إذا ما تأملنا تاريخ المنطقة
العربية المتخم بالطغاة الذين لا ينتهون حتى اليوم لدار في خلدنا العديد من
الأسئلة المهمة: كيف يحيا هؤلاء الطغاة حياتهم؟ ألا يراودهم شيء من الشعور بالندم
على ما اقترفوه من جرائم تجاه شعوبهم؟ هل يشعرون بالفعل بالراحة والاطمئنان
والسكينة والسعادة في حياتهم رغم أنهم يدركون جيدا أنهم قد ارتكبوا من الجرائم
الدموية، وظلموا من الناس ما لا يُعد ولا يُحصى؟!
لعل هذه الأسئلة المهمة
وغيرها الكثير هي ما تُشكل العالم الروائي للروائي الأردني زياد محافظة في روايته
"حيث يسكن الجنرال"، حيث يتمثل الماضي بالكامل أمام أحد الطغاة لينقلب
إلى كابوس لا ينتهي؛ فيتجسم له ضحاياه في الحلم واليقظة؛ الأمر الذي يجعله غير
قادر على التمييز بين ما هو واقعي وبين ما هو حلمي أو كابوسي مما يصيبه بالهلاوس
الحقيقية التي تُنهي حياته تماما ليصل إلى حالة من الخلل العقلي والانفصال عن
الواقع بسبب سيطرة هذا الماضي وتمثله الدائم أمام عينيه.
يستعرض محافظة حياة الجنرال
فيصل توفيق، هذا الجنرال القاسي الذي كانت حياته بالكامل منحصرة في إخلاصه للرئيس
والحياة العسكرية؛ الأمر الذي يجعله يقترف الكثير من الجرائم، ويُحطم الكثير من
الشخصيات، ويُدمر الكثير من الأسر لمجرد أن هؤلاء الناس قالوا كلمتهم من أجل
الوطن، أي أنه ديكتاتور صغير ينفذ مطالب الديكتاتور الأكبر، المتمثل في الرئيس، عن
طريق المزيد من القهر، والدم، والقتل ببرود أعصاب لا مثيل له لدرجة أنه يتورط في
قتل شقيقه المنضم إلى إحدى الجماعات السلفية والمعارضة للنظام السياسي، لكن حينما
يستشعر الجنرال توفيق مدى الاحتقان الذي ساد الشارع السياسي يحاول تحذير الرئيس
أكثر من مرة لاحتواء هذا الاحتقان الذي هو على وشك الانفجار، وحينما يسخر منه
الرئيس ويبدأ في التشكك في ولائه يُعد عدته للرحيل إلى غير رجعة؛ فيجهز جوازي سفر
له ولزوجته منى بأسماء جديدة، ويعمل على نقل أمواله بالكامل إلى الخارج، ويهرب في
اللحظة الحاسمة قبل الانفجار الشعبي إلى ألمانيا ومنها إلى كندا ليستقر هناك هو
وزوجته بالقرب من ابنته التي تعيش في لوس أنجلوس ظانا أنه قد ابتعد عن الانفجار
والمحاكمة والنيل منه، لكنه يُفاجأ في كندا بعد حادث مرور أثناء قيادته لسيارته
أنه بعدما نجا من الغيبوبة التي أُصيب بها عاد شخصا آخر وقد بدأت جميع شخصيات
الماضي التي تسبب لها في الأذى أو القتل، أو التمثيل بها وتعذيبها في العودة إليه
ومطاردته سواء في أحلامه أو يقظته لدرجة أنه لم يعد قادرا على النوم خوفا من هذه
الشخصيات، لكنها حينما تتمثل له في اليقظة أيضا يبدأ في حالة من الهلاوس التي
تجعله ينفصل انفصالا كاملا عن الواقع الذي حوله.
ربما كانت من أهم مميزات
السرد الروائي لدى زياد محافظة لغته الوصفية السلسة التي يمكن أن نُطلق عليها
اللغة الحُلمية، أي أنها لغة تقرب من الحلم فتحيل العمل الروائي بأكمله إلى حلم
طويل رغم واقعيته، ساعده في هذه اللغة الحلمية مفرداته التي يختارها بعناية،
وأسلوبيته السردية التي تأخذ من معجم التصوف بعض مفرداته، وإمساكه بتلابيب السرد
الذي يأخذ بالقارئ حتى نهاية سرده، هذه اللغة التي تتميز بالكثير من العذوبة تنسال
بهدوء وروية واطمئنان داخل المتلقي؛ فتمتلكه وتجعله منساقا خلفه، مطمئنا لما يسرده
الروائي عليه حتى ينتهي من السرد الذي لا يرغب في انتهائه، ولعل اطمئنان القارئ
إلى لغة السرد حينما يبدأ في قراءة عمل سردي جديد هو أهم ما يمكن أن يقدمه الروائي
لقارئه؛ لأنها العائق الأول أمام القارئ إذا ما ظل في حالة قلق، غير مطمئن لأسلوب
السارد؛ مما يؤدي إلى تشتته وانصرافه عن العمل الذي أمامه؛ لذلك يحرص محافظة منذ
جملته الأولى على الإمساك بتلابيب المتلقي، محاولا الحفاظ على هذا المستوى من السكينة
والاطمئنان على طول الرواية؛ ليظل القارئ مرتبطا بالعمل حتى نهايته، وهذا ما نلمحه
في: "مهمتي أن أبقي الحقيقة طيّ الكتمان، وسأحدثكم عن شيء من هذا بعد قليل. أما
الآن؛ فيوقظني هذا الشيخُ الطاعن في البياض، المادد كفّيه لوناً واحداً في بهجة
الصباح، يجذبني من يدي، يدفع بوجهي نحوَ زجاج النافذة لأرى."تريد أن تعرف كيف
وصلتُ إليك؟ حسناً، كلانا كان بحاجة لهذا. ألست القائل يوماً: إن الشغف أشبه
بالخريطة! يكشف بخبث مسالك صاحبه ونواياه". يهمسُ لي. معه حق! ربما قلت شيئاً كهذا من قبل لكني لم أعد
أتذكر الآن. لكن بيني وبين نفسي وحتى هذه اللحظة، لم أتبين مراده بعد. يلسعني هواء بارد فأقتربُ من النافذة أكثر. أتنفسُ بسرعة
بينما تُكوّنُ بقايا أنفاسي بخاراً على الزجاج البارد. ماذا يريد مني هذا العارف؟
الواقف خلف النافذة ببهاء؟ يلوّح لي فأسرع الخطى. أرتدي معطفي، وشاحي الأزرق،
قفازي الجلدي، أنتعلُ حذائي الثقيل، أضع بعض نياشيني كما اعتدت أن أفعل دوماً،
أبحث عن مفتاح الباب، وأنسل هارباً من البيت قبل أن تراني منى. أصفق الباب ورائي،
وأمضي نحوه كمن يعبر غبش الحكايا لأول مرة".
نلاحظ هنا في الصفحة الأولى
من الرواية أن الراوئي حريص منذ المدخل إلى عالمه السردي على أن يضفي الكثير من
الأسلوبية الموحية بالحلم إلى سرده، وهو ما سنراه فيما بعد على طول العمل الروائي،
أي أن اللغة السردية تتناسب تماما مع الحالة التي يريد الراوئي أن يُحيلنا إليها،
وهي لغة الحلم الطويل الذي سينقلب فيما بعد مع تطور السرد إلى كابوس لا ينتهي
يهاجم فيه العديد من الشخصيات للجنرال سواء في نومه أو يقظته؛ فتتحول حياته إلى
جحيم حقيقي، ولعلنا إذا ما التفتنا إلى المفردات التي ينتقيها الراوئي بحرص؛ لتأكد
لنا أنه يعي جيدا ما يريد أن يوصله للمتلقي. إذن لم لا نُعيد التأمل في الفقرة
السابقة على سبيل المثال لنرى مفرداته وجمله مثل: "الشيخ الطاعن في
البياض" الدالة على الحلم والتصوف، و"يجذبني من يدي، يدفع بوجهي نحوَ زجاج
النافذة لأرى"، وهي من الجمل الدالة على الاستسلام وتُحيلنا إلى لغة التصوف،
و"ألست القائل يوماً: إن الشغف أشبه بالخريطة! يكشف بخبث مسالك صاحبه ونواياه"،
وهي تحتوي على مفردات من قاموس التصوف مثل "مسالك"، وغيرها من المفردات،
كذلك: "العارف"، بالإضافة إلى حالة الانسياق والطاعة التي نراها في قصص
المتصوفة.
إذن فنحن منذ بداية السرد أمام لغة خاصة يختارها الروائي
بعناية ليضعنا أمام الحالة الحلمية التي يريدها والتي تنسحب على طول السرد فيحيل
العمل كله إلى ما يشبه الحلم الطويل، الذي يتحول فيما بعد إلى كابوس بشع. نلحظ هذا
في قوله: "أمضي مسرعاً حتى أقترب من عباءته الوثيرة. المسافات مثل الشائعات تمتد
بخدر في الجهات الأربع، وكل شيء حولي صامت وخاشع، لم أشعر بشيء البتة، قشعريرة عابرة
أيقظت شعيرات ساعدي الأيسر، ثم تبدد أثرها إلى غير رجعة. كنتُ مأخوذاً بالبياض، أو
ربما بسكينة الخلق في أعمق تجلياتها"، صحيح أن الجملة الأخيرة: "أو ربما
بسكينة الخلق في أعمق تجلياتها" بدا فيها شيئا من التقريرية وتدخل صوت
الروائي الذي قد يُفسد أسلوب السرد، لكن الروائي لم يحاول العودة إليها مرة أخرى
مما جعلها تمر من دون قلق للقارئ المُدقق.
هذه الأسلوبية التي لجأ إليها
زياد محافظة تميزت بالكثير من المشهدية وكأن لغته أقرب إلى لغة السينما البصرية:
"جاءت مني نظرة للمرآة فرأيت الشاحنة وسائقها المذعور، وقد اندفعت نحوي وصارت
ورائي تماماً، لا شيء يفصلها عني، رأيتها وهي في طريقها لابتلاعي، صرير عجلاتها الكثيرة،
ونفخ بوقها الذي صم أذني، زاد من هلعي. كنت أسمع قرقعة معدنها الصلب، وهي تحاول بيأس شديد التشبث بالأسفلت دون
جدوى، أما أصوات السيارات المسرعة التي تمر قربي كأشباح ملونة، فسببت لي المزيد من
الإرباك. ربما لم يتح لي أن أبلع ريقي أو أفكر في أي شيء آخر، ربما دارت في رأسي عشرات
الأفكار وخطرت ببالي المئات من الهواجس التي تلاشت واحدة تلو الأخرى. حصل التصادم وحلّت تلك اللحظة التي لم أكن مهيأ لها:
بووووووم. ثم فجاءة، توقف كل شيء". فمن خلال هذه اللغة الوصفية يشعر المتلقي
أنه يرى ما يقرأه وكأنه أمام فيلم سينمائي، ولعل هذه المشهدية الموجودة في ذهن
الروائي هي ما جعلته يسوق سرده بشكل أقرب إلى السينما تماما؛ حيث نرى الفصل الأول
يبدأ بالحلم مع الشيخ الطاعن في البياض والذي ينتهي بزوجته منى وقد أفاقته مما هو
فيه، ثم لا يلبث أن ينتقل بنا إلى الماضي ليعرفنا بنفسه وحياته وكيفية فراره من
بلده بعدما تأكد له أن الشارع بالكامل على شفا الانهيار ضد النظام السياسي الذي هو
جزء منه، وكيف رتب لهذا الفرار هو وزوجته، ليعود في الفصل الثالث ليبدأ حكايته من
بعد الحادث الذي تعرض له في كندا والذي بدأت بعده مباشرة هذه الأحلام والزيارات
الليلية للعديد من ضحاياه التي أدت به إلى الهلاوس، وسرد المزيد من الماضي لتتضح
الحكاية والأسباب أكثر، أي أن الفصل الثاني في السرد كان بمثابة اللقطة الاعتراضية
كما نُطلق عليها في السينما، وهي كما نعرفها: "لقطة كبيرة أو متوسطة تملأ
الشاشة وتعترض السياق، توضع بين لقطتين لتوضح شيئا عن قرب، مثل فقرة مهمة في خطاب،
أو بطاقة على باقة زهور، أو مانشيت في جريدة، أو غيرها من اللقطات التوضيحية، وهي
تُفيد في الإيضاح أو لتغطية عيوب بين اللقطات في المشهد"، وهذا ما فعله
الروائي في الفصول الثلاثة الأولى التي غلب عليها أسلوب السينما المشهدي وتقنيته؛
حيث الفصل الأول كان لابد أن يليه الفصل الثالث في الترتيب، ولكنه رأى أن هذين
الفصلين المتتالين لا يمكن لهما الاكتمال إلا إذا كان بينهما فصلا ثانيا ليزيد
الصورة وضوحا ومن ثم يكون مُكملا لهما رغم انفصاله عن تتالي الفصول وتتابعها، وهذا
ما يمكن أن نرده إلى اللغة أيضا ليكون أقرب الشبه بالجملة الاعتراضية التي تأتي
بين جملتين لزيادة الإيضاح. أي أن الروائي كان يمتلك من المخيلة البصرية ما جعله
ينتهج الكثير من المشهدية التي تتميز بها آليات السرد السينمائي التي أضافت الكثير
إلى عمله السردي.
لا يحاول الروائي زياد محافظة
أن يعطي للمتلقي أسرار عمله السردي دفعة واحدة، بل يحرص على أن يكون ماضي الجنرال
فيصل توفيق الذي أوصله إلى هذه الحالة الكابوسية مبثوثا بين ثنايا السرد ليتكشف
للقارئ جرعة تلو الأخرى على امتداد الرواية، حتى أننا نجد أنفسنا في الفصل الأخير
منها ما يزال العالم يتكشف أمامنا وأن بعضه ما زال مستغلقا أمامنا حتى الجملة
الأخيرة، أي أن الروائي هنا يحافظ على التشويق الذي هو صلب العمل الأدبي، وهو الأمر
الذي لا يمكن أن يكون إلا من خلال محافظة الروائي على عالمه من دون فض مغاليقه إلا
مع انتهاء السرد، ولعل هذا التشويق من أساسيات أي عمل فني وإلا أدى اكتشافه إلى
انصراف القارئ عنه منذ الوهلة الأولى؛ فتارة يتحدث عن نشأته صغيرا مع أبيه المتدين
شيخ المسجد والذي يتعامل معه بقسوة من أجل أداء مناسك الدين مثل الصلاة جماعة في
المسجد، والصوم، وغير ذلك من فروض العبادات كما يراها أبوه: "طفولتي كانت سريعة
وخاطفة، أما أحلامي فكانت أكبر وأكثر امتلاءاً. أبي كان إمام مسجد صارم، علّق حياته
على الآخرة، وترك للحياة الدنيا أن تمر من أمامه بغير اكتراث. لم يكن يعنيه شيء كتهديدي
أنا وأشقائي بعذاب جهنم إن أغفلنا فرضاً من فروض الدين، أو ركعة صلاة تقرباً إلى الله.
عرفت في صغري قصص الأعور الدجال، والأقرع الشجاع والثعابين متعددة الرؤوس، أكثر مما
عرفت قصص الأطفال وعوالمهم البريئة. وبقدر ما كان خيالي ساذجاً وحالماً، بقدر ما أجهدته
وأنا أحاول أن أبني لنفسي صوراً لتلك الجنة
الباهرة، التي كثيراً ما وعدنا أبي بها، إن نحن اتبعنا ما يقول ولم نعص له أمرا"،
هذه الصرامة في تربيته من قبل الأب جعلته فيما بعد يبتعد تماما عن الدين رافضا له
ولطقوسه الصارمة التي تقيده وتمنعه عن مباهج الحياة: "ما يؤلمني حقاً هو أنني
في تلك الفترة من حياتي، كنت أخاف الله، أكثر مما أحبه. كنت أشعر أن أبي يفعل هذا في مرات كثيرة، حتى لا يقال بأن
أولاد الإمام يونس متقاعسون، أو متخلفون عن الصلاة وغيرها من طقوس العبادات التي لا
تنتهي، لذا بدأت علاقتي المشوّهة مع الإيمان منذ تلك الأيام. كيف لي أن أصف ذاك الشعور الذي كان يغالبني، حينما
كنت ألعب مع من هم في سني، وأسمع فجأة صوت الآذان يتردد في أرجاء الحارة. أشعر وقتها
بغصة في الحلق، يخيّل إلي أن الله قد تذكرني من بين غيومه الكثيفة وقرر التنغيص عليّ،
لماذا؟ لأنني سأضطر حينها لترك اللعب، والذهاب لإتمام طقوس الوضوء، والهرولة نحو المسجد،
لأضمن لي مكاناً في الصف الأول. ربما تطلّب مني الأمر سنوات طويلة، لأدرك انني كنت
أصلّي من أجل أبي، لا من أجل الله".
هذا الأسلوب القاسي في
التنشئة أدى إلى وجود صدع حقيقي بينه وبين الله والإيمان به؛ ومن ثم لفظ هذا الشكل
من أشكال التدين ورفضها تماما حتى أنه بدأ يتمرد عليها؛ مما جعل شقيقه الأكبر
الأكثر تدينا منه يكون شديد القسوة معه، بل ويشي به عند أبيه الذي كان يعاقبه
بدنيا بالإضافة إلى لفظه ومقاطعته: "أخي عزيز الذي يكبرني بعدة أعوام، كان أكثر
التزاماً واستقامة مني، كنت أرى فيه صورة مصغرة من أبي. لم يكن يجمعني به الشيء الكثير،
كنت أراه كأبي، مع فارق بسيط بينهما، أبي كان يفوّت لي أحيانا بعض الهفوات أو الزلاّت،
أما عزيز فلا. فهو يصر على التنكيد عليّ،
وإبداء مظاهر القسوة تجاهي متى أتيح له ذلك. لا أدري لليوم سرّ إصراره على إيقاظي متعمداً
لصلاة الفجر في أيام الشتاء القارس! كنت صغيراً لكني أتذكر تلك التفاصيل جيداً، كان
يرفع الغطاء عن جسدي الضئيل، وينهرني فيفقد جسدي على الفور، كل الدفء الذي جمعه طيلة
الليل، ثم يشدني من يدي ويطلب مني أن أسبغ الوضوء وأنا أرتجف من برودة الماء. لم يكن يكتفي بهذا، بل كان يصر على إجلاسي معه لحضور
الدروس الدينية التي تعقب كل صلاة عصر، في ذلك الحي القديم والفقير الذي نشأنا فيه،
وعشنا فيه طفولتنا، رغم أنه يعلم أن هذا وقت اللعب المفضل لدي. أما حين تسوّل لي نفسي
أن أنسل من بين صفوف المصلين، وأهرع للعب مع أصدقائي، مخلفاً ورائي درساً من تلك الدروس
المكرورة، التي تبث الرعب في نفوسنا أكثر مما تفتح عقولنا، فكنت أعلم في قرارة نفسي
جسارة هذا الفعل الذي أقدم عليه، وأن عزيز سيكون أول من يتلذذ في فضح أمري ونقل هذا
لأبي، فأعود للبيت وأنا أرسم في عقلي شكلاً لذاك العقاب الذي ينتظرني، بينما يقف هو
مزهواً، وكأنه انتصر لله على هذا الطفل الشقي، الذي يصر على التمرد على كل شيء".
لعل طريقة الأب هنا في تنشئة
الجنرال فيصل توفيق بالإضافة إلى حقد أخيه عليه وتعامله معه بقسوة والتواطؤ مع
الأب قد أديا إلى هذا الجفاء بينه وبين الدين، وهو الأمر الذي أدى فيما بعد إلى
قطيعة تامة بينه وبين الأب والأخ بعدما دخل الكلية العسكرية مما سيفسر لنا فيما
بعد السبب في قسوته المفرطة في التعامل مع الجميع، وولائه المُطلق للحاكم العسكري
الظالم الممثل للدولة لينتهي به الأمر إلى قتل أخيه في إحدى العمليات العسكرية
للهجوم على السلفيين؛ فالأخ الأكبر كان في حالة غيرة دائمة منه بسبب تفوق فيصل
عليه، كما كان يعاني من عرجا في ساقه ساهم في المزيد من هذه الغيرة: "كان يعلل
فشله دوماً بأنه يركز على علوم الدين؛ تلك التي تنفعه في دنياه وآخرته، وتؤمّن له مكاناً
فسيحاً وظليلاً في الجنة. ما حاجته لتلك العلوم الدنيوية، التي تريد إفساد النشء وتجهيله!
كانت حيلة ذكية منه، عالج بها إخفاقه في الدراسة. فقد رأى أن أيسر طريقة يرمم بها فشله،
هي أن يلتصق بالله، فيجد حينئذ غطاءاً ومبرراً لكل شيء، فيريح نفسه ويرضي أبي الذي
كانت تروقه جداً تلك التصرفات. أجاد عزيز ذلك حقا. يحتم علي تذكر تلك السنوات القول: إن عزيز أوجعني كثيراً
في طفولتني وصباي، لم يتركني وشأني، ظل يتربص بي ويحاصرني لسبب أجهله، دارت في رأسي
الصغير الكثير من الأسباب التي ربما دفعته للقيام بمثل تلك التصرفات، ظننت أن مرد ذلك
ربما لتفوقي في الدراسة! أو لعلاقتي الدافئة مع أمي، قبل أن تنطفئ هذه العلاقة بتلك
الطريقة التي ما تزال آثارها قاسية في وجداني. لعل من الأسباب الأخرى لتلك العلاقة المتوترة التي سادت بيني وبين عزيز؛
وسامتي التي كانت بادية للعيان! نموّي سليماً معافاً، بينما كان يعاني هو من عرج واضح
في رجله اليسرى! عرج كثيراً ما سبب له الحرج، ومنعه من اللعب مع رفاقه في شوارع الحارة
وأزقتها".
هنا أراد فيصل الانفصال
الكامل عنهم فلاذ بالكلية العسكرية وانخرط في هذه الحياة، وبات مُقربا من الحاكم
باعتباره من أهم الجنرالات في النظام، وأكثرهم صرامة وقسوة وولاء للنظام السياسي؛
وهو ما دفع أبوه ليؤكد له أنه لم يعد فردا منهم ولفظه تماما.
يستمر زياد محافظة في سرده
التبادلي بين الحياة الآنية للجنرال توفيق في كندا وما يعانيه مع شخصيات الماضي
التي تتمثل له لتعذيبه، وبين سرد الماضي الذي أدى به إلى هذا الموقف الذي يعيشه
والذي أوصله إلى الهلاوس؛ فيحكي عن انضمام أخيه إلى إحدى الجماعات السلفية
المعادية للنظام السياسي، ومحاولة الجنرال طارق الحاضر التشكيك في ولاء فيصل
للرئيس بسبب أخيه وأبيه تارة، وبسبب نجاة فيصل من الموت تارة أخرى حينما تم تفجير
مكان عسكري غادره فيصل قبل التفجير بلحظات بعدما هاتفه شخص مجهول، بل ووصل الأمر
إلى إخبار الجنرال طارق الحاضر للرئيس أنه لا يوجد أفضل من الجنرال فيصل لقيادة
عملية السيل الأحمر وهي العملية التي سيهاجم فيها الجماعة السلفية التي يتزعمها
أخوه، أي أنه جعله في مواجهة دموية ومباشرة مع الأخ؛ مما جعله حريصا على قتله بدم
بارد كي ينفي أي شكل من أشكال الشكوك تجاهه من النظام: "بعد عملية السيل الأحمر
بشهور قليلة، هدأت النار في قلبي، خمدت ألسنتها شيئاً فشيئاً، لكن ما جرى لي ولأسرتي،
جعلني شخصاً آخر. خلق وحشاً صغيراً بداخلي ظل يكبر ويقتات عليّ، حتى ابتلعني. ما عدت أعرف نفسي، أعماني الغضب. قررت أن على الجميع
مقاسمتي هذا الثمن الباهظ الذي دفعته. طويت صفحة الأمس التي ما يزال دمها يقطر من بين
السطور، وفتحت صفحة جديدة. لا يمكن لي تصحيح الماضي أو معالجته، لم تفلح كل محاولاتي،
فقد رحل الماضي واضعاً تحت إبطيه التفاصيل المريرة التي كان شاهداً عليها. القادم هو
ملكي، من حقي، وأنا من سيقرر شكله وملامحه. بعد الصدى المدوي الذي لاقته عملية السيل
الأحمر، قرّبني فخامة الرئيس إليه، يندر أن يقدم فخامته على أمر كهذا، لكنه فعلها.
صرت خلال فترة وجيزة، الجنرال الأقرب إليه، موضع ثقته وذراعه التي يبطش بها. لم لا!
من أين له بجنرال مأمون الجانب، يقظ ومتفان، يقرن أقواله بأفعال لا يرقى إليها الشك!
جنرال بلغ به الولاء حد التضحية وعلى مرأى من العالم، بأخيه وأسرته، وربما لن يتوانَ
يوماً عن التضحية بحياته من أجل فخامته! هدأت النار في قلبي نعم، لكنها لم تنطفئ، ظلت تلسعني وتكويني، وكنت أعلم
أنه لن يهدأ لي بال حتى أذيق الجنرال طارق الحاضر نفس السم الذي جرّعني إياه".
هنا يوضح لنا الروائي كيف
استيقظ الوحش داخل الجنرال فيصل توفيق، هذا الوحش الذي سيعيش من أجل التنكيل بالجميع
بقسوة لا مثيل لها لاسيما زميله طارق الحاضر أولا، ولعله نجح كثيرا في سوق الكثير
من المبررات التي أدت إلى مثل هذا الشكل المبالغ فيه من القسوة: "وحدها إذن عملية
السيل الأحمر بكل قسوتها ومآسيها، من برّأت ساحتي، وجنّبتني خبث الجنرال طارق الحاضر
ومكائده. بعد تلك العملية صرت شخصاً آخر كما قلت. رسمت مساراً واضحاً
لحياتي، وجعلت لها هدفاً محدداً وهو التفاني في خدمة فخامته، بكل ما أويت من قوة. نذرت
نفسي لهذا وكان الدكتور ربيع خير عون لي. أما الجنرال طارق الحاضر فدبرت له مكيدة لا
طائل اليوم من سرد تفاصيلها؛ فخلال فترة قصيرة، كانت كل ملامح الخيانة قد الصقت به.
ولم يحتج الأمر سوى كلمة واحدة من فخامته، قالها وهو يشير لنا بظاهر يده ويطوي صفحته
إلى الأبد: "تخصلوا منه... وبسرعة". قالها دون أن يرفّ له جفن. كان على الجنرال
طارق الحاضر أن يكف عن مضايقتي، هو من أقحمني في هذه المنازلة دونما ذنب لي، صحيح أنني
دفعت ثمناً باهظاً، لكن الأثمان التي ترتب عليه دفعها، كانت أشد وأقسى".
لذلك لم يتوان فيصل توفيق في
التنكيل بطارق الحاضر وأسرته أيضا رغم أنهم لا ذنب لهم: "مازلت أذكر آخر كلمة
قالها لي وهم ينزعون عنه رتبه العسكرية، ويقتادونه من مكتبه مكبلاً بالأصفاد. لم أكن
لأضيع لحظة كهذه، فقد حرصت على أن أقود عملية التطهير كما أسميتها بنفسي. ربما لرغبة
دفينة لدي في الانتقام من جهة، وتأكيداً على ولائي التام لفخامته من جهة أخرى. قال لي يومها وهو مستسلم ورأسه لأسفل: "لا يمكن
لأحد غيرك أن يفكر بمثل هذه الطريقة، أي أحمق أنا لأعبث مع رجلك مثلك! ما كان علي القيام
بما قمت به، يبدو أنني أيقظت الشيطان وعبثت معه، وعلي اليوم أن أدفع ثمن عبثي هذا..
كنت أعرف في قرارة نفسي أنك ستقوم بهذا يوما ًما، لكني لم أفلح في تفادي ما دبرته لي.
إن كان من رجاء أخير لي، فهو أن تترفق بعائلتي. أرجوك، لا ذنب لهم في كل ما جرى بيننا.
أرجوك جنرال فيصل". ورمقني بنظرة فيها الكثير من الذل والرجاء. كشّر الوحش بداخلي
عن أنيابه، ولم يكن بمقدوري كبح جماحه. لم أصغ لرجاءه ذاك، طال جنوني عائلته بأسرها. كنت أشفي غليلي
منهم واحداً تلو الأخر. غبي. لم يكن يعلم أنه حين يأتي وقت تسديد الحساب، فعلى الجميع
أن يدفع حصته".
ربما كان سوق الأحداث التي
حرص عليها الروائي زياد محافظة بمثل هذا الشكل منذ تنشئة الجنرال فيصل توفيق،
وانفصاله عن أسرته، ثم المكائد التي تم كيدها له، وغير ذلك من الإتقان الذي يجعل
القارئ متعاطفا إلى حد كبير مع الجاني وقسوته ودمويته، لدرجة انسياقنا لرغبته في
الانتقام من الجميع كي ينجو بنفسه في النهاية رغم أننا نرفضها في قرارة أنفسنا،
لكن أسلوب السرد المُحكم الذي جعلنا نراه وحده معلقا في الفراغ، وتخلي الجميع عنه،
والكثير من الألاعيب التي واجهته كان دافعنا الأول لمثل هذا التضامن مع الوحشية
والقسوة التي يجابه بها الجميع راغبين منه أن يكون أكثر شراسة في المواجهة.
لكن هذه القسوة التي أدت إلى
الآلاف من الضحايا ستتحول فيما بعد إلى كابوس طويل سيقضي على حياته تماما رغم
هروبه إلى كندا والحياة فيها هو وزوجته، لدرجة أنه صار يخرج من بيته ليسير خلف
الشخصيات التي تتمثل له باعتبارها شخصيات حقيقية يتناقش ويتصارع معها: "فيما بعد،
أخبرتني منى، أنها وجدتني، بعد أن يأست من عودتي للبيت، جالساً على مقعد أنهكته البرودة،
في فالي ريدج بارك، وقد أزرقّ وجهي وكساني الثلج تماماً. قالت لي: إنني بقيت أهذي وأرتجف،
وأتحدث مع شخص لم يكن له وجود، حتى أعادتني إلى البيت، وبدلت لي ملابسي المبللة، ووضعتني
كطفل صغير في الفراش"، هذه الحالة التي بدأت معه بعد الحادث المروري مباشرة
يؤكدها حينما يتحدث عن هذه اللحظة التي واجه فيها الموت: "من قال لك إن الواحد
منا يرى في لحظات ما قبل الموت، شريط حياته يمر مسرعاً من أمامه، فقد كذب عليك. أنا
نفسي كثيراً ما توهمت هذا، ربما قرأته في كتاب أو قلته لآخرين في جلسة سمر. في تلك
الثواني القليلة التي تمر بشكل خاطف، لن ترى شريط حياتك برمته، صدّقني في هذا. ما ستراه
ببساطة، هو وجوه أولئك الذين أوجعتهم ذات يوم، قهرتهم وعذبتهم، وكنت سبباً في إيذاءهم.
أولئك الذي بقي دين معلق بينك وبينهم، دَين لا بد لك أن تسدده يوماً ما. اكتشاف دفعت
ثمناً باهظاً للوقوع عليه"، وهو ما يدل على أن الشعور بالذنب على ما اقترفه
طول حياته بات يثقل عليه ويتملكه لدرجة السيطرة الكاملة عليه فيما بعد.
هذا الشعور بالذنب يجعله في
حالة صراع دائم بين شخصيته القديمة- الجنرال فيصل توفيق-، وبين شخصيته الجديدة
التي اختارها لنفسه ليعيش بها في كندا- عماد-، وبين شخصية جديدة ظهرت له بعد
الحادث وهي الشخصية التي يعذبها الماضي تماما، لدرجة أنها لا تستطيع مواجهته أو
الانفلات منه: "حاولت اقناع الجنرال المحشور بداخلي، أو دفعه للقيام بشيء من ذلك،
لكنه واجه كل محاولاتي بالسخرية والرفض تارة، والحنق تارة أخرى. كنت أشعر به يجلس بضيق
وتأفف في ركن قصي في أعماقي، يدخن بشراهة، يراقب بنــزق وقرف تصرفاتي وأفعالي، وعندما
لا يعجبه شيء؛ وكثيراً ما يحصل هذا، يثور علي، يصرخ في فيتردد صدى صوته في داخلي. بقيت
فترة طويلة أخشاه، وأخاف إغضابه. بقيت أتعامل معه بحذر شديد، ربما ما زلت إلى اليوم،
أتعامل مع مزاجه النكد والمتقلب، بحذر شديد"، وهو ما يدل على إصابته بشكل من
أشكال الفصام بين العديد من الشخصيات التي تتصارع داخله، وهو الأمر الذي سيؤدي به
فيما بعد إلى العديد من الهلاوس الحقيقية: "في المرة التي اتصلت فيها برقم الطوارئ
واستدعيت دورية شرطة، كنت قد أبلغتهم عن حالة مشابهة؛ كنت وقتها قد رأيت رجلاً يجلس
في أواخر الليل قرب درجات المطبخ، وجسده ينزف الكثير من الدماء. كان يتطلع نحوي بغيظ
شديد، ويخط بسبابته التي تقطر دماً، كلمات على الزجاج الخارجي لباب المطبخ. أشياء لم
تكن مقروءة أو مفهومة بالنسبة لي. هالني يومها منظره، فجمدت في مكاني قبل أن أستجمع
قواي، وأتناول الهاتف طلباً للنجدة، بدا الخوف جلياً على صوتي، وبالكاد تمكنت من وصف
الحالة التي وجدت نفسي فيها، لكن عندما حضرت دورية الشرطة، وبعد أن نزل الضابط بتوجس،
وراح يدور بحذر حول البيت، ويتفقد الأمكنة بعين فاحصة ويده على مسدسه، لم يجد شيئاً
البتة. يومها هرعت منى من الطابق الثاني عندما أحست بوصول دورية
الشرطة، جذبتني من يدي وأدخلتني غرفة الجلوس وقالت لي بحزم: ابق هنا لو سمحت، ثم عادت
لتقف مع الضابط وتتحدث معه"، بل سيصل به الأمر إلى تكرار هذه الهلاوس بأشكال
مختلفة تُحيل الحياة إلى جحيم حقيقي: " ذات ليلة، بعد أن سحبها النوم، تركتها ونزلت للطابق السفلي،
شعرت بحاجتي لفنجان شاي ساخن. حين شرعت في إعداده، سمعت صوتاً ورائي يقول لي بانكسار:
"لم تكن مضطراً لقتلي جنرال، وتجريع من ظلوا ورائي كل تلك العذابات، كان باستطاعتك
زجّي بالسجن.. السجن.. السجن.. السجن". يتردد صدى تلك الكلمة في رأسي كقرع جرس
صدئ وثقيل. قبل أن يتاح لي الالتفات لمصدر الصوت، يتناهى لسمعي صوت أكثر
ارتجافاً يهجس لي عن قرب: "لا مبرر لكل تلك البذاءات التي قمت بها معي. ها جسدي
أمامك الآن.. امضغ من لحمي ما شئت، ما بك؟ ألم يكن يثيرك ويسبب لك الجنون؟ افعل به ما تشاء، لكن اتركني أخبئ حزني وحيدة ويائسة". صوت حانق آخر يقترب من الغرفة المجاورة فيصبح أكثر وضوحاً:
"كل الدماء التي سالت في الشوارع كانت بسببك، هذا الدم الذي تخثر فوق الأسفلت
وعلى أطراف الأرصفة! هذه اللكمات التي نالت نصيبها من أجساد البسطاء، هذه الوجوه المزرقّة،
والعيون الدامعة المنتفخة لن تسامحك يوما". وقع أقدام تتقدم ببطء، صوت جلبة على يميني، وثلة من الأشخاص
تصرخ بصوت واحد: "تلك الموائد العامرة التي طهيت لأجلك والتهمتها بشراهة، كانت
من لحم الفقراء وعوزهم، من جوعهم وصبرهم، ها هي تلك الموائد تنقلب الآن دوداً في بطنك
وفي تجاويف رأسك، دوداً يلتهم كل ما يقف بطريقه، أنظر إليه وهو يزحف فوق جلدك، ويخرج
سميناً ومنتفخاً من أنفك وأذنيك.. أنظر أنظر". تتعالى الأصوات حولي، فأفقد تركيزي، تلسعني نار الموقد دون
أن انتبه، فأرفع يدي بسرعة، ليقع فنجان الشاي ويتحطم إلى مئات البلورات الصغيرة".
الروائيالأردني زياد محافظة |
هنا تتحول حياة الجنرال إلى
كابوس متصل من الهلاوس والمطاردات من ضحاياه الذين يتمثلون له في يقظته بعدما كان
الأمر مقتصرا على نومه فقط: " قبل أيام وفي مثل هذا الوقت، وبعدما خارت قواي، ولخوفي من
الاستسلام للنوم وكوابيسه، درت بملل في أرجاء البيت، ثم ركبت سيارتي ورحت أقود في الشوارع
القريبة. لا أثر لأحد في الطرقات، لا شيء يؤنسني سوى موسيقى هادئة تنبعث من محطة إذاعية.
الأخيلة تتقافز أمام عيني وعلى الزجاج الأمامي للسيارة، أخفف السرعة قليلاً، ثم أرفع
صوت الموسيقى، علها تطغى على تلك الأصوات التي تعشش في رأسي. كنت أريد لتلك الليلة
أن تنقضي، رحت أعد دقائقها بضيق، وأطالع ساعة السيارة مئات المرات لكن دون فائدة. هذه الليلة لا أعرف ماذا أفعل! جسدي لم يعد يقوى
على الاحتمال. أتعبني الجلوس في الخارج، فعدلت جلستي أكثر من مرة، وغفوت قليلاً على
ما يبدو، استسلمت رغماً عني، لا أعلم كم استغرقني ذلك من وقت، لكنه كان كافياً لمنح
تلك الأرواح التي حاصرتني من كل اتجاه، فرصة التفكير في خطوتها المقبلة. في تلك الإغماضة
خرج آخرون من رأسي، وراحوا يمشون أمامي على الرصيف. هكذا بكل بساطة. فركت عيني مراراً لأتأكد مما أراه أمامي، هل هذا حقيقة أم
لا! ها هم يقفون قرب بعضهم البعض، منهم من يلوح لي، ومنهم من يهز رأسه متوعداً".
ينجح الروائي هنا في تحويل
عالمه السردي إلى عالم كابوسي مقنع تماما للقارئ؛ حتى لقد تداخل المتخيل بالواقعي
مما أدى إلى انهيار حياته تماما: "لكن كل هذا يمكن لي تدبره والسيطرة عليه، أو
حتى قبوله والتعايش معه. فخلال الفترة الماضية، بقيت محافظاً على ذلك الخيط الشمعي
الذي يفصل عوالمي الحقيقية عن تلك التي تُحاك رغماً عن إرادتي في عوالم الخيال، أما
أن تتداخل عوالمي بتلك الصورة المفزعة، ويذوب هذا الخيط الواهن ويصل بي الأمر لحالات
لم أتوقعها البتة، ولم تخطر ببالي يوماً، فهذا أمر أصابني بالصاعقة. زلزل كياني وأخافني
من نفسي. لم تكن منى تود اطلاعي على
هذا، لكني رجوتها وبكيت بين يديها أكثر من مرة لتخبرني الحقيقية. الحقيقة كما هي، دون
تزييف أو مجاملة. متى ساورتني الشكوك إذن؟ حسناً
سأجافي الحقيقة لو قلت إن هذا لم يخطر ببالي، لكني كنت أقصيه دوماً من تفكيري. يبدو
أن الأثمان التي علي دفعها للحياة ما تزال باهضة ومكلفة. حصل هذا عندما صرت ألاحظ كدمات زرقاء، على وجه منى وأنحاء
متفرقة من ساعديها وصدرها! أثارني هذا الأمر، فرحت أدقق النظر فأرى مرة آثار أصابع
وخدوش على رقبتها، ومرة أخرى انتفاخات تحت عينيها.. أسألها فتظل صامتة حزينة، ألح عليها
بالسؤال فتقول إنها كدمات اعتيادية من الأعمال المنزلية لا أكثر. كنت أحاول أن أهرب من تلك الهلوسات التي راحت تكبر
في داخلي، إلى أن أفقت ذات يوم فزعاً من نومي. هو ليس نوم بالمعنى المتعارف عليه عند
الأسوياء، بل شيء أقرب للانفصال عن العالم الحقيقي، والركض في فراغات هائلة لا صلة
ولا رابط بينها. أفقت مذعوراً، وكأن شيئاً ما
وكزني في اللحظة المناسبة، وأعاد لي صوابي. ماذا كنت أفعل في تلك اللحظة وأين كنت بالضبط؟ سؤال قاس وإجابته أكثر قسوة.
كنت أجلس بثقلي فوق صدر منى، يداي تعصران رقبتها وتضيّقا الخناق عليها. أما هي فغير
قادرة على التنفس أو الإتيان بأي حركة. شيء ما أقرب للاستسلام بدا في جسدها وعينيها،
أما وجهها فمخطوف وغارق في خوفه ودهشته وزرقته".
ربما كانت هذه المعاناة التي
عاش فيها الجنرال فيصل توفيق لدرجة الوصول إلى الجنون بسبب مطاردة ماضيه له تعود
في حقيقة أمرها إلى الشعور بالذنب نتيجة قتله لأخيه؛ الأمر الذي أدى إلى الحزن
الشديد لأمه ومن ثم موتها بعد قتله مباشرة، وهو ما جعل عقدة الذنب والقسوة أيضا يتضخما
داخل نفس الجنرال فيصل توفيق؛ نظرا للعلاقة القوية التي كانت تربطه بأمه حيث كان
هو المُدلل والمقرب إليها، وبعدما قتل أخاه رأى أنه السبب في موت أمه التي تمثلت
له أيضا في إحدى هلاوسه؛ لذلك نرى أخاه حينما يأتي إليه في إحدى هذه الهلاوس يقول
له: "قال لي وقد أراح قليلاً رجله المتعبة: "أنا أيها الجنرال، صاحب ذاك
الاتصال الهاتفي المجهول، الذي جعلك تغادر مكتبك، قبيل دقائق قليلة من انفجار السيارة
المفخخة التي استهدفت مكاتبكم، أنا ذاك الطبيب المجهول، الذي قال لك إن والدتك في غرفة
العناية المركزة، وعليك أن تحضر لرؤيتها على الفور، تسألني لماذا؟ فقط كي أجعلك تهرول
مسرعاً من مكتبك، فأبعد عنك الموت الذي كان يتربص بك. كنت أعلم أنه عندما يتعلق الأمر
بأمك فإنك سترمي العالم كله وراءك، لذلك لم أجد وسيلة غيرها، لأخرجك بها من المكتب
قبل أن يتم نسفه. أنا نجحت في مسعاي ذاك اليوم، أتذكر؟ نجحت بالقدر الذي نجحت فيه أنت
يوم قدت عملية السيل الأحمر. هذا كل ما عندي لأقوله لك. لكن قبل أن أرحل إلى غير رجعة
هذه المرة، دعني أخبرك ما فعلت هذا لأجلك أنت، فعلته من أجل أمي، هذه المسكينة التي
خفت أن أكون سبباً في عذابها، لأنني كنت أعلم كم كانت تحبك وتخاف عليك، خشيت أن أحرق
قلبها".
ربما يكون هذا القول الذي
قاله له أخوه في إحدى هواجسه غير حقيقي أو واقعي، لكنه من خلال هذه التخيلات
والهواجس إنما يعمل على تفريغ ما يعاني منه نفسيا؛ وبالتالي جعل شخصية أخيه التي استحضرها
في هلاوسه تقول له ذلك ليزداد عذابا وتطهرا مما فعله في الماضي.
يأتي البناء السردي لرواية
"حيث يسكن الجنرال" عند الروائي الأردني زياد محافظة كأهم ما يميز العمل
السردي؛ حيث لا يمنحك العمل نفسه إلا مع آخر جملة لتكتشف أن ثمة خديعة سردية
مارسها عليك الروائي؛ مما يجعلك راغبا في معاودة القراءة مرة أخرى لتستمتع بالسرد
بطريقة مختلفة وجديدة بعدما تكشفت لك حيل الروائي الذي لم يُفصح عن نفسه إلا مع
الجملة الأخيرة من روايته؛ حيث جاء الفصل الأخير عبارة عن شذرات من مخطوط نسيته
ابنته عنده في مشفى الأمراض العقلية الذي انتقل إليه، وفي هذا المخطوط يقرأ العديد
من الأمور التي كانت خافية عليه، منها ما يوضح إدراكه الجزئي لحالته التي يعاني
منها مثلما نرى في: ""كانت أول مرة أسمع فيها صوت الله بداخلي، هكذا خيّل
إلي. كان علي أن أموت حين كنت بسن الخامسة والأربعين. أتراني فعلتها! لا أظن هذا، فها
جسدي عفي، الدماء تجري مسرعة في عروقي، ووجهي ضاجّ بالحمرة، لكن ما فائدة كل هذا وروحي
مهدمة وحائرة! ذات ليلة حلمت حلماً، أفقت منه وأنا استرجع ما علق بلساني من كلمات،
خمنت أنني كنت أصرخ: عجّل.. أنزل لعناتك علي، خلصني من كل هذا بهدوء ودونما رحمة. ماذا
كان رده يا ترى! عبارة قصيرة واحدة، قال فيها: لِـمَ العجلة؟ لم يحن وقتك بعد.... هذه
السطور المكتوبة بخط يد أبي، وجدتها في ورقة عثرت عليها في جيب بنطاله، حينما زرته
قبل شهور قليلة، أتراه كان كان يلوذ بالكتابة ويجد فيها ما يؤنسه! أتراه كتب شيئاً
آخر كهذا وأخفاه في مكان ما!"، ومنها ما يصيب القارئ بالدهشة الحقيقية مع آخر
فقرة من الرواية التي نكتشف من خلالها أنه كان مغيبا تماما عن الواقع: "تحركت
دوريات الشرطة وسيارات الإسعاف والإطفاء لمكان الحادث، فقد قام رجال النجدة بتمزيق
هيكل السيارة المتضررة من طراز لينكولين على الفور، وإخراج سائقها مستر عماد محمود،
ونقله على وجه السرعة لغرفة العمليات، حيث كان يعاني من نزيف حاد وارتجاج في الدماغ،
أما السيدة منى؛ زوجة مستر عماد، والتي كانت تجلس بجانبه في السيارة أثناء وقوع حادث
السير المروع ذاك، فقد لقيت حتفها على الفور"، أي أن زوجته منى لم يكن لها أي
وجود في حياته منذ بداية هذه الهلاوس والكوابيس التي بدأت بعد الحادث، وأنه كان
منفصلا تمام الانفصال عن الواقع الذي يعيش فيه.
رواية "حيث يسكن
الجنرال" للروائي زياد محافظة من الأعمال القليلة الفاتنة التي نجح فيها
الروائي أن يمسك القارئ من تلابيبه بالمعنى الدقيق للكلمة حتى آخر جملة؛ ليكتشف
معها القارئ أن الروائي قد تلاعب به حرفيا طوال أحداث السرد.
محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب
عدد يونيو 2018م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق