الجمعة، 31 أغسطس 2018

غواية لا تود الحديث عنها.. الرهان على لعبة السرد

إذا ما كنا نعتبر "عملية الفن" في جوهرها عملية خلق أصيلة للعالم الفني الذي يُقبل عليه المُمارس للفن؛ وبما أن السرد الروائي جزءًا أصيلا من العملية الإبداعية الفنية؛ إذن فالسارد هنا لديه الكثير من الحرية المُطلقة في ممارسة السرد بالطريقة التي يراها مناسبة في خلق هذا العالم؛ فهو إلهه الوحيد الحقيقي الذي يعمل على تشكيله بالشكل الذي يراه مناسبا لعالمه؛ ومن ثم ينتفي هنا كهنوت ووصاية القارئ أو الناقد الذي يؤاخذ السارد على طريقته في تأسيس سرده.
إن جوهر العملية الإبداعية في الأساس يعود إلى السارد وحده من دون فرض أي شكل من الوصاية، سواء من ناحية الموضوع، أو آلية السرد والبناء وشكله، فإذا ما اكتمل البناء السردي في نهاية الأمر يكون دور الناقد هنا هو تأكيد أو نفي قدرة الكاتب على إجادة هذا الشكل الفني الذي اختاره السارد أم لا، وهل استطاع الكاتب فعليا إقناعنا بالشكل السردي الذي اختاره، أم فشل في ذلك.
من هنا تأتي عملية الخلق الفني الغير خاضعة لأي شكل من أشكال الوصاية؛ ومن ثم يستطيع المبدع التحليق بعيدا في ابتكار أساليب وطرق وموضوعات لم يسبقه إليها أحد ما دام الفن هو المعيار في النهاية من دون أي شكل من الأسقف التي قد تُحد حريته في الإبداع.
استنادا على هذا الشكل الحر، وإيمانا بحرية المبدع في اختيار الشكل الذي يروقه في نهاية الأمر اعتمد الروائي الأردني نائل العدوان على شكل غير مألوف في بناء وكتابة روايته "غواية لا تود الحديث عنها" رغم أنه ذهب بهذا السرد باتجاه الحافة، مُخاطرا بعملية السرد بالكامل التي إما أن يتقبلها القارئ أو يرفضها كلية منصرفا عنها؛ لعدم اعتياده هذا الشكل؛ فالأمر هنا لا يحتمل الحالة الوسط بين القبول أو الرفض، لكنها في النهاية مغامرة إبداعية تستحق الكثير من المخاطرة؛ لتميزها.
يبدأ العدوان مغامرته الإبداعية منذ الإهداء الذي يُعد مدخلا لروايته: "إلى روح تعيها جيدا لكنك لا تعرفها"، إذا ما قرأنا هذا الإهداء منذ المحاولة الأولى لفض مغاليق الرواية؛ فنحن بالتأكيد لن نربطها بالعالم الروائي الذي تحدث فيه الكاتب، ولكن بعد الانتهاء من الرواية وعودتنا مرة أخرى إلى بدايتها سيتضح أن الروائي ربط إهداءه بعالم الرواية بشكل وثيق؛ فثمة روح حقيقية يدركها بطل الرواية، وهذه الروح عاشت في الكثير من الأزمنة المتعددة، لكنه كبطل للرواية ليس لديه العلم، أو اليقين بكون هذه الروح تنقلت في العديد من الأزمنة، وإن كان يشعر بها. إنها روحه التي تنقلت في أزمنة مختلفة، وعاشت العديد من التجارب لتستقر فيه في نهاية الأمر.
إذن فالإهداء يدل على إدراك المؤلف الجيد لما يرغب أن يكتبه، أي أنه منذ البداية خطط جيدا لكتابة العمل بالكيفية التي يريدها وكأنه رسمها في شكل مجموعة من الأواني المستطرقة؛ ومن ثم تحولت عملية الإبداع فيما بعد إلى مجرد ملئ للفراغات التي تحتاج إلى ذلك.
ربما يؤكد ما ذهبنا إليه والارتباط الوثيق بين الإهداء والسرد تلك الإشارة التي كانت تالية للإهداء، والتي جاءت قبل بداية العمل الروائي: "سيظن بطل هذه الرواية أنه قادر على كشف الحقيقة من دون تدخلي، وأن الخيط الرفيع الذي يربط روحه بأجساد سابقة مجرد وهم أو صدفة عابرة لا غير، لكن ذلك لن ينطلي عليّ وسأكون حاضرا معه وستكونون أنتم حاضرين معي ومعه". قد تبدو هذه الإشارة في بداية العمل الروائي غرائبية؛ صحيح أنه ربط بينها وبين الإهداء، أي أنه أكد على وجود روح هائمة تتنقل بين العديد من الأجساد، لكننا نلاحظ أيضا أن المؤلف هنا يكسر الإيهام والتواطؤ اللذين يكونان بين كاتب العمل وقارئه منذ البداية، أي أنه يقول للقارئ: "انتبه، فأنا أكتب لك رواية، وسأتدخل كمؤلف طوال صفحات العمل الروائي"، وهذا بالتأكيد ما يكسر به الروائي ما هو معتاد؛ حيث المعتاد أن تكون هناك حالة دائمة من الإيهام باختفاء الروائي خلف شخصياته الروائية وعدم ظهوره مطلقا. لكن العدوان هنا يؤكد بكل جسارة أنه لن يتخفى خلف شخصياته الروائية، بل سيطل برأسه بين الفينة والأخرى في سطوره الروائية واضحا للعيان أمام القراء، وهو ينبههم إلى ذلك قبل بداية العملية السردية.
