الإشارات التي تُدلل على أن هذا العالم بتداخله في عالم الترابي فهو سيختفي تماما ليحتل عالم الترابي المشهد الذي سينهي به الروائي عالمه، نلاحظ هذه الإشارات في: "والمدخل يأخذك إلى سنوات موغلة في القدم، وتحديدا أمام البوابة التي تنفتح بشكل طولي وبسلاسل حديدية يحركها رجلان عن طريق دواليب خاصة، تشعر بأنك تعرف المكان جيدا، بل تحس بنسمات البحر ورائحته التي تشبه رائحة سمك السردين التي تثير أنفك فتزيد أُلفتك مع المكان".
رغم أن حمادة لا يدرك شيئا عن حياته في عالم آخر، إلا أنه يشعر بأنه قد انتقل إلى عالم يعرفه جيدا حينما تأخذه الشرطة الإسبانية إلى المعتقل/ القلعة، وهو ما سيحيل روحه، ويحيلنا معه إلى العالم الأساس في الرواية وهو عالم الترابي، الذي سينجح في الهروب من السجن المنعزل في جزيرة نائية ويقود المسجونين في ثورة عارمة تُعيده إلى القصر والقلعة مرة أخرى، وإن كان سيعود هذه المرة سلطانا بعدما يموت السلطان من جراء التعذيب، أي أننا قد نجرؤ على القول: إن الروائي هنا لجأ إلى حسن التخلص الذي كنا نقوله قديما على الشاعر حينما يُنهي قصيدته الشعرية، وكأن العدوان فعليا قد قدم لنا قصيدة مُحكمة استعرض فيها الكثير من المهارات السردية التي لم نألفها من قبل في السرد العربي، وإن كان قد برع فيها إلى حد بعيد بحيث أننا نستطيع الجزم أنه قد انتهج لنفسه أسلوبا سرديا يخصه في عالم الرواية يختلف فيه عن الكثير من الأسماء الروائية التي قد لا تُقدم جديدا في السرد العربي، أو لا تتميز عن الكثيرين من الأسماء الأخرى في شيء.
في رواية "غواية لا تود الحديث عنها" راهن الروائي الأردني نائل العدوان على السرد وتقنياته، بل إنه راهن على القارئ أيضا؛ فربح السرد والقارئ معا.

محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب
عدد يوليو 2018م







السبت، 4 أغسطس 2018

حيث يسكن الجنرال.. وصفة فنية للتلاعب بالقارئ

إذا ما تأملنا تاريخ المنطقة العربية المتخم بالطغاة الذين لا ينتهون حتى اليوم لدار في خلدنا العديد من الأسئلة المهمة: كيف يحيا هؤلاء الطغاة حياتهم؟ ألا يراودهم شيء من الشعور بالندم على ما اقترفوه من جرائم تجاه شعوبهم؟ هل يشعرون بالفعل بالراحة والاطمئنان والسكينة والسعادة في حياتهم رغم أنهم يدركون جيدا أنهم قد ارتكبوا من الجرائم الدموية، وظلموا من الناس ما لا يُعد ولا يُحصى؟!
لعل هذه الأسئلة المهمة وغيرها الكثير هي ما تُشكل العالم الروائي للروائي الأردني زياد محافظة في روايته "حيث يسكن الجنرال"، حيث يتمثل الماضي بالكامل أمام أحد الطغاة لينقلب إلى كابوس لا ينتهي؛ فيتجسم له ضحاياه في الحلم واليقظة؛ الأمر الذي يجعله غير قادر على التمييز بين ما هو واقعي وبين ما هو حلمي أو كابوسي مما يصيبه بالهلاوس الحقيقية التي تُنهي حياته تماما ليصل إلى حالة من الخلل العقلي والانفصال عن الواقع بسبب سيطرة هذا الماضي وتمثله الدائم أمام عينيه.
يستعرض محافظة حياة الجنرال فيصل توفيق، هذا الجنرال القاسي الذي كانت حياته بالكامل منحصرة في إخلاصه للرئيس والحياة العسكرية؛ الأمر الذي يجعله يقترف الكثير من الجرائم، ويُحطم الكثير من الشخصيات، ويُدمر الكثير من الأسر لمجرد أن هؤلاء الناس قالوا كلمتهم من أجل الوطن، أي أنه ديكتاتور صغير ينفذ مطالب الديكتاتور الأكبر، المتمثل في الرئيس، عن طريق المزيد من القهر، والدم، والقتل ببرود أعصاب لا مثيل له لدرجة أنه يتورط في قتل شقيقه المنضم إلى إحدى الجماعات السلفية والمعارضة للنظام السياسي، لكن حينما يستشعر الجنرال توفيق مدى الاحتقان الذي ساد الشارع السياسي يحاول تحذير الرئيس أكثر من مرة لاحتواء هذا الاحتقان الذي هو على وشك الانفجار، وحينما يسخر منه الرئيس ويبدأ في التشكك في ولائه يُعد عدته للرحيل إلى غير رجعة؛ فيجهز جوازي سفر له ولزوجته منى بأسماء جديدة، ويعمل على نقل أمواله بالكامل إلى الخارج، ويهرب في اللحظة الحاسمة قبل الانفجار الشعبي إلى ألمانيا ومنها إلى كندا ليستقر هناك هو وزوجته بالقرب من ابنته التي تعيش في لوس أنجلوس ظانا أنه قد ابتعد عن الانفجار والمحاكمة والنيل منه، لكنه يُفاجأ في كندا بعد حادث مرور أثناء قيادته لسيارته أنه بعدما نجا من الغيبوبة التي أُصيب بها عاد شخصا آخر وقد بدأت جميع شخصيات الماضي التي تسبب لها في الأذى أو القتل، أو التمثيل بها وتعذيبها في العودة إليه ومطاردته سواء في أحلامه أو يقظته لدرجة أنه لم يعد قادرا على النوم خوفا من هذه الشخصيات، لكنها حينما تتمثل له في اليقظة أيضا يبدأ في حالة من الهلاوس التي تجعله ينفصل انفصالا كاملا عن الواقع الذي حوله.
ربما كانت من أهم مميزات السرد الروائي لدى زياد محافظة لغته الوصفية السلسة التي يمكن أن نُطلق عليها اللغة الحُلمية، أي أنها لغة تقرب من الحلم فتحيل العمل الروائي بأكمله إلى حلم طويل رغم واقعيته، ساعده في هذه اللغة الحلمية مفرداته التي يختارها بعناية، وأسلوبيته السردية التي تأخذ من معجم التصوف بعض مفرداته، وإمساكه بتلابيب السرد الذي يأخذ بالقارئ حتى نهاية سرده، هذه اللغة التي تتميز بالكثير من العذوبة تنسال بهدوء وروية واطمئنان داخل المتلقي؛ فتمتلكه وتجعله منساقا خلفه، مطمئنا لما يسرده الروائي عليه حتى ينتهي من السرد الذي لا يرغب في انتهائه، ولعل اطمئنان القارئ إلى لغة السرد حينما يبدأ في قراءة عمل سردي جديد هو أهم ما يمكن أن يقدمه الروائي لقارئه؛ لأنها العائق الأول أمام القارئ إذا ما ظل في حالة قلق، غير مطمئن لأسلوب السارد؛ مما يؤدي إلى تشتته وانصرافه عن العمل الذي أمامه؛ لذلك يحرص محافظة منذ جملته الأولى على الإمساك بتلابيب المتلقي، محاولا الحفاظ على هذا المستوى من السكينة والاطمئنان على طول الرواية؛ ليظل القارئ مرتبطا بالعمل حتى نهايته، وهذا ما نلمحه في: "مهمتي أن أبقي الحقيقة طيّ الكتمان، وسأحدثكم عن شيء من هذا بعد قليل. أما الآن؛ فيوقظني هذا الشيخُ الطاعن في البياض، المادد كفّيه لوناً واحداً في بهجة الصباح، يجذبني من يدي، يدفع بوجهي نحوَ زجاج النافذة لأرى."تريد أن تعرف كيف وصلتُ إليك؟ حسناً، كلانا كان بحاجة لهذا. ألست القائل يوماً: إن الشغف أشبه بالخريطة! يكشف بخبث مسالك صاحبه ونواياه". يهمسُ لي. معه حق! ربما قلت شيئاً كهذا من قبل لكني لم أعد أتذكر الآن. لكن بيني وبين نفسي وحتى هذه اللحظة، لم أتبين مراده بعد. يلسعني هواء بارد فأقتربُ من النافذة أكثر. أتنفسُ بسرعة بينما تُكوّنُ بقايا أنفاسي بخاراً على الزجاج البارد. ماذا يريد مني هذا العارف؟ الواقف خلف النافذة ببهاء؟ يلوّح لي فأسرع الخطى. أرتدي معطفي، وشاحي الأزرق، قفازي الجلدي، أنتعلُ حذائي الثقيل، أضع بعض نياشيني كما اعتدت أن أفعل دوماً، أبحث عن مفتاح الباب، وأنسل هارباً من البيت قبل أن تراني منى. أصفق الباب ورائي، وأمضي نحوه كمن يعبر غبش الحكايا لأول مرة".
نلاحظ هنا في الصفحة الأولى من الرواية أن الراوئي حريص منذ المدخل إلى عالمه السردي على أن يضفي الكثير من الأسلوبية الموحية بالحلم إلى سرده، وهو ما سنراه فيما بعد على طول العمل الروائي، أي أن اللغة السردية تتناسب تماما مع الحالة التي يريد الراوئي أن يُحيلنا إليها، وهي لغة الحلم الطويل الذي سينقلب فيما بعد مع تطور السرد إلى كابوس لا ينتهي يهاجم فيه العديد من الشخصيات للجنرال سواء في نومه أو يقظته؛ فتتحول حياته إلى جحيم حقيقي، ولعلنا إذا ما التفتنا إلى المفردات التي ينتقيها الراوئي بحرص؛ لتأكد لنا أنه يعي جيدا ما يريد أن يوصله للمتلقي. إذن لم لا نُعيد التأمل في الفقرة السابقة على سبيل المثال لنرى مفرداته وجمله مثل: "الشيخ الطاعن في البياض" الدالة على الحلم والتصوف، و"يجذبني من يدي، يدفع بوجهي نحوَ زجاج النافذة لأرى"، وهي من الجمل الدالة على الاستسلام وتُحيلنا إلى لغة التصوف، و"ألست القائل يوماً: إن الشغف أشبه بالخريطة! يكشف بخبث مسالك صاحبه ونواياه"، وهي تحتوي على مفردات من قاموس التصوف مثل "مسالك"، وغيرها من المفردات، كذلك: "العارف"، بالإضافة إلى حالة الانسياق والطاعة التي نراها في قصص المتصوفة.
إذن فنحن منذ بداية السرد أمام لغة خاصة يختارها الروائي بعناية ليضعنا أمام الحالة الحلمية التي يريدها والتي تنسحب على طول السرد فيحيل العمل كله إلى ما يشبه الحلم الطويل، الذي يتحول فيما بعد إلى كابوس بشع. نلحظ هذا في قوله: "أمضي مسرعاً حتى أقترب من عباءته الوثيرة. المسافات مثل الشائعات تمتد بخدر في الجهات الأربع، وكل شيء حولي صامت وخاشع، لم أشعر بشيء البتة، قشعريرة عابرة أيقظت شعيرات ساعدي الأيسر، ثم تبدد أثرها إلى غير رجعة. كنتُ مأخوذاً بالبياض، أو ربما بسكينة الخلق في أعمق تجلياتها"، صحيح أن الجملة الأخيرة: "أو ربما بسكينة الخلق في أعمق تجلياتها" بدا فيها شيئا من التقريرية وتدخل صوت الروائي الذي قد يُفسد أسلوب السرد، لكن الروائي لم يحاول العودة إليها مرة أخرى مما جعلها تمر من دون قلق للقارئ المُدقق.
هذه الأسلوبية التي لجأ إليها زياد محافظة تميزت بالكثير من المشهدية وكأن لغته أقرب إلى لغة السينما البصرية: "جاءت مني نظرة للمرآة فرأيت الشاحنة وسائقها المذعور، وقد اندفعت نحوي وصارت ورائي تماماً، لا شيء يفصلها عني، رأيتها وهي في طريقها لابتلاعي، صرير عجلاتها الكثيرة، ونفخ بوقها الذي صم أذني، زاد من هلعي. كنت أسمع قرقعة معدنها الصلب، وهي تحاول بيأس شديد التشبث بالأسفلت دون جدوى، أما أصوات السيارات المسرعة التي تمر قربي كأشباح ملونة، فسببت لي المزيد من الإرباك. ربما لم يتح لي أن أبلع ريقي أو أفكر في أي شيء آخر، ربما دارت في رأسي عشرات الأفكار وخطرت ببالي المئات من الهواجس التي تلاشت واحدة تلو الأخرى. حصل التصادم وحلّت تلك اللحظة التي لم أكن مهيأ لها: بووووووم. ثم فجاءة، توقف كل شيء". فمن خلال هذه اللغة الوصفية يشعر المتلقي أنه يرى ما يقرأه وكأنه أمام فيلم سينمائي، ولعل هذه المشهدية الموجودة في ذهن الروائي هي ما جعلته يسوق سرده بشكل أقرب إلى السينما تماما؛ حيث نرى الفصل الأول يبدأ بالحلم مع الشيخ الطاعن في البياض والذي ينتهي بزوجته منى وقد أفاقته مما هو فيه، ثم لا يلبث أن ينتقل بنا إلى الماضي ليعرفنا بنفسه وحياته وكيفية فراره من بلده بعدما تأكد له أن الشارع بالكامل على شفا الانهيار ضد النظام السياسي الذي هو جزء منه، وكيف رتب لهذا الفرار هو وزوجته، ليعود في الفصل الثالث ليبدأ حكايته من بعد الحادث الذي تعرض له في كندا والذي بدأت بعده مباشرة هذه الأحلام والزيارات الليلية للعديد من ضحاياه التي أدت به إلى الهلاوس، وسرد المزيد من الماضي لتتضح الحكاية والأسباب أكثر، أي أن الفصل الثاني في السرد كان بمثابة اللقطة الاعتراضية كما نُطلق عليها في السينما، وهي كما نعرفها: "لقطة كبيرة أو متوسطة تملأ الشاشة وتعترض السياق، توضع بين لقطتين لتوضح شيئا عن قرب، مثل فقرة مهمة في خطاب، أو بطاقة على باقة زهور، أو مانشيت في جريدة، أو غيرها من اللقطات التوضيحية، وهي تُفيد في الإيضاح أو لتغطية عيوب بين اللقطات في المشهد"، وهذا ما فعله الروائي في الفصول الثلاثة الأولى التي غلب عليها أسلوب السينما المشهدي وتقنيته؛ حيث الفصل الأول كان لابد أن يليه الفصل الثالث في الترتيب، ولكنه رأى أن هذين الفصلين المتتالين لا يمكن لهما الاكتمال إلا إذا كان بينهما فصلا ثانيا ليزيد الصورة وضوحا ومن ثم يكون مُكملا لهما رغم انفصاله عن تتالي الفصول وتتابعها، وهذا ما يمكن أن نرده إلى اللغة أيضا ليكون أقرب الشبه بالجملة الاعتراضية التي تأتي بين جملتين لزيادة الإيضاح. أي أن الروائي كان يمتلك من المخيلة البصرية ما جعله ينتهج الكثير من المشهدية التي تتميز بها آليات السرد السينمائي التي أضافت الكثير إلى عمله السردي.
لا يحاول الروائي زياد محافظة أن يعطي للمتلقي أسرار عمله السردي دفعة واحدة، بل يحرص على أن يكون ماضي الجنرال فيصل توفيق الذي أوصله إلى هذه الحالة الكابوسية مبثوثا بين ثنايا السرد ليتكشف للقارئ جرعة تلو الأخرى على امتداد الرواية، حتى أننا نجد أنفسنا في الفصل الأخير منها ما يزال العالم يتكشف أمامنا وأن بعضه ما زال مستغلقا أمامنا حتى الجملة الأخيرة، أي أن الروائي هنا يحافظ على التشويق الذي هو صلب العمل الأدبي، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يكون إلا من خلال محافظة الروائي على عالمه من دون فض مغاليقه إلا مع انتهاء السرد، ولعل هذا التشويق من أساسيات أي عمل فني وإلا أدى اكتشافه إلى انصراف القارئ عنه منذ الوهلة الأولى؛ فتارة يتحدث عن نشأته صغيرا مع أبيه المتدين شيخ المسجد والذي يتعامل معه بقسوة من أجل أداء مناسك الدين مثل الصلاة جماعة في المسجد، والصوم، وغير ذلك من فروض العبادات كما يراها أبوه: "طفولتي كانت سريعة وخاطفة، أما أحلامي فكانت أكبر وأكثر امتلاءاً. أبي كان إمام مسجد صارم، علّق حياته على الآخرة، وترك للحياة الدنيا أن تمر من أمامه بغير اكتراث. لم يكن يعنيه شيء كتهديدي أنا وأشقائي بعذاب جهنم إن أغفلنا فرضاً من فروض الدين، أو ركعة صلاة تقرباً إلى الله. عرفت في صغري قصص الأعور الدجال، والأقرع الشجاع والثعابين متعددة الرؤوس، أكثر مما عرفت قصص الأطفال وعوالمهم البريئة. وبقدر ما كان خيالي ساذجاً وحالماً، بقدر ما أجهدته وأنا أحاول أن أبني لنفسي صوراً  لتلك الجنة الباهرة، التي كثيراً ما وعدنا أبي بها، إن نحن اتبعنا ما يقول ولم نعص له أمرا"، هذه الصرامة في تربيته من قبل الأب جعلته فيما بعد يبتعد تماما عن الدين رافضا له ولطقوسه الصارمة التي تقيده وتمنعه عن مباهج الحياة: "ما يؤلمني حقاً هو أنني في تلك الفترة من حياتي، كنت أخاف الله، أكثر مما أحبه. كنت أشعر أن أبي يفعل هذا في مرات كثيرة، حتى لا يقال بأن أولاد الإمام يونس متقاعسون، أو متخلفون عن الصلاة وغيرها من طقوس العبادات التي لا تنتهي، لذا بدأت علاقتي المشوّهة مع الإيمان منذ تلك الأيام. كيف لي أن أصف ذاك الشعور الذي كان يغالبني، حينما كنت ألعب مع من هم في سني، وأسمع فجأة صوت الآذان يتردد في أرجاء الحارة. أشعر وقتها بغصة في الحلق، يخيّل إلي أن الله قد تذكرني من بين غيومه الكثيفة وقرر التنغيص عليّ، لماذا؟ لأنني سأضطر حينها لترك اللعب، والذهاب لإتمام طقوس الوضوء، والهرولة نحو المسجد، لأضمن لي مكاناً في الصف الأول. ربما تطلّب مني الأمر سنوات طويلة، لأدرك انني كنت أصلّي من أجل أبي، لا من أجل الله".
هذا الأسلوب القاسي في التنشئة أدى إلى وجود صدع حقيقي بينه وبين الله والإيمان به؛ ومن ثم لفظ هذا الشكل من أشكال التدين ورفضها تماما حتى أنه بدأ يتمرد عليها؛ مما جعل شقيقه الأكبر الأكثر تدينا منه يكون شديد القسوة معه، بل ويشي به عند أبيه الذي كان يعاقبه بدنيا بالإضافة إلى لفظه ومقاطعته: "أخي عزيز الذي يكبرني بعدة أعوام، كان أكثر التزاماً واستقامة مني، كنت أرى فيه صورة مصغرة من أبي. لم يكن يجمعني به الشيء الكثير، كنت أراه كأبي، مع فارق بسيط بينهما، أبي كان يفوّت لي أحيانا بعض الهفوات أو الزلاّت، أما عزيز فلا. فهو يصر على التنكيد عليّ، وإبداء مظاهر القسوة تجاهي متى أتيح له ذلك. لا أدري لليوم سرّ إصراره على إيقاظي متعمداً لصلاة الفجر في أيام الشتاء القارس! كنت صغيراً لكني أتذكر تلك التفاصيل جيداً، كان يرفع الغطاء عن جسدي الضئيل، وينهرني فيفقد جسدي على الفور، كل الدفء الذي جمعه طيلة الليل، ثم يشدني من يدي ويطلب مني أن أسبغ الوضوء وأنا أرتجف من برودة الماء. لم يكن يكتفي بهذا، بل كان يصر على إجلاسي معه لحضور الدروس الدينية التي تعقب كل صلاة عصر، في ذلك الحي القديم والفقير الذي نشأنا فيه، وعشنا فيه طفولتنا، رغم أنه يعلم أن هذا وقت اللعب المفضل لدي. أما حين تسوّل لي نفسي أن أنسل من بين صفوف المصلين، وأهرع للعب مع أصدقائي، مخلفاً ورائي درساً من تلك الدروس المكرورة، التي تبث الرعب في نفوسنا أكثر مما تفتح عقولنا، فكنت أعلم في قرارة نفسي جسارة هذا الفعل الذي أقدم عليه، وأن عزيز سيكون أول من يتلذذ في فضح أمري ونقل هذا لأبي، فأعود للبيت وأنا أرسم في عقلي شكلاً لذاك العقاب الذي ينتظرني، بينما يقف هو مزهواً، وكأنه انتصر لله على هذا الطفل الشقي، الذي يصر على التمرد على كل شيء".
لعل طريقة الأب هنا في تنشئة الجنرال فيصل توفيق بالإضافة إلى حقد أخيه عليه وتعامله معه بقسوة والتواطؤ مع الأب قد أديا إلى هذا الجفاء بينه وبين الدين، وهو الأمر الذي أدى فيما بعد إلى قطيعة تامة بينه وبين الأب والأخ بعدما دخل الكلية العسكرية مما سيفسر لنا فيما بعد السبب في قسوته المفرطة في التعامل مع الجميع، وولائه المُطلق للحاكم العسكري الظالم الممثل للدولة لينتهي به الأمر إلى قتل أخيه في إحدى العمليات العسكرية للهجوم على السلفيين؛ فالأخ الأكبر كان في حالة غيرة دائمة منه بسبب تفوق فيصل عليه، كما كان يعاني من عرجا في ساقه ساهم في المزيد من هذه الغيرة: "كان يعلل فشله دوماً بأنه يركز على علوم الدين؛ تلك التي تنفعه في دنياه وآخرته، وتؤمّن له مكاناً فسيحاً وظليلاً في الجنة. ما حاجته لتلك العلوم الدنيوية، التي تريد إفساد النشء وتجهيله! كانت حيلة ذكية منه، عالج بها إخفاقه في الدراسة. فقد رأى أن أيسر طريقة يرمم بها فشله، هي أن يلتصق بالله، فيجد حينئذ غطاءاً ومبرراً لكل شيء، فيريح نفسه ويرضي أبي الذي كانت تروقه جداً تلك التصرفات. أجاد عزيز ذلك حقا. يحتم علي تذكر تلك السنوات القول: إن عزيز أوجعني كثيراً في طفولتني وصباي، لم يتركني وشأني، ظل يتربص بي ويحاصرني لسبب أجهله، دارت في رأسي الصغير الكثير من الأسباب التي ربما دفعته للقيام بمثل تلك التصرفات، ظننت أن مرد ذلك ربما لتفوقي في الدراسة! أو لعلاقتي الدافئة مع أمي، قبل أن تنطفئ هذه العلاقة بتلك الطريقة التي ما تزال آثارها قاسية في وجداني. لعل من الأسباب الأخرى لتلك العلاقة المتوترة التي سادت بيني وبين عزيز؛ وسامتي التي كانت بادية للعيان! نموّي سليماً معافاً، بينما كان يعاني هو من عرج واضح في رجله اليسرى! عرج كثيراً ما سبب له الحرج، ومنعه من اللعب مع رفاقه في شوارع الحارة وأزقتها".
هنا أراد فيصل الانفصال الكامل عنهم فلاذ بالكلية العسكرية وانخرط في هذه الحياة، وبات مُقربا من الحاكم باعتباره من أهم الجنرالات في النظام، وأكثرهم صرامة وقسوة وولاء للنظام السياسي؛ وهو ما دفع أبوه ليؤكد له أنه لم يعد فردا منهم ولفظه تماما.
يستمر زياد محافظة في سرده التبادلي بين الحياة الآنية للجنرال توفيق في كندا وما يعانيه مع شخصيات الماضي التي تتمثل له لتعذيبه، وبين سرد الماضي الذي أدى به إلى هذا الموقف الذي يعيشه والذي أوصله إلى الهلاوس؛ فيحكي عن انضمام أخيه إلى إحدى الجماعات السلفية المعادية للنظام السياسي، ومحاولة الجنرال طارق الحاضر التشكيك في ولاء فيصل للرئيس بسبب أخيه وأبيه تارة، وبسبب نجاة فيصل من الموت تارة أخرى حينما تم تفجير مكان عسكري غادره فيصل قبل التفجير بلحظات بعدما هاتفه شخص مجهول، بل ووصل الأمر إلى إخبار الجنرال طارق الحاضر للرئيس أنه لا يوجد أفضل من الجنرال فيصل لقيادة عملية السيل الأحمر وهي العملية التي سيهاجم فيها الجماعة السلفية التي يتزعمها أخوه، أي أنه جعله في مواجهة دموية ومباشرة مع الأخ؛ مما جعله حريصا على قتله بدم بارد كي ينفي أي شكل من أشكال الشكوك تجاهه من النظام: "بعد عملية السيل الأحمر بشهور قليلة، هدأت النار في قلبي، خمدت ألسنتها شيئاً فشيئاً، لكن ما جرى لي ولأسرتي، جعلني شخصاً آخر. خلق وحشاً صغيراً بداخلي ظل يكبر ويقتات عليّ، حتى ابتلعني. ما عدت أعرف نفسي، أعماني الغضب. قررت أن على الجميع مقاسمتي هذا الثمن الباهظ الذي دفعته. طويت صفحة الأمس التي ما يزال دمها يقطر من بين السطور، وفتحت صفحة جديدة. لا يمكن لي تصحيح الماضي أو معالجته، لم تفلح كل محاولاتي، فقد رحل الماضي واضعاً تحت إبطيه التفاصيل المريرة التي كان شاهداً عليها. القادم هو ملكي، من حقي، وأنا من سيقرر شكله وملامحه. بعد الصدى المدوي الذي لاقته عملية السيل الأحمر، قرّبني فخامة الرئيس إليه، يندر أن يقدم فخامته على أمر كهذا، لكنه فعلها. صرت خلال فترة وجيزة، الجنرال الأقرب إليه، موضع ثقته وذراعه التي يبطش بها. لم لا! من أين له بجنرال مأمون الجانب، يقظ ومتفان، يقرن أقواله بأفعال لا يرقى إليها الشك! جنرال بلغ به الولاء حد التضحية وعلى مرأى من العالم، بأخيه وأسرته، وربما لن يتوانَ يوماً عن التضحية بحياته من أجل فخامته! هدأت النار في قلبي نعم، لكنها لم تنطفئ، ظلت تلسعني وتكويني، وكنت أعلم أنه لن يهدأ لي بال حتى أذيق الجنرال طارق الحاضر نفس السم الذي جرّعني إياه".
هنا يوضح لنا الروائي كيف استيقظ الوحش داخل الجنرال فيصل توفيق، هذا الوحش الذي سيعيش من أجل التنكيل بالجميع بقسوة لا مثيل لها لاسيما زميله طارق الحاضر أولا، ولعله نجح كثيرا في سوق الكثير من المبررات التي أدت إلى مثل هذا الشكل المبالغ فيه من القسوة: "وحدها إذن عملية السيل الأحمر بكل قسوتها ومآسيها، من برّأت ساحتي، وجنّبتني خبث الجنرال طارق الحاضر ومكائده. بعد تلك العملية صرت شخصاً آخر كما قلت. رسمت مساراً واضحاً لحياتي، وجعلت لها هدفاً محدداً وهو التفاني في خدمة فخامته، بكل ما أويت من قوة. نذرت نفسي لهذا وكان الدكتور ربيع خير عون لي. أما الجنرال طارق الحاضر فدبرت له مكيدة لا طائل اليوم من سرد تفاصيلها؛ فخلال فترة قصيرة، كانت كل ملامح الخيانة قد الصقت به. ولم يحتج الأمر سوى كلمة واحدة من فخامته، قالها وهو يشير لنا بظاهر يده ويطوي صفحته إلى الأبد: "تخصلوا منه... وبسرعة". قالها دون أن يرفّ له جفن. كان على الجنرال طارق الحاضر أن يكف عن مضايقتي، هو من أقحمني في هذه المنازلة دونما ذنب لي، صحيح أنني دفعت ثمناً باهظاً، لكن الأثمان التي ترتب عليه دفعها، كانت أشد وأقسى".
لذلك لم يتوان فيصل توفيق في التنكيل بطارق الحاضر وأسرته أيضا رغم أنهم لا ذنب لهم: "مازلت أذكر آخر كلمة قالها لي وهم ينزعون عنه رتبه العسكرية، ويقتادونه من مكتبه مكبلاً بالأصفاد. لم أكن لأضيع لحظة كهذه، فقد حرصت على أن أقود عملية التطهير كما أسميتها بنفسي. ربما لرغبة دفينة لدي في الانتقام من جهة، وتأكيداً على ولائي التام لفخامته من جهة أخرى. قال لي يومها وهو مستسلم ورأسه لأسفل: "لا يمكن لأحد غيرك أن يفكر بمثل هذه الطريقة، أي أحمق أنا لأعبث مع رجلك مثلك! ما كان علي القيام بما قمت به، يبدو أنني أيقظت الشيطان وعبثت معه، وعلي اليوم أن أدفع ثمن عبثي هذا.. كنت أعرف في قرارة نفسي أنك ستقوم بهذا يوما ًما، لكني لم أفلح في تفادي ما دبرته لي. إن كان من رجاء أخير لي، فهو أن تترفق بعائلتي. أرجوك، لا ذنب لهم في كل ما جرى بيننا. أرجوك جنرال فيصل". ورمقني بنظرة فيها الكثير من الذل والرجاء. كشّر الوحش بداخلي عن أنيابه، ولم يكن بمقدوري كبح جماحه. لم أصغ لرجاءه ذاك، طال جنوني عائلته بأسرها. كنت أشفي غليلي منهم واحداً تلو الأخر. غبي. لم يكن يعلم أنه حين يأتي وقت تسديد الحساب، فعلى الجميع أن يدفع حصته".
ربما كان سوق الأحداث التي حرص عليها الروائي زياد محافظة بمثل هذا الشكل منذ تنشئة الجنرال فيصل توفيق، وانفصاله عن أسرته، ثم المكائد التي تم كيدها له، وغير ذلك من الإتقان الذي يجعل القارئ متعاطفا إلى حد كبير مع الجاني وقسوته ودمويته، لدرجة انسياقنا لرغبته في الانتقام من الجميع كي ينجو بنفسه في النهاية رغم أننا نرفضها في قرارة أنفسنا، لكن أسلوب السرد المُحكم الذي جعلنا نراه وحده معلقا في الفراغ، وتخلي الجميع عنه، والكثير من الألاعيب التي واجهته كان دافعنا الأول لمثل هذا التضامن مع الوحشية والقسوة التي يجابه بها الجميع راغبين منه أن يكون أكثر شراسة في المواجهة.
لكن هذه القسوة التي أدت إلى الآلاف من الضحايا ستتحول فيما بعد إلى كابوس طويل سيقضي على حياته تماما رغم هروبه إلى كندا والحياة فيها هو وزوجته، لدرجة أنه صار يخرج من بيته ليسير خلف الشخصيات التي تتمثل له باعتبارها شخصيات حقيقية يتناقش ويتصارع معها: "فيما بعد، أخبرتني منى، أنها وجدتني، بعد أن يأست من عودتي للبيت، جالساً على مقعد أنهكته البرودة، في فالي ريدج بارك، وقد أزرقّ وجهي وكساني الثلج تماماً. قالت لي: إنني بقيت أهذي وأرتجف، وأتحدث مع شخص لم يكن له وجود، حتى أعادتني إلى البيت، وبدلت لي ملابسي المبللة، ووضعتني كطفل صغير في الفراش"، هذه الحالة التي بدأت معه بعد الحادث المروري مباشرة يؤكدها حينما يتحدث عن هذه اللحظة التي واجه فيها الموت: "من قال لك إن الواحد منا يرى في لحظات ما قبل الموت، شريط حياته يمر مسرعاً من أمامه، فقد كذب عليك. أنا نفسي كثيراً ما توهمت هذا، ربما قرأته في كتاب أو قلته لآخرين في جلسة سمر. في تلك الثواني القليلة التي تمر بشكل خاطف، لن ترى شريط حياتك برمته، صدّقني في هذا. ما ستراه ببساطة، هو وجوه أولئك الذين أوجعتهم ذات يوم، قهرتهم وعذبتهم، وكنت سبباً في إيذاءهم. أولئك الذي بقي دين معلق بينك وبينهم، دَين لا بد لك أن تسدده يوماً ما. اكتشاف دفعت ثمناً باهظاً للوقوع عليه"، وهو ما يدل على أن الشعور بالذنب على ما اقترفه طول حياته بات يثقل عليه ويتملكه لدرجة السيطرة الكاملة عليه فيما بعد.
هذا الشعور بالذنب يجعله في حالة صراع دائم بين شخصيته القديمة- الجنرال فيصل توفيق-، وبين شخصيته الجديدة التي اختارها لنفسه ليعيش بها في كندا- عماد-، وبين شخصية جديدة ظهرت له بعد الحادث وهي الشخصية التي يعذبها الماضي تماما، لدرجة أنها لا تستطيع مواجهته أو الانفلات منه: "حاولت اقناع الجنرال المحشور بداخلي، أو دفعه للقيام بشيء من ذلك، لكنه واجه كل محاولاتي بالسخرية والرفض تارة، والحنق تارة أخرى. كنت أشعر به يجلس بضيق وتأفف في ركن قصي في أعماقي، يدخن بشراهة، يراقب بنــزق وقرف تصرفاتي وأفعالي، وعندما لا يعجبه شيء؛ وكثيراً ما يحصل هذا، يثور علي، يصرخ في فيتردد صدى صوته في داخلي. بقيت فترة طويلة أخشاه، وأخاف إغضابه. بقيت أتعامل معه بحذر شديد، ربما ما زلت إلى اليوم، أتعامل مع مزاجه النكد والمتقلب، بحذر شديد"، وهو ما يدل على إصابته بشكل من أشكال الفصام بين العديد من الشخصيات التي تتصارع داخله، وهو الأمر الذي سيؤدي به فيما بعد إلى العديد من الهلاوس الحقيقية: "في المرة التي اتصلت فيها برقم الطوارئ واستدعيت دورية شرطة، كنت قد أبلغتهم عن حالة مشابهة؛ كنت وقتها قد رأيت رجلاً يجلس في أواخر الليل قرب درجات المطبخ، وجسده ينزف الكثير من الدماء. كان يتطلع نحوي بغيظ شديد، ويخط بسبابته التي تقطر دماً، كلمات على الزجاج الخارجي لباب المطبخ. أشياء لم تكن مقروءة أو مفهومة بالنسبة لي. هالني يومها منظره، فجمدت في مكاني قبل أن أستجمع قواي، وأتناول الهاتف طلباً للنجدة، بدا الخوف جلياً على صوتي، وبالكاد تمكنت من وصف الحالة التي وجدت نفسي فيها، لكن عندما حضرت دورية الشرطة، وبعد أن نزل الضابط بتوجس، وراح يدور بحذر حول البيت، ويتفقد الأمكنة بعين فاحصة ويده على مسدسه، لم يجد شيئاً البتة. يومها هرعت منى من الطابق الثاني عندما أحست بوصول دورية الشرطة، جذبتني من يدي وأدخلتني غرفة الجلوس وقالت لي بحزم: ابق هنا لو سمحت، ثم عادت لتقف مع الضابط وتتحدث معه"، بل سيصل به الأمر إلى تكرار هذه الهلاوس بأشكال مختلفة تُحيل الحياة إلى جحيم حقيقي: " ذات ليلة، بعد أن سحبها النوم، تركتها ونزلت للطابق السفلي، شعرت بحاجتي لفنجان شاي ساخن. حين شرعت في إعداده، سمعت صوتاً ورائي يقول لي بانكسار: "لم تكن مضطراً لقتلي جنرال، وتجريع من ظلوا ورائي كل تلك العذابات، كان باستطاعتك زجّي بالسجن.. السجن.. السجن.. السجن". يتردد صدى تلك الكلمة في رأسي كقرع جرس صدئ وثقيل. قبل أن يتاح لي الالتفات لمصدر الصوت، يتناهى لسمعي صوت أكثر ارتجافاً يهجس لي عن قرب: "لا مبرر لكل تلك البذاءات التي قمت بها معي. ها جسدي أمامك الآن.. امضغ من لحمي ما شئت، ما بك؟ ألم يكن يثيرك ويسبب لك الجنون؟  افعل به ما تشاء، لكن اتركني أخبئ حزني وحيدة ويائسة". صوت حانق آخر يقترب من الغرفة المجاورة فيصبح أكثر وضوحاً: "كل الدماء التي سالت في الشوارع كانت بسببك، هذا الدم الذي تخثر فوق الأسفلت وعلى أطراف الأرصفة! هذه اللكمات التي نالت نصيبها من أجساد البسطاء، هذه الوجوه المزرقّة، والعيون الدامعة المنتفخة لن تسامحك يوما". وقع أقدام تتقدم ببطء، صوت جلبة على يميني، وثلة من الأشخاص تصرخ بصوت واحد: "تلك الموائد العامرة التي طهيت لأجلك والتهمتها بشراهة، كانت من لحم الفقراء وعوزهم، من جوعهم وصبرهم، ها هي تلك الموائد تنقلب الآن دوداً في بطنك وفي تجاويف رأسك، دوداً يلتهم كل ما يقف بطريقه، أنظر إليه وهو يزحف فوق جلدك، ويخرج سميناً ومنتفخاً من أنفك وأذنيك.. أنظر أنظر". تتعالى الأصوات حولي، فأفقد تركيزي، تلسعني نار الموقد دون أن انتبه، فأرفع يدي بسرعة، ليقع فنجان الشاي ويتحطم إلى مئات البلورات الصغيرة".
الروائيالأردني زياد محافظة
هنا تتحول حياة الجنرال إلى كابوس متصل من الهلاوس والمطاردات من ضحاياه الذين يتمثلون له في يقظته بعدما كان الأمر مقتصرا على نومه فقط: " قبل أيام وفي مثل هذا الوقت، وبعدما خارت قواي، ولخوفي من الاستسلام للنوم وكوابيسه، درت بملل في أرجاء البيت، ثم ركبت سيارتي ورحت أقود في الشوارع القريبة. لا أثر لأحد في الطرقات، لا شيء يؤنسني سوى موسيقى هادئة تنبعث من محطة إذاعية. الأخيلة تتقافز أمام عيني وعلى الزجاج الأمامي للسيارة، أخفف السرعة قليلاً، ثم أرفع صوت الموسيقى، علها تطغى على تلك الأصوات التي تعشش في رأسي. كنت أريد لتلك الليلة أن تنقضي، رحت أعد دقائقها بضيق، وأطالع ساعة السيارة مئات المرات لكن دون فائدة. هذه الليلة لا أعرف ماذا أفعل! جسدي لم يعد يقوى على الاحتمال. أتعبني الجلوس في الخارج، فعدلت جلستي أكثر من مرة، وغفوت قليلاً على ما يبدو، استسلمت رغماً عني، لا أعلم كم استغرقني ذلك من وقت، لكنه كان كافياً لمنح تلك الأرواح التي حاصرتني من كل اتجاه، فرصة التفكير في خطوتها المقبلة. في تلك الإغماضة خرج آخرون من رأسي، وراحوا يمشون أمامي على الرصيف. هكذا بكل بساطة. فركت عيني مراراً لأتأكد مما أراه أمامي، هل هذا حقيقة أم لا! ها هم يقفون قرب بعضهم البعض، منهم من يلوح لي، ومنهم من يهز رأسه متوعداً".
ينجح الروائي هنا في تحويل عالمه السردي إلى عالم كابوسي مقنع تماما للقارئ؛ حتى لقد تداخل المتخيل بالواقعي مما أدى إلى انهيار حياته تماما: "لكن كل هذا يمكن لي تدبره والسيطرة عليه، أو حتى قبوله والتعايش معه. فخلال الفترة الماضية، بقيت محافظاً على ذلك الخيط الشمعي الذي يفصل عوالمي الحقيقية عن تلك التي تُحاك رغماً عن إرادتي في عوالم الخيال، أما أن تتداخل عوالمي بتلك الصورة المفزعة، ويذوب هذا الخيط الواهن ويصل بي الأمر لحالات لم أتوقعها البتة، ولم تخطر ببالي يوماً، فهذا أمر أصابني بالصاعقة. زلزل كياني وأخافني من نفسي. لم تكن منى تود اطلاعي على هذا، لكني رجوتها وبكيت بين يديها أكثر من مرة لتخبرني الحقيقية. الحقيقة كما هي، دون تزييف أو مجاملة. متى ساورتني الشكوك إذن؟ حسناً سأجافي الحقيقة لو قلت إن هذا لم يخطر ببالي، لكني كنت أقصيه دوماً من تفكيري. يبدو أن الأثمان التي علي دفعها للحياة ما تزال باهضة ومكلفة. حصل هذا عندما صرت ألاحظ كدمات زرقاء، على وجه منى وأنحاء متفرقة من ساعديها وصدرها! أثارني هذا الأمر، فرحت أدقق النظر فأرى مرة آثار أصابع وخدوش على رقبتها، ومرة أخرى انتفاخات تحت عينيها.. أسألها فتظل صامتة حزينة، ألح عليها بالسؤال فتقول إنها كدمات اعتيادية من الأعمال المنزلية لا أكثر. كنت أحاول أن أهرب من تلك الهلوسات التي راحت تكبر في داخلي، إلى أن أفقت ذات يوم فزعاً من نومي. هو ليس نوم بالمعنى المتعارف عليه عند الأسوياء، بل شيء أقرب للانفصال عن العالم الحقيقي، والركض في فراغات هائلة لا صلة ولا رابط بينها. أفقت مذعوراً، وكأن شيئاً ما وكزني في اللحظة المناسبة، وأعاد لي صوابي. ماذا كنت أفعل في تلك اللحظة وأين كنت بالضبط؟ سؤال قاس وإجابته أكثر قسوة. كنت أجلس بثقلي فوق صدر منى، يداي تعصران رقبتها وتضيّقا الخناق عليها. أما هي فغير قادرة على التنفس أو الإتيان بأي حركة. شيء ما أقرب للاستسلام بدا في جسدها وعينيها، أما وجهها فمخطوف وغارق في خوفه ودهشته وزرقته".
ربما كانت هذه المعاناة التي عاش فيها الجنرال فيصل توفيق لدرجة الوصول إلى الجنون بسبب مطاردة ماضيه له تعود في حقيقة أمرها إلى الشعور بالذنب نتيجة قتله لأخيه؛ الأمر الذي أدى إلى الحزن الشديد لأمه ومن ثم موتها بعد قتله مباشرة، وهو ما جعل عقدة الذنب والقسوة أيضا يتضخما داخل نفس الجنرال فيصل توفيق؛ نظرا للعلاقة القوية التي كانت تربطه بأمه حيث كان هو المُدلل والمقرب إليها، وبعدما قتل أخاه رأى أنه السبب في موت أمه التي تمثلت له أيضا في إحدى هلاوسه؛ لذلك نرى أخاه حينما يأتي إليه في إحدى هذه الهلاوس يقول له: "قال لي وقد أراح قليلاً رجله المتعبة: "أنا أيها الجنرال، صاحب ذاك الاتصال الهاتفي المجهول، الذي جعلك تغادر مكتبك، قبيل دقائق قليلة من انفجار السيارة المفخخة التي استهدفت مكاتبكم، أنا ذاك الطبيب المجهول، الذي قال لك إن والدتك في غرفة العناية المركزة، وعليك أن تحضر لرؤيتها على الفور، تسألني لماذا؟ فقط كي أجعلك تهرول مسرعاً من مكتبك، فأبعد عنك الموت الذي كان يتربص بك. كنت أعلم أنه عندما يتعلق الأمر بأمك فإنك سترمي العالم كله وراءك، لذلك لم أجد وسيلة غيرها، لأخرجك بها من المكتب قبل أن يتم نسفه. أنا نجحت في مسعاي ذاك اليوم، أتذكر؟ نجحت بالقدر الذي نجحت فيه أنت يوم قدت عملية السيل الأحمر. هذا كل ما عندي لأقوله لك. لكن قبل أن أرحل إلى غير رجعة هذه المرة، دعني أخبرك ما فعلت هذا لأجلك أنت، فعلته من أجل أمي، هذه المسكينة التي خفت أن أكون سبباً في عذابها، لأنني كنت أعلم كم كانت تحبك وتخاف عليك، خشيت أن أحرق قلبها".
ربما يكون هذا القول الذي قاله له أخوه في إحدى هواجسه غير حقيقي أو واقعي، لكنه من خلال هذه التخيلات والهواجس إنما يعمل على تفريغ ما يعاني منه نفسيا؛ وبالتالي جعل شخصية أخيه التي استحضرها في هلاوسه تقول له ذلك ليزداد عذابا وتطهرا مما فعله في الماضي.
يأتي البناء السردي لرواية "حيث يسكن الجنرال" عند الروائي الأردني زياد محافظة كأهم ما يميز العمل السردي؛ حيث لا يمنحك العمل نفسه إلا مع آخر جملة لتكتشف أن ثمة خديعة سردية مارسها عليك الروائي؛ مما يجعلك راغبا في معاودة القراءة مرة أخرى لتستمتع بالسرد بطريقة مختلفة وجديدة بعدما تكشفت لك حيل الروائي الذي لم يُفصح عن نفسه إلا مع الجملة الأخيرة من روايته؛ حيث جاء الفصل الأخير عبارة عن شذرات من مخطوط نسيته ابنته عنده في مشفى الأمراض العقلية الذي انتقل إليه، وفي هذا المخطوط يقرأ العديد من الأمور التي كانت خافية عليه، منها ما يوضح إدراكه الجزئي لحالته التي يعاني منها مثلما نرى في: ""كانت أول مرة أسمع فيها صوت الله بداخلي، هكذا خيّل إلي. كان علي أن أموت حين كنت بسن الخامسة والأربعين. أتراني فعلتها! لا أظن هذا، فها جسدي عفي، الدماء تجري مسرعة في عروقي، ووجهي ضاجّ بالحمرة، لكن ما فائدة كل هذا وروحي مهدمة وحائرة! ذات ليلة حلمت حلماً، أفقت منه وأنا استرجع ما علق بلساني من كلمات، خمنت أنني كنت أصرخ: عجّل.. أنزل لعناتك علي، خلصني من كل هذا بهدوء ودونما رحمة. ماذا كان رده يا ترى! عبارة قصيرة واحدة، قال فيها: لِـمَ العجلة؟ لم يحن وقتك بعد.... هذه السطور المكتوبة بخط يد أبي، وجدتها في ورقة عثرت عليها في جيب بنطاله، حينما زرته قبل شهور قليلة، أتراه كان كان يلوذ بالكتابة ويجد فيها ما يؤنسه! أتراه كتب شيئاً آخر كهذا وأخفاه في مكان ما!"، ومنها ما يصيب القارئ بالدهشة الحقيقية مع آخر فقرة من الرواية التي نكتشف من خلالها أنه كان مغيبا تماما عن الواقع: "تحركت دوريات الشرطة وسيارات الإسعاف والإطفاء لمكان الحادث، فقد قام رجال النجدة بتمزيق هيكل السيارة المتضررة من طراز لينكولين على الفور، وإخراج سائقها مستر عماد محمود، ونقله على وجه السرعة لغرفة العمليات، حيث كان يعاني من نزيف حاد وارتجاج في الدماغ، أما السيدة منى؛ زوجة مستر عماد، والتي كانت تجلس بجانبه في السيارة أثناء وقوع حادث السير المروع ذاك، فقد لقيت حتفها على الفور"، أي أن زوجته منى لم يكن لها أي وجود في حياته منذ بداية هذه الهلاوس والكوابيس التي بدأت بعد الحادث، وأنه كان منفصلا تمام الانفصال عن الواقع الذي يعيش فيه.
رواية "حيث يسكن الجنرال" للروائي زياد محافظة من الأعمال القليلة الفاتنة التي نجح فيها الروائي أن يمسك القارئ من تلابيبه بالمعنى الدقيق للكلمة حتى آخر جملة؛ ليكتشف معها القارئ أن الروائي قد تلاعب به حرفيا طوال أحداث السرد.


محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب 

عدد يونيو 2018م