الجمعة، 25 مايو 2018

رحلة الرقص الشرقي المصري من الغوزاي إلى فن الباليه

سحر حلمي هلالي
يتميز الرقص الشرقي المصري "بتحريك أكثر من منطقة في الجسم في نفس الوقت، ويتم ذلك بانفصال أعضاءه عن بعضها البعض وتحريكها في أكثر من اتجاه بشكل متسلسل وبانسيابية في نفس الوقت. فيعتمد على هز الهنش وتحريك القفص الصدري في نفس الوقت مع ثبات القدمين على الأرض، وتبدأ الحركة في الرقص الشرقي من القدمين مع دفع الجسد لتبدأ الحركة من الأرض مرورا بالأرجل إلى الهنش والبطن، ويعتبر العمود الفقري هو المحرك الأساس للرقص الشرقي من الناحية التشريحية، ثم تأتي حركات القفص الصدري التي تتميز بانفصالها عن حركات الوسط، وتليه حركات الرأس والأذرع"، من خلال هذا الوصف التفصيلي لحركات الرقص الشرقي المصري تؤكد لنا الباحثة الدكتورة سحر حلمي هلالي في كتابها "الرقص الشرقي المصري بين الماضي والمستقبل" أهمية الحركات الإيقاعية التي يتميز بها هذا اللون من الرقص المغرق في محليته، والذي اكتسح العالم بأسره، حتى أن هناك العديد من المدارس لتعلمه في أوروبا وأمريكا وشرق آسيا وغيرها من مناطق العالم المهتمة بالفن والحركات الإيقاعية.
لم تتوقف الباحثة عند هذا الوصف، بل تسترسل في رصد حركات هذا اللون من ألوان الفن لتقول: "للأذرع أهمية متميزة في هذا النوع من الرقص؛ إذ تتميز حركات الأذرع بعدم الثبات والليونة، وبرسم حركات دائرية حلزونية، كما تستخدم الصاجات النحاسية في بعض الأحيان، كما أن الرقص الشرقي يعرف الارتفاع على أطراف الأصابع كنوع من أنواع الارتفاع عن الأرض دون تركها، وهو سر تكنيك الرقص الشرقي، حيث لا يوجد قفزات عالية، أو رفع للأرجل إلى أعلى في شكل من أشكال صعوبات مهارية وقدرات عالية لجسم راقص كما هو الحال في الكثير من أنواع الرقص الأخرى كالرقص الكلاسيكي، أو الجاز، أو الحديث. إنما هناك صعوبات أخرى يتميز بها هذا الرقص ومن أهمها الليونة في العمود الفقري، والقدرة على التوافق العضلي العصبي بشكل مدهش للتحكم في حركات الجسم".
في هذا الأمر يقول الدكتور أحمد جمعة، كما تقتبس الباحثة: "إن الرقص الشرقي يعتمد على الجسم أكثر من اعتماده على الأطراف وهز الجسم باهتزازات سريعة ونشطة، كما أنه من الممكن أيضا أن ترفع الراقصة الحرقفتين واحدة تلو الأخرى في تتابع مع تثبيت الأرجل، أو تهز صدرها والأيدي ثابتة في شكل من الأشكال. إنها تستطيع أن تؤدي رقصها في توافق عضلي عصبي تام مع انسجام وإتقان يؤكد للمشاهدين مدى إمكانية هذه الراقصة في التحكم في عضلات الجسم المختلفة".
عن هذا اللون من الرقص المحلي المصري الذي نشأ منذ أيام الفراعنة، ومر بالعديد من الأطوار، وامتزج بالكثير من الثقافات الدخيلة على المجتمع المصري على مر العصور وأخذ منها، يدور هذا الكتاب المهم، موضحا كيف بدأ هذا الرقص، وكيف تطور ووصل إلى أرقى أشكاله في الأربعينيات حتى الستينيات من القرن الماضي بفضل السينما المصرية، ثم كيف انحدر هذا الفن تماما ولفظه المجتمع المصري باعتباره فنا هابطا، هدفه الأول هو الإثارة قبل أن يكون فنا راقيا.
تنطلق المؤلفة في بحثها باعتبار أن هذا الرقص الذي لا تهتم به الأوساط العلمية ولا تعتني بدراسته، أو التأريخ له هو من أهم أشكال الرقص التي سادت العالم، وإن كان عدم الاهتمام بالدراسة العلمية له قد أدى إلى دخول العديد من الحركات التي لا تخصه إليه، كما اندثرت بعض الحركات الأخرى المهمة، وأدى ذلك إلى انحداره كثيرا؛ مما يدلل على أهمية تدريس هذا الشكل من أشكال الفن من أجل الحفاظ عليه والعمل على تطويره لاسيما أنه يتميز بحركات لا تتواجد في أي لون من ألوان الرقص الأخرى في العالم؛ فهو يعتمد على: "حركات الحوض أو الهنش أو الوسط والتي تتميز بليونة وانسيابية ونعومة في الأداء الحركي. فاستخدام الجزع وطريقة تحريكه بسلاسة لا توجد في أنواع أخرى كثيرة متواجدة على خشبة مسرح الباليه، بل إن تحريك منطقة الحوض أو الهنش لأمر محظور استخدامه، ومنطقة ممنوع تحريكها في الرقص الكلاسيكي التقليدي الصارم المعروف"، من هنا تأتي أهمية الرقص الشرقي المصري وتميزه عن غيره من أنواع الرقص في العالم.
تعود الباحثة إلى جذور الرقص الشرقي المصري من خلال التاريخ وما كتبه العديدون من الكتاب اليونانيين وغيرهم من علماء الحملة الفرنسية على مصر، فتؤكد أن الرقص الشرقي كان معروفا في مصر منذ أيام الفراعنة، وتحدث عنه الكثيرون من الفلاسفة لاسيما أفلاطون الذي تحدث عن هذا الرقص باحترام كبير: "إن الإنسان بحاجة لمن يقوده حتى في استخدامه لاكتشافاته هو، بنفس القدر الذي يحتاج فيه لمن يقوده وهو يستخدم ملكاته الفيزيقية والعقلية؛ ولهذا السبب فإن قدماء المصريين قد كرسوا، بفعل قوانين خاصة مبادئ فني الرقص والغناء، بالعناية نفسها التي أولوها في إرساء مبادئ الحكم والدولة والمؤسسات بالغة الأهمية"، وتأتي أهمية ما قاله أفلاطون عن الرقص والغناء في مصر القديمة إلى أنه أقام في مصر فترة طويلة؛ ليدرس فيها الفلسفة والسياسة وكل العلوم المقدسة، وهو الأمر الذي يعطي لشهادته وزنا كبيرا فيما ينقله إلينا عن الموسيقى والغناء في مصر القديمة.
لعل يقين المصريين القدماء بأهمية فن الرقص والموسيقى هو ما جعلهم يهتمون بتدريسه لصغارهم بشكل علمي، والعمل على تعريفه لهم باعتباره شكلا من أشكال الفنون، غير متبرئين من الرقص كما هو الحال الآن في المجتمع المصري، وفي هذا يقول أفلاطون: "ثم ابتكروا نوعا من التمثيل الصامت يتوافق مع هذه الأغاني والرقصات، وكانوا يقومون به داخل المعابد أو خارجها في أيام الأعياد وأيام الراحة، وكانت هذه التدريبات مفيدة فيما يتصل بالأخلاق التي كانت هذه التدريبات تقدم عنها أكثر الصور جمالا، أما ما يتصل بالرقص بفعل رشاقة الحركات وتوقيعها، وفي النهاية بفعل التناغم الكامل واللياقة والجمال في كل من تأليف وإخراج الأغنيات والرقصات، وكانت هذه التدريبات تندمج أو تصاحب كل مراحل التعليم، فقد كان قدماء المصريين يعتبرون أنه عندما لا يعرف أمرؤ ما قط أن يغني، وحين لا يعرف قط أن يرقص فمعنى ذلك أنه لم يتلق تعليما قط"، وربما كانت الفقرة الأخيرة من كلام أفلاطون عن الرقص والأغاني عند قدماء المصريين من الأهمية التي توضح قيمة الرقص والغناء في حياة المصريين القدامى؛ مما يستدعي الكثير من الدهشة الآن نتيجة تبرؤ المصريين من هذين الأمرين المهمين في الحياة بعد دخول واكتساح الغزو الوهابي إليها. بل اعتبر المصريون هذه الفنون أمورا مقدسة مثلها مثل كل العلوم وهذا ما تؤكده الباحثة: "كانت الموسيقى والفنون وفن الرقص وعلم الحركة في مصر القديمة شأنها شأن الفلك والعلوم والفلسفة، أي تدخل في عداد العلوم المقدسة والتي كانت تقتصر دراستها ومعرفتها وتعلمها في كل فروعها على طبقة الكهان بصفة خاصة والمتعلمين بصفة عامة"، ومن هنا تتضح لنا الأهمية القصوى التي كان يوليها المصريون القدماء للفنون والرقص بصفة خاصة.
هذا الحرص الكبير على هذه الفنون في مصر القديمة أدى إلى تأثر الحضارة اليونانية بالمصريين؛ ومن ثم اهتموا كثيرا بالرقص والغناء كما فعلت مصر، أي أنهم تماهوا معهم؛ نتيجة لأن عدد كبير من اليونانيين تلقوا تعليمهم وفلسفتهم على يد المصريين، وفي هذا تقول المؤلفة: "إن حورس إله الشعر أو النغم والذي أعطاه الإغريق اسم أبوللون (أبوللو).. كان أوزوريس يحب المرح والبهجة والموسيقى والرقص، وكان يستبقي حوله على الدوام فرقة من الموسيقيين، كان من بينهم تسع عذراوات كن بارعات في كل الفنون التي تتصل بالموسقى، وقد سماهن اليونانيون ربات الفنون، أو الموسات، وكان يرأسهن أبوللو الذي سُمي لهذا السبب Musagete أي قائد أو رئيس ربات الفنون، ولو لم يكن "بلوتارك" (بلوتارخوس) قد أخبرنا أن هذا الذي أطلق عليه الإغريق اسم أبوللون كان هو نفسه من يُسمى في مصر باسم حورس أو "هورس" لما كان ليشك أحد في حقيقة أن اسم أبوللون هو اسم يوناني محض، كما أنه اسم لإله يوناني وليس أبدا اسما مصريا، ولا هو اسم إله مصري".
لكن هل تأثر الإغريق فقط دون غيرهم بثقافة مصر القديمة ونقلوا عنها الرقص والغناء؟
الحقيقة التي يثبتها التاريخ أن جميع ثقافات العالم تأثرت بالثقافة المصرية؛ ومن ثم أخذت عنها الرقص والغناء والموسيقى، كما أن الحركات الراقصة في الرقص المصري القديم لا تختلف كثيرا عن نفس الحركات والإيقاعات التي نراها اليوم في الرقص الشرقي المصري، مع دخول بعض الإيقاعات والحركات الجديدة نتيجة تأثر مصر بالكثير من الثقافات التي مرت عليها مع عصور الاحتلال الكثيرة لاسيما الهكسوس وغيرهم، وفي هذا نرى أن أوروبا قد تأثرت كثيرا بالرقص المصري الشرقي حيث: "إن تعاليم الرقص الكلاسيكي الأوروبية قد تكون مُستمدة ومُستلهمة في الأصل من تعاليم فن الرقص عند الفراعنة وخصوصا أنها كانت عند قدماء المصريين تعتمد على اللياقة والرشاقة؛ لتحاكي أجمل حركات الجسم وأكثرها سموا لدرجة أنه يُقال إن تماثيل قدماء المصريين هي محاكاة للرقص القديم، ويقول أفلاطون في كتابه عن القوانين، الكتاب الثاني والثالث والسابع من مؤلف الجمهورية: إن الموسات التسع كن يحركن الأنشودة التي تحمي الحياة، كما يوضح إن تماثيل القدماء هي مخلفات الرقص القديم، فلقد لوحظت الحركات وحُددت من قبل إذ كان هناك سعي دائب لإكساب التماثيل أو إعطائها حركات جميلة ونبيلة، كان الغرض منها أن ينتج عنها تأثير نافع"، ولعل ما يؤكد أن الرقص الذي نعرفه اليوم هو نفسه الرقص الذي عرفه الفراعنة ووضعوا قواعده وأسسه وحركاته ما يسوقه سعد الخادم، أحد مؤرخي الفن المصري المعاصرين الذين كتبوا عن الرقص الشرقي فيقول: "إذا نظرنا لتاريخ الرقص المصري نجد أن الرقص المصري وُجد بنوعه وشكله منذ العصور الموغلة في القدم موجودة في النقوش الهيروغليفية بمعابد طيبة والقرنة وغيرها مناظر لما يقع داخل البيوت، كمناظر الراقصات في ثياب كالتي يلبسنها الآن وفي أوضاع وحركات لا تختلف في شيء عن أوضاعهن وحركاتهن اليوم".
إذن ما هي العوامل التي عملت على تغير شكل الرقص الشرقي المصري، وكيف وصل إلى هذه الدرجة من احتقار المصريين له رغم أهميته منذ القدم؟
تقول الباحثة سحر هلالي: "على مرّ العصور تدهور فن الرقص منذ العصر الفرعوني بعد أن دخلت عليه احتفالات لأعياد الإغريق والرومان والفرس الذين عاشوا في مصر منذ قديم الزمان، فبعدما كان الرقص الراقي يُستخدم للتعبير عن سعادة البشر والسمو بهم من جموح العواطف، أصبح ماجنا شهوانيا حينما اختلط بأعياد باخوس إله الخمر عند الإغريق والرومان، وكذا ليرضي بعض ملوك الفرس الذي كان يميل إلى الرقص الخليع، ولإرضائه كانت تُقام أعياد واحتفالات بها رقص ماجن إرضاء للملك، كما يتضح من كتاب وصف مصر حيث وجد علماء الحملة الفرنسية على مصر وشاهدوا صورة لرقص عوالم وغوازي لا تُشبه من بعيد أو قريب شكل الرقص الذي ذكروه في نفس سلسلة الكتاب في المجلد السابع، والذي ذُكر على لسان الفيلسوف اليوناني الكبير أفلاطون الذي زار مصر"، أي أن هناك الكثير من الحركات الخليعة التي بدأت تتسرب إلى الرقص المشرقي المصري من خلال الغزوات الثقافية والسياسية التي مرت بها مصر، ولعل هذا ما يُفسر لنا ظهور الغوازي والعوالم في الثقافة المصرية حيث تستشهد المؤلفة بكلام ماجدة صالح قائلة: "أما ماجدة صالح فقد تناولت تاريخ رقص الغوازي فقالت عنه: إن أصل هذا النوع من الرقص غير معروف فعليا، إنما على ما يبدو أنه اختلط بالعديد من الأجناس والأصول البشرية حيث اختلطت لغاتهم وكذلك أدواتهم التي تُعد غريبة على المجتمع المصري، كما توضح ماجدة صالح إن الغوازي هم من قبائل أقامت في مصر منذ عام 1517م إذ جاءت مع جيوش السلطان العثماني عثمان سليم الأول، وهي من عائلة نوار المقيمة بالصعيد، وهي عائلة من أصل فارسي، وذلك عن تصريح من عائلة الغجر مازن الساكنة بالأقصر".
إذن فالعوالم والغوازي اللاتي ظهرن في مصر واختصصن في الرقص الشرقي هن من أدخلن على الرقص الكثير من الحركات الإيقاعية التي لم تكن من أصول الرقص المصري، وإذا كانت العوالم لم يسئن إلى سمعة الرقص المصري؛ حينما اقتصر رقصهن وطربهن على المجتمعات المغلقة داخل البيوت، إلا أن الغوازي أكسبن الرقص الشرقي الكثير من السمعة السيئة بابتذالهن وخروجهن للموالد والأفراح واعتمادهن على الإغراء الجسدي أكثر من اعتمادهن على فن الرقص، وفي هذا تقول: "أنشأت الغوازي مدراس للرقص الشرقي بالماضي في القرن التاسع عشر بكفر مستنت، إذ أنشأت الغوازي مستعمرة تسرق الأطفال وتشتريهم من الفلاحين؛ لتدربهم على الرقص في المقاهي والبارات، إلى أن جاء السلطان محمد علي ومنع الغوزاي والعوالم من الرقص عام 1834م؛ فنتج عنه أن انتشر رقص "الخولات"، وهو رقص رجالي كان موجودا بالفعل ومعروف في تلك الفترة، وهو قريب من حركات الرقص النسائي، ويرتدي فيه الرجال أزياء نسائية، وترجع شهرة هذا النوع من الرقص إلى عصور قديمة".
لكن رغم كل هذه الظروف التي مر بها الرقص الشرقي في مصر، ودخول العديد من الحركات الإيقاعية عليه وابتذاله، واحتقار الكثيرين من المصريين له، إلا أنه عاد مرة أخرى ليكون من أهم الفنون المصرية التي يتميز بها الفن المصري في العصر الحديث في بدايات القرن الماضي على يد بديعة مصابني: "فكان أول ملهى ليلي عرفته مصر في عام 1926م على يد بديعة مصابني، وسُمي كازينو بديعة التي استلهمت فيه الشكل الغربي المستوحى من البارات والملاهي الليلية الأوروبية واستبدلته عن البارات والحانات المصرية التقليدية التي كانت موجودة في هذا الوقت، فكان نوع من أنواع المسرح الاستعراضي الذي يقدم الموسيقى والغناء والتمثيل والرقص والفكاهة. فكانت بديعة مصابني هي أول من نقل الرقص الشرقي من خصوصية ممارسته في المنازل وأدائه في الشوارع والموالد والاحتفالات الاجتماعية إلى خشبة المسرح؛ فأصبح يُقدم في الكباريهات والملاهي الليلية بعد أن كان يُقدم في الحانات والبارات بشكل تقليدي محلي. فاتخذ في ذلك الوقت شكل الصولو Solo النسائي المتعارف عليه حاليا، كما أضافت إليه بعض الحركات، فبعد أن كان يعتمد على هز الهانش والقفص الصدري طلبت من أحد مؤلفي الحركة الأجانب المقيمين في مصر في ذلك الوقت أن يطعمه ببعض الحركات من الأنواع الأخرى للرقص كرقص الصالون، ورقص الباليه، وأنواع أخرى من الرقص الغربي حتى يتسنى لها وضعه على خشبة المسرح أسوة بباقي أنواع الرقص الغربي الأخرى".
هنا كانت البداية الجديدة والحقيقية للرقص الشرقي المصري، وهي البداية التي سترتفع به إل مصاف الفنون المسرحية الأخرى، ومن ثم لن تستغني عنه السينما في كل أفلامها طول فترة الأربعينيات حتى الستينيات التي كانت هي الفترة الحقيقية الذهبية للرقص الشرقي المصري على يد تلميذات مصابني من تحية كاريوكا، وسامية جمال، ونعيمة عاكف، وغيرهن من رائدات هذا اللون من الفن.
ربما كان اهتمام مصابني وغيرها من الراقصات والفنانات في هذه الفترة بهذا الشكل من أشكال الرقص هو ما دفع المصمم الكوريوجرافي إبراهيم عاكف الذي كان أحد أهم من قدموا الرقص الشرقي بصورة فنية متميزة على شاشة السينما المصرية إلى تقديم العديد من الرقصات الفنية الجديدة، ومن هذا اليوم بدأ التاريخ يُسجل أولى خطوات أول مدرسة للرقص الشرقي وبالأخص في عام 1970م حيث بدأ مدرسو الرقص الشرقي في تعليمه وتقديمه للتلاميذ الموهوبين؛ فأصبح تعبيرا حركيا يُعلم في معظم دول أوروبا الغربية وأمريكا؛ إذ انتشر من خلال السينما في ذلك الوقت".
مع عرض الباحثة سحر هلالي لتاريخ الرقص الشرقي منذ بدايته حتى اليوم، والتوقف غير مرة أمام فترات اضمحلاله وسببها تؤكد أن هذا الرقص قد بات مرجعا لكل أنواع الرقص في العالم: "من خلال مشاهداتي لعروض الرقص المختلفة على مسارح الباليه ودور الأوبرا في فرنسا وجدت أن هناك بعض مؤلفي الحركة الذين بدأوا يستلهمون من بعض حركات الرقص الشرقي المصري بشكل لفت انتباهي كباحثة وفنانة مصرية وباليرينا تعلمت أصول وقواعد الرقص الكلاسيكي الأوروبي"، كما تؤكد أن الرقص الشرقي مثله مثل غيره من ألوان الفنون من الممكن أن يتطور بالاهتمام به والتأريخ له، وتعليمه في المعاهد الفنية بإضافة العديد من الحركات المهمة إليه، وجعله مثل الفنون الأخرى التي من الممكن عرضها على خشبات المسارح والأوبرا وغيرها.
لكن إذا كان كتاب "الرقص الشرقي المصري بين الماضي والمستقبل" من الكتب النادرة والمهمة التي قلما نجد مثلها في المكتبة العربية؛ نتيجة ندرة الباحثين في هذا المجال‘ فإنه –للأسف- من أكثر الكتب التي لا يمكن الصبر عليها في القراءة نتيجة أخطاء المؤلفة اللغوية الفادحة التي لا يمكن لها أن تُعد أو تُحصى، والتي لا يقع فيها طفل في المرحلة الابتدائية ما زال يتعلم القراءة والكتابة؛ مما يجعل قراءة الكتاب شكلا من أشكال العذاب الحقيقي لمن يتذوق اللغة العربية، ولعل هذا ما يدعونا إلى المناداة بضرورة عدم حصول أي باحث على درجة الماجستير أو الدكتوراه إلى بعد اجتيازه اختبارات في اللغة العربية تؤكد أنه يتقنها جيدا؛ لأن الكارثة الحقيقية التي نراها اليوم أن معظم المتعلمين الحاصلين على الشهادات الجامعية ودرجات الدكتوراه لا يفقهون شيئا في العربية ويكتبون بمستوى طلاب المدارس الابتدائية فنرى الباحثة تكتب: "بطريقة حلازونية" بدلا من حلزونية، و"الأوروبية النشئة" بدلا من النشأة، و"القدره" بالهاء بدلا من التاء المربوطة، و"أتوصل إلى نشئته" بدلا من نشأته، و"التي لاقت بالفعل نجاح ملفت للانتباه" بدلا من لاقت بالفعل نجاحا لافتا للانتباه، و"كتراث أنساني" بدلا من إنساني بوضع همزة القطع أسفل الألف، وعدم ادغام ما يجب إدغامه حينما تكتب "في ما كتبه" بدلا من فيما كتبه، ولعل الكارثة العظمى التي كتبتها في كتابها كانت "كما يترأى له" التي كانت تقصد بها يتراءى، و"ألف كتابا ضخم"، بدلا من كتابا ضخما بما أن الصفة تتبع الموصوف في الرفع والنصب والجر، و"طرء على مصر"، بدلا من طرأ، وكتابتها الدائمة للاسم الموصول "الذين" المستخدم للجميع في صيغة المثنى "اللذين" بدلا من الجمع، والتعامل مع حرف العلة في نهاية الفعل باعتباره واو الجماعة التي تستوجب الألف بعدها حينما تكتب "يسموا" بدلا من يسمو، وعدم حذف حروف العلة بعد حرف الجزم مثل "لم يختفي" بدلا من يختف، وغير ذلك الكثير جدا على طول صفحات الكتاب مما يؤشر بوجود كارثة جهل حقيقي باللغة العربية بين معظم المتعلمين بل وبين أساتذة الجامعات أيضا.





محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب.
عدد مارس 2018م.


الخميس، 17 مايو 2018

الدان.. لا أحد يعيش في حضرموت

ربما تُعد رواية "الدان" للروائي اليمني علاء بامطرف تمثيلا حقيقيا لما يحدث في أوطاننا العربية المُستهلِكة لأبنائها، الضاغطة عليهم بقسوة؛ فلا يبقى أمامهم في النهاية من حل للمأساة التي يعيشونها داخل أوطانهم سوى الرحيل عنها من أجل ضمان أقل حقوقهم، وهو البقاء على قيد الحياة؛ لأن البقاء في هذه الأوطان بالنسبة لهم لا يعني سوى الإهانة، والجوع، والتشرد، أو الموت على أيدي أبناء الوطن الذين تحولوا إلى التدين الذي لا يرى في الحياة سوى الفناء والقسوة، والغلظة، والتخلي عن كل أسباب الفرح باسم الدين ووهم الجنة والنار.
نلاحظ من خلال الرواية براعة الروائي في وصف حالة الفقر والعوز اللذين يؤديان بأهل اليمن عامة- لاسيما حضرموت- إلى الهجرة الدائمة وكأنها ملحمة خالدة يعيشها أهل اليمن؛ ومن ثم باتت الهجرة مفردة أساسية من مفردات حياتهم اليومية؛ فلا يمر يوم من دون هجرة المزيد من الأبناء إلى الدول المجاورة، ولا يمر يوم من دون وفاة جديدة: "أتذكر وصية جدتي كلما حدثتها عن الهجرة: "حسك تغرك دلهي وتلهي"، متى ابتدأت أول هجرات قومي؟ منذ متى ونحن نخط الأرض كما يخط بدوي الرمل ليعرف خيوط قدره؟ أتذكر ذاك السرب الطويل من المغادرين، تلك القوافل التي لم تنته، ذاك الهروب، وذاك الحنين، أحلام الذهاب، أحلام العودة، كل المصابين بداء الرحيل، كل الذين جرفهم الشوق، كل الذين ندموا على المغادرة وكأنهم عقوا هذه الأرض، كل الذين ظنوا أن المغادرة بالنسبة لهم لعنة ستظل تُصيب الحضارمة، لعنة تطردهم من مهجر إلى مهجر جديد. ابتدأنا ملحمة لم يُكتب لها نهاية بعد، هي النزوح إلى النزوح، الكمد الطويل، ارتحلنا من بعيد إلى آخر، نُطرد من مهجر إلى مهجر جديد، نحمل الرحال دون أن نضعها، ظهورنا احدودبت كنصف قمر، وأرواحنا ابيضت من الدمع، هي رحلة إلى رحلة، الأبد في الاستقرار يبدو مغريا، لكن الأبد في الرحيل طعم مر بما يكفي، وليس هذا أي رحيل، هو الرحيل مع الحزن الثقيل، والسؤال عن السؤال، لماذا لم نعرف سوى لون الهجرة المعتم؟! لم نعرف سوى المغادرة الدائمة والبقاء الغير مستقر، حتى الرواحل لم تحتملنا، بقيت الأرجل راحلتنا الوحيدة تحملنا بين الديار، كل الأدلاء كانوا يتوقفون عن إكمال الطريق معنا، يشيرون إلينا في أحد الاتجاهات ونكمل وحيدين، نحمل أرجلنا حينا وتحملنا حينا لنكتشف بسيرنا كل تلك المجاهل، كنا نأتي إلى الناس في قراهم فنبدو لهم كدهشة ونجعلهم يتساءلون: من أي بلاد جاء هؤلاء؟ نذوق المرارة مرتين"، هنا ومن خلال هذا النص يبرع الكاتب في تصوير الرحيل الدائم كملحمة أبدية كُتبت على أهل حضرموت خاصة، إنها حضرموت الفقر، والعوز، والموت الدائم إذا ما رغب أهلها في الاستقرار حيث هم؛ لأنهم إذا لم يتم إفنائهم بسبب ظروفهم الصعبة سيتم فنائهم بسبب الجماعات التي اتخذت من الدين واسم الله وصيا على الجميع ليمنعوا عنهم أي مظهر من مظاهر الحياة؛ فمقامات الأولياء حرام، ووجود المدافن فوق سطح الأرض حرام، والغناء والرقص في الأفراح حرام، وكل شيء في حياتهم بات حراما لا يمكن ممارسته وإلا تم قتل من يمارسه، أي أنهم لا يمكنهم الحياة سواء على المستوى المادي الذي يمثله المال الشحيح، أو على المستوى المعنوى المتمثل في الرقص والغناء من أجل تعويض الحرمان والعوز. هنا تصبح الهجرة هي الحل الوحيد والمباشر أمام الجميع؛ وبالتالي يصبح الكل في حالة هجرة دائمة، ورحيل دائم، أو كما يقول المؤلف: "هي النزوح إلى النزوح".
يحاول الروائي بامطرف سرد روايته في شكل فلكلوري يخص ثقافته وكأنما الرواية عبارة عن عدودة، أو شكل من أشكال الغناء الخاص بتراث الحضارمة، ولعل هذا الشكل التراثي الخاص به يتضح من العنوان "الدان"؛ فمن المعروف أن "الدان الحضرمي هو نغمات موسيقية وإيقاعات فنيه مطربة تُطرب الروح وتبعث على الشجن، وهو أكثر انتشارا في حضرموت؛ لأنه يُعبر بصدق عن إحساس الناس وأمانيهم وتطلعاتهم وهمومهم وآلامهم وشعورهم العاطفي، وتنطلق مع توقيعات ألحانه وتقاسيمها الغنائية المُنسابة الكلمات الرقيقة العذبة والمعبرة؛ فالدان نغم ولحن له صفة قديمة لدى كل فئات طبقات المجتمع الحضرمي، وهو نوع من الشعر المُغنى بألفاظ وأوزان غير مقيدة بما يقوله النحاة، ولقد سموه في الأندلس بالموشحات، وسماه الحضارمة الدان، وفي اللغة يأتي معنى الدندنة بهيمنة الكلام، ودندن فلان نغم لا يفهم منه كلام، فإن لفظة ما يدل عليه الدان يمكن أن يكون إلى الهمهمة والتنغيم وليست إلى الشعر، وبهذا يكون الدان هو الأصل وليس الشعر أصل الدان، وتُجمع المعاجم على أن الدندنة هي نغم"، ومن خلال هذا التعريف للدان الحضرمي يحاول الروائي أن يسير السرد لديه باعتباره شكل من أشكال النغم أو الدندنة، أو الثرثرة التي تتخذ الشكل الروائي؛ فهو يحكي ساردا لنا في شكل أقرب إلى الحكايات، أو من يدندن بالفعل مع نفسه، ولنفسه فيحكي حكايته وحكاية وطنه وكأنها شكل من أشكال السيرة الذاتية، واجترار الحكايات والذكريات، نلاحظ ذلك مثلا في قوله: "خرجتُ من هناك، من رحم الجزيرة العربية، حيث الجنوب لا يصنع إلا الحكايات والوجد، في حضرموت، في أرض تقع في المنتصف بين الحياة والموت، هذا الاسم المُركب والمعنى الغارق في المعنى، أودية منثورة كسحاب السماء، وقرى يظهر السنا على انعكاس نوافذها، أقمار تمنح الحب للساهرين وشمس تجرف برودة الليل، أرض ورثت منها الظمأ الدائم، الظمأ الذي ظلوا يضحكون عليّ بسببه حين كنت صبيا أجري في أزقة القرية فلا أستطيع أن أُكمل مثل الآخرين وأهرع لشرب الماء"، من خلال هذا المقطع نلاحظ أن الروائي حريص على أن يأتي السرد في شكل السيرة الذاتية، كما أنه يبدأ في اجترار الحكايات ويلوكها وكأنه يحكي لنفسه، أي أن السرد هو لون من ألوان الدندنة التي تتناسب مع عنوان روايته، كما أنه يحرص على أن يبث بين ثنايا السرد العديد من أشعار وأغاني الدان التي يقولونها في حضرموت؛ مما يؤكد رغبته في ربط السرد الروائي بالتراث اليمني الخاص بأهل حضرموت.
هذا الحرص على حكاية تاريخ ثقافته يدفعه لسرد ما يعانيه الحضارمة من فقر ومعاناة ومن ثم الرغبة في الرحيل والهجرة الدائمة، هذا ما نلاحظه مثلا في سرد التاريخ الطويل لأهله من الغياب والرحيل: "أبي وجد فرصة ذات يوم وذهب مع خالي إلى الصومال، حين كانت الصومال حلما لكل الجائعين، لم يطل في الصومال، عاد سريعا بعد تجارة عابرة في مقديشيو، ثم رجع ليستقر في البلاد ويلحق بأمي في آخر أيامها قبل أن تموت، بعد أيام من خروجي للعالم، رجع من هناك وهو يتقن ثلاث لغات، ويملك ماشية من الأغنام كانت حوالي ثلاثين رأسا، ما زالت تتوالد إلى الآن، فالقطيع الذي يسرح حول البيت هو من سلالة تلك الماشية التي جاءت معه. عمي الذي استقر في السعودية لسنين طويلة أصبحت علاقته بحضرموت مرتبطة بالصيف، يأتي في الإجازة لشهرين وحيدا، وإن أتى أبناءه فأسبوع واحد لا أكثر، يجلسونه هنا ثم يرجعون، يلتمس لهم العذر أحيانا ويقول: "هم لم يعودوا من هنا، هم من هناك"، وحين يسخط عليهم يلعنهم بأنهم نسوا أصلهم وأنهم كالمقطوعين من شجرة".
إذن فالجميع في حالة هجرة لا تنتهي، أسرة الراوي بكاملها تهاجر من أجل البحث عما يسد جوعهم وحاجتهم التي يعاني منها كل أهل حضرموت الذين لا يختلفون عن أسرة الراوي، فالكل يعاني، والكل راغب في الرحيل من أجل المال والحياة الكريمة؛ لذلك فالحلم الذي يراود جميع الشباب في هذا المجتمع هو حلم الهجرة فقط، سواء إلى الصومال، أو السعودية، أو ماليزيا حيث التجارة هناك، المهم هنا أن يرحلوا بعيدا عن هذا الوطن الذي يضن عليهم بأقل أسباب الحياة الكريمة.
ربما كان هذا الفقر الشديد والحرمان الدائم هما السبب الأساس اللذين دفعا نسبة كبيرة من الحضارمة إلى البخل الشديد، أو الحرص في إنفاق المال خوفا من تسربه منهم؛ لذلك نرى بامطرف يُفسر أسباب هذا الحرص: "كان عمي واحدا من أولئك الكثيرين الذين هاجروا للحجاز معدمين، فعملوا دائما على أن يستحضروا طعم الحرمان الذي طردهم من البلاد، لهذا صار بعضهم شديد البخل كما يُقال أحيانا، لكنهم لا يعتبرون الأمر بُخلا، يقولون إنهم رأوا ما لم يره أي أحد، لذلك يبدو حرصهم للآخرين شكلا من أشكال البخل، ولهذا جرى ضرب المثل في البخل ببخل الحضرمي. قد يكونون بخلاء، من جهة حيث سيبدو حرصهم على الأموال بالنسبة للآخرين أمرا فوق الحرص العادي، وهذه الفكرة نشأت بسبب جيل المهاجرين الذي جاء بعد المجاعات، حيث ظل مسكونا بالخوف من تلك الأيام العجاف، لذلك كان حرصهم أشد من الآخرين، حرصهم في العمل وحرصهم في استحقاق البقاء في الأماكن التي يذهبون إليها. يقولون أنهم لولا هذا الحرص لما تمكنوا أبدا من البناء، الذي شيدوه بحكمة واحدة: إن الريال فوق الريال تبني وتُعمر، للتدليل على أن التوفير مهما كان سيأتي بنتيجة إيجابية، وبعضهم التصقت بهم فكرة التوفير حتى بعد أن أثروا، فتأتي تلك القصص عن الخلافات بين الآباء الذين لا يريدون أن يفتحوا جيوبهم، وبين الأبناء الذين يرون في تقتير آبائهم بخلا ليس له داع".
هنا يتأكد لنا أن الفقر الشديد الذي عاشوا فيه كان من القسوة ما دفعهم إلى عدم المقدرة على الاستمتاع بالحياة حتى لو توفرت لهم سُبل المال وباتوا أثرياء؛ فالفقر والمعاناة التي مروا بهما لا يمكن نسيانهما ومن ثم فهم يعيشون دائما في حالة خوف مما سيأتي، أو رعب من أن يتكرر معهم ما سبق أن عانوه مرة أخرى. إنه الفقر الشديد الذي يصوره ببراعة في: "كانت المرأة تسقط وهي تمسك رضيعها، والأطفال يشاهدون آبائهم يسقطون بقاماتهم الطويلة كما كانت الأشجار التي تعودوا على تسلقها تتهاوى أيضا، بقى من تلك المجاعة حكايات الموت الكثيرة والتي لا تختلف عن بعضها إلا بقدر زيادة الألم، حكاية الراعي الذي وجدوه ملقى بجانب شاته التي رفض أن يقتلها لأنها أرضعت أبنائه فتآخى معها في الموت جوعا، وتلك الطفلة التي ماتت أمها أمامها جوعا فنطقت أول كلمة (يام) لكن أمها كانت قد غادرت قبل أن تتقاسم معها لحظة النطق الأولى".
الإيغال في رسم معالم الفقر والحرمان والمعاناة نراه في: "في أسفل وادي حضرموت حكاية أم اللبن، وهي مجنونة كانت تجوب الشوارع بشعرها الكثيف وجسدها النصف عاري، نزلت مع الناس حين كانوا يهربون من المجاعة، وفي الوقت الذي كانت القافلة الطويلة تترنح، شاهدت طفلا ينوح على أمه التي سقطت وهو يمسك بطنها، تحرك شيء في ثدي تلك المرأة التي لم يمسك طفل بثديها من قبل، انفجر اللبن فيها، وأمسكت بالطفل ترضعه وهي تردد "زمزم، زمزم"، اندفع الأطفال عليها يحاول كل منهم أن يأخذ من ثدييها ما يبل ريقه، ارتمى الأطفال عليها يعصرون ثدييها وهي تضحك، ظلت تمنح اللبن لليلة كاملة نامت بعدها ولم تستيقظ، دفنوها هناك في الوادي ووضعوا علامة صغيرة على قبرها على أمل أن يعودوا بعد أن تنقضي هذه الغمة ويبنوا على قبرها ضريحا، لكن قبرها صار مجهولا ولم يتعرف أحد عليها".
هذه القسوة بسبب الفقر الذي يعيشه أهل حضرموت يحاول الروائي دائما التركيز عليها لتوضيح مدى المعاناة والأسباب الدافعة دائما إلى ملحمة الهجرة والرحيل والبخل التي يعيشها أهل قريته، والحضارمة: "أحدث سيارة هنا من صنع الثمانينيات، ووجوه السائقين مليئة بأغصان الشيب، في الغالب هم معلمون متقاعدون وضعوا ما تبقى من رصيد العمر في سيارة أجرة، السيارة ممتلئة أكثر مما ينبغي كأن من بداخلها ليسوا بشرا أو مخلوقات تتنفس، ننكفئ على أنفسنا حتى يتسع مكان آخر بحسب أوامر السائق، نتكوم فوق بعضنا ولا يظهر إلا القليل من التأفف، أرفع رأسي، أحاول التقاط نفس جديد، لكن الغبرة هي ما يمكن التقاطه حين تقترب من سقف السيارة المحطم"، هذه المظاهر نراها أيضا في: "توقفنا عند محطة للتزود بالوقود، أكره ذلك التوقف الطويل عند محطات الوقود التي لم يعد يعمل منها إلا نصفها تقريبا. الوقود صار أغلى من الذهب هذه الأيام".
كل هذه المعاناة التي يعانيها أهل اليمن لاسيما في حضرموت يدفع الجميع إلى الحلم بالهروب من الموت حتى لو كان هذا الهروب سيؤدي بهم إلى الموت أيضا من خلال التهريب عبر الحدود السعودية فيكون مصير الواحد منهم إما الموت عطشا في الصحراء، أو الموت برصاص حرس الحدود، وهو ما يدفع الراوي إلى التخلي عن حبيبته وبيع ذهب أمه الذي ورثه عنها من أجل حلم الهجرة إلى السعودية حتى أنه لا يقوى على توديعها يوم رحيله؛ فالهجرة أهم من أن يكون هناك أي سبب آخر من أجل التراجع: "ما زلت أحلم بالهجرة، نفسي تراودني أن أقفز على الحدود، أن أنضم للسلسلة الطويلة التي تهرب يوميا، هذه الرحلة المرعبة، هل سيتمكن مثلي من عبورها؟ هل سأنضم إلى موسم الهجرة إلى الشمال؟ هذا الشمال القريب بما يكفي لأصل إليه على رجليّ، والبعيد بما يكفي لأموت في الطريق، هذا الشمال الذي يبتلع الهاربين من الجوع والخوف ويطحنهم، سأرحل حتى لو كان الموت ثمن هذا الرحيل، سأمضي في بحر الرمال، لعل حياة جديدة هناك، لكني كنت أخشى من وجع جديد"، هذا الحلم الذي استولى عليه من أجل الهروب من الفقر بات هو الهاجس الأول الذي يحركه في حياته، ولعل الروائي هنا يحرص أيضا أن يسرد لنا العديد من الحكايات عن الهروب والرحيل عبر الحدود السعودية في شكل هو أقرب إلى الملحمة التي لا تنتهي، وهو ما يتناسب مع السرد منذ بدايته، لاسيما العنوان الذي اختاره لروايته.
يأتي السرد للتدليل على الشكل الملحمي للرحيل والحرمان فيقول: "الرجل الذي كان خلفي، رجل بسبع هجرات، هذه هي المرة السابعة التي يهرب فيها، في خمس مرات سابقة قُبض عليه من الجوازات في السعودية ورُحّل، وفي المرة الأخيرة اضطر أن يرجع إلى اليمن بالتهريب أيضا ليحضر زواج أخته، حين قال لي أنها المرة السابعة، تبلد وجهي للحظة، ضحك من استغرابي وهو يقول لي أن هناك من هربوا عبر الحدود عشرات المرات، تبلد وجهي مرة أخرى، لكنه هذه المرة لم يضحك، مال الذي يريده من يعبر من هنا أكثر من ست مرات! هو يهرب من جحيم جاثم هناك، من جحيم القبيلة والجوع إلى جحيم الغربة والمطاردة التي لا تنتهي، نحن نهاجر ليس لكي نتخلص من الجحيم، نحن نهاجر لأننا نقول هناك أمل، ونعود لأن هناك أمل، أنا لا أفكر بهجرة أبدية، أفكر أنه لابد من العودة أيضا".
هذه الحكايات للهجرة والهروب من الحدود تأتي في شكل متسلسل يحرص الروائي فيها على تصوير مدى المعاناة التي يعانيها مواطنوه سواء في حلهم في حضرموت، أو في ترحالهم من خلال الهروب، أي أنهم يعيشون معاناة لا تنتهي في كل الأحوال: "يحكي لي وكأنه جنرال قديم عن إحدى مغامراته في هذا الخط الحدودي وقت اندلاع الحرب بين الحوثيين والجيش اليمني، إذ أخطأ دليلهم وأوقعهم في منطقة تبين بعد أن صاروا فيها وبدأ تبادل إطلاق النار أنها مكان اشتباك، وقعوا بين خنادق المتقاتلين، ارتمى الدليل على الأرض وهو يحاول البحث عن شيء أبيض طلبا للأمان، لكن المجنون الذي يحدثني، ذهب ووقف بين الخنادق وهو يرقص ويشير بعمامته، إلى أن توقف إطلاق النار ولحقه الدليل والبقية"، لكن رغم فشله أكثر من مرة فهو يعود للهجرة الدائمة التي لا تنتهي وكأن حياتهم قد باتت متوقفة على فكرة الهجرة مهما كان فيها من موت.
يقول: حكى لي عن إحدى المرات التي قبضت عليه الجوازات بعد أن اجتاز الحدود بسلام وهو بالقرب من جيزان، أركبه ضابط الجوازات ليأخذه إلى سجن الترحيل، بدأ صاحبي يدندن أغنية أيوب طارش:
لُمّ أحبابنا يا شوق من كل مهجرْ
دُقّ ناقوس جمع الشمل في كل محضرْ
لأجل حزن الشجي المهجور يسلى ويسترْ
والأماني بأوتار القلوب، تعزف الدانْ
وبدأ الضابط يتمايل مع الأغنية، أكمل صاحبي الغناء منتشيا أنه وجد رفيقا يغني معه، رفع صوته قليلا، طلب منه الضابط أن يرفع صوته أكثر، بيدين مكبلتين بدأ يمايل بينهما، أنهى أغنيته بضحكة طويلة، نظر إليه الضابط: "ناقصها عود وتبقى جلسة"، غمز له صاحبي: "وماله ندق عود". توقف الضابط أمام منزله وفك قيوده وفتح له باب البيت، قائلا له: "تفضل"، دخل صاحبي إلى المجلس ليلمح عودا ملقى على الأريكة، قال له الضابط: "البيت بيتك، أنا حخلص الدوام وأرجعلك وحتبقى جلسة من جد، خد راحتك العيال عند جدتهم"، أكمل صاحبي سرد قصته عن الجلسة التي امتدت للصباح.. ثم خرج في الصباح حرا"، من خلال هذه الحكايات التي يحرص الروائي على سردها يتضح لنا أنه يحرص أن يكون سرده الروائي في شكل ملحمي لا ينتهي حتى يبدأ مرة أخرى في شكل أكثر مأساوية وبصيص من الأمل الذي يراود الحضارمة دائما؛ فهم كلما مات لديهم حلم يبدأ غيره من الأحلام في النمو من جديد؛ ومن ثم يعيدون الكرة مرة أخرى وكأنهم لم يعانوا في التجربة السابقة عليهم.
لكن رغم هذه الأحلام المتعددة في الرحيل والهجرة إلا أن الراوي يفشل فعليا في رحلته نحو المجهول بعبوره للحدود السعودية حينما يقع وسط عاصفة رملية في وسط الصحراء وينقذه أحد البدو؛ فيعود إلى قريته كاسفا بعد أن ضاع منه الحلم وضاعت معه أمواله التي باع من أجلها الذهب الذي ورثه عن أمه.
يحكي بامطرف عن قريته ومعاناته فيها بعد العودة ليصور لنا أن هروبه من الموت في الصحراء وعبور الحدود السعودية لم يكن أكثر خطرا من بقائه في قريته الحضرمية؛ ففي الرحيل موت، وفي البقاء موت أكبر بسبب الجماعات الدينية التي تتخذ من الله ذريعة لقتل الحياة في الجميع، فضلا عن الموت بسبب الحرمان والفقر والجوع والعوز. إذن فكل الظروف المحيطة لا تؤدي بهم جميعا سوى إلى طريق واحد، وهو طريق الموت للجميع حينما تتكاتف كل مفردات الحياة من حوله ليضحى المكان جحيما لا يمكن احتماله؛ لذلك يروي لنا حكاية عم سعيد الرجل المتدين الذي درس كل العلوم الدينية، وحينما سافر إلى الشرق من أجل المزيد من الدراسة والتعمق في الدين عاد راقصا بعدما تأكد أن الرقص هو الحياة الحقيقية التي يستطيع من خلالها الاستمرار في الحياة، ومن ثم شكل فرقة من أهم الفرق للرقص، لكن الرجل تنتهي حياته على يد أصحاب الشريعة الكارهين للحياة باسم الدين وأوهام الجنة والنار: "الذي حدث أن هؤلاء حاولوا أن يستغلوا هدوء القرية في صباح الجمعة، ليبدأوا في هدم المقبرة وتسويتها في الأرض، لكن الناس استيقظت ونزلت غاضبة، حتى النساء نزلن أيضا. انفضت جلسة المفاوضات وخرج وفد القرية عائدا وخرج أمير أنصار الشريعة وهو يشير لأتباعه باللحاق به، حين رأت النساء انصراف الأمير وأتباعه بدأن بالزغردة مما جعل أتباع الأمير يردون بإطلاق الرصاص في الهواء. رست المفاوضات على أن يتعهد أنصار الشريعة بعدم لمس المقبرة أو زاوية التلاوة، مقابل منع الغناء والرقص في الأفراح، ومصادرة جميع الأقمار الصناعية في القرية، وتحديد أوقات خروج النساء"، أي أنهم حولوا حياة أهل القرية الباقين من دون هجرة إلى جحيم أكبر من الجحيم الذي يعيشون فيه ويحاولون التغلب عليه بالرقص أو الغناء؛ فجاءوا هم ليزيدوا معاناتهم باسم الله.
في هذه المعاناة الشديدة التي يتحدث عنها الراوي يقول: "13 يناير كان يوما مشؤوما في تاريخ الجنوب العربي، الرفاق وجهوا الأسلحة إلى بعضهم، عدن ذبلت كزهرة حمراء، امتلأت الدماء والجثث في شوارع عدن، صرخ الخطباء في المآذن بأن الدم حرام، لكن أبناء الثورة مارسوا الرجعية التي كانوا يحاربونها، تحاربت قبائل ماركس على السلطة، الكل كان يقتل الكل، الرصاص كان يقتل من أطلقه، لم يجد الناس إلا الأغنيات كي يعيدوا لأوجاعهم الحياة، غنوا".
علاء بامطرف
إذن فكل ما يحيط بهم هو محض معاناة لا تنتهي، ورغم محاولاتهم الدائبة في تخفيف هذه المعاناة بالرقص أو بالغناء إلا أن أصحاب الشريعة جاءوا كي تتحول الحياة إلى كابوس كامل لا ينتهي إلا بالموت؛ لذلك يحاول عم سعيد الهروب من هذا الجحيم هو والراوي والفرقة الراقصة التي كونها عم سعيد؛ فيحاول تقديم طلب لمهرجان الفنون الشعبية في بيروت لكنه يفشل تماما في الخروج من حضرموت أو الاشتراك فيقول للراوي: "الأبواب والنوافذ تقفلت علينا في هذي البلاد"، هنا ينتهي الأمل في أي شيء، وفي كل شيء ويكاد الجميع أن يستسلموا للموت والفقر واليأس لكن الراوي وعم سعيد يحاولون نسيان ما يدور حولهم من أجل ممارسة رقصهم في الصحراء بعيدا عن أعين الإسلاميين وهو الأمر الذي سيؤدي إلى مقتل عم سعيد بسبب رقصه: "في اليوم التالي ظللنا في الوادي نشاهد الغروب أيضا لكن بدون ثرثرة، خرجنا من الشق، أشعل بعض الحطب المرمي في جنبات الوادي، وظل يغني دون توقف، أحسست بصوت قادم من بعيد، نبهته، لكنه قام يرقص، كنت أرقب ظله وهو يرقص أيضا، عدت لأدخل إلى الشق الذي كنا فيه، والصوت البعيد بدأ يقترب، ظلٌ آخر صار قريبا، انكفئ للداخل أكثر وأحاول مراقبة المشهد من الشقوق الصغيرة، صوت إطلاق نار، يظل عم سعي في رقصته، صوت الإطلاق يقترب جدا، يشتبك الظلان في بعضهما ويظل عم سعيد في رقصته، تُطلق النار على عم سعيد بكثافة، تخترق جسده رصاصات كثيرة، لكنه ظل يرقص، كان يحاول التشبث بوقفته أكثر، صار جسده كخرقة بالية لكنه لم يسقط بسرعة، حتى تمايلاته لم يوقفها، صارت أبطأ، ظل يقاوم كي ينهي رقصته بشكل كامل.. ابتعد الظل الآخر مع صاحبه وسقط عم سعيد بهدوء، أتعبه العالم وهو يحاول أن يسرق سعادته، أراد الخلود في الرقصة".
هنا يتأكد لنا من خلال ما يسوقه الراوي أنه لا أمل في الحياة في حضرموت؛ فالموت يعشش في جنباتها ويحيط الجميع: "حتى شوارع القرية صارت تفوح برائحة الرؤوس المقطوعة، أصبحت الإعدامات شبه أسبوعية، في البداية أعدموا ساحرا وقالوا: إن الشريعة أوجبت قتل الساحر، لكن العقد انفرط والناس الذين لم يعترضوا في البداية، ضاقت بهم الدنيا مع تعدد القتلى وتعدد أسباب قتلهم، ومع زيادة الضرائب واختفاء الذين لم يعد بإمكانهم الدفع، هاج الناس في السوق أخيرا، "عوض لعنة" تسبب بهذه الثورة الصغيرة، هُزم ثلاثة من أنصار الشريعة المقنعين بعد أن تصدى لهم "عوض لعنة" وهم يحاولون ضرب صياد سمك لم يعطهم الضريبة المفروضة عليه، انطلق عوض يضربهم ويطلق لعناته المعتادة، وانطلق معه الناس الذين كانوا واقفين في السوق، ورغم أن المقنعين أطلقوا الرصاص إلا أن الناس لم يتوقفوا".
ربما يبدو لنا هنا بصيصا من الأمل حينما ثارت القرية على أصحاب الشريعة مما يوحي لنا بأن الحياة من الممكن لها أن تبدأ من جديد، وأنها ليست مجرد موت وفقر وجوع وعوز فقط، لكن الحقيقة أن هذه الثورة الصغيرة أدت إلى مقتل الجميع وزيادة شراسة وسيطرة أصحاب الشريعة الذين قتلوا عوض لعنة وكل من ساعده في هذه الثورة: "في الصباح اختفى صوت عوض لعنة.. واستيقظت القرية على أصوات الرصاص الكثيف، لم تتم مهاجمتنا من الجهة التي كنا فيها، ولم تكن هناك أي وسيلة اتصال بالمجموعات الأخرى، ساعات قليلة حتى أعلن أنصار الشريعة عبر مكبرات الصوت أن الكافر عوض لعنة قُتل وتم تعليق جثته في منتصف السوق، وقُتل أيضا جميع الذين قاتلوا معه، وسيتم القضاء على كل المجموعات التي تحرس خارج القرية".
ربما كانت هذه الأحداث التي قضت على أي أمل من الممكن أن يفكر فيه أهل حضرموت قد أدت بهم إلى سبيلين لا ثالث لهما، إما الانصياع إلى أنصار الشريعة ليتحكموا فيهم ويقتلونهم ماديا ومعنويا، أو الهروب من هذا الجحيم الذي لا يمكن أن يطيقه أحد في حضرموت؛ لذلك يُنهي علاء بامطرف روايته بقوله: "بدأ الناس يخرجون هاربين باتجاه جهتنا ويخبروننا أن الرصاص الذي معنا لن يفعل شيئا أمام أعدادهم، لم يكن أمامنا سوى طريق واحد للهرب، من حظنا الجيد أن قوارب الصيادين ما زالت في أماكنها. ركبنا في القوارب واتجهنا هاربين مع الأمواج إلى حيث ترمينا. إذن مات عوض لعنة مطمئنا ولم يوفر شتيمة لكل الأشياء التي تستحق الشتيمة.. ومات سعيد مبتسما بعد أن أدى رقصته الأخيرة.. أما أنا فاستيقظت ملقى في شاطئ مجهول، أنادي: "مريم، مريم"، ولا أحد يرد.. تذكرت نبوءة البدوية عن لعنة الحلم".
إنه الحلم الذي يظل يراود الحضرمي طيلة حياته في حياة أكثر سعادة، لكنه لا يستطيع الوصول إليها. في رواية "الدان" للروائي اليمني علاء بامطرف ينتهج أسلوبا يخصه في السرد هو أقرب إلى السيرة الذاتية وإن كنا لا نستطيع تصنيفه كذلك، لكن ربما خصوصية السرد والثقافة التي يتحدث عنها بامطرف قد دفعته إلى انتهاج هذا الشكل من أشكال السرد الذي كان يتناسب مع الموضوع تماما فضلا عن العنوان الذي اختاره لروايته؛ فبدت لنا الرواية في نهاية الأمر وكأنها بالفعل شكل من أشكال الدندنة أو الحكي المتواصل الذي يحاول من خلاله تأمل ما يدور من موت لا ينتهي في حضرموت.
لكن رغم تناسب الشكل والبناء السردي للرواية مع مضمونها إلا أن الروائي لم يحرص على لغته مطلقا؛ ومن ثم اكتظت الرواية بالكثير من الأخطاء اللغوية التي لا يمكن اغتفارها سواء للكاتب، أو لدار النشر التي لم تهتم بمراجعة الكتاب لغويا؛ فنرى الكاتب لا يدري أي شيء عن حروف الجزم ووظائفها طوال صفحات الرواية؛ فيكتب "لم أنسى"، "لم تنتهي"، "لم تبني"، "لم أرى"، "لم تحكي"، جاهلا أن حروف الجزم توجب حذف حرف العلة من نهاية الكلمة، كذلك نراه يكتب يتساءلون هكذا: "يتسائلون"، كذلك "أتسائل" بدلا من أتساءل، أي أنه يكتب الهمزة على النبرة بدلا من وجودها على السطر، كما يخلط بين ألف الوصل وهمزة القطع في العديد من الكلمات ومنها كلمة تؤكد القواعد اللغوية أنها لا يمكن أن تأتي سوى كألف وصل وهي كلمة "اسم". وفي العدد يكتب "ثلاثة رقصات" بدلا من ثلاث؛ لأن الأعداد من ثلاثة إلى عشرة تخالف في التذكير والتأنيث، فضلا عن استخدام العديد من الحروف التي تؤدي إلى تغيير المعنى المراد إيصاله فنراه يكتب: "في كل مرة كان عمي يأتي بها بدلا من "يأتي فيها"، وشتان بين يأتي بها أي يأتي بالشيء، وبين يأتي فيها الدالة على الزمان الذي قصده الكاتب في حقيقة الأمر، كذلك قوله: "كانت الرقصات التي يعلمني هي" بدلا من "يعلمني إياها"، وغيرها من الأخطاء الفادحة التي تؤدي إلى تغيير المعنى المراد إيصاله؛ مما يدلل على أن الكثيرين من الكتاب الآن يحتاجون إلى الكثير من الدروس اللغوية قبل التفكير في الكتابة من أجل إيصال المعنى المراد الذي يهرب منهم ويؤدي إلى معان أخرى حينما يخطئون في اللغة.




محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب
عدد فبراير 2018م