قد يقول البعض: إن الروائي هنا يحاول التفلسف على القارئ، ولكن مع استغراقنا في قراءة النص الروائي يتضح لنا أن السرد ما كان له أن يتم إلا من خلال الصيغة التي انتهجها الروائي واختارها كأسلوب وتقنية سردية يرتضيها لعمله السردي، ورغم أنه بهذا الشكل الكتابي ينحرف انحرافا خطيرا ومقلقا بسرده نحو حافة المقامرة؛ لأن العملية السردية هنا إما أن نتقبلها بكاملها، أو نلفظها منذ الوهلة الأولى؛ وبالتالي قد ننصرف عن إكمال روايته، إلا أنه كان من المهارة السردية التي جعلته يمسك بتلابيب القارئ، قادرا على صياغة كتابة سردية تجعلنا في حالة دهشة وتساؤل دائمين، وهما المحركين الأساسيين لأي إبداع، والعاملين المهمين اللذين يجعلان المتلقي في حالة يقظة ورغبة في الاستمرار الدائم.
يتحدث الروائي هنا عن عدة عوالم في أزمنة مختلفة وإن كان يربط هذه العوالم ببعضها البعض روح واحدة متنقلة في الزمن عبر العديد من الأجساد المختلفة، صحيح أنه يشير غير مرة بأن هذه الروح تتذكر بعض الذكريات التي لا تدري متى حدثت لها، لكننا كقراء ندرك جيدا أن هذه الذكريات قد حدثت فعليا في عالم آخر مغاير، فتارة يتحدث عن العالم الرئيس للرواية وهو عالم الترابي حارس القلعة البسيط الذي يكتشف أن ثمة مؤامرة على السلطان عبد الرحمن الهاشلي يحيكها له قائد الدرك الأسعدي بن زيفون بالتعاون مع زوجة السلطان طروب بنت المكنون الصالح، وهي المؤامرة التي عرف خيوطها من خلال علاقته بخادمة القصر كريمة الهوزانية، وأكمل له خيوطها زميله الجندي محمد السافر، ويحدث ذات مرة أن يسكر الترابي مع صديقه السافر ويأخذه الانتشاء فيخرج إلى شوارع المدينة ليصيح بأعلى صوته كاشفا عن المؤامرة التي تُحاك للسلطان؛ الأمر الذي يُزعج السلطان ويطلب مثوله بين يديه؛ ومن ثم يعرف ما يتم ترتيبه له ويحاول اعتقال المتآمرين، لكنهم ينقلبون عليه ويسجنون السلطان والترابي أو الصفواني كما قدم نفسه للسلطان وهو سكران، ولكن أثناء ترحيل الترابي إلى السجن ينجح في الهروب وتنقذه إيلينا ابنة الراهب أوريتوس التي تحبه وتنجب منه بعد أن يطردها أبوها من رحمة الكنيسة حينما يعلم بالعلاقة بينها وبين الترابي المسلم، ثم يقوم بالإبلاغ عن الترابي الذي يذهب إلى المعتقل بعد أن يتحول إلى بطل شعبي في نظر المواطنين، وهناك في الجزيرة التي تم نفيه إليها مع السلطان وغيرهم يقوم بثورة ويحاول إنقاذ السلطان الذي يموت من جراء التعذيب المستمر له، ويعود الترابي إلى القلعة مرة أخرى باعتباره سلطانا.
رغم أن هذا هو العالم الأساس للرواية ولكن ثمة عالم آخر في زمن مختلف تهيم فيه نفس الروح، يكون فيه حمادة الشاب الذي تخرج في كلية الهندسة والذي ضاقت به سُبل العيش والرزق؛ مما جعله يعمل حمالا على إحدى السفن، ورغم نحافته وضآلته أمام العمال إلا أنه ينجح في حمل الكثير من الأثقال فيثبت جدارته بهذه المهنة أمام رئيس الحمالين الذي يوافق عليه، وحينما تتعرض السفينة إلى عاصفة في عرض البحر يطلب من القبطان أن يتركه ليقود السفينة وينقذها من هذه العاصفة، ورغم أنه لم يقد سفينة من قبل إلا أنه ينجح بالفعل في إنقاذها؛ الأمر الذي يجعل القبطان يختاره كمساعد له، لكنه لم يشعر بالراحة على ظهر السفينة؛ مما جعله يفكر في الهرب، وحينما ترسو السفينة على شواطئ إسبانيا للتزود بالوقود يستطيع الهروب بالفعل والدخول إلى الأراضي الإسبانية. كما لا ننسى حكاية حمادة الأخرى مع الفتاة اللاتينية صاحبة المظلة والتي قابلها بالمصادفة.
أي أن الرواية تدور في العديد من العوالم وفي الكثير من الأزمنة المختلفة وإن كان يربط بين هذه العوالم والأزمنة نفس الروح التي تنقلت عبر العديد من الأجساد.
يحاول العدوان من خلال هذه العوالم التي كان يتنقل بينها بالتبادل، أي فصل في هذا العالم ليتم القطع بشكل سينمائي للانتقال إلى العالم الآخر، أن يؤسس سرده الذي قام على إعطاء الكاتب/ العدوان الكثير من التعليمات والتوجيهات للراوي/ البطل، ومن خلال هذه التوجيهات يعمل على أن تسير أحداث الرواية وتحريك الراوي، أي أن المؤلف هنا لو توقف عن توجيهاته السردية للراوي لانفرط السرد تماما، وتحول إلى فوضى لا معنى لها؛ لاعتماد الراوي على الروائي كركيزة أساسية في تشكيل الحدث، ولنلاحظ كيف بدأ العدوان سرده الروائي معتمدا على أسلوبيته التي اختارها: "تقوم من نومك متعبا. أنت تفرك أسنانك كل صباح، فعل روتيني يفعله الجميع، تستيقظ وتهرع إلى الحمام لتتناول الفرشاة. ما الذي تُفكر به عند صعود ونزول الفرشاة فوق أسنانك الصفراء؟ حتما ستكون نقطة التركيز هي تنظيف الأسنان، وحلمك أن تكون أسنانك بيضاء كما كانت سابقا، ناصعة كما تراها في إعلانات معجون الأسنان، حيث يظهر رجل أبيض البشرة لا يهمنا معرفة اسمه. الآن يفرك أسنانه ويخطف قلب فتاة حسناء لا نعرف اسمها أيضا، لكنها تتبعه لمجرد أنه فتح فمه أمامها. يفتح الرجل الغامض فمه ببطء، تراقبه أنت بدون اهتمام، لكن الفتاة تراه وتشهق، وتحديدا هنا تُثيرك الفتاة الحسناء وهي تضع يدها فوق فمها الصغير، وقد تستغرب لم لمْ تفتح فمها على اتساعه، ولماذا أخفت أسنانها؟ ألا تستخدم المعجون ذاته؟ لا، ليس كما تفكر، لكنها عادة نسائية قديمة تدل على شعور بالحياء".
من خلال هذا المقطع السردي الذي بدأ به العدوان روايته تتضح لنا الآلية السردية التي اعتمدها لتقديم سرده الروائي الذي يُعد جديدا على القارئ باعتبار الكاتب موجودا بين كل سطور روايته، بل ويقدم التوجيهات للراوي مُحركا إياه وحاكيا لبطله الحكاية.
ربما لا يفوتنا أن الروائي نائل العدوان هنا يُمارس شكلا من أشكال اللعب بمهارة مستمتعا بما يفعله؛ فإذا ما تأملنا الفصل الأول على سبيل المثال سننتبه إلى أن الروائي استطاع من خلال هذا الفصل، وباعتماده على فوضى الأفكار وانسيالها تجميع عوالم الرواية بالكامل في هذا الفصل الذي لم يتعد السبع صفحات ونصف الصفحة فقط؛ فهو يبدأ مع فتاة المعجون التي تؤدي به إلى عوالم القلعة والحراس، ثم لا يلبث العودة إلى الفتى حمادة الذي هرب إلى إسبانيا عن طريق البحر من أجل توفير شيئا من الرزق وإيجاد عمل من أجل إتمام زواجه من خطيبته التي تركها تنتظره، انتهاءً بفتاة المظلة السوداء التي قابلها في إحدى محطات القطار. إذن فالروائي هنا يُدرك جيدا كيفية تشكيل عالمه الروائي، ويكاد أن يستعرضه بالكامل، وإن كان بشكل موجز، لينطلق بالقارئ في رحلة مبتسرة للعوالم التي عاشتها روح الراوي في أكثر من مكان، وفي أزمنة مختلفة.
هذه العوالم التي تتداخل مع بعضها البعض والتي قد تؤدي إلى إرباك القارئ غير المتمرس؛ فيلتبس عليه السرد يحاول الروائي غير مرة الربط بينها بالعديد من الإشارات التي تدخل السرد بشكل عفوي؛ فيلحظها القارئ الحصيف، وإن كان الكاتب يتعمد وجودها من أجل تنبيه القارئ لما يفعله، ولعل هذه الإشارات من الكاتب وتداخل العوالم تدل على مهارة الروائي الذي يمسك بالقارئ في حالة تساؤل منذ السطور الأولى حتى ينتهي من روايته، كما أن هذه الإشارات تعمل على تنبيهه وسد العديد من الفجوات، والإجابة على العديد من التساؤلات التي تنشأ في ذهنه أثناء تقدمه في عملية القراءة؛ فنراه يقول: "نرى أيضا أن لديك محاولات عديدة في الكتابة حول ذات الموضوع، وأهمها تلك التي تتحدث عن بحار لا تعرف اسمه، فأنت لم تُطلق عليه اسما قط، لكنك تناديه بالغريب، ربما لأنك تود أن يظل غامضا لدى القارئ. بحار هام في البحر مرة تاركا زوجته التي يحبها، والقصة تُركز على مشهد الحبيبة وهي تنتظر الغريب عند الشاطئ كل يوم، تبكي لأجله وتنظر إلى الشمس التي تبتلع الأمواج قرصها، وتنتهي القصة والمشهد ذاته يتكرر، ولا يعود الغريب قط، لكنك تذكر جملة مهمة قبل النهاية بأن الغريب سيجد زوجته في حياة أخرى لا تُحدد ميقاتها".
من خلال هذه الإشارة المبكرة التي ترد في حكاية حمادة البحار نلاحظ أن الروائي يحاول أن يرشد القارئ ويؤكد عليه أنه يتحدث عن روح لها العديد من الحيوات المختلفة في الكثير من الأزمنة بتجليات مختلفة؛ فهذا المشهد الذي يتحدث عنه في حكاية حمادة هو حقيقي بالنسبة لحمادة الذي تنتظره خطيبته التي لن يعود إليها، لكنه من ناحية أخرى نفس المشهد في عالم الجندي الترابي الذي ستنتظره حبيبته بنفس الكيفية بعد اعتقاله، لكنه سيعود إليها في زمن الترابي، ولعل هذه الإشارات كانت من الأهمية بحيث تُزيل الالتباس لدى بعض القراء الذين لم يدركوا بعد آلية السرد وما الذي يريده المؤلف من هذا الشكل السردي الذي يلعب من خلاله لعبة سردية ممتعة بالنسبة له؛ لذلك كانت هذه الإشارات المبكرة من الأهمية لاستمرار السرد.
هذا الأمر نراه في غير موضع من الرواية فيقول حينما يستطيع حمادة النحيف حمل الكثير من الأكياس التي تفوقه وزنا: "لكن، من هو الذي حمل الكيس بخفة؟ حتما هو شخص لا نراه، وأنت أيضا لا تراه، لكنك تعي أنه كان موجودا في جسد آخر غير جسدك هذا. هذا المجهول هو حمادة ذاته، وهو بلا شك قادر على حمل كل هذه الأكياس دفعة واحدة، وهو أنت تماما لكن جسده مختلف، ما الذي يدريك؟"، ويقول أيضا في موضع غيره حينما يقود حمادة السفينة بمهارة لأول مرة في حياته: "بل إنك تخلع ملابسك وتقفز مثل قرد، وهي مهارة جاءتك فجأة، وقوة لا تعرف مصدرها، فأنت مُلم بهذه الأفعال، بل إنك تتقدم نحو القبطان الذي أنهكته عجلة القيادة وتطلب منه أن يتنحى جانبا" في تأكيد على الخبرات التي اكتسبتها الروح في حيوات سابقة وإن كان لا تفسير لها عند الشخصية، وهو ما نراه أيضا لدى الجندي الترابي: "بالرغم من السُكر الذي يداهم عقلك وقلبك في هذه الساعة، إلا أنك تُدرك أن الذي يحرك جسدك ليس أنت، وأن اللسان الشجاع الذي يعلو صوته هو ليس لسانك، طاقة تُحيل قلبك الواهن إلى قلب أسد لا يعرف الرحمة؛ فترتفع بصوتك ليسمع الجميع أنك لست خائفا من أحد"، أي أن الروح هي المسيطرة والمحركة للأجساد، وهو ما نراه أخيرا حينما يبوح الترابي بالمؤامرة التي تُحاك حول السلطان، وحينما يسأله السلطان من أنت يجيب: "أنا مجرد جندي من جنود قلعتك المهملين، فأنا أحرس الباب الشرقي منذ خمسة أعوام، ولكني لم أجد نفسي قط بهذا المكان أبدا، بل إني لا أحس بروحي مستقرة في جسدي، أشعر بأني شخص ما من زمن آخر، وأني لست بحارس، فأنا شاعر مرة، وبحار مرة أخرى، ومرات أخرى مهندس بناء، أنا كل هؤلاء وليس بأحدهم".
إذن فالروائي هنا حريص بالفعل على أن يزيل الالتباس الذي يحدث بسبب آلية السرد التي اختارها، وتداخل العوالم المتعددة التي يسردها، وهو ما يدل على إدراكه الجيد لما يفعله.
الروائي الأردني نائل العدوان
لكن، إذا ما تخطينا إشارات الكاتب المتعددة على طول الرواية سنلمح أنه بعدما يستقر تماما على أسلوبيته التي اختارها كطريقة للسرد؛ يبدأ إيغاله نحو التجريب فيه كيفما شاء بمهارة تجذب نظر القارئ، وتُثير تساؤله؛ لغرابة السرد غير المألوف بالنسبة للمتلقي: "لنتوقف قليلا هنا، ما الذي يحدث لك؟ لماذا يعتمر رأسك شعور غريب وأنت تنظر إلى جسدك، تشعر بغربة داخل هذا الجسد الهزيل، لحيتك نامية بشكل كث، عظام كتفيك تبرز بصورة لا تشي بأنك مجرد عامل فوق السفينة، وتسأل نفسك ذات السؤال: هل ينبغي حمل هذا القلب والطموح في وعاء لا يحتمله؟ حتى عيناك اللاتي تنظر بهما، دائما يأتيك شعور بأنهما منظار تتطلع منه لا غير، لو قُدر لك أن تختار جسدا، فماذا سيكون خيارك، وتتخيل أمامك صفا من الأجساد المتنوعة، أجساد مختلفة الأحجام والألوان، فهذا ضخم لدرجة أنك تحتار كيف ستحرك اليدين والرجلين فيه، وذاك ضئيل إلى حد مخجل، تبتسم للفكرة، أجل أنت تبتسم، بل إنك تضحك بملء شدقيك، وهو فعل لم يحبذه العمال والبحارة من حولك"، إن الكاتب/ العدوان هنا في حالة نقاش وحكي، وتوجيه، وإخبار للراوي/ البطل الروائي نفسه، وهذا غير مألوف في السرد الروائي العربي، أي أن الكاتب هنا يبدأ في التجريب واللعب من خلال السرد الروائي كيفما شاء مبتكرا أسلوبيته التي تخصه، والتي ارتضاها كطريقة للسرد تخصه وحده، وإن كانت هذه الأسلوبية على قدر غير هين من المغامرة؛ لأنها قد تؤدي فعليا بالقارئ إلى الانصراف فجأة عن الإكمال؛ بسبب عدم اعتياده على هذا الشكل السردي، أي أن الروائي هنا يُغامر مغامرة إبداعية حقيقية اعتمادا على قدرته الأسلوبية، وحريته كمبدع في اختيار الشكل السردي الذي يخصه.
إن إيمان المؤلف بأسلوبيته التي اختارها هنا يجعله مستمتعا بما يفعله؛ حتى أنه يبدأ اللعب فعليا من أجل المزيد من متعته الشخصية، وربما اتضح لنا ذلك حينما سألت خطيبة حمادة السابقة: "إنت بتحبني؟"، فيستمر الكاتب في سرده مباشرة بعد هذا السؤال مخاطبا الراوي/ حمادة: "إنها تتكلم معك، وأنت واجم، قل شيئا، لا تدع فتاة في مقتبل عمرها ذات شعر أسود كالليل ساهمة في انتظار إجابتك، حدثها عن الحب، عن العشق المخبأ، وهي خافضة رأسها واليأس ظاهر في عينيها العسليتين، من تكون هذه الفتاة أيضا؟ هل ستستمر علاقتك بها؟ وتتحسن حالتك المادية وتتزوجان وتنجبان أطفالا، وتعيشان بأسعد حال، هذا هراء! فكل هذا لن يحدث قط، وأنت تشعر بغيظ من سؤالها غير المبرر في هذه اللحظة، فهي تعرف تماما بأنك بلا عمل ومعدم، وأن فقرك الذي طال قد جعلك سئما، وهي تعلم علم اليقين أن بقاءكما معا مستحيل، هكذا هي المرأة، تطرح أسئلة محرجة لا ينبغي الإجابة عنها"، إذن فالسرد هنا في حالة احتمالية دائمة لا يمكن أن تقبل اليقين؛ فكل شيء جائز، وكل شيء قابل لعدم التحقق، وكل الأحداث يدخلها الشك والظن، كما نلاحظ أن المؤلف هنا في حالة حديث مع الراوي ونقاش وتوجيه دائم؛ فهو يخبره بما يجب عليه أن يفعله؛ كي تسير أحداث الرواية بمنطقية، كما أن المؤلف على يقين بأن الراوي لا يستطيع التصرف وحده، بل لا بد للمؤلف كي تكتمل الأحداث الروائية، وهو ما سبق أن رأيناه قبل بداية السرد حينما أكد المؤلف أن أحداث الرواية لا يمكن لها أن تكتمل من دون وجود المؤلف داخل العمل السردي، أي أن العدوان هنا يصر على التجريب والذهاب به إلى مداه الأقصى مهملا في ذلك القارئ الكلاسيكي الكسول الذي لم يعتد هذا الشكل السردي الجديد عليه.
هذه التجريبية التي تمنح الكاتب قدرا كبيرا من المتعة نراها حينما تقول سارة لحمادة: "أنت كنت تخدعني طول الوقت، إنت ما بتحبنيش"، هنا يستمر الكاتب في سرده موجها حديثه للراوي: "حقيقة أنك لم تكن تخدعها، ويبدو ذلك من هدوئك الذي لا نفهم سببا له، لكن هل تشعر بتأنيب ضمير أو ما شابه، لا أظن ذلك، بدليل أنك تُخرج سيجارة من جيب قميصك وتبحث عن ولاعة في جيبك الأخرى: طيب معاكي ولاعة؟ لقد سألت الفتاة هذا السؤال وهي في حالة من البكاء المرير، وقد أخفضت صوت بكائها قليلا لتستمع لسؤالك، الذي يبدو أنها لم تتوقعه، لعلها كانت تتأمل أن تناجيها بصوت حنون وتخبرها عن حبك الدفين. لكنك فاجأتها بالسؤال، هل فرغت الدنيا من الكلمات لتحاور فتاة مفجوعة بحبها بهذه الطريقة، وها هي ترفع يدها وتمسح الدموع فتتسخ بكحل أسود من عينيها، تبدو سارة وهي تبكي بصورة درامية كطفل أضاع لعبته، وأنت بكامل رزانتك تبحث عن شعلة لسيجارتك، لكنك لا تجدها فيتكدر مزاجك حينها"، نلاحظ هنا أن المؤلف لا يعطي التعليمات فقط، ولا يكتفي بالحديث مع الراوي، بل هو يحكي له المشهد واصفا إياه وكأن الراوي/ البطل داخل الرواية لا يعلم ما يحدث فنراه يقول: "وها هي ترفع يدها وتمسح الدموع فتتسخ بكحل أسود من عينيها، تبدو سارة وهي تبكي بصورة درامية كطفل أضاع لعبته"، فالكاتب هنا يتحدث من داخل السرد باعتباره هو من يعيشه راويا وواصفا إياه بدقة للراوي بافتراض أن الراوي هو الذي خارج السرد وليس داخله، أي أنه يمارس لعبة تبادل الأدوار بينه وبين بطل روايته، وفي هذا ما يدل على أسلوبية متميزة يبرع فيها الروائي، ويجعلنا كقراء قادرين على تقبلها والاستمتاع معه بها رغم عدم اعتيادنا لهذا الشكل من السرد الجديد علينا.
لعل هذه المتعة التي يكتسبها المؤلف من جراء ما يفعله بسرده يجعله يوغل إيغالا حقيقيا في المزيد من التجريب لدرجة أنه يبدأ في الكتابة بشكل يكاد أن يهدم من خلاله النص السردي تماما ويلغيه كلية: "حتما لم يعجبك النص إطلاقا، لربما كان لا بد من تخفيف حدة المصائب التي انهالت على رأسك تباعا، وهذا التعب الذي استهلك قواك مقبول إلى حد ما، لكن أن يتحول المشهد إلى موت اختياري فهذا ما لا يمكن القبول به، وتتذكر في هذه اللحظة الزوجة التي تنتظر عودة حبيبها الغريب من غياهب البحر في قصتك التي لم نعرف نهايتها، هي لا تعلم أنه ربما قد اختار طريقة الريس أبو الرز لينهي سأم حياته: الموت الاختياري، من يعلم ذلك، لكنك تحزن على تلك المرأة وتدرك أنك لم تنصفها يوما بكشفك لها هذه الحقيقة. ترى هل سيرجع لها حبيبها يوما ما؟"، أي أن المؤلف هنا لديه القابلية للنقاش مع بطله في أحداث الرواية؛ التي قد تسمح له بهدم النص وإعادة كتابته مرة أخرى، وكأن ما سبق أن قرأناه لم يكن؛ ومن ثم يتجاهله، لكنه حينما يتناقش مع بطله في هذه الإمكانية، أو هذا الافتراض يتذكر أن ثمة قصة قد بدأها من قبل عن زوجة تنتظر حبيبها ولا بد من إكمالها، أي أنه يناقشه في إمكانية الهدم والتغيير، لكنه سيتراجع بسبب وجود ما لم يكتمل سرديا من قبل، وهو ما يمنعه من هذا الهدم، بل إن المؤلف يدعي أمام القارئ والراوي عدم معرفته بصيرورة الأحداث في المستقبل، وينكر معرفته بافتراضية عودة الحبيب إلى الحبيبة المنتظرة وكأنه لا يد له في كتابة هذه الرواية التي نعلم تماما أنه يعلم أحداثها، وخططها بمهارة ودقة قبل الإقبال على كتابتها. إنها متعة الخلق الفني، واللعب بالسرد حتى مداه هو ما نراه من خلال ما يفعله المؤلف نائل العدوان من خلال صفحات روايته.
اللعب بالسرد حتى مداه الأخير يجعل المؤلف يزيد من جرعة المقامرة، والاتجاه إلى الحافة التي تخاطر بسرده ويهدم الإيهام بالكامل في مغامرته السردية حينما يكتب: "البارحة فقط كان ينهر هذا ويأمر ذاك، من يراه اليوم بهذا المنظر لن يربط ما كان بالأمس، وهو وضع تراجيدي يصلح ترجمته إلى مسرحية أو قصة طويلة منفصلة عن هذه الرواية، وأنت برغم الأحداث التي جلبتك إلى هذه الفوضى التي قد تفقد حياتك من أجلها، إلا أنك هادئ البال، لا تثيرك شتائم العامة من حولك وخشونة المعاملة من الحراس"، فالمؤلف هنا يُقرر بشكل مباشر وصريح أن ما يقرأه قارئه مجرد رواية، وأن بعض مشاهدها التي كتبها قد لا تصلح لأن تكون في هذه الرواية، وأنها صالحة لأن قصة منفصلة ومترجمة، أي أنه يتوجه بحديثه هنا إلى القارئ بشكل مباشر، ويحاول مناقشته في آلية السرد، وبعض الأحداث التي قد لا تروق للقارئ، كما أنها لا تروق له كمؤلف، ولعل العدوان هنا قد وصل إلى درجة من الثقة بما يفعله في عمله؛ ما جعله يتحدث إلى القارئ مباشرة بهذا الشكل الذي يكاد أن يقرب من شكل السخرية، بمعنى أنه يسخر منا نحن كقراء ارتبطنا ارتباطا وثيقا بالرواية التي يقدمها لنا؛ ومن ثم فهو من حقه أن يفعل بالسرد ما يرغبه واثقا أننا قد تقبلناه واستسلمنا تماما للآلية التي اختارها.
إن إحكام الروائي للعبته السردية يجعله يتصرف في أحداث السرد أحيانا بشكل لاعقلاني، ورغم أنه يعرف لا منطقية، أو لا عقلانية الأحداث إلا أنه يُدرك جيدا أن القارئ سيتقبل الحدث مهما كان؛ نتيجة إحكامه وبراعته السردية من خلال القانون الذي فرضه على الرواية منذ بدايتها، وهو القانون الذي يجعل القارئ متواطئا معه، مُتقبلا أي شكل من الأحداث التي قد ترد على خاطره كمؤلف، وهو ما نقرأه في: "العامة من حولك تهدر بصوت عال: يحيا العدل، يحيا العدل. ولا تدري إن كان ذلك عدلا أم سوء تقدير، أو طالعا سيئا، فكل الأحدث المتسارعة شبيهة بألعاب الأطفال التي لا تدوم، وأنت مصفرّ الوجه بين جموع الجنود تقرر الهرب، تلوي يدك عدة مرات لتفك القيد، فتحز رسغك ويتقاطر الدم بغزارة مما يثير انتباه الحارس الذي يقرب وجهه من يدك ويحاول إحكام الوثاق، لكنك تلطمه على وجهه ثم تهرع هاربا بعد أن تفلت القيد من يدك، ويصرخ عندها الحارس بأعلى صوته: هرب السجين، هرب الترابي".
ربما نلحظ في هذا الحدث لا منطقية لا يمكن أن يتقبلها العقل؛ فالترابي بين رجال الحكومة بالكامل. وجميع أفراد الشرطة والجيش في المدينة يحيطونه، كما أن الشعب من حوله متحفز ضده، أي أن المدينة بالكامل تُحاصره وتريد التنكيل به، كما أنه لا يمكن أن يتخلص من القيد بمثل هذه السهولة التي وصفها في هذا المقطع، لكنه يجعله يتخلص من القيد ثم ينجح في الهروب من أهل المدينة بالكامل، وحكامها وشرطتها وجيشها؛ لأنه كمؤلف يريد له ذلك كي يكمل الحدث الروائي كما رسمه تماما، وكي يستمر السرد كما خطط له، والحقيقة أننا كقراء متواطئين، متقبلين الآلية السردية التي فرضها علينا منذ البداية سنتقبل ما هو غير منطقي باعتباره سردا منطقيا، ومن ثم لن نرى فيه أي خلل، وهذا إن دل فهو يدل على مهارة العدوان وقدرته على الإحكام السردي فيما أراد الذهاب إليه.
إنها اللامنطقية التي نتقبلها باعتبارها شيئا عاديا حينما يُقابل الترابي إيلينارو لأول مرة: "تُحضر إيلينارو عدة أرغفة من الخبز وقطعا من الدجاج المشوي وكأسا من الماء، وأنت ساهم بجلبابها الذي يفيض جمالا ويزيدها طولا وإشراقا. تقترب منك لتشتم رائحتها التي تشبه رائحة الأرض عند انهمار المياة عليها. "رائحتك تشفي جراحي وتأسر قلبي"، تقول بصوت مجهد وكله خشوع. "وأنا يصيب قلبي شعور غريب كلما اقتربت منك أيها الترابي، هل تعرفني من قبل؟"، "أنا أعرفك، أنا متيم بك، أنا هائم بصوتك وجيدك، سيغمى عليّ في الحال، اقتربي أود أن أضمك"، "بهذه السرعة، إننا لم نكد نتعرف على بعضنا البعض بعد، لكنني حتما أحلم، فأنت قريب مني، وأعرف هذا الصوت جيدا، بل إني أحفظه عن ظهر قلب. أيها الغريب هل أنت ساحر؟".
هذا المشهد السردي إذا ما قرأناه في أي عمل روائي آخر لا بد من رفضه، بل واتهام المؤلف بالسذاجة السردية والمراهقة؛ فكيف لرجل بمجرد أن يرى امرأة يدور بينهما مثل هذا الحوار الذي لا يمكن له أن يُقنع طفلا؟! لكننا إذا ما عدنا إلى آلية السرد التي فرضها علينا المؤلف منذ البداية، وإذا ما لاحظنا أن هذه الأحداث قد حدثت لهذه الأرواح في عالم آخر كما يؤكد السرد؛ سيكتسب المشهد السردي منطقيته وعقلانيته ومن ثم سنتقبله باعتباره مشهدا عاديا لا بد منه؛ لأن روح الترابي قد التقت بالفعل بروح إيلينارو في حياة أخرى، وهما يشعران بذلك لكنهما غير مدركين لما حدث في زمن آخر.
إن تقبل ما هو غير منطقي سرديا يجعلنا نتقبل من العدوان الإيغال في المباشرة السردية مستمتعين بأسلوبيته في التجريب: "هل تشعر بأنك كنت تتوهم العشق مع كريمة؟ بلا شك أنك ستجيب نعم، وحالة اللانتماء هذه لن نسميها أنانية في الوقت الحاضر، فأنت مجرد من المشاعر باتجاه كريمة، هكذا يبدو لنا. وبشكل أقرب إلى السقطة من فوق جبل، سقطت مشاعرك باتجاه كريمة، دون مقدمات أو جمل تراجيدية". ربما نلاحظ هنا أن الجميل السردية نفسها يتعمد فيها الكاتب افتقادها للأسلوب الروائي أو الشاعرية، أو الدفء، بل هي جمل تقريرية جافة أقرب إلى لغة النقد، أو لغة المنطق، أو التفلسف؛ أي أنه يغامر أيضا على مستوى الأسلوب واللغة مراهنا على القارئ الذي فهم الآلية التي يكتب بها المؤلف؛ ومن ثم اكتسب المؤلف قدرا غير هين من الثقة بأنه مهما شطح في آليات التجريب على كل المستويات الكتابية؛ فالقارئ قد بات منساقا له فيما يفعله مستمتعا معه باللعب السردي الذي يخص العداون نفسه.
لكن رغم تداخل الحكايات المتعددة التي يحرك فيها المؤلف شخصياته، ورغم انفصال هذه الحكايات عن بعضها البعض بشكل لا يمكن فيه أن تتلاقى؛ حتى أننا نتساءل: كيف سيربط هذه العوالم ببعضها البعض في النهاية، بغض النظر عن وجود الروح التي تهيم في الكثير من الأجساد في أزمنة مختلفة، وهو التساؤل الذي كان يدور في أذهاننا على طول العمل السردي، إلا أن العدوان لم يغب عنه هذا التساؤل الذي يوجب عليه ربط هذه العوالم ببعضها في نهاية الأمر لاسيما وأن كل هذه الشخصيات بتجلياتها المختلفة سواء كان حمادة، أو الترابي، أو الصفواني، أو غيرهم هي شخصية واحدة في حقيقة الأمر؛ لذلك يعمل المؤلف على حبك عمله الروائي بالتقاء النهايات للتدليل على أنه كان يسرد حكاية روح واحدة في أزمنة وأمكنة مختلفة، كما أنه يُدلل للقارئ على مهارته السردية متفاخرا بما فعله، وهذا ما رأيناه في الفصل قبل الأخير "نهاية لم تحبها" حينما اعتقلت الشرطة حمادة على تهمة لم يكن له يد فيها حينما حاول إنقاذ فتاة المظلة من السرقة فوقع السارق ومات، ومن ثم أخذوه في سيارة الشرطة: "الطريق ضيق وينتهي ببناء كبير ومضاء، يدهشك الهدوء الذي يحف بالمكان الذي يزينه صوت البحر، وهو ما يدعوك لإغماض عينيك مدة قصيرة. يفتح مؤخرة القفص رجل بدين، ويفيض الضوء بعينيك دون أن تستطيع فتحهما بسهولة، ويحيط بك الرجل حليق الذقن ممسكا بيديك المكبلتين، وبرغم غياب الكلام إلا أنك مذعن لما يطلبه منك، وأنت متيقظ وعاجز عن الكلام. يمسك الرجل البدين بكراس أبيض ويدوّن بعض الملاحظات، ثم يعرضها على الرجل ذي الذقن الحليق ليوقع بعدها، وليمسك يدك رجل آخر يرافق الرجل البدين. المبنى عبارة عن قلعة كبيرة من الحجارة الضخمة القديمة، الحجارة مرصوفة بعناية بعضها فوق البعض، والمدخل يأخذك إلى سنوات موغلة في القدم، وتحديدا أمام البوابة التي تنفتح بشكل طولي وبسلاسل حديدية يحركها رجلان عن طريق دواليب خاصة، تشعر بأنك تعرف المكان جيدا، بل تحس بنسمات البحر ورائحته التي تشبه رائحة سمك السردين التي تثير أنفك فتزيد أُلفتك مع المكان. تقف قليلا وتنظر إلى البحر، والشرطي الممسك بيديك يبدو متفهما لطلبك، وينشغل هو بترتيب أوراق بيديه، فيما تهيم بقلبك نحو البحر وبالجدران العظيمة التي أحاطت بالبناء منتظر مصيرك الذي لا نعرف نهاية له".
إذا ما تأملنا المقطع السردي السابق وهو المقطع الأخير من هذا الفصل الذي يليه الفصل الأخير مباشرة؛ سنلاحظ العديد من الملاحظات التي تُدلل على أن المؤلف يعرف في اللحظة المناسبة كيفية ربط العوالم مع بعضها البعض وتداخلها بشكل أقرب إلى السينما منه إلى السرد الروائي ليصبح العالم واحدا في النهاية كي يغلق روايته، أولى هذه الملاحظات أن هذا الحدث السردي في المقطع السابق قد حدث في عالم شخصية حمادة في إسبانيا، وبالتالي حينما اعتقلته الشرطة أخذته إلى معتقل هو أشبه بالقلعة التي نعرفها جيدا من خلال عالم الترابي- العالم الأصلي للعمل السردي-، أي أنه يمهد من خلال هذا المقطع لتداخل عوالمه الروائية لينتهي بعالم الترابي، كما نلاحظ أيضا العديد من الإشارات التي تُدلل على أن هذا العالم بتداخله في عالم الترابي فهو سيختفي تماما ليحتل عالم الترابي المشهد الذي سينهي به الروائي عالمه، نلاحظ هذه الإشارات في: "والمدخل يأخذك إلى سنوات موغلة في القدم، وتحديدا أمام البوابة التي تنفتح بشكل طولي وبسلاسل حديدية يحركها رجلان عن طريق دواليب خاصة، تشعر بأنك تعرف المكان جيدا، بل تحس بنسمات البحر ورائحته التي تشبه رائحة سمك السردين التي تثير أنفك فتزيد أُلفتك مع المكان".
رغم أن حمادة لا يدرك شيئا عن حياته في عالم آخر، إلا أنه يشعر بأنه قد انتقل إلى عالم يعرفه جيدا حينما تأخذه الشرطة الإسبانية إلى المعتقل/ القلعة، وهو ما سيحيل روحه، ويحيلنا معه إلى العالم الأساس في الرواية وهو عالم الترابي، الذي سينجح في الهروب من السجن المنعزل في جزيرة نائية ويقود المسجونين في ثورة عارمة تُعيده إلى القصر والقلعة مرة أخرى، وإن كان سيعود هذه المرة سلطانا بعدما يموت السلطان من جراء التعذيب، أي أننا قد نجرؤ على القول: إن الروائي هنا لجأ إلى حسن التخلص الذي كنا نقوله قديما على الشاعر حينما يُنهي قصيدته الشعرية، وكأن العدوان فعليا قد قدم لنا قصيدة مُحكمة استعرض فيها الكثير من المهارات السردية التي لم نألفها من قبل في السرد العربي، وإن كان قد برع فيها إلى حد بعيد بحيث أننا نستطيع الجزم أنه قد انتهج لنفسه أسلوبا سرديا يخصه في عالم الرواية يختلف فيه عن الكثير من الأسماء الروائية التي قد لا تُقدم جديدا في السرد العربي، أو لا تتميز عن الكثيرين من الأسماء الأخرى في شيء.
في رواية "غواية لا تود الحديث عنها" راهن الروائي الأردني نائل العدوان على السرد وتقنياته، بل إنه راهن على القارئ أيضا؛ فربح السرد والقارئ معا.

محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب
عدد يوليو 2018م







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق