الاثنين، 13 يونيو 2022

يسري نصر الله: إعادة الصياغة الذاتية للتاريخ

قد يرى البعض أن فيلم "سرقات صيفية" 1988م للمُخرج يسري نصر الله مُجرد فيلم تاريخي يعرض تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بعد ثورة/ الانقلاب العسكري 1952م، لكنه في حقيقته كان فيلما شديد الذاتية يعرض فيه المُخرج أجزاء كبيرة من حياته وسيرته الذاتية، وأثر الثورة وقراراتها الاشتراكية عليه وعلى عائلته؛ ومن ثم طبقته الاجتماعية التي انهارت تماما وتفسخت بسبب هذه القرارات الاشتراكية التي أعلنها عبد الناصر من تأميم مُمتلكات الإقطاعيين وأخذها عنوة باسم الشعب أو الدفاع عن حقوق الفلاحين، أي أن المُخرج أراد من خلال فيلمه الأول إعادة صياغة التاريخ مرة أخرى من خلال وجهة نظره الشخصية، ومن خلال مُعايشته لما حدث بمنظور شديد الذاتية، يخصه وحده كأحد الأشخاص الذين عانوا مما حدث بعد ثورة/ انقلاب 1952م.

لا يمكن إنكار ثقافة المُخرج يسري نصر الله التي لا ينفيها من خلال تقديمه لفيلمه؛ فلقد كتب السيناريو، كما يراه، ومن منظوره الذاتي، ونفذه، كفيلم، كما رأى أو كما عانى مما حدث من سياسات عبد الناصر الاشتراكية.

 حصل نصر الله على بكالوريوس كلية الاقتصاد والعلوم السياسية قسم الإحصاء عام 1976م، وسافر إلى بيروت؛ لمُمارسة النقد السينمائي من خلال جريدة السفير في الفترة من 1978م حتى 1982م، وحينما عاد إلى مصر عمل كمُساعد مُخرج مع المُخرج يوسف شاهين منذ 1982م، كما شارك يوسف شاهين في كتابة فيلمي "الوداع بونابرت" 1985م، و"إسكندرية كمان وكمان" 1990م، وأخرج عام 1995م فيلما تسجيليا بعنوان "صبيان وبنات"، أي أن المُخرج عمل في السينما إلى جوار يوسف شاهين فترة كافية جعلته يفهم آليات صناعة السينما، فضلا عن ثقافته الواسعة، وإلمامه بصناعة السينما من خلال عمله الطويل كناقد سينمائي.


من هنا أقبل نصر الله على تقديم فيلمه الروائي الأول "سرقات صيفية" من خلال تصويره على مقاس 16 مللي، ثم تكبيره فيما بعد إلى 35 مللي من أجل إمكانية عرضه في دور العرض، كما اعتمد على مجموعة من المُمثلين غير المعروفين، وغير النجوم؛ من أجل ضغط نفقات الفيلم والتقليل من ميزانيته، وهو الفيلم الذي تم عرضه الأول في أسبوع المُخرجين في مهرجان "كان" 1988م، ثم استمر عرض الفيلم في العديد من المهرجانات العالمية الأخرى، لكن رغم هذا الاحتفاء العالمي بالفيلم لم يشفع له ذلك في مصر؛ حيث رفض التليفزيون المصري عرضه، مثلا، بدعوى أنه دون المستوى- رغم عدم صحة ذلك- بل لأنه كان ينتقد فترة عبد الناصر الاشتراكية، بل وينتقد الثورة ذاتها، كما أن نهاية الفيلم لم ترق لأحد؛ حينما جعل الفلاح- الذي أُعلنت من أجله قرارات عبد الناصر الاشتراكية- يترك الأرض ويسافر للعمل في العراق في الوقت الذي كانت جثث المصريين هي التي تُستخدم في الحرب العراقية الإيرانية.

إذن، فلقد قدم نصر الله في أولى تجاربه السينمائية فيلما مغضوبا عليه من قبل الجميع؛ بسبب رؤيته الذاتية لثورة 1952م، أو تقديمه لرأيه الشخصي من خلال رؤية فنية في عبد الناصر وفترته السياسية والاقتصادية التي تركت أثرا سلبيا لا يمكن تجاهله على الطبقة الأرستقراطية التي كان ينتمي إليها المُخرج نفسه.

لا يمكن إنكار أهمية الفيلم الذي قدمه المُخرج رغم ذاتيته؛ فهو يعمل على إعادة صياغة هذه الفترة من خلال منظوره الشخصي، ومن خلال المُعاناة التي عانتها الطبقة التي تم تأميم مُمتلكاتها، وكيفية سقوطها وتفسخها؛ بسبب هذه القرارات الجائرة- بالنسبة لهم- أي أن الفيلم يقدم وجهة نظر مُغايرة لما هو سائد، ويحرص على تتبع هذا الوجه الآخر الذي لا نعرف عنه شيئا لحياة هذه الطبقة التي لم يهتم بها أحد، ولم يلتفت الآخرون لأثر هذه القرارات عليها، بل كان الاهتمام الكامل بطبقة الفلاحين وأثر ما حدث عليهم، بينما الطبقة المُتضررة مما حدث لم يلتفت إليها أحد، ومن هنا تأتي أهمية الفيلم الذي يقدم- ربما لأول مرة- الأثر العميق لانهيار هذه الطبقة من خلال ابن من أبنائها كما عايشها ورآها وشعر بها، وأثرت عليه.


يتناول الفيلم العلاقة بين طبقة الإقطاع وبين قرارات ثورة يوليو الاشتراكية؛ فهو سيرة ذاتية للمُخرج تبدأ أحداثها في يوليو 1961م؛ حيث تاريخ القرارات الاشتراكية التي أعلنها الرئيس جمال عبد الناصر وتأثيرها على أسرة الطفل "ياسر" الإقطاعية، وثورتهم على القرارات التي أفقدتهم الكثير من ثرواتهم نتيجة هذا التأميم، في الوقت الذي يرتبط فيه ياسر بصداقة مع الطفل "ليل" الفلاح الفقير، ومع مرور السنوات يضطر ياسر للسفر إلى القاهرة؛ ليتم تعليمه، ثم إلى بيروت للعمل كصحفي هناك، وحينما يعود إلى بلدته يجد بيت العائلة قد تهدم. يلتقي ياسر بصديقه ليل الذي يستعد للسفر إلى العراق للعمل هناك نتيجة للأحداث التي يمر بها البلد، وتمتد هذه الأحداث- كما يكتب المُخرج على الشاشة- حتى عام 1982م.

يؤكد نصر الله على التفسخ الاجتماعي الذي حدث لطبقته بسبب هذه القرارات؛ فنرى الأم تطلب الطلاق، والعمة تُقرر الزواج من رجل سياسي انتهازي مُقرب من السُلطة؛ لعله يُخفف من خسائر العائلة بسبب القرارات الاشتراكية، والجدة تعيش في عالمها الخاص، والخادمة السوداء تفقد عقلها لاتهامها بالسرقة بعدما قضت عمرها تخدم العائلة، وابنة العم "داليا" تُناصر الفلاحين، وتسرق أجهزة الراديو من المنزل؛ لتقديمها إليهم حتى يستمعوا لخُطب عبد الناصر، وترتبط بصداقة حميمة مع "عبد الله" الفلاح الذي تخرج في الكلية الحربية، كذلك الطفل ياسر الذي يقوم بدور المُشاهد والمُتابع لما يدور من حوله والذي يرتبط بصداقته "بليل" ابن الفلاحين، والذي يشهد طلاق أمه، وموت جدته، ويحاول تقليد روبين هود؛ فيسرق الأغنياء ليعطي الفقراء، ولكن يتم القبض على صديقه ليل ذات مرة يقومان فيها بالسرقة، ويقضي عدة ليال في السجن.


هنا يتبين لنا أننا أمام فيلم يريد التأكيد على أن ما حدث في ثورة 1952م من أجل التغيير لصالح الفلاحين لم يكن في صالح أحد على الإطلاق؛ فلا الفلاحون استفادوا مما حدث، بل هجروا الأرض وسافروا للعمل في العراق، ولا الطبقة الإقطاعية استفادت، بل تم تدميرها وتفسخها الاجتماعي بالكامل، بل وأدت هذه القرارات إلى إفلاسهم، ولم يستفد في النهاية مما حدث سوى مجموعة من الوصوليين ممن كان في أيديهم الأمر، أو ممن التحقوا بالكليات الحربية.


لا يمكن لوم المُخرج- سواء كان مع أو ضد الثورة/ الانقلاب- على رؤيته الفنية التي يقدمها هنا؛ لأنه ليس من المطلوب منه أن يكون مع التاريخ الرسمي الذي يتم تصديره للجميع، فهو يقدم رؤيته الفنية من خلال منظوره الشخصي الذي يراه مُفيدا لفيلمه، والأهم بالنسبة لنا في نهاية الأمر هو مدى مقدرة المُخرج على تقديم رؤيته من خلال شكل فني ناجح ومُتماسك أم لا، ونحن هنا لا يمكن لنا إنكار أهمية الفيلم الذي قدمه نصر الله كتجربة روائية أولى في سياق السينما المصرية في فترة الثمانينيات، واعتباره من الأفلام التي أضافت للتاريخ السينمائي سواء على المستوى الجمالي، أو من حيث الفكرة؛ ومن ثم يكون نصر الله من المُخرجين الذين ساهموا في صناعة سينما جيدة في فترة هي من أسوأ الفترات في تاريخ السينما المصرية؛ حيث كان المُنتج السعودي هو المُسيطر على مقدرات صناعة السينما في مصر، وهو الذي يعمل على توجيهها من خلال رأس المال المُتحكم في صناعة السينما؛ الأمر الذي جعل نصر الله يعمل على الهروب من هذا المُنتج المُسيطر على كل شيء؛ وبالتالي كان إنتاج الفيلم بعيدا عن الحلقة الضيقة المُتحكمة في سوق الإنتاج السينمائي المصري الذي مال إلى ما أُطلق عليه بسينما المقاولات.

 

محمود الغيطاني 

مجلة نقد 21.

عدد يونيو 2022م.

 من الجزء الثاني من كتاب "صناعة الصخب: ستون عاما من تاريخ السينما المصرية 1959- 2019م" للمُؤلف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق