الخميس، 23 يونيو 2022

الرائد: مأزق أخلاقي وحفل من الجثث!

ماذا لو وُضع الإنسان في موقف أخلاقي يتعين عليه من خلاله التصرف كما يمليه عليه ضميره، لكن هذا التصرف الأخلاقي بمثابة المأزق الذي قد يطيح به وبكل من يحيطونه في حالة إذا ما استمع إلى صوت الضمير؟

إن وضع الإنسان في مثل هذا المأزق الذي يجعل المرء غير قادر على الاختيار الصعب بين أن يفعل ما يجب أن يكون؛ فتنهار حياته تماما وحياة كل من يحيطون به، أو ينساق خلف القطيع الفاسد ويترك هذا الضمير خلف ظهره هو حجر الأساس الذي انطلق منه المُخرج والسيناريست الروسي Yuri Bykov يوري بيكوف في صناعة فيلمه المُهم The Major، أو Майор حسب العنوان الأصلي للفيلم في اللغة الروسية، وهو الفيلم الذي يعمل فيه المُخرج على انتقاد المُؤسسة الأمنية الروسية وما يسود أفرادها من فساد يكاد أن يجعلهم مجموعة من العصابات الخطيرة بدلا من حمايتهم للمواطنين الأحرى بهم أن يسهروا على أمنهم!

يبدأ بيكوف فيلمه- الذي أدى فيه دورا مُهما كمُمثل- بلقطة خارجية طويلة ثابتة لمجموعة من البنايات بينما يعلو في الخلفية صوت نعيق الغربان العالي الدال على ثمة شيء سيئ على وشك الحدوث، ثم يتعالى صوت الهاتف في إحدى هذه البنايات ليرد عليه شخص ما، ويخبره من هو على الطرف الآخر بأن زوجته قد انتقلت إلى المشفى.

في اللقطة التالية مُباشرة نرى سيرجي- قام بدوره المُمثل الروسي Denis Shvedov دينيس شوفيدوف- مُنطلقا بسيارته على طريق ثلجي؛ للحاق بزوجته التي في المشفى، ويكاد أن يصطدم بالعديد من السيارات أكثر من مرة، لكنه فجأة يلاحظ أحد الأطفال يحاول عبور الطريق بينما أمه/ إيرينا- قامت بدورها المُمثلة الأوكرانية Irina Nizina إيرينا نيزينا- تناديه محاولة تحذيره من العبور، لكن سيرجي يصطدم بالطفل وينحرف بالسيارة على جانب الطريق؛ الأمر الذي يؤدي إلى أن يغشى على الأم التي تقع على الجانب الآخر للطريق.


يسرع سيرجي بسحب الأم المُغشى عليها وحبسها في سيارته بعدما يأخذ مفاتيح السيارة، ويهاتف أحدهم مُخبرا إياه بأنه قد دهس طفلا، وعليه أن يجد له مخرجا من هذه الورطة؛ فيسأله الطرف الآخر عن وجود شهود، إلا أن سيرجي يؤكد له أنه لم يكن هناك أي شهود فيما عدا الأم فقط.

تصل إلى مكان الحادث سيارة شرطة يقودها الضابط ميركولوف- قام بدوره المُمثل الأستوني Ilya Isaev إيليا أساييف- بينما تتابعه سيارة عادية يقودها ضابط الشرطة باشا- قام بدوره مُخرج الفيلم Yuri Bykov يوري بيكوف- هنا نعرف أن سيرجي- الذي صدم الطفل أثناء عبوره- هو رائد شرطة، وقد اتصل بزملائه من أجل إنقاذه من ورطته.


يسمح سيرجي لإيرينا المُنهارة تماما بالخروج من السيارة؛ فتسرع نحو جثة ابنها، وحينما تتأكد من موته تحاول ضرب سيرجي، لكن ميركولوف يأخذها إلى سيارة الشرطة محاولا تهدئتها. يعود ميركولوف إلى سيرجي وباشا ويتفقا على أن يخرج سيرجي من الورطة بمنح الأم كأسا من الكونياك بغرض تهدئتها، ولكي يجروا لها تحليل دم حينما يصل الإسعاف، ويؤكدوا أن الأم كانت قد تناولت الكحول قبل الحادث؛ وبالتالي فهي لم تكن مُنتبهة إلى ابنها؛ مما أدى إلى وقوع الحادث الذي لا ذنب لسيرجي فيه.

بعدما تنصاع الأم المُنهارة إلى ميركولوف وتشرب كأس الكونياك يقوم بالاتصال بالإسعاف، وبقية عناصر الشرطة من أجل التحقيق شكليا في الحادث الذي وقع، وهنا نرى باشا يُملي الضابط الذي يجمع الأدلة قائلا: سيرجي كان يقود من هناك، وشاهدهم يسيرون إلى موقف الحافلات؛ تباطأ قبل المُنعطف وسرعته كانت 50 كم في الساعة؛ لذا استمر في القيادة وهم يسيرون نحوه، وقد حذرهم مرتين، وعندما وصل إلى موقف الحافلات بدأ الطفل بالركض؛ فضرب المكابح وانزلق؛ فيسأله جامع الأدلة: كم تبعد علامات الانزلاق؟ فيرد عليه: عشرة أمتار، لكن الشرطي يقول: ليست عشرة، تبدو ثلاثين مترا؛ فيقول باشا بتحذير: دون ما أقوله لك فحسب، اتفقنا؟ ثم نرى ميركولوف يمد يده إلى الكاميرا الخاصة بالشرطي ليفرغها من بطاريتها قائلا له: ستخبرهم بأن البطارية كانت فارغة.


إذن، فالضباط زملاء سيرجي هم من يكتبون التقارير ويجمعون الأدلة كيفما يحلو لهم من أجل تبرئة زميلهم مُدعين أنه كان يقود بسرعة 50 كم مترا في حين أن سرعته الحقيقية تعدت المائة، كما يمنعون الشرطي الذي يجمع الأدلة من التصوير حتى يخفون آثار انزلاق فرامل السيارة، وحينما يصل الإسعاف وترى الأم ابنها محمولا يغشى عليها مرة أخرى؛ فتحاول الطبيبة حقنها بحقنة مُهدئة لكن الضابط ميركولوف يأمرها بحزم بأن تأخذ عينة من دمها أولا قبل حقنها بالمُهدئ؛ فتفعل الطبيبة.


في مشهد تالٍ يصل زميل آخر لهم بورلاكوف- قام بدوره المُمثل الروسي Kirill Polukhin كيريل بولوخين- الذي يقول لباشا: نحتاج إلى شهود، لكن باشا يرد عليه باطمئنان: سنجد بعضهم كما نفعل دائما! أي أنهم سيجدون شهودا من الزور؛ كي يعملوا على تبرئة سيرجي.

ربما نلاحظ هنا تواطؤ جميع رجال الشرطة من أجل تبرئة سيرجي الذي يقف بينهم مذهولا؛ وهو الأمر الذي يشعره بالكثير من الذنب حينما ينظر إلى أم الطفل؛ لذلك يخبر باشا أنه بالفعل قد رأى الطفل، وأنه كان مُسرعا، وسرعته هي التي قتلته، لكن باشا يهون من الأمر مُخبرا إياه أنه لا بد أن يخرج من هذه الورطة، لكن سيرجي حينما يركب السيارة مع باشا ينهار تماما قائلا: يا لغبائي، لقد رأيتهما، رأيت موقف الحافلات، وإشارات المرور؛ فيرد عليه باشا: لنكن صادقين، لو كان المقتول ابني؛ لكنت علقتك من خصيتيك.

يطلب سيرجي من باشا أن يأخذه إلى المشفى لرؤية زوجته، لكنهما أثناء الطريق يصلهما اتصال من رئيسهم أليكسي- قام بدوره المُمثل الروسي Boris Nevzorov بوريس نيفزوروف- الذي يأمرهما بأن يذهبا إليه؛ ومن ثم يتجهان إليه. مع وصولهما يخبر سيرجي أليكسي: لقد كانت غلطتي؛ فيرد عليه: لا يهمني غلطة من كانت، أريد أن أعرف هل قضيتك بخير؟ ثم يقول لباشا: خذه إلى المركز وضعه في السجن، ولا تدعه يخرج، وإن جاءت الشؤون الداخلية سيكون في الحجز، لا أريد أي جلبة أو شكاوى، وتعامل مع تلك السيدة، لا يهمني كيف، أريدها أن توقع بالتنازل عن القضية، ثم يعود بحديثه إلى سيرجي: توقف عن التحديق في الأرض، أتشعر بالذنب؟ فيرد عليه: أنا الذي قتلته، لكن أليكسي يقول له: لا تستطيع إعادة الطفل، لديك طفل الآن، عليك أن ترفع ابنك عاليا وتعلمه في أفضل المدارس، لا تعقد الأمور على نفسك وعلى الآخرين.


يؤكد أليكسي لهما أن سيرجي لا يمكن له أن يُدان في مثل هذه القضية؛ لأن إدانته ستؤدي إلى وقوعهم جميعا في يد الشؤون الداخلية للشرطة وهو ما لن يسمح له بالحدوث، لكن سيرجي يقول لباشا حينما ينصرفا: ستسجنني كما قال، وتساهل مع المرأة بذكر الكحول فحسب، ولو رفضت دعها تذهب. أي أنه يشعر بالكثير من التعاطف مع الأم، ويشعر بالكثير من الذنب؛ ومن ثم يطلب من باشا ألا يمارس معها أي شكل من أشكال العنف من أجل إرغامها على التنازل عن القضية.

حينما تصل إيرينا مع زوجها/ جوتوروف- قام بدوره المُمثل الروسي Dmitry Kulichkov ديمتري كوليتشكوف- إلى مركز الشرطة يصطحبهما باشا إلى مكتبه ويطلب منها أن تقرأ التقرير وتوقعه، لكنها تكتشف أن التقرير يذكر وقائع لم تحدث بالفعل، وحينما تعترض يخرج لها التقرير الطبي الذي يفيد بأنها كانت سكرانة أثناء الحادث، أي أنها لم تكن مُنتبهة لطفلها؛ وبالتالي فإن السائق/ سيرجي ليس مُدانا، هنا تثور عليه لأن ميركولوف زميله هو من أعطاها الكحول كي تهدأ، لكنه يؤكد لها أن الرائد سيرجي لا بد له أن يخرج من هذه القضية، هنا يثور الزوج عليه ويبدأ في سبهم، وترفض الأم التوقيع؛ فيلكم باشا الزوج بقوة في وجهه ليقع أرضا نازفا في دمائه، ويبدأ في تعنيف الأم، وحينما يخبرانه بأنهما سيتوجهان إلى المحكمة، يعتدي بالضرب مرة أخرى على الزوج مُهددا إياها بقتله؛ الأمر الذي يرغمها على التوقيع والانصراف.


رغم تنازل الأم عن اتهام سيرجي مُكرهة، إلا أن سيرجي حينما يرى توقيعها ويلمح يد باشا المتورمة بسبب لكمه للزوج يعرف ما حدث؛ ومن ثم يرفض الخروج من الحجز لائما إياه بأنه قد طلب منه عدم استخدام العنف مع أبوي الطفل، لكن الزوج/ جوتوروف يعود إلى مركز الشرطة مرة أخرى مُسلحا ويهاجمهم بعدما يتخذ اثنين من رجال الشرطة كرهائن. يسرع باشا لإخراج سيرجي من الحجز، ويسأل الضابط بورلاكوف سيرجي: ما الذي حدث بالفعل؟ فيرد سيرجي مُنفعلا: كما حدث في يناير، عندما كان الرجل ذاهبا إلى منزله، وضُرب رأسه بغطاء السيارة، وهو لا يزال في حالة غيبوبة منذ ذلك الحين، ماذا ذكرت في تقريرك؟ بأن رجلا سكيرا يحمل عتلة تهجم على ضابط أثناء أداء واجبه. أي أن جميع رجال الشرطة متورطون في قضايا قتل وفساد لا يمكن أن يتخيلها أحد؛ لذلك يتواطئون مع بعضهم البعض.


يحاول رجال الشرطة التفاهم مع جوتوروف الذي يطلب منهم إخراج سيرجي له، لكن الضابط بورلاكوف يخرج للأب رافعا يديه محاولا التفاهم، وحينما يرفض الأب إلا أن يخرج إليه سيرجي ينادي بورلاكوف إياه طالبا منه القدوم، وفي هذه اللحظة يأمر بورلاكوف من الضابطين الرهينتين المصوب السلاح إليهما أن ينخفضا باتجاه الأرض، لكنهما بمجرد فعل ذلك تنطلق الرصاصة من بندقية الأب باتجاه بورلاكوف الذي يموت بينما يهجم رجال الشرطة على الأب ليضربونه بقسوة ويلقونه في الحجز.

يصل أليكسي/ الرئيس إلى مركز الشرطة غاضبا ويبدأ في لومهم لأنهم لم يقتلوا الأب الذي ألقوه في الحجز؛ ليقول لهما: سنتخلص من ذلك الرجل، وسنذكر في التقرير أنه قد قُتل أثناء مقاومة الاعتقال. هنا يثور سيرجي رافضا قتله راغبا في حقن الدماء التي تنثال، ويؤكد لأليكسي أنه بالفعل مُدان وأنه سيتحمل مسؤولية ما فعله، لكن أليكسي يسخر منه ويؤكد له أنه لا يمكن إدانته؛ لأن إدانته تعني أن يقع الجميع بلا استثناء، فإذا ما قدمت الشؤون الداخلية- فرقة الجرذان كما ينعتونها- ستجد أن ثمة حادث سير، وبعدها بساعتين توقيع الأم بالتنازل، ثم هجوم الأب على المركز وقتله لضابط، أي أن الجميع لا بد لهم أن يُدانوا ويسجنون وأولهم أليكسي؛ لذلك لا بد لهم من أن يتخلصوا من الأب والأم أيضا.


هنا يأمر أليكسي باشا بأن يتخلص من الأب الموجود في الحجز، ويسرع باشا إليه ليقتله، ويأمر زملائه بحمل الجثة إلى المشرحة، وتبرير مقتله أنه قد قاوم الاعتقال، لكن سيرجي يسرع بأخذ سيارة وسلاح مُتجها إلى عنوان إيرينا/ أم الطفل محاولا حمايتها من زملائه الذين سيقتلونها، وحينما يصل إلى باب البناية محاولا الهروب مع الأم يُفاجأ بأن زملائه من الشرطة قد وصولوا من أجل قتل إيرينا. يهرب سيرجي معها بعدما يصوب السلاح على رأس باشا، ويتجه إلى منطقة ثلجية غير مأهولة. وحينما تسأله إيرينا: لم تفعل ذلك؟ يخبرها بأنهم قد قتلوا زوجها وسيقتلونها أيضا.

تسرع الشرطة بعمل كمائن على الطريق حتى لا يهرب سيرجي بالأم؛ فيهاتف ميركولوف سائلا إياه عن الوضع، لكن ميركولوف يطلب منه تسليم الأم لهم وأن يعود إلى عقله، وحينما يرفض سيرجي يخبره ميركولوف أنهم قد فعلوا كل ذلك من أجل حمايته، لكن إذا ما أصر على الهروب بالأم؛ فهو بالنسبة لهم سيكون مجرد مُحتجز هارب مع شاهدة إثبات ومن حقهم أن يطلقوا عليه النيران في هذه الحالة، ثم يغلق الهاتف في وجه سيرجي، لكنه يسمع صوت صفير من خلفه وحينما يلتفت إلى مصدر الصوت يرى سيرجي مصوبا سلاحه تجاهه، ومن ثم يرغمه سيرجي تحت تهديد السلاح بتهريبهما، ويطلب من ميركولوف أن يذهب بهما إلى بيته.


يندهش ميركولوف للجوء سيرجي لبيته؛ فيسأله عن السبب، هنا يخبره سيرجي بأنهم سينتظرون هنا حتى تأتي الشؤون الداخلية ويسلم نفسه مع الأم، ويطلب من ميركولوف الاتصال بالشؤون الداخلية وإبلاغها بكل ما كان في ذلك اليوم الطويل، وتخوفا من أن يطلق سيرجي عليه النار يفعل ميركولوف ويخبر الشؤون الداخلية التي اتخذت طريقها للوصول إليهم، لكن بما أن المسافة تستغرق أربع ساعات كاملة يكون الانتظار طويلا.

هنا تتساءل إيرينا: أي نوع من الأشخاص أنتم؟ كيف تعيشون مع أنفسكم؟ ليرد عليها ميركولوف: كما تعيشين أنت، إذا قتل زوجك طفلا هل تذهبين إلى الشرطة؟ وحينما لا ترد عليه مُلتزمة الصمت والحيرة؛ يقول لها: نحن جميعا متشابهون، لذا أغلقي فمك.


يصل رجال الشرطة إلى منزل ميركولوف ويحاولون اقتحامه، لكن سيرجي يطلق النيران عليهم مُحذرا إياهم بأنه لن يتردد في قتل أي منهم، هنا ينسحب الرجال مُخبرين باشا بأنهم لن يعرضوا أنفسهم للقتل، وحينما يخبرهم باشا بأن سيرجي مُحتجز هارب، يسخرون منه ويقولون: نحن نعرف أننا لا نريد سيرجي في شيء، بل نريد الأم فقط.

يفكر باشا في الدخول وقتل سيرجي لكنه يتراجع غير قادر على قتل صديقه؛ فيهاتفه طالبا منه أن يقتلها بنفسه ويخفي جثتها، إلا أن سيرجي يرفض؛ فيؤكد له باشا أنه إذا لم يفعل سيقوم بقتل زوجته وطفله الذي وُلد اليوم، هنا يشعر سيرجي بالكثير من القلق والخوف ويخرج بإيرينا من المنزل مُتجها معها إلى منطقة غير مأهولة.

المُخرج الروسي يوري بيكوف

يدخل باشا المنزل ليجد ميركولوف يتجرع الكثير من الكحول وقد بدأ يسكر فيسأله عما أخبر به رجال الشؤون الداخلية؛ فيؤكد له ميركولوف أنه قد أخبرهم بكل ما حدث حيث كان سيرجي مصوبا السلاح إلى رأسه، هنا يسأله باشا: هل الغاز لديك يعمل؟ فيجيبه بالإيجاب؛ ليفتح باشا غاز البوتوجاز طالبا من ميركولوف أن يستنشقه. يندهش ميركولوف ويخبره بأنه سكران الآن، وإذا ما أتى رجال الشؤون الداخلية سيجدونه سكرانا وبالتالي لن يكون لبلاغه لهم أي أهمية، لكن باشا يصر على أن يستنشق الغاز وإلا ضربه رصاصة في ركبته، وحينما لا يستطيع ميركولوف فعل ذلك يعطيه باشا ظهره مُتظاهرا باتجاهه للباب كي يخرج وسرعان ما يلتفت إليه ليطلق عليه النار ويقتله.

يحاول سيرجي قتل إيرينا لكنه يشعر بعدم مقدرته على فعل ذلك، وحينما تثور في وجهه يطلب منها أن تسامحه؛ لأنهم سيقتلون زوجته وطفله إذا لم يقم بقتلها، ثم يطلق عليها النار. يصل باشا إليه راغبا في التخلص منه لكنه لا يستطيع قتل صديقه؛ فيقول له: لو كنا قد قتلنا الأم في مكان الحادث لما حدث كل ما حدث في هذا اليوم الطويل، ولما مات زملائنا، ولا زوجها، ويطلب منه الهروب والاتجاه إلى المشفى الذي توجد فيه زوجته وطفله؛ فيسرع سيرجي للهروب.

المُمثل الأستوني إيليا أساييف

صحيح أن المُخرج الروسي يوري بيكوف قد أغلق فيلمه على ذلك، أي أنه قد ترك نهايته مفتوحة من دون إحكام، لكننا كمُشاهدين نُدرك جيدا أن فرقة قسم الشرطة بالكامل قد انتهى أمرها، وأن الشؤون الداخلية ستلقي القبض عليهم جميعا.

إن الفيلم الروسي الرائد للمُخرج يوري بيكوف من الأفلام المُهمة على المستوى الفني، والأدائي، والتنفيذ، والإخراج، ولعلنا لا ننكر أن الفيلم كان فيه من التوتر والسرعة اللاهثة، التي تعود إلى المُونتاج، ما يجعل المُشاهد مُنجذبا لأحداث الفيلم منذ اللحظة الأولى حتى نهايته من دون أن ينفصل للحظة واحدة عن مُتابعته لما يدور أمامه، كما كان أداء المُمثلين جميعا كمباراة تنافسية مُهمة فيما بينهم ليبدي كل منهم أفضل ما لديه، لكننا لا يمكن لنا تجاهل أداء المُخرج يوري بيكوف الذي يثبت لنا أنه مُمثل بارع على مستوى الأداء، بل واستطاع التنافس في الأداء مع العديدين من المُمثلين المعروفين بأدائهم القوي.

لعل السيناريو المُهم الذي كتبه يوري بيكوف وقام بإخراجه من السيناريوهات المُتماسكة إلى حد بعيد؛ حيث ابتعد المُخرج عن الثرثرة كثيرا؛ مما أدى إلى إحكام الأحداث وعدم ترهلها، كما نلاحظ أنه من الأفلام التي تهتم بانتقاد المُجتمع الروسي ومُؤسساته، وما يدور فيهما من فساد مُستشرٍ لا يمكن له أن ينتهي بسهولة؛ بسبب توغل الفساد حتى النخاع، لكن الفكرة الأهم في هذا الفيلم لم تكن في الفساد الذي يضرب بجذوره في عُمق المُجتمع الروسي فقط، لا سيما مُؤسسته الأمنية، بل كان جوهر الفيلم يهتم بالموقف الأخلاقي الذي من المُمكن أن يوضع فيه أي إنسان أيا كان، وقراره الذي من المُمكن له أن يتخذه إذا ما كان اتباع الضمير هو تدمير الذات وكل ما يحيط بنا من حيوات وأشخاص، وهو ما رأيناه لدى الرائد سيرجي الذي دمر كل من وقفوا إلى جانبه، أو حاولوا حمايته من زملائه، كما ألقى بنفسه في التهلكة معهم حيث السجن أو القتل من أجل اتباع ضميره، لكنه حينما تم تهديده بقتل زوجته وطفله في نهاية الأمر تخلى مرة أخرى عن هذا الضمير وقام بقتل الشاهدة التي كان وجودها سببا في هذا الحفل الصاخب من الجثث، بل وانهيار كل شيء بالنسبة له ولزملائه.

 

 

 

محمود الغيطاني

مجلة الشبكة العراقية.

عدد 15 يونيو 2022م.

 

الأحد، 19 يونيو 2022

خفافيش بيكاسو.. بعض الأحلام تستنزفك أحيانا!

عادة ما يستقي الروائيون- وغيرهم ممن يمارسون الأشكال الفنية المُختلفة- مادتهم الإبداعية مما يدور من حولهم في الواقع المعيش، أي أنهم ينسجون عوالمهم من الشخصيات التي يقابلونها أو يعيشون معها في مُحيطهم، فضلا عن اللجوء إلى الأحداث التي تدور من حولهم، أو حتى الأحداث والخبرات التي يمرون بها؛ ليضفروا كل ذلك بالخيال- المُحرك الأساس للفن- القادر على إحالة العالم الواقعي إلى عالم آخر جديد ومُختلف تماما عما خبره الروائي في عالمه الواقعي، وهنا يكون الروائي قادرا على خلق عالم أكثر جمالا يحمل العديد من الدلالات والرؤى التي لم تكن موجودة، فعليا، في العالم الذي أخذ منه، وهذا هو الخلاف الجوهري بين الواقع المعيش والواقع الفني الذي يختلف تماما عما عاشه الروائي؛ فالفن يُكسب الأحداث الكثير من الثراء والإحالات التي تغير من مفهوم الأمور؛ فيحولها إلى شكل جمالي يستطيع من خلاله الروائي رؤية ما لم يره غيره رغم أن الحدث الذي يتحدث عنه، فيما يكتبه، هو نفس الحدث الذي يراه الآخرون في العالم الواقعي، لكن الكاتب بما يحمله من ثقافة ورؤية فنية، وأسلوبية قادرا على تغيير دلالات الأمور بتحميلها ثقافته ورؤيته الفنية؛ فيتحول العادي إلى أمر غير عادي، وربما العكس!

لكن، ليس معنى ما سبق أن ذهبنا إليه أن الأمور في مجال الفن لا بد لها أن تسير على وتيرة واحدة، أو بنفس الآلية، أي أنه ليس بالضرورة أن يكون الواقع هو المعين الذي لا ينضب من أجل خلق عالم فني مُختلف تماما عما نعيشه في حياتنا؛ فالخيال يلعب الدور الأساس والجوهري في أي عملية فنية، وهذا الخيال قادر على خلق ما لا يمكن لنا أن نُدركه؛ ومن ثم فهو قادر على التخلي الكامل عن الواقع ليعتمد الروائي على خياله فقط الذي يسبح من خلاله في عوالم مُتخيلة من المُمكن لها أن تكون أكثر جمالية وواقعية من واقعية الواقع الذي يعيشه!

إذن، فالعملية الإبداعية لا يمكن لها السير على وتيرة واحدة، ولا يمكن أن نضع لها مجموعة من القوانين المُحددة إياها، بل إن كل عملية فنية تخلق قانونها الخاص ومنطقيتها من داخلها، وعلى النقد، فيما بعد، أن ينطلق من داخل العمل الفني الذي انطلق منه الكاتب، وليس من خارجه، وهو ما يُدلل على طواعية النقد ومقدرته على التكيف مع ما يقدمه الكاتب، أي أنه يناقش العمل الفني من خلال آلياته الداخلية، وليس من خلال مجموعة من الافتراضات والقوانين المُتعسفة- الخارجية عن عالم النص- التي تعمل على ليّ عنق النص الفني والتعسف معه، بل والعصف به!

إن المُتأمل لما تقدمه الروائية الجزائرية آمال بشيري لا بد له من التفكير في هذه الافتراضات المنطقية للعملية الإبداعية؛ لا سيما أنها تنطلق غالبا- في عالمها الروائي- من الخيال البحت، البعيد تماما عن الواقع، أي أنها تحرص على خلق عوالمها التي تكتبها مُنطلقة من خيالها الخالص الذي قد يقترب أو يبتعد عن الواقع الذي تعيشه، لكنها في نهاية الأمر تُخضع العملية الإبداعية لديها للخيال فقط، وهو ما يُدلل على ثراء هذا الخيال المُضفر بالكثير من الثقافة لا سيما ثقافة أمريكا اللاتينية، وأحداثها العامة، أو الخاصة منها.

مما لا شك فيه أن المُبدع من حقه التحليق في العوالم التي يرى نفسه فيها، أو التي يرى أنه قادر على التخيل والإبداع والخلق من خلالها؛ فالمُهم في العملية الإبداعية هو كيف استطاع الروائي نسج عالمه الإبداعي، أي الآلية التي استطاع من خلالها خلق هذا العالم وتقديمه، وليس من أين أتى بهذا العالم، أو مم استقاه، سواء كان من الواقع الذي يعيشه، أو من خياله الخالص؛ فالمهم هو الكيفية التي قدم من خلالها العالم.

هذا الأمر يجعلنا لا نتوقف كثيرا أمام مصادر العالم الإبداعي الذي تقدمه بشيري، وهو العالم الدال على الكثير من خصوبة الخيال لديها؛ مما يجعلها تُحلق في عوالم شديدة الخصوصية، لا تتشابه فيها مع غيرها من الروائيين الآخرين؛ وهو ما يكسبها ميزة مُضافة على غيرها ممن يكتبون الرواية سواء في الجزائر أو في المنطقة العربية.

في روايتها "خفافيش بيكاسو" تنطلق بشيري من افتراضية شديدة الخصوصية، ومن ثقافة، ومجال جغرافي بعيدين تماما عن المنطقة العربية؛ فتنتقل بنا إلى كوبا وعالمها اليومي الشديد البؤس والفقر والعوز، واصفة الحياة اليومية البائسة لشخصياتها بشيء غير قليل من التفصيل؛ حتى أننا نكاد أن نتيقن بأن كل شيء في كوبا يأخذ بأيدينا إلى البؤس المُحكم وكأنه قدر لا يمكن الإفلات منه، وهو ما نستشعره بشكل صادق في وصفها: "استغرب الهدوء الذي خيّم على أحياء هافانا القديمة، لا وجود للعاطلين عن العمل أبد الدهر، الذين يلعبون الدومينو بجدية يصعب فهمها من الصباح الباكر إلى غاية الغروب، يتراهنون على ما لا يملكون، يجلسون على الأرصفة أمام بيوتهم المشرّعة الأبواب دوما، وهم يصرخون مثل الأطفال. غابت أيضا النسوة اللاتي يرتدين مآزر ملوثة ببقع زيت القلي المصنوعة من قماش أكياس طحين المعونة وهن ينشرن غسيلهن المُمتد لنهاية الشارع على حبال تحجب رؤية المارة وتُعرقل السير، اختفى أيضا الأطفال الحُفاة، العراة، ذوي القلوب المُنتفخة بالأحلام المُستحيلة، الذين يتعاركون مُقابل بعض البيسوات، يتعلمون المُلاكمة بحقد مُؤذ ليهربوا من الفقر، سكت صوت المُوسيقى الصاخبة التي تنبعث عادة من كل مكان، وجدا نوافذ البيوت التي تُباع من خلالها قهوة باردة مُغلقة أيضا"!

ألا نُلاحظ هنا حرص الروائية على وصف الفقر الذي تعيش فيه هافانا بشكل من التفصيل الدقيق للدرجة التي تُشعرنا بمدى وقعه المُؤلم على النفس؟ إن الإمعان في الفقر، والاستسلام له كقدر لا فُكاك منه نُلاحظه هنا في المُتعطلين "الذين يلعبون الدومينو بجدية يصعب فهمها من الصباح الباكر إلى غاية الغروب"؛ فيقينهم بأنهم لا يمكنهم الهروب من هذا القدر القاسي الذي يعيشون فيه جعلهم أكثر جدية فيما لا يمكن له أن يفيدهم؛ لذلك يستهلكون وقتهم فيما لا يفيد، ولكن بجدية صارمة!

إن مقدرة بشيري على هذا الوصف التفصيلي يجعلنا- كقراء- نتعايش مع هذا الفقر الذي لا يمكن احتماله، رغم أن من يعيشون فيه قادرين على التعايش والتكيف معه بطبيعية. وهو ما تحرص الروائية على الإيغال فيه غير مرة على طول أحداث روايتها؛ كي تعطينا صورة كاملة عن كوبا وما يدور فيها من عوز؛ لذا حينما تتحدث عن صونيا الحامل من حبيبها ميغال سنُدرك هذا البؤس بشكل أكبر حينما نقرأ: "جحظت عيناها، خُيل لها أن حبيبها جن، وأن لغتها غير مفهومة. حاولت أن تشرح له مثل مُدرسة تتعامل مع تلميذ يعاني مُتلازمة صعوبة التعلم: افهم يا حبيبي، أقول لك بأنني حامل منك، وبأنني أبيع جسدي لكي أطعمك، وبأن هناك جنينا ينبض في أحشائي، وبعد بضعة أشهر سينتفخ بطني، أتفهمني؟ رد عليها بنفس الأسلوب التوضيحي: وأنا أقول لك بأنني رجل بدون عمل، وبأنني غير قادر على إطعام نفسي"!

إن ضغط الفقر الشديد والحاجة إلى المال قد جعل صونيا تتاجر بجسدها من أجل الطعام لها ولحبيبها، أي أن الفقر قد جعل الرجل يقبل بمُضاجعة الآخرين لحبيبته من أجل المال الذي سيجعلهم قادرين على الاستمرار على قيد الحياة؛ مما يُكسبنا الكثير من الدهشة، لكنها الدهشة التي ستزول ببساطة حينما نُلاحظ التلقائية والعادية التي تخبر من خلالهما صونيا ميغال بالأمر وكأنه شيء عادي، كما يتلقى ميغال أمر بيع جسدها باعتباره شيئا طبيعيا أيضا. إنه الإيغال في قسوة الفقر والحاجة من أجل الاستمرار على قيد الحياة، وهو ما يجعل مشاعر الغيرة، والإيثار، والتملك- المُصاحب لمشاعر الحب- مُنتفية تماما من أجل المقدرة على الاستمرار في الحياة!

هذه التفاصيل التي تحرص بشيري على التركيز عليها ووصفها لها من الأهمية بمكان ما يمهد للحدث الروائي الذي ترغب في اقتحامه وتقديمه لنا، وهي مقدرة تدل على براعتها في الوصف المُمهد لعالمها.

تبدأ بشيري روايتها من خلال شخصيتها الرئيسية ألفارو، الفنان التشكيلي الذي يرسم لوحاته في طرقات وشوارع هافانا القديمة من أجل بيعها للسياح الأجانب، ومحاولة التغلب على شظف العيش والاستمرار على قيد الحياة، أي أنه حريص على التغلب على صعوبات الحياة، ومحاولة الاستمرار فيها ببيع ما يقدمه من لوحات فنية ليستطيع شراء الطعام والألوان التي يرسم بها، وهو ما يجعله يعمل في بيت طومي المثلي، لتجديد طلاء جدران بيته، فنعرف أن طومي يبيع جسده للرجال من أجل اكتساب المال أيضا. إننا هنا أمام مجموعة من البشر الذين من المُمكن لهم بيع كل شيء، والمُتاجرة في أي شيء حتى لو كان الجسد- سواء للنساء أو الرجال- من أجل اكتساب القليل من المال الذي يساعدهم على الاستمرار على قيد الحياة!

إن الاضطرار إلى بيع الجسد البشري- من دون النظر إلى النوع- بسبب الفقر يجعلنا نتعاطف كثيرا مع الجميع، والطرق التي يلجأون إليها- سواء كانت مُباشرة أو ملتوية تتميز بالكثير من الخبث- وهو ما رأيناه لدى طومي المثلي الذي يبيع جسده لكل عابر سبيل، والذي يستغل كل من حوله من الكوبيين بعلاقاته المُتشعبة مع الكثير من الرجال الذين يمتلكون مفاتيح الأمور. ولعلنا نُلاحظ طبيعية تعامل طومي مع كونه مثليا يبيع جسده للرجال فيما كتبته بشيري حينما نقرأ: "حسنا، لا تقل لي يا ألفارو بأنك أتيت إليّ بدون سبب، هيا تكلم وبسرعة؛ بعد حين سأستقبل بعض الزبائن من روما. هز ألفارو رأسه مُستنكرا: ألست مريضا يا طومي؟! أما زلت تمارس لتعيش؟! لا تنس أن الشرطة تراقبك. برقت عينا طومي وهو يرد بدون أي حرج: أنت تعرفني مذ كنت طفلا في هذا الحي، وتعرف أنني مُخنث، وأنني أعيش من جسدي، أما أنني مريض فهناك إجراءات احترازية لعدم نقل العدوى، لكل مشكلة حل!".

أي أنه رغم إصابته بمرض نقص المناعة المُكتسب إلا أنه لا يمكن له التوقف عن استقبال الزبائن من الرجال باعتبار أن جسده هو الأداة الوحيدة في العالم القادرة على مُساعدته في الاستمرار على قيد الحياة البائسة التي يعيشها جميع أهالي هافانا القديمة!

تمتلك آمال بشيري المقدرة البارعة على استخدام المُونتاج السينمائي في السرد من أجل تعريفنا بالمزيد من الشخصيات البائسة في عالمها الروائي، حتى لو كانت هذه الشخصيات مُجرد شخصيات مبتورة، أي أنها لن تتابعها فيما بعد من خلال سردها، فيبدو لنا الأمر في النهاية باعتباره مُجرد لقطة اعتراضية- بمفهوم السينما- أي مُجرد لقطة لن تفيد السرد إلا في إكمال المشهدية والإمعان في الإحاطة بها من دون مُتابعتها فيما بعد، وهو ما لاحظناه حينما أدخلت شخصيتي ميغال وصونيا في أحداث روايتها، رغم أن هاتين الشخصيتين لم نعرف عنهما أي شيء فيما بعد سوى أن صوفيا حامل من ميغال وتطلب منه تحمل مسؤولية حملها، وسُرعان ما تختفي الشخصيتان ولا تذكرهما الروائية مرة أخرى وكأنها لم تتعرض لهما من قبل!

لكن، رغم عدم عودة الروائية مرة خرى لهاتين الشخصيتين لا يفوتها تعريفنا بهما وكيف تم تعارفهما حينما تكتب: "تعرّف ميغال، الذي لا يعرف أحد من أين أتى، على صونيا في غرفة الطوارئ بمستوصف الحي. كان الطبيب يقطب جرحها الذي قسم جبهتها إلى نصفين دون أن يرف لها جفن، أما هو فقد كان يتلوى من المغص بعدما تناول وجبة عشاء فاسدة قدمها له سائح عابر ذات مساء. أدهشته شجاعتها وبرود أعصابها، كان يتألم بدلا منها حينما كان يدخل الطبيب المُتدرب الإبرة الطويلة في لحم جبهتها السميك ليمرر الخيط الأسود الغليظ بصعوبة إلى الطرف الآخر من الجرح، نسي ألم مغصه، وأخذ يتأملها وكأنها مُعجزة تتحقق أمام عينيه. أعجبته إجابتها المُستفزة حينما سألها الطبيب عن سبب جرحها. وحينما وقعت على تصريح الخروج من المستوصف انتبه ميغال إلى أن اسمها كان شيكيتا، فكر: يا له من اسم سوقي! لهذا قرر أن يغير اسمها بمُجرد التعرف عليها، بدأت العلاقة بينهما دون عوائق تُذكر، تبعها في رواق المستوصف المُزدحم، بعدها فاجأها وهو ينادي باسمها، قدم نفسه، انتبه لضرورة عدم سؤالها عن سبب جرحها، بعدها عبر لها عن إعجابه، ليس فقط بجسمها الشهي الغض، وبعينيها الناعستين، ولكن أيضا بشجاعتها وجبهتها تُخاط بمثل تلك القسوة، أما هي، فردت عليه بهدوء مُفتعل، وهمست في أذنه بتلقائية مُستفزة: لدي في بيتي زجاجة رُم مستورد. تفاجأ لجرأتها التي لم يرغب، بأي ثمن، أن يصفها بالوقاحة. تعلقت في ذراعه لكي يصبح من لحظتها جزءا مُضطربا من حياتها الهادئة في الحي القديم".

إن حرص الروائية، هنا، على تعريفنا بالطريقة التي تعارف بها كل من ميغال وصونيا لم يكن من قبيل الاهتمام بقصتهما، أو محاولة العودة إليهما مرة أخرى- فهي لن تعود لذكرهما بعد هذا المشهد وكأنهما لم يكونا في أحداث روايتها- بل كان من قبيل إكمال المشهدية التي تُدلل على حياة البؤس التي يحيا فيها أهل هافانا القديمة، ولأنها لا ترغب في أن تكون شخصياتها مُنبتة الصلة بالواقع أو نابعة من الفراغ؛ حرصت على هذه الإحاطة السريعة بقصتهما وتعارفهما، وسُرعان ما نسيتهما مُتعمدة؛ لأن دورهما الفني لم يكن يتعدى سوى تصوير المزيد من البؤس والفقر لأهل هافانا القديمة.

إن الفكرة الرئيسية التي انطلقت منها آمال بشيري في عملها الروائي تعتمد على حلم ألفارو في مُقابلة بابلو بيكاسو الفنان التشكيلي الأشهر في العالم؛ لذلك دارت الأحداث في الفترة الزمنية التي عاش فيه بيكاسو بعيدا عن وطنه إسبانيا، هاربا إلى جنوب فرنسا من حُكم فرانكو، ولأن ألفارو لا يمتلك قوت يومه بات حلمه في لقاء بيكاسو من المُستحيلات؛ فكيف له الخروج من كوبا إلى فرنسا من أجل لقائه وهو الذي لا يجد طعام اليوم الجديد الذي يبدأ؟ لكن رغم استحالة هذا الحلم يظل هو المُسيطر على ذهنه طول الوقت. هو المُحرك، والدافع لاستمرارية الحياة، هو الذي يجعله يتخلى عن كل شيء حتى مشاعره المُلتهبة تجاه إيزابيلا المجنونة وقصة عشقهما الأسطورية لمُجرد لقاء بيكاسو، أي أن ألفارو يعيش مُنذ بداية العمل على حلم مُستحيل يتمنى تحققه وإن كان لا يعرف السبيل إلى ذلك!

سنُلاحظ حرص الروائية، هنا، على التركيز على هذا الحلم مُنذ الصفحة الأولى في روايتها حينما نقرأ: "استيقظ ألفارو هذه الظهيرة مُضطرب الذهن وكأنه خرج للتو من لعبة أفعوانية ابتعلت كل طاقته وهي تلف به في الفراغ الشاهق، بلغ قلقه ذروته، لم يستطع فهم الخوف الذي جثم على صدره بثقل أشعره بكل قهر الدنيا. نام أكثر من الوقت الكافي لتعطيل عقله الذي لا يهدأ أبدا، شعر بأن أضواء ساطعة سُلطت داخل رأسه الذي لا يعرف كيف تحوّل إلى ملعب ضخم قابع تحت كشافات ذات فولت عال. بدأت، وبدون سابق إنذار، صور لقائه التاريخي بالمايسترو تُعرض بسرعة قياسية في مُخيلته، شريط سينمائي مُتقن الصُنع بالأبيض والأسود منح لحلمه شبه المُستحيل ظلالا خفية أشعرته في نفس الوقت بالبؤس والحماس الذي عادة ما ينتهي بخيبة الأمل وهو يكلم نفسه".

إذن، فالكاتبة مُنذ فقرتها الروائية الأولى حريصة على بيان حلم ألفارو الذي تتحرك أحداث الرواية بكاملها وتتنامى من أجله، وهو لقاء المايسترو بابلو بيكاسو الذي يمثل الحلم والدافع الوحيد للحياة لدى ألفارو، ومن أجل ذلك فألفارو يعشق دائما رسم جميع لوحاته الفنية باللون الأزرق الذي كان هو اللون المُفضل لبيكاسو في إحدى مراحله الفنية: "أعادت مأساة صونيا وميغال، رغم الحب الذي يربطهما، ألفارو للتفكير في فرصته شبه المعدومة في لقاء بيكاسو الذي استخدم اللون الأزرق الشفاف في لوحاته التي تُجسد أفقر أحياء باريس حيث يعيش المنبوذون، ليروي من خلالها مآسي البشرية". إن الرابط الموضوعي هنا بين حياة ألفارو في كوبا، وبين لوحات بيكاسو التي تصور المنبوذين هو حياة الفقر والشظف والحاجة التي يعيشها ألفارو صاحب الحلم المُستحيل، وبين ما يرسمه الفنان الشهير.

إن هذا الحلم يسيطر عليه تماما، ورغم أنه لا يرغب من لقاء بيكاسو إلا أن يخبره بأنه أعظم فنان في العالم، لكن الحلم يمتلكه لدرجة التخلي عن الجميع من أجله بشكل فيه الكثير من الحماقة: "سوف يحكي للبادرينو عن حلمه بلقاء العظيم بيكاسو كي يقول له بأنه يحبه، وبأنه أعظم فنان عرفه التاريخ، ولهذا عليه أن يترك كوبا، لا أبدا، ليس بسبب الفقر الذي يعاني منه كمُعظم الناس هنا، وإنما فقط لكي يلتقي ببيكاسو، ربما سيعود إلى كوبا بعد أن يكون قد منح لحياته معنى"!

ألا نلاحظ هنا أن الحلم المُسيطر على ألفارو مُجرد حلم أحمق؟ إن الرجل يظن بأن حياته ستكتسب معناها في اللحظة التي سيقول فيها لبيكاسو بأنه أفضل فناني الأرض، رغم أن بيكاسو، بالتأكيد، ليس في حاجة إلى مثل هذا القول الأحمق من رجل مجهول في الطرف الآخر من الأرض، لكن ألفارو يصر على حلمه الذي يدفعه لخسارة الجميع حتى إيزابيلا المجنونة التي يعشقها كثيرا!

ربما كانت هناك العديد من العوامل الأخرى التي قد تدفع ألفارو إلى مُغادرة كوبا إلى أي مكان آخر غير الفقر المدقع، وحلمه بلقاء المايسترو، ومنها على سبيل المثال الخذلان السياسي في الثورة الكوبية التي لم تُحقق لمواطنيها ما كانوا يأملونه منها، وهو ما نقرأه في: "في مُنتصف الشارع الضيق، وقفت دولورس دون أن تفلت يد ألفارو، كان المارة يمشون ببطء ضجر، لم تكن تسمع الضجيج المُعتاد الذي يصدره خوان السكير عند نهاية الشارع وهو جالس تحت نافذة بيته المُتهالك يحتسي الرُم الذي يستجديه من المارة، شاتما فيدال كاسترو، ومُبجلا في ذات الوقت تشي غيفارا، لا يقبل بأي صدقة ما عدا الرُم، ملت زوجته، دنيا، من شرح مرض زوجها العقلي، ومن صدمته من الشيوعية التي أفنى حياته في الكتابة عنها حتى أُصيب بالجنون، في حقيقة الأمر حتى الشرطة ملت من اعتقاله، ومل أيضا المخبرون الجُدد المتوافدون كل فترة من جنونه"!

إذن، فثمة خذلان يسود كوبا قد يدفع بأهلها إلى الرغبة في الرحيل بعيدا بسببه، وبسبب الفقر الشديد الذي يعيشونه ليل نهار؛ الأمر الذي يجعلهم يتاجرون في أجسادهم سواء كانوا رجالا أم نساء.


إنه الفقر الشديد الذي نلمحه في: "لم ينتبه كيف وصل بتلك السرعة إلى المحطة الرئيسية التي أشعرته بالفقد، كانت مملوءة بالوجوه التي لا تنم إطلاقا عن السعادة، مسافرون دون رغبة في الرحيل، محطة، رغم تهالك مبانيها وقذارتها، يلتقي فيها المودعون بأمل اللقاء، والمسافرون بأمل الرجوع، والعشاق، أصحاب القُبل الطويلة والصادقة، وحقائب فقدت لونها وروائح كريهة تنبعث من الزوايا المُغطاة بالبول، وببراز الكلاب، وبعض الخمور الرديئة، وبجثث المتسولين، التي حينما تراها للوهلة الأولى تعتقد أنهم موتى، فاقدوا الحياة بقرار مُسبق"!

هل بعد كل هذا البؤس الذي تحرص الروائية على وصفه ما يستدعي البقاء في مثل هذه الحياة التعيسة؟ بالتأكيد لا، لكن رغم ذلك تؤكد الروائية من خلال سردها على أن جميع الشخصيات راضية بما هي فيه، تحاول التعايش والتكيف مع هذه الحياة رغم قسوتها وهوانها، وإهانتها لهم، بل نرى ألفارو أيضا راضيا بكل ما يحدث لهم، لكن حلمه الأحمق الشبيه بشخص يحارب طواحين الهواء يسيطر عليه، ويتملكه حتى النخاع؛ فيجعله ينسى كل ما يحيطه ولا يفكر سوى في لقاء المايسترو بيكاسو!

يعمل ألفارو في بيت طومي المثلي من أجل محاولة اكتساب القليل من المال الذي يعينه على الحياة، وشراء القليل من الألوان التي يرسم بها لوحاته، وبما أن شظف العيش يجعل الجميع يتحايلون على الحياة بأشكال شتى- وهي أشكال لا يمكن لنا لومهم عليها، أو أخذ موقف مُضاد تجاههم مهما كانت ملتوية وخبيثة- فطومي يتاجر بأي شيء، وكل شيء فضلا عن جسده؛ لذا يستغل حلم ألفارو في لقاء بيكاسو ويعرض عليه الزواج من جانيت المرأة الفرنسية السبعينية التي تكاد أن تكون قد غادرتها الحياة، لكنها ما زالت مُتمسكة بها، راغبة في المزيد منها وتجديد شبابها مرة أخرى بما تمتلكه من مال، ورغم أن ألفارو يشعر بالكثير من التقزز والخشية منها، حتى أنه لا يمكن له تخيل أن يلامس جسده جسدها، إلا أنه وافق على الزواج منها- مُضحيا بحياته وعشقه لإيزابيلا المجنونة- حيث سينتقل معها من كوبا إلى جنوب فرنسا ومن ثم يستطيع لقاء المايسترو الذي يمثل حلم حياته الذي يعيش من أجله!

إن موافقة ألفارو على الزواج بجانيت أثار الكثير من السُخرية منه، وأوقع إيزابيلا المجنونة في الكثير من الحزن لتخليه عنها من أجل امرأة غادرتها كل علامات الأنوثة، وعلى شفا الموت في أي لحظة، لكنه لا يستطيع التخلي عن حلمه الذي يدق بقسوة جدران جمجمته فيحركه دائما في تجاه المايسترو؛ لذا تصور لنا الروائية اللحظة التي تزوجت فيها جانيت من ألفارو بشيء من التفصيل لنقل مشاعر كل منهما تجاه هذا الحدث: "كادت العروس العجوز، جانيت، أن تطير من الفرح، وهي تتبع بلهفة أصابع ألفارو المُرتعشة موقعا أخيرا على ورقة عقد القران، كان يبكي بصمت، بوجه محمر ورغبة شديدة في الفرار لو لم تساعده مُخيلته في أن يرى بدل ذلك المُخنث الإيطالي الذي كان إشبينه وشاهده، المايسترو بيكاسو واقفا إلى جانبه، واضعا يده على كتفه، وهو يهمس في أذنه بمحبة فائقة: مبروك يا ألفاريتو. مدت العجوز جانيت يدها نحو زوجها الشاب وألبسته خاتما لامعا برقت له عينا طومي، اقتربت من وجهه كي تقبله، مد لها خده على سبيل المُجاملة". سنُلاحظ أن كل من الزوجين له مُنطلقه المُقتنع به أيما اقتناع، وهو ما يدفعه لاتخاذ القرار في الفعل؛ فألفارو يرغب في السفر لفرنسا من أجل المايسترو، وجانيت راغبة في رجل شاب يُجدد لها حيويتها وأنوثتها المُنفلتة من بين أصابعها، ليؤكد لها أنها ما زالت على قيد الحياة، ولأنها تعرف الحاجة الشديدة لألفارو؛ فلقد نجحت في إقناعه بأموالها التي يفتقدها في حياته اليومية.

إن الفعل الذي أقدم عليه ألفارو يشعره بالكثير من الذنب الثقيل على كاهليه؛ لذلك يظن أن دولورس، التي كانت ترعاه وتتعامل معه كأمه تماما، قد ماتت حسرة على زواجه من جانيت وبيع شبابه لها، لا سيما أنها لامته كثيرا، وكانت غاضبة من هذه الصفقة التي يبيع فيها نفسه لهذه العجوز. هذا الشعور بالذنب تنجح بشيري في توصيفه بعمق حينما تموت دولورس حتى إنه يسقط مشاعره وندمه على ما فعله على جثتها حينما نقرأ: "حملها ألفارو المسكين من على الكرسي، كانت باردة وحزينة، وعيناها مشدوهتان نحو السقف، نحو السماء، نحو الله! مددها على سريرها، مد يده المُتحجرة من هول الصدمة لكي يغمض عينيها اللتين كانتا تُحدقان فيه بحسرة، غطى جسمها بلحاف أبيض، أشعل شمعة عند رأسها على الطاولة القديمة التي كتبت عليها بقلم الرصاص مُعظم مقطوعاتها الموسيقية، نزلت دمعة ساخنة على خده، شعر بأنه السبب في موتها"! أي أن إحساس الشعور بالذنب لزواجه من العجوز جعله يحمل نفسه مسؤولية موت دولورس العزيزة، رغم أن موتها كان طبيعيا لا علاقة له بزواجه رغم حزنها بسبب إقدامه على هذا الفعل؛ لذلك يحاول ألفارو الهروب من الشعور بالذنب الشديد تجاه موتها: "أول ما فعله عند دخوله إلى بيت طومي، ولأول مرة، سرق زجاجة رُم، أغلق كل النوافذ، وأطفأ الأضواء، جلس على الأريكة وقرر ألا يفعل شيئا نافعا لقلبه ولا لجسده، عزم على أن يشرب حتى يتحول دمه إلى كحول، أراد أن يقفز على فعل موت العزيزة دولورس، أو أن يمحوه من الواقع، وأن تستمر حياته وكأن شيئا من ذلك لم يحدث"!

تنجح الروائية من خلال وصفها للتفاصيل، لا سيما تفاصيل المشاعر، في التعبير عن العديد من الأرواح المُمزقة في عالمها الروائي بفعل الفقر الشديد والخيانات المُتعددة التي لم يلجأ أصحابها إليها إلا بسبب الفقر والعوز أيضا، وهو ما نلحظه في حديثها عن بابلو الخلاسي الذي خانته زوجته بهروبها مع أحد السائحين: "استيقظ بابلو الخلاسي وهو يلعن الشياطين التي تشاركه نومه، كان قد تبول على نفسه من شدة الشُرب، حلم بأنه يسبح في بحر الكاريبي مُبتعدا عن شواطئ كوبا اللعينة كما يسميها. مُنذ أن رحلت عنه زوجته ماريا دال صول مع سائح أمريكي تاركة وراءها خاتم الزواج المُرصع بأحجار الزجاج المُزيفة، ورسالة مكتوبة بخط يد مُرتعشة من برودة الخيانة، لتذكره بوصايا الزواج المُتبادلة مُنذ عشر سنوات في كنيسة العذراء ماريا دي كونسيبسيون، وتحاسبه على إهماله لها خلال العمر الذي قضياه معا بشق الأنفس. فمُنذ ذلك اليوم لم يعد لبابلو سبب للعيش، أخذ يفتعل أسبابا مُشرفة للموت، حتى مُبارزته باسم الشرف لم تكن ضرورية في الحقيقة، قتل رجلا لمُجرد أنه ذكره بزوجته الخائنة، مُمجدا عشيقها الأمريكي، من حينها تحول هو نفسه إلى لعنة". إن هذه الخيانات المُتعددة، سواء خيانة ألفارو لكل من يحبونه لا سيما إيزابيلا المجنونة، أو خيانة طومي المثلي لجميع من يحيطون به، أو خيانة زوجة بابلو الخلاسي له، وهي الخيانات التي تترك من خلفها الكثير من الأرواح الميتة، والأجساد التي تسير من دون روح على الأرض كان سببها الرئيس الفقر الشديد والبؤس الذي يحيط بالشخصيات الروائية في هافانا القديمة، ولعل الأمر من جانب آخر يمثل الفشل الذريع للثورة الكوبية التي أمل فيها الكوبيون الكثير من الخلاص والكرامة، لكنها ردتهم إلى المزيد من الفقر، بل والموت وهم ما زالوا على قيد الحياة!

إن رواية خفافيش بيكاسو للروائية الجزائرية آمال بشيري تكاد أن تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية رغم أن المؤلفة لم تلجأ إلى مثل هذا التقسيم من حيث الشكل، بل هي رواية مُتصلة لم تلجأ فيها الروائية إلى الترقيم أو الفصول، لكننا إذا ما تأملنا العالم الروائي الذي قدمته سيتضح لنا أنها مُنقسمة إلى ثلاثة أقسام بالفعل، تتناول في القسم الأول منها حياة ألفارو البائسة في كوبا، وما يحيطه فيها من فقر وعوز وبؤس، بينما تهتم في الجزء الثاني منها بحياة ألفارو بعد سفره إلى جنوب فرنسا مع زوجته الفرنسية جانيت، ومُعاناته الدائمة في الهروب منها حتى لا تلمسه، ومحاولة بحثه عن بيكاسو من أجل لقائه، وهو البحث الذي كاد أن يلقيه في جحيم اليأس من العثور عليه، إلى أن تنتقل في قسمها الثالث للعثور على بيكاسو الذي يمثل اللقاء به من المُستحيلات؛ حيث يمكث دائما داخل منزله مُمارسا لحياته الفنية وسط لوحاته غير راغب في الاختلاط بالآخرين؛ تخوفا من الموت والأمراض، ولإيمانه بالعديد من الأساطير.

مع وصول ألفارو إلى جنوب فرنسا يجابه عالما مُختلفا تماما يشعر فيه بالكثير من الوحدة لعدم وجود أصدقاء، فضلا عن جهله باللغة الفرنسية التي تجعله يشعر بالكثير من الغربة، وحرصه الدائم على العزلة والهروب من الاجتماع مع جانيت في مكان واحد حتى لا يلتقي بها جسديا كما ترغب، وهو الأمر الذي يشعره بالكثير من القشعريرة؛ مما جعله يقضي ليله في الحديقة في أغلب الأوقات- مُدعيا عدم رغبته في النوم- وهو ما لاحظته جانيت وسمحت له في نهاية الأمر بالمبيت في غرفة مُنفردة، بل والسماح له بتناول طعامه في المطبخ بدلا من تناوله معها حيث كان يهرب من ذلك! لكنها كانت بين الفينة والأخرى تحاول اجتذابه إليها والتقرب منه، فتارة تحاول مُراودته، وتارة أخرى تشتري له العديد من اللوحات البيضاء والكثير من الألوان والفرشات من أجل مُمارسة هوايته في الرسم، لكنها ثارت عليه ذات مرة واتهمته بأنه قد استغلها واستغل مالها من أجل الزواج منها والقدوم إلى فرنسا حينما رأت لوحته التي رسمها لإيزابيلا المجنونة- عشقه الدائم- مما جعله يمزق اللوحة أمامها ظنا منه أنه قد جرح كرامتها كأنثى.

يخرج ألفارو ذات مرة للتسكع في المكان المُحيط محاولا الوصول إلى مكان بيكاسو، لكنه يصل إلى أحد المحلات التي تبيع العطور، ولأنه لا يعرف أي كلمة بالفرنسية يذكر فقط للسيدة التي تبيع العطور بأنه من كوبا؛ لكنه يُفاجأ بترحيبها الجم به الذي كاد أن يقرب من الاحتفال، بل وتستدعي زوجها والعاملين داخل معمل العطور الكائن خلف المحل لتخبرهم، بفرحة، أنه من كوبا بلد تشي جيفارا وفيديل كاسترو، يرحب به الجميع بفرحة عارمة، ويُفاجأ بأن أحدهم يتحدث الإسبانية؛ الأمر الذي يشعره بالكثير من السعادة لأنه وجد أخيرا من يفهمه ويشرح له طبيعة الأمور والحياة في فرنسا.

يترجم له فيليبي- الهارب من قرية جارنيكا وسط إقليم كتالونيا في إسبانيا خوفا من حُكم فرانكو- حديث إيفات بائعة العطور الطيبة، وزوجها لوران، صاحب معمل العطور، ويخبرهما ألفارو بأنه فنان تشكيلي جاء من كوبا لتعلم الفن، وأنه يقيم عند جانيت جارتهم وصديقة والدته، كما يخبرهما أيضا بأنه يبحث عن عمل؛ فيخبره فيليبي بأن الورقة المُعلقة على باب المحل تفيد بأنهم يبحثون عن عامل جديد في معمل العطور. هنا يشعر ألفارو بالكثير من السعادة ويخبر لوران بأنه لا يعرف كيفية صناعة العطور، لكنه يؤكد له بأن الأمر بسيط، وبأنه سوف يقوم بتعليمه المهنة. يوافق ألفارو على العمل في معمل العطور شاعرا بأن السماء قد وقفت إلى جانبه لأول مرة، لكنه حينما يعود إلى بيت جانيت يشعر بالكثير من الخشية منها، ومن ثم لا يخبرها بأمر العمل المعروض عليه، والذي يتناساه تماما.

حينما يتناسى ألفارو أمر العمل مع لوران يذهب فيليبي إليه في بيت جانيت للاطمئنان عليه، وهناك يقابل جانيت التي تعلم منه بأمر لقاء ألفارو بلوران وقبوله للعمل معه في معمل العطور؛ الأمر الي يجعلها تثور عليه ثورة عارمة وتطرده من منزلها؛ فيأخذه فيليبي إلى بيت لوران وإيفات طالبا منه نسيان ما حدث مع جانيت وبدء حياة جديدة معهم.

يعرف ألفارو من إيفات وفيليبي أن بيكاسو يسكن على مقربة منهم فوق التلة، وأنه لا يخرج مُطلقا من منزله، كما يتعالى على الآخرين ولا يلتقي بالناس مُنشغلا طوال الوقت بلوحاته ومُطاردته للنساء؛ الأمر الذي يجعل ألفارو شاعرا بأنه يكاد أن يحلق في السماء، وكثيرا ما يذهب إلى بيت بيكاسو طارقا للباب مُنتظرا خروجه إليه كي يخبره بأنه أفضل فناني الأرض، لكنه يُفاجأ دائما بأنه لا يرد عليه أحد؛ فيظل بالساعات جالسا أمام البيت على أمل أن يلمح بيكاسو خارجا ذات مرة، أو يطل من إحدى شرفات بيته، لكنه يُصاب في النهاية بخيبة الأمل لعدم لمحه لبيكاسو ولو لمرة واحدة.

يخبر ألفارو فيليبي بحلمه في لقاء بيكاسو وبأنه كثيرا ما يذهب لبيته على أمل لقائه؛ فيضحك فيليبي مُخبرا إياه بأنه يعرف أخينيو، حلاقه الخاص، وبأنه سوف يعرفه عليه، كما يخبره بأن جميع سُكان المنطقة لا يحبون بيكاسو لتعاليه على الآخرين: "تساءل فيليبي عن سبب إلحاح ألفارو على لقاء بيكاسو الذي ينظر إليه كافة سُكان القرية على أنه فنان مُتعجرف، وأرعن ذو طبع سيئ لا يحب المُجاملة، ويتكبر على كل المُعجبين به من عامة الناس، شرح له أن ذلك قد يعود، كما فسر مُعظمهم، لسبب عبقريته، وأيضا لسبب عشقه للنساء ولمُصارعة الثيران بيد أن لا أحد بتعامل معه إلا أخينيو الحلاق الإسباني صديقه المُقرب وكاتم أسراره، ورفيقه في النضال ضد فرانكو في الرابطة الشيوعية، حتى أنه أطلعه بثقة على علاقة هذا الأخير بالسيد لوران الشيوعي الصامت".

رغم إخبار فيليبي لألفارو بكراهية الناس لبيكاسو ونفورهم منه، إلا أنه يحاول دائما التماس الأعذار له باعتباره فنانا من حقه الابتعاد عن العامة والغوغاء من الناس، وهو ما نلاحظه أيضا حينما تتحدث عنه إيفات الطيبة، مُستهجنة، بكثير من النفور: "لأنه فنان مشهور يحق له الادعاء بما لا يحق لغيره، فهو يدعي أنه يحب النساء، لكن في واقع الأمر هو لا يحب إلا نفسه وفنه، وطبعا مُصارعة الثيران حتى أنه في أحد تصريحاته للصحافة قال: بأنه يفضل حبه للخفافيش على حبه للنساء مُعلنا بدون أي حرج أنه يحب الخفافيش التي ترتعد منها النساء إذ يعتقدن أنها قد تلتصق بشعرهن، لكن الخفافيش هي أجمل الطيور والحيوانات بالنسبة له، يرى أنها رقيقة بشكل غير عادي، مُعجبا بعيونها اللامعة المُشعة بالذكاء، وبجلدها الحريري كالمخمل، وبعظامها الصغيرة الرقيقة. أخذ ألفارو موقف المُدافع محاولا شرح وجهة نظره غير المُقنعة: إيفات عزيزتي، ألهذا السبب لست مُعجبة به؟ فكل الرجال يحبون النساء بشكل أو بآخر، وما بها الخفافيش؟ هي فعلا حيوانات رقيقة". إذن، فهو يأخذ موقف الدفاع عن بيكاسو مهما كانت أفعاله غير المتوقعة لمُجرد أنه واقع في عشق الرجل وفنه الذي يقدمه، وبما أن بيكاسو يمثل له مُنتهى الحلم في حياته، وهو الحلم الذي غادر حياته بأكملها من أجله؛ فهو بالنسبة له مُقدس في كل ما يصدر منه من أفعال، ولا بد له من إيجاد مُبرر مُقنع دائما!

علنا نُلاحظ في الاقتباس السابق العلاقة الموضوعية بين عنوان الرواية- خفافيش بيكاسو- وما يؤمن به بابلو بيكاسو لا سيما عشقه للخفافيش وتفضيلها على النساء، وهو الأمر الذي يفسر لنا عنوان الرواية.

يصطحب فيليبي ألفارو لمُقابلة أخينيو المُقرب الوحيد من بيكاسو، والوحيد القادر على لقائه ورؤيته في أي وقت شاء، ويخبر الحلاق برغبة ألفارو القاتلة التي جعلته يترك كوبا إلى جنوب فرنسا لمُجرد اللقاء ببيكاسو؛ الأمر الذي يجعل أخينيو يشعر بالكثير من الدهشة، مُخبرا ألفارو أنه من الصعب لقاء بيكاسو، كما أنه عليه ألا يفكر بهذه الطريقة؛ فهو أيضا فنان لا يقل عن بيكاسو في أي شيء، بل عليه أن يمارس المزيد من فنه، فلعله يصل في يوم ما إلى نفس شهرته، لكن ألفارو الذي يسير خلف حلمه الوحيد لا يستمع إلى أحد مُخبرا أخينيو أن رغبته الوحيدة في الحياة هي اللقاء مع بيكاسو، هنا يخبره أخينيو: "أنا متأكد يا ألفارو أنك تملك من الذكاء ما يجعلك تتفهم موقف بيكاسو من حلمك، فهو لا يعرفك، كما أنه شخص يؤمن بالخرافات، ويخاف من المرض والموت، لهذا فهو ينعزل عن الغرباء، هل تعلم بأنه وُلد ميتا وكاد الطبيب، الذي هو في حقيقة الأمر خاله، أن يضعه في ثلاجة الموتى لولا أن هذا الأخير نفث، من باب اليأس، دخان سيجاره الكوبي في وجهه؛ فصرخ الطفل بيكاسو وعاد إلى الحياة؟ هذه الحادثة هي التي أوغلت شهوته الرهيبة في الحياة، ودفعت به إلى الخوف دوما من الموت وإلى إدمان تدخين السيجار الكوبي كلما شعر بوهن يُهدد حياته الهشة". أي أن أخينيو قد أكد له باستحالة لقائه مع بيكاسو مما يجعل رحلته الطويلة من طرف الكرة الأرضية إلى طرفها الآخر مُضحيا في ذلك بكل شيء، ومنها حبه لإيزابيلا المجنونة مُجرد سراب لا معنى له؛ الأمر الذي يوقع ألفارو في الكثير من الحزن الذي يسيطر عليه، لكن أخينيو يحاول مواساته قائلا: "لا تحزن يا ألفارو، يبدو أن مهام الحياة الحقيقية هي أن تخذلنا فقط لا غير، أنا أحلم بوطن حر من ديكتاتورية فرانكو، وأنت تحلم بمُقابلة بيكاسو الذي هو صديق عزيز بالنسبة لي، فهو الغريب عنك، والقريب إلى قلبي، وأعتقد أن صداقتنا لا تنتهي إلا بموت واحد منا".

إن شعور أخينيو بالكثير من الشفقة على ألفارو المُتمسك بحلم لقائه ببيكاسو يجعله راغبا في إسعاده؛ فيعرض عليه حلاقة رأسه في البار بنفس المقص الذي قص به شعر بيكاسو مُنذ ساعات: "هيا أيها الشاب الوسيم، سأحكي لك قصة حياتي وأنا أحلق شعرك تماما مثلما فعلت قبل قليل مع المايسترو بيكاسو. فرد الدون أخينيو عدة الحلاقة، مقص ذهبي اللون، وفرشاة من العاج البني، وقنينة من الماء الفاتر المُعطر، ومنديل ناصع البياض وكأنه لم يستعمل البتة، لمعت عينا ألفارو من تلك المُفاجأة التي مسحت بعض اليأس عن قلبه وهو يتأكد: ستحلق شعري بنفس المقص، ونفس الفرشاة اللذين حلقت بهما لبيكاسو؟! نعم، ولم لا؟ ففي النهاية أنت أيضا فنان".

إذن، فالجميع يحاولون التأكيد لألفارو بأن حلمه مُستحيل التحقق، لكنه ما زال يسعى خلفه غير راغب في التخلي عنه، وهو ما يجعله يظل لساعات طويلة، أثناء النهار، مُنتظرا لخروج بيكاسو من بيته، لكنه لا يتحصل على هذا الحلم المُستحيل، هنا يخبره فيليبي أنه لو كان ماتادورا مُصارعا للثيران لكان بيكاسو هو الذي سعى لمُقابلته حيث يعشق مُصارعة الثيران؛ لتنطلق في ذهن ألفارو فكرة مجنونة بأن يتعلم مُصارعة الثيران كي يحظى بشرف مُقابلة بيكاسو.

ألا نُلاحظ هنا أن ألفارو مُتمسكا بحلمه إلى حد الجنون، حتى أنه قد يفعل أي شيء في الحياة من شأنه أن يجعل بيكاسو يوافق على اللقاء به؟

يخبر ألفارو أخينيو بحلمه الجديد في أن يصبح مُصارعا للثيران من أجل نيل إعجاب بيكاسو ولقائه به، لكنه يخبره أن مُصارعة الثيران ليست بالأمر السهل، بل هي من الأمور التي يعجز عنها الكثيرون رغم تدريبهم لسنوات طويلة، لكن صديقه فيليبي أخبره: "إن المتجاوز في المُباراة له أيضا هيبته المُعتبرة أمام الجمهور؛ لأنه ليس أي رجل يمتلك مثل تلك الشجاعة التي تدفعه إلى رمي نفسه وسط الحلبة، أعزل اليدين في مواجهة ثور هائج، ومُستفز تم إطلاقه من الحظيرة لمواجهة الموت، فقد يحظى المتجاوز باحترام الجمهور وقد يُعد أكثر شجاعة من المتادور نفسه".

هنا يسيطر على ذهن ألفارو أداء دور المتجاوز بإلقاء نفسه في الحلبة أمام الثور الهائج كي ينال إعجاب بيكاسو ويوافق على اللقاء به، وبالفعل يوم المُباراة يحقق ألفارو رغبته في نيل إعجاب بيكاسو: "فُتح باب الحظيرة، كاد الحماس أن يمزق قلب ألفارو إلى قطع يستحيل جمعها لإعادة الحياة له، بعدها أخذ جسده يرتعش وهو يراقب الدخول العنيف للثور الهائج، نظر في عيني فيليبي الذي شعر فجأة بأن ثمة كارثة ما ستقع للتو، فجأة دفع ألفارو بجسده عاليا ووثب فوق العمود الحجري وسط ذهول الجمهور، وجد نفسه وجها لوجه مع ذلك الثور المُتحدي، شهق الجمهور شهقة ترقب دفعة واحدة، جرى ألفارو بساقين مُشتعلتين بالنشوة حتى الطرف الآخر من الحلبة، في الحقيقة أخذ يجري وراء حياته، وراء قلبه، وراء كل خساراته، اندفع الثور وراءه، مرت عليه كل ذكرياته كشريط سينمائي مخدوش، ارتعب، كاد أن يغمى عليه ليتحول إلى جثة مُتفسخة تحت حوافر ذلك الحيوان الشرس، وفي لحظة بطولة قفز عاليا مُتحررا من رعبه، وبحركة رشيقة مد يده نحو عنق الثور، وسحب المنديل تحت وابل من الهتافات، لحظتها شعر بأنه لم يعد كما كان من قبل، وبأنه تحول إلى كائن خرافي، انتابته شهوة جديدة للحياة، أمطرت عليه السماء أطواق الورد، رق قلبه لدرجة البكاء عندما لاحظ قدرا هائلا من التسامح في عيني الثور المجروح في كبريائه، هتف فيليبي بحماس مُشيرا إليه: هذا المجنون الكوبي صديقي، لقد فعلتها أيها اللعين! أوليه، أوليه. هكذا أنهى ألفارو بشرف تلك المُباراة الأسطورية حتى قبل أن تبدأ، لم يعد يسمع شيئا من حوله سوى دقات قلبه المُتصاعدة، أخذ يراقب حركات تشجيع المُتفرجين، ويتتبع بدهشة مسار عشرات المناديل الملونة المُتطايرة في الهواء التي ألقاها الجمهور له كتحية شرف، لوهلة وكأن الزمن توقف فيها، التقت عيناه بعيني المايسترو بيكاسو الذي هز له رأسه بتواطؤ، ركض مُسرعا خارج الحلبة، خارج المُدرج، حاول أن يكتم لهاثه، انفجرت عيناه بالدموع عندما أدرك أنه نجا لتوه من موت مُحقق، انتابه فجأة شعور بأنه لم يعد يرغب في لقاء بيكاسو، ولا في العودة إلى كوبا، دون أن يتمعن في التفكير قرر أن يرحل إلى الأندلس، هناك في غرناطة سيتعلم مُصارعة الثيران، وسيصبح متادورا رغم قسوة العناية الإلهية معه، ورغم عجرفة بيكاسو، ورغم أنه الكوبي الوحيد الذي تجرأ على اللعب بحياته علنا".

ربما حرصنا هنا على سوق الاقتباس السابق بالكامل، وهو الاقتباس الذي اختتمت به الروائية آمال بشيري روايتها لتتغير من خلاله حياة ألفارو الذي قرر التخلي عن حلمه الذي باع كل شيء من أجله، مُقررا التعلق بحلم جديد يشعره بالحياة وبأنه كائن له أهمية فيما يفعله، وليس مُجرد تابع لإعجابه الفارغ ببيكاسو، راغبا في لقائه فقط وكأنما هذا اللقاء سيجعل منه ذاتا لها أهميتها.

ربما لاحظنا أن الفرضية التي قامت عليها أحداث رواية بشيري لا تخلتف كثيرا عن أسطورة دون كيشوت ومُحاربة طواحين الهواء؛ فألفارو الذي حلم طوال حياته بلقاء بيكاسو كان يحلم بحلم مُستحيل تحقيقه رغم اقترابه منه، وحينما اقترب منه تماما اكتشف أنه كان يطارد الوهم الذي لن يفيده في أي شيء. هنا رأى أن الحلم الحقيقي هو أن يحقق ذاته مُكتسبا احترام الآخرين وتقديرهم له حينما يتحول إلى ماتادور له أهميته في الثقافة الإسبانية، ولعلنا لاحظنا أن الروائية قد أشارت إلى هذه الفكرة أثناء سردها حينما قرأنا أثناء حديثها عن حياة أخينيو: "اعتز بأنه قرأ، وقتها، وفي ذلك المحل البسيط فيكتور هيجو الذي جعله يفتخر وهو يردد وللأبد أنه تخرج في مدرسة البؤساء، قرأ أيضا وبكل شغف ثيرفانتس؛ لهذا انتبه مُبكرا أن عليه أن يخوض معارك حياة حقيقية مُتجنبا طواحين الهواء". أي أن الروائية كانت مُدركة في عقلها الباطن- سواء قصدت هذه الإحالة أم لم تكن تقصدها- أن ما يفعله ألفارو في حياته مُجرد وهم، وأن هذه المعركة الحياتية التي خاضها والتي خسر فيها كل شيء في حياته لم تكن سوى سيرة أشبه بسيرة دون كيشوت الذي يرى نفسه بطلا من خلال الوهم الذي لن يفيده في أي شيء.

ثمة مُلاحظة لا بد لنا من التوقف أمامها هنيهة لأهميتها وغرابتها في الأحداث الروائية التي ساقتها لنا بشيري؛ فهي حينما تحدثت عن إيفات، بائعة العطور التي احتوت ألفارو كأم، ذكرت أنها يهودية عانت كثيرا في مُعسكرات النازي: "عند الغداء كانت إيفات مُترنحة، ذابلة، لم تمد يدها إلى صحنها، انهمكت في شرب الكأس تلو الأخرى، أخذ السيد لوران ينظر إليها بعطف أبوي، ساد الصمت في القاعة، لم يعد يسمع إلا صوت قرقعة الملاعق على الصحون الخزفية، فجأة انطلقت إيفات في الحديث مُتذكرة اليوم الذي فُصلت فيه هي وأختها التوأم، ياعيل، عن باقي العائلة، التي لم تر أحدا من أفرادها مُنذ فجر 16 تموز 1942م، واُقتيدا سويا في حافلات مُكتظة بالعجائز والأطفال والمرضى والمُعاقين إلى ملعب سباق الدراجات الشتوي على رصيف غرونويل بالدائرة 15 لباريس وسط الرعب والقلق، ومن ثم نُقلتا إلى مُعسكرات درانسي في سين سان دوني الضاحية الشمالية، وبعدما دق وشمها الأخضر على ساعدها الأيمن بواسطة مسمار حاد صدئ، الرقم الذي صاحبها لبقية عمرها، رقم يذكرها بأنها كانت ضحية هي وكل أفراد أسرتها لأسباب لا تخص إلا اعتقادات جلادها. هُجرت هي وأختها من فرنسا برفقة آلاف المُعتقلين في قطارات الموت نحو جهنم أوشفيز، تستغرب إيفات لحد اليوم كيف نجت بعد كل تلك التجارب التي أجراها الأطباء النازيون عليها وعلى أختها التي لم تصمد وماتت مثل فأر تجارب بين الجدران الخشبية التي كانت تحيط بهما، وتحت تأثير عشرات المواد الكيميائية التي كانت تُحقن في جسديهما المُتهالكين".


إن حرص الروائية هنا على جعل إيفات يهودية، ومن ضحايا التعذيب النازي في مُعسكرات هتلر لا بد له من إثارة العديد من الأسئلة التي تجعل الروائية تلجأ إلى مثل هذا الأمر؛ فما الداعي لجعل إيفات من ضحايا النازي، وما علاقة اليهود والنازي بقصة وأحداث ألفارو بالكامل، وما علاقة هذا ببيكاسو، وهل الأمر من قبيل الغزل لليهود والاعتراف بحقوقهم بسبب تعذيب واضطهاد النازي، أم أن الأمر قد بات موضة روائية عربية نجدها في العديد من الروايات مُؤخرا لا سيما أن الروائية لم تكتف بجعل إيفات من ضحايا النازية فقط، بل لجأت إلى المُقاربة الواضحة بين ضحايا النازية من اليهود، وبين ضحايا اليهود من الفلسطينيين في قولها: "ما زالت تملك مُفتاح شقة العائلة الفخمة في الجادة الثامنة في باريس حيث تركت مُتعلقاتها والبيانو الذي كانت تعزف عليه، ومجموعة الفرو التي أهداها إياها خطيبها أوري الصائغ المعروف في كل فرنسا آنذاك"!

إن هذه المُقاربة الخطيرة بين اليهود الذين تم اعتقالهم وتعذيبهم ثم تهجيرهم من سكنهم، والتي تتطابق تماما مع الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم أيضا؛ ومن ثم احتفظ كل من الطرفين بمفتاح سكنهم في نهاية الأمر على أمل العودة مرة أخرى يطرح العديد من الأسئلة المُتشككة في العديد من الروائيين العرب الذين يلجأون في الآونة الأخيرة للحديث عن اضطهاد النازيين لليهود، فهل هو من قبيل الشفقة على ما حدث تجاههم، أم من قبيل الغزل لهم، أم من قبيل ترويج الأعمال الأدبية التي تتعرض لهم؟ لا سيما أن سؤال ما علاقة هذا الأمر بالعالم الروائي الذي قدمته الكاتبة ما زال مطروحا من دون إجابة.

لا يمكن إنكار أهمية العالم الروائي الذي قدمته الروائية الجزائرية آمال بشيري بمقدرة كبيرة على الخيال والتمكن، لكنها رغم ذلك- كغيرها من الكتاب- وقعت في العديد من الأخطاء التي قد تنفر القارئ، المتذوق للغة، من روايتها؛ الأمر الذي قد يجعله مُنصرفا عن إكمالها، وهو الخطأ الذي دائما ما يقع فيه الكاتب والناشر معا، فإذا لم يكن الكاتب مُتقنا للغته، فالناشر أيضا غير مُهتم بما يقدمه من محتوى ولا يعنيه مُراجعته، ولعلنا لاحظنا أن الكاتبة لا يعنيها مُطلقا الهمزات على طول الرواية؛ الأمر الذي يجعلها تخلط دائما بين همزات القطع، وألف الوصل فنقرأ "بأخر" بدلا من "بآخر"، و"إلا" بدلا من "ألا"، و"الأستوائية" بدلا من "الإستوائية"، و"كآنه" بدلا من "كأنه"، و"إقتنع" بدلا من "اقتنع"، و"اياها" بدلا من "إياها"، و"فتسأل" بدلا من "فتساءل"، وغير ذلك الكثير من مواضع الهمزات التي جاءت خاطئة تماما بشكل مُنفر ومُسيء للغة. كما تكتب الكاتبة "يحرس" بالسين بدلا من "يحرص" بالصاد، كما تخلط في الضمائر فتكتب في موضع "من يديه" بدلا من "من يديها" في قولها: "فكر بأن يخطف إيزابيلا المجنونة من يديه، وأن يجري معها حتى ولو نحو الجحيم"، والصحيح هنا "من يديها"، كما تكتب "اتسعت عينه" بدلا من "اتسعت عيناه" فهو يمتلك عينين اثنتين وليس عينا واحدة، كما تنصب المُفردة التي تلي حرف الجر في قولها: "في يوما" وهو ما لا يمكن تجاوزه، وكتابتها "يسمع شيء" بدلا من "شيئا" فهي هنا مفعول به منصوب، وكتابتها "ذالك" بدلا من "ذلك"، فضلا عن الكثير من أخطاء الرقن أو الكتابة وهو ما يُدلل على أن الرواية لم تهتم دار النشر بمُراجعتها لغويا؛ فرأينا: "الموضى" تقصد بها "الموضة"، و"الهديان" قاصدة "الهذيان"، و"البزلتية" بدلا من "البازلتية"، وغيرها الكثير من الأخطاء التي كان منها كتابتها: "ضغط بيده على أصابع إيزابيلا الطويلة البيضاء"، هنا لا بد لنا كقراء من التوقف دهشة؛ لأن المُؤلفة مُنذ بداية روايتها قد وصفت لنا إيزابيلا باعتبارها خلاسية، وبما أنها خلاسية لا يمكن وصف أصابعها بالبياض مُطلقا، أي أن الرواية لم تتم مُراجعتها.

لكن رغم هذه الأخطاء التي قد تفسد جمال العمل الروائي لا يمكن إنكار امتلاك آمال بشيري للكثير من الخيال الخصب الذي يجعلها تمتلك عالما خاصا لا تشبه فيه غيرها من الروائيين الآخرين، سواء في الجزائر أو المنطقة العربية، وهو ما يجعلها في جل ما قدمته من أعمال إبداعية تنطلق إلى عوالم شديدة الخصوصية تجعلنا نستطيع بسهولة- إذا ما نحينا اسمها من على أي عمل من هذه الأعمال وقرأناه- التأكيد على أن هذه الرواية من كتابتها مما يؤكد امتلاكها أسلوبية روائية، وعوالم تمتلك بصمتها التي تختلف فيها عن غيرها. 

 

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة

عدد يونيو 2022م

 

الاثنين، 13 يونيو 2022

يسري نصر الله: إعادة الصياغة الذاتية للتاريخ

قد يرى البعض أن فيلم "سرقات صيفية" 1988م للمُخرج يسري نصر الله مُجرد فيلم تاريخي يعرض تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بعد ثورة/ الانقلاب العسكري 1952م، لكنه في حقيقته كان فيلما شديد الذاتية يعرض فيه المُخرج أجزاء كبيرة من حياته وسيرته الذاتية، وأثر الثورة وقراراتها الاشتراكية عليه وعلى عائلته؛ ومن ثم طبقته الاجتماعية التي انهارت تماما وتفسخت بسبب هذه القرارات الاشتراكية التي أعلنها عبد الناصر من تأميم مُمتلكات الإقطاعيين وأخذها عنوة باسم الشعب أو الدفاع عن حقوق الفلاحين، أي أن المُخرج أراد من خلال فيلمه الأول إعادة صياغة التاريخ مرة أخرى من خلال وجهة نظره الشخصية، ومن خلال مُعايشته لما حدث بمنظور شديد الذاتية، يخصه وحده كأحد الأشخاص الذين عانوا مما حدث بعد ثورة/ انقلاب 1952م.

لا يمكن إنكار ثقافة المُخرج يسري نصر الله التي لا ينفيها من خلال تقديمه لفيلمه؛ فلقد كتب السيناريو، كما يراه، ومن منظوره الذاتي، ونفذه، كفيلم، كما رأى أو كما عانى مما حدث من سياسات عبد الناصر الاشتراكية.

 حصل نصر الله على بكالوريوس كلية الاقتصاد والعلوم السياسية قسم الإحصاء عام 1976م، وسافر إلى بيروت؛ لمُمارسة النقد السينمائي من خلال جريدة السفير في الفترة من 1978م حتى 1982م، وحينما عاد إلى مصر عمل كمُساعد مُخرج مع المُخرج يوسف شاهين منذ 1982م، كما شارك يوسف شاهين في كتابة فيلمي "الوداع بونابرت" 1985م، و"إسكندرية كمان وكمان" 1990م، وأخرج عام 1995م فيلما تسجيليا بعنوان "صبيان وبنات"، أي أن المُخرج عمل في السينما إلى جوار يوسف شاهين فترة كافية جعلته يفهم آليات صناعة السينما، فضلا عن ثقافته الواسعة، وإلمامه بصناعة السينما من خلال عمله الطويل كناقد سينمائي.


من هنا أقبل نصر الله على تقديم فيلمه الروائي الأول "سرقات صيفية" من خلال تصويره على مقاس 16 مللي، ثم تكبيره فيما بعد إلى 35 مللي من أجل إمكانية عرضه في دور العرض، كما اعتمد على مجموعة من المُمثلين غير المعروفين، وغير النجوم؛ من أجل ضغط نفقات الفيلم والتقليل من ميزانيته، وهو الفيلم الذي تم عرضه الأول في أسبوع المُخرجين في مهرجان "كان" 1988م، ثم استمر عرض الفيلم في العديد من المهرجانات العالمية الأخرى، لكن رغم هذا الاحتفاء العالمي بالفيلم لم يشفع له ذلك في مصر؛ حيث رفض التليفزيون المصري عرضه، مثلا، بدعوى أنه دون المستوى- رغم عدم صحة ذلك- بل لأنه كان ينتقد فترة عبد الناصر الاشتراكية، بل وينتقد الثورة ذاتها، كما أن نهاية الفيلم لم ترق لأحد؛ حينما جعل الفلاح- الذي أُعلنت من أجله قرارات عبد الناصر الاشتراكية- يترك الأرض ويسافر للعمل في العراق في الوقت الذي كانت جثث المصريين هي التي تُستخدم في الحرب العراقية الإيرانية.

إذن، فلقد قدم نصر الله في أولى تجاربه السينمائية فيلما مغضوبا عليه من قبل الجميع؛ بسبب رؤيته الذاتية لثورة 1952م، أو تقديمه لرأيه الشخصي من خلال رؤية فنية في عبد الناصر وفترته السياسية والاقتصادية التي تركت أثرا سلبيا لا يمكن تجاهله على الطبقة الأرستقراطية التي كان ينتمي إليها المُخرج نفسه.

لا يمكن إنكار أهمية الفيلم الذي قدمه المُخرج رغم ذاتيته؛ فهو يعمل على إعادة صياغة هذه الفترة من خلال منظوره الشخصي، ومن خلال المُعاناة التي عانتها الطبقة التي تم تأميم مُمتلكاتها، وكيفية سقوطها وتفسخها؛ بسبب هذه القرارات الجائرة- بالنسبة لهم- أي أن الفيلم يقدم وجهة نظر مُغايرة لما هو سائد، ويحرص على تتبع هذا الوجه الآخر الذي لا نعرف عنه شيئا لحياة هذه الطبقة التي لم يهتم بها أحد، ولم يلتفت الآخرون لأثر هذه القرارات عليها، بل كان الاهتمام الكامل بطبقة الفلاحين وأثر ما حدث عليهم، بينما الطبقة المُتضررة مما حدث لم يلتفت إليها أحد، ومن هنا تأتي أهمية الفيلم الذي يقدم- ربما لأول مرة- الأثر العميق لانهيار هذه الطبقة من خلال ابن من أبنائها كما عايشها ورآها وشعر بها، وأثرت عليه.


يتناول الفيلم العلاقة بين طبقة الإقطاع وبين قرارات ثورة يوليو الاشتراكية؛ فهو سيرة ذاتية للمُخرج تبدأ أحداثها في يوليو 1961م؛ حيث تاريخ القرارات الاشتراكية التي أعلنها الرئيس جمال عبد الناصر وتأثيرها على أسرة الطفل "ياسر" الإقطاعية، وثورتهم على القرارات التي أفقدتهم الكثير من ثرواتهم نتيجة هذا التأميم، في الوقت الذي يرتبط فيه ياسر بصداقة مع الطفل "ليل" الفلاح الفقير، ومع مرور السنوات يضطر ياسر للسفر إلى القاهرة؛ ليتم تعليمه، ثم إلى بيروت للعمل كصحفي هناك، وحينما يعود إلى بلدته يجد بيت العائلة قد تهدم. يلتقي ياسر بصديقه ليل الذي يستعد للسفر إلى العراق للعمل هناك نتيجة للأحداث التي يمر بها البلد، وتمتد هذه الأحداث- كما يكتب المُخرج على الشاشة- حتى عام 1982م.

يؤكد نصر الله على التفسخ الاجتماعي الذي حدث لطبقته بسبب هذه القرارات؛ فنرى الأم تطلب الطلاق، والعمة تُقرر الزواج من رجل سياسي انتهازي مُقرب من السُلطة؛ لعله يُخفف من خسائر العائلة بسبب القرارات الاشتراكية، والجدة تعيش في عالمها الخاص، والخادمة السوداء تفقد عقلها لاتهامها بالسرقة بعدما قضت عمرها تخدم العائلة، وابنة العم "داليا" تُناصر الفلاحين، وتسرق أجهزة الراديو من المنزل؛ لتقديمها إليهم حتى يستمعوا لخُطب عبد الناصر، وترتبط بصداقة حميمة مع "عبد الله" الفلاح الذي تخرج في الكلية الحربية، كذلك الطفل ياسر الذي يقوم بدور المُشاهد والمُتابع لما يدور من حوله والذي يرتبط بصداقته "بليل" ابن الفلاحين، والذي يشهد طلاق أمه، وموت جدته، ويحاول تقليد روبين هود؛ فيسرق الأغنياء ليعطي الفقراء، ولكن يتم القبض على صديقه ليل ذات مرة يقومان فيها بالسرقة، ويقضي عدة ليال في السجن.


هنا يتبين لنا أننا أمام فيلم يريد التأكيد على أن ما حدث في ثورة 1952م من أجل التغيير لصالح الفلاحين لم يكن في صالح أحد على الإطلاق؛ فلا الفلاحون استفادوا مما حدث، بل هجروا الأرض وسافروا للعمل في العراق، ولا الطبقة الإقطاعية استفادت، بل تم تدميرها وتفسخها الاجتماعي بالكامل، بل وأدت هذه القرارات إلى إفلاسهم، ولم يستفد في النهاية مما حدث سوى مجموعة من الوصوليين ممن كان في أيديهم الأمر، أو ممن التحقوا بالكليات الحربية.


لا يمكن لوم المُخرج- سواء كان مع أو ضد الثورة/ الانقلاب- على رؤيته الفنية التي يقدمها هنا؛ لأنه ليس من المطلوب منه أن يكون مع التاريخ الرسمي الذي يتم تصديره للجميع، فهو يقدم رؤيته الفنية من خلال منظوره الشخصي الذي يراه مُفيدا لفيلمه، والأهم بالنسبة لنا في نهاية الأمر هو مدى مقدرة المُخرج على تقديم رؤيته من خلال شكل فني ناجح ومُتماسك أم لا، ونحن هنا لا يمكن لنا إنكار أهمية الفيلم الذي قدمه نصر الله كتجربة روائية أولى في سياق السينما المصرية في فترة الثمانينيات، واعتباره من الأفلام التي أضافت للتاريخ السينمائي سواء على المستوى الجمالي، أو من حيث الفكرة؛ ومن ثم يكون نصر الله من المُخرجين الذين ساهموا في صناعة سينما جيدة في فترة هي من أسوأ الفترات في تاريخ السينما المصرية؛ حيث كان المُنتج السعودي هو المُسيطر على مقدرات صناعة السينما في مصر، وهو الذي يعمل على توجيهها من خلال رأس المال المُتحكم في صناعة السينما؛ الأمر الذي جعل نصر الله يعمل على الهروب من هذا المُنتج المُسيطر على كل شيء؛ وبالتالي كان إنتاج الفيلم بعيدا عن الحلقة الضيقة المُتحكمة في سوق الإنتاج السينمائي المصري الذي مال إلى ما أُطلق عليه بسينما المقاولات.

 

محمود الغيطاني 

مجلة نقد 21.

عدد يونيو 2022م.

 من الجزء الثاني من كتاب "صناعة الصخب: ستون عاما من تاريخ السينما المصرية 1959- 2019م" للمُؤلف