الجمعة، 7 مايو 2021

سلالم ترولار.. زوال دولة الآلهة!

في محاولة للتملص من الإرث الثقافي الجزائري المُسيطر على مُعظم الكتّاب الجزائريين، وغيرهم من صُناع السينما، والنسبة الأكبر ممن يمارسون الفن في الجزائر؛ يتناول الروائي الجزائري سمير قسيمي هذا الإرث عاملا على تفكيكه، والسخرية منه، وانتقاده بقسوة فنية- تبتعد عن المُباشرة- إمعانا في تأمل الذات؛ ليهدمه في نهاية الأمر، لكنه لا يصنع من هدمه نهاية سعيدة بقدر ما تسيطر على هذه النهاية روح تشاؤمية لما هو آت بعد زوال هذه الثقافة التي سادت منذ تحرر الجزائر من الاستيطان الفرنسي حتى اليوم، حتى لكأنما كل ما هو جديد بات مُجرد صورة أكثر تشوها مما كان عليه الأمر فيما قبل!

هذا الموروث الذي نراه في الجزء الأكبر من الأدبيات والفنون الجزائرية التي لا تستطيع الخروج من أسر الدوران في فلك  الماضي، والشهداء، والنضال، والبلد الذي قدم مليون ونصف المليون من الشهداء، وهو الموروث الذي ما زال مُعظم الجزائريين يتغنون به غير قادرين على الثورة عليه، أو التملص منه؛ مما أدى إلى الكثير من فساد الحُكم، والفساد السياسي، والثقافي، والاقتصادي الذي تعيشه الجزائر، هو ما وضعه قسيمي نصب عينيه منذ الصفحات الأولى من روايته التي صاغها بحبكة وروية وذكاء فني جعلها شديدة التماسك، والتداخل في أحداثها، والتشعب في عوالمها؛ الأمر الذي جعل بنائها، كرواية، يكاد أن يكون مثاليا، مُبتعدا بها عن المُباشرة والتقريرية التي كان من المُمكن لها أن تسقط فيها حين تناوله مثل هذه القضايا.

يبدأ قسيمي روايته بشكل فيه الكثير من المهارة والذكاء الفني- اللذين قد ينجحا في إيهام القارئ- حينما نقرأ رسالة إليكترونية، في الصفحة الأولى، من أحد الناشرين إلى روائي يتعامل معه، ونعرف أن هذا الروائي قد انتهى من رواية جديدة له ودفع بها إلى الناشر، ورغم اعتزاز الناشر بالتعاون مع هذا الروائي في أكثر من عمل سابق له إلا أنه غير مُتحمس لنشر عمله الأخير الذي يرى فيه تعقيدا وابتعادا عن الثقافة السائدة في الوقت الحالي، بل وينصحه بعدم نشر الرواية؛ لأنها لن تكون في صالحه في نهاية الأمر.

لعل قسيمي من خلال هذه الرواية يحرص على انتقاد الوضع الثقافي الراهن الذي نعيش فيه في جميع بلدان المنطقة العربية، وهو الوضع الذي يعمل على تسييد البلاهة والسطحية والسذاجة والاستهانة بالفن الحقيقي في مُقابل الفراغ الذي يراه الآخرون هو الفن النموذجي في الفترة الحالية؛ لذلك نقرأ في رسالة الناشر: "هل يمكن أن أكون صريحا أكثر؟ أعتقد أنني أدين لك بذلك، ولا يجب أن أكبح نفسي مُجددا وأنا أرى أنك تُضيع ما أنجزته سابقا، لتخوض هذه التجارب من الكتابة المُفككة. ما حاجتك لهذا الخيال كله؟ أنت تملك لغة جميلة، وأسلوبا مُدهشا، والأهم أن لديك قراء في العالم كلهم متشوقون لقراءة جديدك بعد أن مضى وقت لم تنشر فيه شيئا. بمقدورك أن تكتب ما يحب الناس قراءته بسرعة وبمُتعة. صدقني، لا أحد يملك وقتا للتركيز على ألغازك المُتشابكة. اكتب عن الحُب مثلا، يحب القراء هذا النوع من الكُتب، عشيقان يرويان قصة حبهما المُستحيلة. اكتب عن الجنس، هذا موضوع يحب الناس تناوله، وإن ادّعوا عكس ذلك. تخيل رواية إيروتيكية تكسر بها المتوقع؛ فقد سبق أن قرأنا لك مشاهد مُثيرة في الجنس لم يُكتب مثلها. أنت تملك هذه القدرة في جعل قرائك ينصهرون مع ما تصف من تخيلات جنسية لذيذة"!

مع تأمل الاقتباس السابق من رسالة الناشر للروائي نُلاحظ قسوة النقد الثقافي وسخريته الذي يلجأ إليه قسيمي بشكل غير مُباشر؛ فبدا لنا الأمر غير مُصطنع، بل جاء بنحو تلقائي شديد الانسيابية رغم أن الروائي هنا يتعمد هذا الشكل النقدي، وإن كان قد قدمه بشكل فني؛ فالناشر اليوم يسعى إلى تسليع الفن/ الأدب باعتباره تاجرا يسعى إلى الربح في المقام الأول- وهذا ما لا يمكن إنكاره على أي ناشر؛ فهو في الأساس ينشر من أجل الربح الذي لا يمكن له الاستمرار من دونه- لكن قسيمي هنا يعمل على تأمل علاقة الكاتب بالناشر في العالم الواقعي الآني، وهي العلاقة التي يسعى فيها الناشر إلى الانخفاض بمستوى الأدب إلى مستوى القارئ الغوغائي، وهو ما يجعل الناشرين يقبلون على ما هو ردئ من أجل تسويقه بسهولة، وكلما انخفض المستوى الثقافي للقارئ، كلما انخفض، بالضرورة، سقف الجودة الفنية بالنسبة للناشر، ولعل ذلك كان واضحا من تساؤله "ما حاجتك لهذا الخيال كله"!

إن الناشر هنا يتساءل مُستنكرا ما حاجة الروائي لكل هذا الخيال رغم أن الخيال هو المُرتكز الأساس الذي تنبني عليه عملية الكتابة، ومن دونه لا يمكن لها أن تقوم، أي أن سؤال الناشر هنا في حد ذاته يستحيل سؤالا مُدهشا، كما لا يفوتنا نصيحته للروائي باللجوء إلى كتابة ما يرغب فيه القراء من قصص الحُب، و قصص الجنس، والابتعاد عن الأعمال الروائية التي يدعوها "بالألغاز المُتشابكة"!

يمتلك قسيمي قدرا من الخيال الثري واللافت الذي قد يؤدي بالقارئ إلى الالتباس في بداية الأمر، لكنه مع الاستمرار في مُتابعة الرواية سيزول التباسه ليتبين له أن الروائي قد لجأ- من خلال خياله- إلى العديد من الحيل الفنية المقصود بها مثل هذا الالتباس؛ لتزداد مُتعة قراءة العمل الفني الذي يبنيه الكاتب بروية وانتباه. نلاحظ هذا في الصفحة التالية مُباشرة لرسالة الناشر للروائي؛ حيث يرسل الروائي رسالة إليكترونية يقول فيها: "ما الذي يحدث معك؟ هذا عاشر إيميل أرسله إليك ولا ترد. أدرك أنك غاضب؛ لتخلفي عما اتفقنا عليه في البداية، ولكن الكتابة، كما تعلم، لا مواعيد لها. أجب على الهاتف، على الأقل لأطمئن. إنه نص مُمتع، ستحبه. أتمنى أنني بمُجرد أن أضع له عنوانا تكون قد فتحت هاتفك. محبتي. سمير قسيمي"!

إن كتابة قسيمي لهذه الرسالة التي كانت تالية مُباشرة لرسالة الناشر للروائي تجعل القارئ في حالة حقيقية من الالتباس، وهو ما سيجعلنا نظن أن هذه الرسالة موجهة إلى الناشر الذي يعمل على تجاهل الكاتب، كما سيزداد الالتباس حينما نقرأ توقيع سمير قسيمي في نهايتها؛ مما يجعلنا نظن أن هذا الأمر قد حدث بالفعل مع قسيمي الروائي، وأنه ينقل خبرته مع أحد ناشريه، أو أنه يتحدث عن نفسه، لكن مثل هذا الالتباس- الذي سيظل معنا حتى نهاية الرواية- سيزول رويدا مع الاستمرار في القراءة إلى أن ينتهي تماما في الصفحات الأخيرة منها؛ ففي الفصل الذي كتبه الروائي باسم "الكاتب" نقرأ: "كان رجل الشُرفة كاتبا. ومع أنه كذلك، فلم يكن يحمل أي اسم رأى أنه يصلح ليُكتب على غلاف أي كتاب يمكن أن يُنشر، فقبل أعوام حين هم بنشر أول كتبه، تخير له اسما عثر عليه بالصدفة في كتاب كان قد اشتراه من بائع كُتب قديمة. كان هذا الاسم مكتوبا بقلم رصاص على صفحة بيضاء، تفصل بين فصلين منه. رن في أذنه وهو يُبلل شفتيه به أول مرة. فقد بدا له أنه اسم أدبي يستحق أن يوقع به كتبه. غير أن الذي شده إليه كان أمرا مُغايرا تماما، ففي تلك الصفحة البيضاء، وقبل أن يقرأ الاسم، وقعت عيناه على مُلاحظة كُتبت بالقلم الرصاص نفسه، بالخط الردئ نفسه: "ظاهر أن هذا الكاتب تعلم الكتابة في مرحاض"".

إذن، فنحن نعرف هنا أن الكاتب داخل الرواية، لم يهتم يوما بنشر أعماله الروائية باسمه، بل كان ينشرها باسم رجل آخر عثر على اسمه بين دفتي كتاب بالمُصادفة البحتة، وهو الرجل الذي بحث عنه الروائي إلى أن توصل إليه وعقد معه اتفاقا بأن يقوم هو بكتابة الأعمال الروائية، ويقوم بنشرها باسم الرجل، كما وعده بأنه يسلمه كل عام رواية جديدة: "فكر في البداية في الوظائف الصغيرة كلها التي قد يشغلها رجل يتوهم الإبداع من غير أن يبدع. فالحماقة التي حُررت بها تلك الجملة جعلت الكاتب مُتيقنا بأن صاحبها أكثر حماقة، وأنه أكثر إغراقا في وهم أنه كاتب عظيم تحالفت ضده الصُدف أو الأقدار لتغمر موهبته. كان هذا سببا كافيا للبحث عنه على أمل أن يقبل بمُهمة واحدة فقط يوكلها إليه الكاتب، وهي أن يصبح كاتبا من غير أن يكتب شيئا".

من هنا سيتبين لنا مع الاستمرار في الأحداث، وحينما نعرف أن صاحب الاسم قد نال من الشُهرة الكبيرة ما لم ينلها الكاتب باعتباره روائيا مُهما، أن الكاتب داخل الرواية قد بعث هذه الرسالة إلى صاحب الاسم وليس إلى ناشره بعد عامين من توقفه عن كتابة الجديد من الروايات، ولعل هذا هو السبب في غضب صاحب الاسم منه ومُقاطعته له، وإهماله رسائل الروائي. يبقى هنا ختام الرسالة وتوقيعها باسم سمير قسيمي وهو اسم الروائي الجزائري الذي كتب الرواية في الواقع.

إن قسيمي هنا يحرص على التداخل والتماهي بين عالمه الواقعي وعالمه الروائي الخيالي؛ فيدخل نفسه داخل إطار روايته بشكل فني لا يمكن للقارئ أن ينتبه إليه إلا في الصفحة الأخيرة من الرواية حينما يشعر الروائي داخل الرواية باليأس من العثور على صاحب الاسم الذي اختفى ولم يعد يرد على الرسائل، وبعدما انتابت الكاتب رغبة في أن ينشر روايته الجديدة باسمه نفسه؛ فنقرأ: "محا اسم الرجل صاحب اسمه، وكتب مكانه اسمه وهو ينظر إليه لأول مرة في بداية كتاب، لم يعتقد أن بمقدوره كتابته بهذه الطريقة. وفجأة، وكأن أحدا همس إليه في أذنه، تحركت أصابعه على لوحة المفاتيح، وكتب عنوان روايته أخيرا. في النهاية، اتكأ الكاتب على كرسيه، وباعد بين وجهه وشاشة حاسوبه، وقرأ ما على الصفحة الأولى مُحدثا نفسه بمثل ما كان يتفوه به جمال حميدي: "انتابني شعور غامض بحدوث ذلك". ضحك بمُجرد أن انتهى في رأسه من قول هذه الجملة وهو مُدرك أنه لم يهمس لنفسه بها إلا لأنه استمتع بروايته على نحو لم يضاهه إلا استمتاعه بقراءة الصفحة الأولى من كتابه. وكانت السادسة صباحا حين أغمض الكاتب عينيه ليكون آخر ما يرى شاشة حاسوبه مفتوحة على ما صنع بهجته قبل أن يغط في النوم. قرأ وجفناه يطبقان:"، ثم نشاهد بعد انتهاء هذه الفقرة الختامية مُباشرة غلاف رواية "سلالم ترولار" التي نقرأها بالفعل بتوقيع سمير قسيمي.

إن قسيمي هنا يمارس لعبة الفن المُمتعة، وهي اللعبة التي توهم القارئ، وتجعل الأحداث مُلتبسة في ذهنه، ولا يمكن له التوصل إلى حقيقتها، أي أن الأحداث تمسي غير يقينية طوال الوقت إلى أن ينتهي العمل الروائي الذي يزداد التباسه حينما يدخل قسيمي نفسه في سياج الرواية مُتماهيا معها باعتباره هو الكاتب الذي كان يحدثنا عنه منذ البداية؛ لنفهم سبب توقيع الرسالة في بداية العمل الروائي باسم سمير قسيمي، لكن هذا الإدراك يعمل الكاتب على تأخيره لحين كتابته جملته الأخيرة من روايته؛ مما يجعل القارئ يعود مرة أخرى إلى بداية العمل ليقرأ رسالة الكاتب التي ظنها في البداية أنها موجهة للناشر، وليفهم لِمَ كانت موقعة باسم قسيمي.

إن انتقاد الحالة الثقافية الجزائرية- التي لا تختلف كثيرا عن الحالة الثقافية في المنطقة العربية بأكملها- لا تتوقف على ما رأيناه في علاقة الناشر بالكاتب فقط، بل يمعن قسيمي بقسوة في السخرية من هذه الحالة المُتداعية حينما يكتب: "في الصورة الكاملة، تلك التي لم يكن بمقدور جمال حميدي رؤيتها، كانت أولغا تشبه أنثى وحيد قرن بيضاء، بمؤخرة بحجم طاولة بلياردو، وبصدر ضخم مُتدل كعنقود عنب، وكان رأسها كبيرا بجبهة عريضة، وبعينين صغيرتين بلا رموش تقريبا، أما حاجباها، فكانا متصلين يشبهان في الشكل جناحي طائر، ومع ذلك، كانت أولغا، على الرغم من بشاعتها، أكثر جمالا من تلك النصوص التي اعتادت أن تجلد بها ظهر الشعر، ولكنها لم تكن لتدرك ذلك بسبب أن لوثة غريبة أصابت ذائقة الناس في ذلك الزمن، بحيث صارت كل "محمحة" أو "أحأحة" قصيدة شعر رائعة إذا خرجت من فم أنثى". إن هذا الاقتباس الانتقادي الذي يسوقه الروائي بسلاسة بين طيات نصه يؤكد به مدى سخريته من الوضع الثقافي الراهن في المنطقة العربية بالكامل، وليس في الجزائر فقط، وهو ما يعود للتأكيد عليه بقوله: "ومثلما لم تطلعه على مرضها، لم تجد حاجة لإخباره أن "أولغا" اسم سبق أن خاطبها به كاتب كبير، كان أول من اكتشف موهبتها غير الموجودة أصلا، وأول من أدخلها عالم النساء وهي في العشرين من العُمر. فقد كان كاتبا يفهم في الكتابة والنساء على حد سواء، تماما ككل كتاب ذلك الزمن الذي أصبحت فيه الموهبة مُجرد قرار يتخذه المرء ليصبح موهوبا"!

إذن، فقسيمي هنا يمعن في سخريته وانتقاده لما يدور حوله، محاولا بث هذه السخرية الانتقادية بين ثنايا نصه بتلقائية تبتعد بالنص عن المُباشرة والسطحية لتضحى من نسيج النص الروائي الذي لا يمكن لنا الاستغناء عنه.

يتناول سمير قسيمي، في روايته، المُجتمع الجزائري بالكامل بنظرة تكاد أن تكون بانورامية؛ فيتوجه بالنقد والسُخرية للحال الثقافي، والبناء الاجتماعي، والسياسي، والتاريخي، بل والميثولوجي أيضا، عاصفا بكل هذه الأبنية، ضاربا بها عرض الحائط، عاملا على تدميرها وتفكيكها وتشظيها لإعادة بنائها بمنظور آخر جديد ومُخالف لما تم الاعتياد عليه في الجزائر، وهو بهذا الفعل يضع نفسه في مُقدمة عاصفة عاتية، مواجها لها بجسارة، غير خائف من تداعيات الأمر، وهو يتناول هذه الأمور من خلال العديد من الشخصيات وحكاياتهم المُتداخلة، المُتشعبة بشكل يحتاج من القارئ الكثير من التركيز، ويحتاج منه- ككاتب- بدوره إلى الكثير من اليقظة والدربة والمهارة؛ نتيجة تشعب الحكايات وتداخلها، وعدم اكتمالها وظهورها بشكلها الأكمل إلا باكتمال حكايات أخرى لا بد منها تجعله يترك الكثير من هذه الحكايات مفتوحة وغير مُكتملة لحين سرد حكاية أخرى تعمل على إكمال الحكايات السابقة عليها نتيجة التداخل بين العوالم وتشابكها بشخصياتها وأحداثها.

اعتمد الروائي في ذلك على شخصية الكاتب/ الروائي داخل الرواية، وهو الذي لم يحدد له اسما طوال أحداث الرواية سوى بوصفه أنه كاتب، وجمال حميدي، نقيب البوابين، المُصاب بالشلل والعجز الجنسي، وصديقه البواب إبراهيم بافولولو، وزميلهما موح بوخنونة، وأولغا زوجة جمال حميدي، والمتسول عصام كاشكاصي ووالد أولغا الحقيقي، والرجل الضئيل الذي يصنع العوالم الموازية المُخالفة للعوالم الواقعية، وابنته التي هي في نفس الوقت سكرتيرته وأم أولغا الحقيقية، وصاحب اسمه الذي يكتب الكاتب رواياته باسمه. كل هذه الشخصيات يربطها في الأساس إطار جغرافي مُحدد وضيق في وسط العاصمة الجزائرية حول سلالم ترولار.

من خلال هذه الشخصيات الهامشية على المستوى الاجتماعي- فيما عدا الرجل الضئيل- يصوغ قسيمي عالمه الروائي الشديد التشابك والتداخل؛ حتى أننا مع انتهائنا من قراءة الرواية سيتبين لنا أنه رغم تباعد عوالم هذه الشخصيات وحيواتها عن بعضها البعض فهي شديدة الاشتباك والتماهي والتداخل بشكل لا تعلمه الشخصيات نفسها، لكن كل منها يؤثر في حياة الآخر بشكل لا يمكن أن يتخيله الآخر.

يمتلك قسيمي الكثير من المهارة في بناء عمله الروائي كبناء ماهر؛ حتى أنه يبدأ أحداث روايته بجمال حميدي/ نقيب البوابين، واستيقاظه من نومه بعد ليلة سُكر طويلة احتفل فيها بعيد ميلاده الذي لا يأتي سوى كل أربع سنوات نتيجة ولادته في التاسع والعشرين من فبراير، لكن سمير لا يلبث أن يتناساه مُتعمدا ليتابع الشخصيات المُحيطة به وتاريخها واحدة بعد الأخرى؛ ليبني عالمه بشكل مُتكامل، ثم لا يلبث أن يعود إليه مرة أخرى بعد مرور العشرات من الصفحات عند نفس اللحظة التي تركه فيها عندها في الفصل السادس، حتى لكأنه قد جمد به الزمن طول هذه الصفحات لحين العودة إليه مرة أخرى.

هذا الأسلوب في نسج الأحداث يؤكد أن الكاتب لديه المقدرة على امتلاك خيوط عالمه الذي ينسجه بمهاره، وإن كان قد ساعده في ذلك أسلوبيته في السرد، وهي الأسلوبية التي تعمل طوال الوقت على كسر الإيهام بينها وبين القارئ بشكل فيه الكثير من النضج والفنية، ولعل كسر هذه الأسلوبية تتضح لنا في قوله: "قبل أن يخرج من الغرفة لفحته نسائم هواء، لم يفهم من أين أتت. كان مُتأكدا من أنه أغلق شبابيك ونوافذ شقته كلها قبل أن يغط في النوم. وإذ ذاك، قرر بعد أن استحالت عليه الرؤية أن يُشغل مصباح الغرفة. وما كاد أن يفعل حتى تملكته الدهشة. فلسبب لن يشرحه الكاتب طوال هذه القصة، ولن يحاول التمهيد له، اكتشف جمال حميدي بمُجرد ضغطة على زر الإضاءة أن نافذة غرفة نومه وبابها اختفيا"!

ربما تتضح لنا هنا أسلوبيته في كسر الإيهام طوال روايته من هذا الاقتباس، ولنلاحظ قوله: "فلسبب لن يشرحه الكاتب طوال هذه القصة، ولن يحاول التمهيد له" ليتأكد لنا ذلك، وهو ما استخدمه أكثر من مرة على طول روايته بأشكال مُختلفة، كما أن لجوء قسيمي إلى هذا الأسلوب الذي يعفيه من تبرير أحداث غرائبية ولاواقعية يجعله مُمعنا في الخيال والمقدرة على سوق أحداث لا مُبرر لها، لكنها ذات ضرورة في اكتمال الحدث الروائي بشكل كامل، أي أنه اعتمد على حادث اختفاء الأبواب والنوافذ في الجزائر بالكامل لتستمر روايته التي ما كان لها أن تستمر لولا هذا الحدث الغريب والمحوري، ورغم أن النوافذ والأبواب ستعود فيما بعد- قرب نهاية العمل الروائي- إلا أنه لن يحاول تبرير السبب في عودتها مرة أخرى كذلك، وإن كان سيترك الأمر في إطار الظن والترجيح.

سنعرف أن جمال حميدي قد تولى نقابة البوابين لمدة خمس عشرة سنة، وهي مدة طويلة لم ينافسه فيها أحد من دون سبب مفهوم، كما أنه كان متزوجا من حورية التي أسماها أولغا بعد زواجه منها، وهي ابنة زميله البواب إبراهيم بافولولو الذي لا يحبه وإن كان يحافظ على علاقته به لمُجرد أنه زوج ابنته، كما أن أولغا قد هجرته بعد إصابته بالعجز الجنسي وتركته وحيدا، وإن لم يفقد مهابته في عالم البوابين، كما سنعرف أن أولغا بعدما هجرت زوجها عادت للحياة مع أبيها إبراهيم بافولولو الذي سيموت ويأخذه أقربائه من أتباع الإباضية من أجل دفنه ويمنعونها من الذهاب معهم لأنها ليست ابنته في حقيقة الأمر، بل تبناها بافولولو وهي ما زالت رضيعة، ومع الاستمرار في القراءة سيتبين لنا أنها ابنة إحدى السيدات التي قابلت أحد الرجال بالصدفة، ولثورة ما في هرموناتها، ولرغبة من الرجل في المرأة فقد حدث بينهما لقاء جنسي كانت أولغا هي ثمرته، ولأن الرجل اختفي من حياة المرأة، ولأنها خافت من الفضيحة ولضغط من أبيها تخلصت من المولودة التي وصلت في النهاية لبافولولو. يسكن الكاتب في الشقة المقابلة من شقة إبراهيم بافولولو بجوار سلالم ترولار في وسط العاصمة الجزائرية، وثمة متسول يدعى عصام كاشكاصي يعيش على فضلات القمامة في نفس المنطقة أسفل شقة الكاتب، وشقة والد أولغا، وكثيرا ما تأمل هذا المتسول لأولغا أثناء إطلالها من شرفتها شاعرا تجاهها بمشاعر لا يتبين حقيقتها، كما أنه كثيرا ما يشير إلى الكاتب كي يقذف له إحدى سجائره، وهو ما كان يستجيب له الكاتب بالفعل؛ مما جعل عصام يشعر تجاهه بالكثير من الامتنان، لكننا مع الاستمرار أيضا سنعرف أن عصام كاشكاصي هو الأب الحقيقي لأولغا، وأن أمها هي سكرتيرة الرجل الضئيل، وهو الرجل الغامض في سُدة النظام الحاكم في الجزائر الذي يمتلك خيوط كل شيء بين يديه؛ فهو الذي يخطط دائما لعوالم أخرى موازية للعالم الواقعي كي يخادع الحكام بها المواطنين الجزائريين، ويوهمونهم بالكثير من الأوهام التي لا علاقة لها بالحقيقة، وهي الذي يدرب جميع الشخصيات السيادية في الحُكم على أن يكونوا حُكاما، ورغم ذلك فهو يعيش دائما في الظل، ولا يعرف عنه أحد أي شيء رغم قوته ومقدرته على تحريك خيوط كل شيء في الجزائر. وسنعرف أنه كان قد خطط لقتل عصام كاشكاصي، ولولا أن ابنته قد عملت على حمايته من القتل لكان قد انتهى أمره، ولكن الرجل الضئيل قد أفسد عليه حياته بالكامل وجعله يعيش حياة كالجحيم، وهي الحياة التي تجعل أي شخص يتمنى الموت على أن يعيشها.

هذه الشخصيات جميعها تعيش في نطاق جغرافي واحد وضيق، ورغم أنها تبدو من الناحية الشكلية وكأنها لا علاقة لها ببعضها البعض، إلا أنها تتماس وتتداخل حيواتها بشكل لا يمكن فيه أن نفصلها عن بعضها البعض.

إن اعتماد الروائي هنا على حيلة اختفاء الأبواب والنوافذ يمنح الرواية السبب في حيويتها وتحركها إلى الأمام، بل ويمنحه المقدرة على تأمل حال المُجتمع الجزائري وبنيانه المُهترئ رغم تماسكه ظاهريا، وهو ما يؤدي إلى هروب الحُكام الذين وصفهم الروائي بالآلهة إلى خارج الدولة خوفا من هجوم المواطنين عليهم بعد زوال ما يحميهم، بل ويهرب كذلك الإله الزومبي الذي قصد به قسيمي الرئيس بوتفليقة؛ ومن ثم تنهار الدولة وتسودها الكثير من الفوضى. سنلاحظ تأمل الكاتب للمُجتمع الجزائري بسخرية في قوله: "كان هناك عدد هائل من الحقوق، لا يقابلها إلا واجب الاعتزاز بالوطن. وكان من حق أي شخص أن يملك سكنا بلا مُقابل، وأن يُوظف في أي شركة، وإن لم يكن كفؤا، ومن حقه أيضا أن يُداوى من غير أن يدفع شيئا حتى لو امتلك ما يبني به عشرات المشافي. كان زمنا مُدهشا، سمح للإنسان الجزائري وقتها بالتشبث بخرافة "الرجل الأفضل"، ومكن الحكومة من خلق كائن مُدمن على رخاء لم يتعب لأجله. كانت الفكرة ابتكار مواطن بلا رأس، تحتل بطنه أكبر مساحة من جسده. وهو ما حدث بسرعة لم يتخيلها أحد"!

إن حديث قسيمي هنا عن حال المُجتمع الجزائري وما تمارسه الحكومات عليه فيه من السخرية ما يجعله يرسم صورة كاريكاتورية للمواطن الجزائري الذي استسلم تماما لخرافة "الرجل الأفضل"، وهي الخرافة التي حاول النظام السياسي بثها في نفوس المواطنين باعتبارها العالم الموازي الذي يقوم بصنعه الرجل الضئيل من أجل إحجام الناس عن المُطالبة بأي حقوق لهم، ويرضون بالأمر الواقع من حولهم ويستكينون له.

لكن، هل يكتفي قسيمي هنا بوصف حالة المُجتمع الجزائري الذي يعيش في أوهامه التي صنعتها له السلطة السياسية؟

إن الروائي هنا يمعن في الإيغال من سخريته حتى من رأس الدولة نفسه- الرئيس بوتفليقة- في قوله: "وكان على جمال حميدي أن يلتجئ إلى هؤلاء، على الرغم من علمه بأنه مُجرد إجراء لن يغنيه، فمنذ خمس سنوات لم يعد لهذه الآلهة القابعة في أعالي المدينة أي إله رئيس منذ أن قتلوه حيا، حين أبلغهم برغبته المفاجئة في التنحي. كانت الفكرة أن يبقوه حيا بالقدر الكافي الذي يسمح لهم بالبقاء في صورة معاونين له لا أكثر، ولكنهم، في الحقيقة، كانوا يقررون في مصائر الناس وحياتهم. هكذا أبقوا على جسد ربهم حيا بعد أن سحبوا الروح منه. فكان يظهر للناس بوجهه الزومبي مُبتسما، رافعا يده في الهواء يُحيي الجماهير، مُجتمعا ببقية الآلهة ومُمارسا مهامه الرئاسية النبيلة. ولأن الطبيعة تنفر من الموتى، توقف مفعول العقاقير في جثة الإله الزومبي بالنحو الذي أملته الآلهة الأخرى. في البداية توقف عن الابتسام، ثم صار من الصعب أن يرفع يده كما كان يفعل من قبل. وفي الأخير لم يعد يظهر للناس إلا مُجتمعا بمرؤوسيه، يُبحلق في أوراق بيضاء مُتمتما بكلام لا تفهمه حتى شفتاه. وفي لحظة اختارها الأرباب بعناية توقف عن الظهور، لتحل محله صورة كبيرة في إطار ذهبي، كانت تُعلق في كل مكان يُفترض أن يتواجد فيه، حتى ساد في اعتقاد الناس أنه مُنشغل بمشاكلهم إلى درجة أنه لم يعد بمقدوره الظهور، ثم حين بدأ الرجل الوسيم في نشرة الأخبار يقرأ في كل ظهور له رسالة أو بيانا للإله الرئيس، شعر الناس بطمأنينة كل مؤمن بحق، فحتى الله وهو الله، لم يظهر لأحد بوجهه، واكتفى لهداية الناس بما كان يرسل إليهم من رسل وأنبياء يحملون كلمته الطاهرة وكتبه المُقدسة".

ألا يبدو لنا المشهد السابق الذي رسمه الروائي سمير قسيمي مُجرد مشهد عبثي لا يمكن تحققه في الواقع؟ يبدو لنا الأمر هنا كلوحة سيريالية، أو حكاية خيالية لا يمكن قراءتها إلا في كتب الأساطير التي تروي لنا حكاية شعب محكوم من أحد الآلهة الزومبي بالفعل، وهو الشعب الذي ينساق إليه لدرجة الخضوع والتأليه حتى أنهم يخشون مُجرد صورته التي توضع في أي مكان باعتباره موجودا، بل يرون أنه لا يظهر لهم ولا يرونه لأنه مشغول في تسيير أمورهم والسهر على راحتهم رغم عدم وجوده، أو موته إكلينيكا. لكن تتبدى لنا السخرية المريرة حينما نقارن هذه الصورة الكاريكاتورية/ السيريالية/ الأسطورية بالواقع الجزائري الذي كان يعيش بالفعل هذه الحياة كما رواها الروائي تماما من خلال رئيس توقفت به الحياة بالفعل وحاول من حوله إبقائه حيا رغم أنفه؛ فبات كما أطلق عليه الروائي الرئيس الزومبي، أي أن قسيمي يرسم الواقع السيريالي الذي كان يدور في الجزائر ليمعن في سخريته من الحال الاجتماعي والسياسي الجزائري؛ لذلك يستمر في سخريته الناقدة بقوله في موقع آخر من روايته: "تذكر ما جاء في رسالة الإله الزومبي في عيد ميلاده الخامس والتسعين إلى الشباب حين خاطبهم بـ"إخوتي"، ودعاهم إلى الوقوف معه في جبهة واحدة للوصول بالبلد إلى ضفة آمنة: "نحن الشباب علينا أن نقف صفا واحدا انتصارا للوطن المفدي""!

إن الرجل الميت البالغ من العُمر خمسة وتسعين عاما يخاطب الشباب بقوله: "نحن الشباب"! ألا يصل قسيمي هنا بالسخرية إلى مداها الأعمق؟

لكن قسيمي لا يكتفي بذلك، بل يتعداه إلى رحلة الكاتب إلى باريس حينما يتحدث مع إحدى الفرنسيات التي تقول له: "سنتظاهر اليوم تنديدا بشلل البلدية وتقاعسها. تضيف فاني"، لكن الكاتب يندهش دهشة قصوى من حديثها؛ فهي تتحدث عن أمور لا قبل له كجزائري فهمها؛ لذلك يقول في مونولوج داخلي: "تتظاهرون؟! تنددون؟! يا إلهي! هل تحتفظون هنا في قواميسكم بمثل هذه الكلمات؟! هناك لا أصوات في حناجرنا. يمكن أن نصرخ. يمكن أن ننبح أيضا، ولكن بلا صوت"!

ربما كان الاقتباس الأخير خير دليل على الحال الذي وصلت إليه الجزائر في عهد بوتفليقة من حال مُخزٍ شديد السيريالية حتى أنهم باتوا مُجرد كائنات كرتونية مثل تلك التي نراها في أفلام التحريك المُقدمة للأطفال، وهو الأمر الذي يحرص الروائي هنا على وصفه في عمله الروائي بشكل طبيعي غير مُقحم على النص الروائي.

هذا الوضع الاجتماعي والسياسي البائس يجعل الروائي يتأمل حال الهامش الاجتماعي الجزائري الذي يبدو لنا إذا ما تأملنا الصورة الكلية من بعيد وكأنما المُجتمع الجزائري في مُعظمه قد وصل به الأمر إليه حينما نقرأ: "آخر أطلقت عليه أولغا اسم "رجل القمامة"، اعتادت على رؤيته كل ليلة في مثل هذا الوقت من الليل. نحيف، أسمر، يرتدي قبعة سوداء تُخفي جبينه وشيئا من وجهه، ويضع دائما على ظهره حقيبة". إن هذا الحال البائس من التهميش الاجتماعي بات هو حال أكثر أهل المدينة العاصمة، أو الدولة المدينة، وهو الحال الذي كان يظن الكاتب- كلما رأى هذا المتسول عصام كاشكاصي- أنه لا بد سيصل إليه مع غيره من أبناء المُجتمع إن عاجلا، أو آجلا!

إن اللوحة السيريالية- المُوغلة في العبثية- التي رسمها قسيمي لحال السياسة والمُجتمع الجزائري، يحاول رسمها في لوحة أخرى أكثر عبثية حينما يتخيل الجزائر هي أصل الكون، ومنها بدأت كل أحداث العالم حتى لكأنما لا يوجد عالم آخر خارج حدودها في قوله: "انتمى عصام كاشكاصي إلى رتبة اجتماعية اندثرت بسرعة مُباشرة بعد الانفجار العظيم، وإثر ظهور أول أشكال مواطني الدولة المدينة المُسمى "الرجل الأفضل". وكانت هذه الرتبة تُمنح لمواطنين مُخضرمين عاشوا عصر ما قبل الانفجار في شكل بدائي للمواطنة، أُطلق عليه اسم "الإنديجان"، ثم استمروا في الحياة من دون أن يتخذوا أي موقف واقعي يسمح لهم بالتطور إلى "حركي" أو "مُجاهدين"، وهما نوعان بشريان اكتسحا الحياة في ذلك العصر من غير وجود معايير تسمح بالتمييز بين النوعين، فكان الواحد يظهر بجينات "المُجاهد" حينا، ثم ولمُبررات تُفقد المنطق منطقه يصبح "حركيا"، ثم مُجاهدا، وهكذا دواليك. إلا أن العلم غير المكتوب حينئذ، وجد أكثر من طريقة لإثبات أن "الإنديجان" نوع بشري غير قابل للتطور، وما الأسماء التي أُطلقت عليه لاحقا: "الغاشي"، "الرعية"، "الشعب"، "الشعب العظيم"، "سليل الثورة العظمى"..، إلا تسميات لبقة لنوع واحد يتشارك في جينات الطيبة والسذاجة والقدرة على تصديق ما لا يصدق، وهي جينات جُمعت في خانة "ولاد الفاميليا"، ما يترجم في اللغة إلى "أولاد العائلة"، وهم أناس بدائيون بدليل أن لديهم آباء وأمهات ينسبون إليهم، على عكس الجينات الغالبة في الأنواع المُسيطرة، والتي تجعل الواحد فيها يعرف أمه من دون أي يقين فيمن يكون أباه".

إن هذه الصورة العبثية تحمل قدرا لا يمكن الاستهانة به من السخرية؛ فإذا ما كان "الرجل الأفضل" المقصود به المواطن الجزائري قد تطور إلى "مُجاهد"، فهو يتحول فيما بعد إلى "حركي" ويظل يتبادل دور كل من المُجاهد والحركي، وإذا ما عرفنا أن المعنى الشائع لكلمة "الحركي" في الجزائر تعني الشخص الذي خان بلاده وتآمر ضدها- رغم أن أصل الكلمة ونشوءها يختلف عن هذا المعنى المتداول الآن- تتبدى لنا مدى السخرية التي يقصدها قسيمي من وصفه للمواطنين الجزائريين الذين يتبادلون دور النضال والخيانة معا، كما أنه يسخر من مفهوم "سليل الثورة العظمى" التي وضعها النظام السياسي وأطلقها على الجزائريين ليشعروا بالعظمة مُتناسين في ذلك ظروفهم الآنية التي يعيشونها ويظلوا أسرى الماضي البائد.

لكن، هل يكتفي قسيمي هنا بتفكيك الأبنية الاجتماعية والسياسية فقط؟ لا، بل يمعن كذلك في نقد البناء الميثولوجي بجرأة تكسب روايته قدرا غير هين من البكاء على كل ما يدور من حوله؛ فما يحدث من انهيار على كل المستويات يجعل المواطن الجزائري العاقل غير قادر على الإيمان أو اليقين بأي شيء حتى لو كان الله ذاته؛ لذلك يكتب: "ولأن الحظ كلمة لم تُخلق لرجال مثله، لم يبلغ عصام كاشكاصي أي درجة من الغباء البشري الذي يفترض أن يسمح للحلم بالتسرب إلى عقله أو إلى قلبه أو إلى كليهما معا، ولكنه بسبب انتمائه القصري إلى نوع "أبناء الفاميليا" كان يؤمن بوجود كائن أسمى يجلس في عرشه بسماء غير السماء الطبيعية يرى الجميع من دون أن يراه أحد. كان هذا الكائن يعرف كل ما يجري قبل أن يجري، وكان من العدل بأن قسم الأرزاق بين الناس بحيث جعل رزق عصام كاشكاصي فيما قد يخلفه الناس من زبل وقمامة". سنلحظ هنا السخرية من الميثولوجيا في صورة الله الموجود في السموات الذي يعرف كل شيء ويحدد كل شيء للآخرين، لكن السخرية الأكبر تتبدى لنا إذا ما استمررنا في قراءة الرواية لنعرف أن الرجل الضئيل هو الذي يتحكم في مصائر الناس وأرزاقهم وحيواتهم، وهو الذي يعرف الأمور قبل أن تحدث وليس الله، ولعل الدليل على ذلك أن الرجل الضئيل هو من حوّل حياة عصام كاشكاصي إلى مثل هذا البؤس الذي يعيش فيه من دون أن يعرف أي إنسان أن للرجل الضئيل يد في ذلك.

نقرأ هذه السخرية الميثولوجية مرة أخرى في قوله: "احتاج إلى سنين أخرى؛ ليفهم بأن الموت شيء بغيض. كف كبيرة تأخذ الناس إلى مكان ما، بعيدا عنه، قريبا أيضا. كان أمرا مُحيرا أن يفهم ما يصنع الموت في الأبعاد: قريب وبعيد في آن واحد. وقتها، أخبرته أمه أن شقيقته ماتت لأن الله يحبها. سألها: ألا يحبنا الله نحن أيضا؟ أجابته: إنه يحبنا، ولكنه لن يأخذنا إليه الآن. سألها: لم؟ أجابته: لأنه يحبنا. كان الأمر مُحيرا أيضا أن يفهم ما يصنعه الحب في الله أيضا. لمدة طويلة، بقي يفكر في الموت على أنه طريقة الله للتعبير عن الحب، يحبنا جميعا، وحين يشتاق إلينا يميتنا لنكون معه، ولكنه كان يتساءل أيضا: إذا كان يحبنا بهذا القدر، فلم لم يبقنا معه منذ البداية؟ لماذا كان عليه أن يخلقنا، ثم يميتنا لنكون معه؟!". السخرية هنا تضرب بفكرة الخلق في حد ذاتها، وليس مُجرد فكرة العقيدة فقط، وبالتالي لا بد أن تُشكك في كل شيء، وهو التشكك المنطقي والمشروع.

سمير قسيمي
هنا تصل المأساة بالمواطن الجزائري إلى انتقاد ما يدور حوله بشكل يتشابه إلى حد كبير مع البكاء؛ فما يدور حوله من أمور يرفضها وتجعله يعيش مأساة حقيقية يكتشف- فيما بعد- أنه قد اعتادها حتى أنه لا يستطيع الحياة من دونها، وهو ما نراه في قول الكاتب حينما يسافر إلى فرنسا: "بدأت أشعر بالغربة. ليس لأنني في وطن ليس وطني، بل لأن ملامحي بدأت تختفي. أخبرت صاحب اسمي بذلك، وبحاجتي إلى مكان في مارسيليا يذكرني بالوطن. أحتاج إلى عمارة مُتسخة. وجوه مُتعبة غير بشوشة. صناديق قمامة مُمتلئة. شوارع قذرة. أحتاج إلى أرصفة تركن عليها السيارات. رجال شرطة مُخيفين. سُلطة تكذب كما نأكل الخبز. طوابير. مُشردين. مُتسولين. بذاءة. حكومة مُرتشية. برلمان سخيف. شوارع بلا مكتبات. مُدن بلا قاعات سينما، بلا مسارح. رجال لا يحلمون، لا يعيشون، يبقون فقط على قيد الحياة. أحتاج إلى أي شيء يشبه الخدعة العظيمة التي أسميها وطن". أي أن التشوه المُحيط بالمواطن الجزائري في كل دقائق حياته قد انطبع داخله حتى بات شيئا من نسيجه النفسي الذي لا يستطيع الحياة من دونه.

هذه المأساة نلحظها في هذا الاقتباس الساخر الأخير سواء من المُجتمع، أو السلطة، أو الله في قول الكاتب حينما كتب رسالة لزوجته ذات يوم، ووصلت الرسالة مُتأخرة عن موعدها خمسة أعوام: "هل تعتقدين حبيبتي بأن القدر ما جعلنا نعيش فقراء في هذا الوطن الغني؟ هل تعتقدين بأن الله سادي إلى الحد الذي يجعل منا شعبا قاصرا هذا الوقت كله؟ أنا لم أعتقد ذلك يوما. يقيني، أننا نحن من اختار فقرنا وبقاءنا قصّرا لما أضفينا من القداسة على تاريخنا. نحن من خلق آلهتنا الجديدة حين توهمنا أن ثورتنا لم تُنجب إلا قديسين وأنبياء، أهديناهم هذا الوطن بثرائه وخيراته وشعبه".

مع اختفاء نوافذ وأبواب المدينة بالكامل انهار كل شيء، كل هذا النظام الفاسد بدأ في التداعي، وتم اكتشاف كل شيء، هنا كان لا بد من آلهة/ حُكام جُدد ليحلوا محل السابقين لا سيما بعد انتشار الفوضى في كل مكان؛ وبالتالي كان لا بد من ظهور الرجل الضئيل القادر على تحريك كل شيء في الجزائر بخيوطه التي لا يراها أحد؛ فهو صانع الحُكام، والعوالم الموازية الواهمة والأسطورية التي يتم إيهام الشعب بها؛ لذلك وقع اختياره على جمال حميدي حينما رآه ذات يوم في التلفاز يتحدث بأمور كاذبة بكل ثقة، فضلا عن أن حميدي هو زوج حفيدته أولغا؛ لذلك استدعاه ودربه جيدا ليكون هو الحاكم، ورغم شلله وعجزه الجنسي إلا أن الرجل الضئيل نجح فيما كان يسعى إليه ليصبح جمال حميدي هو الحاكم الجزائري الجديد المُتحكم في كل شيء، بل وبات كل من حوله من المُساعدين مُجرد معوقين، أو من أبناء الغوغاء في إسقاط من قسيمي إلى أنه إذا ما كانت الجزائر قد تخلصت من فساد سياسي طبق على صدرها عهدا طويلا، إلا أن التغيير لم يكن للأفضل، بل كان للأسوأ والأكثر فسادا بسيطرة الغوغاء والمعوقين على مقاليد السلطة والحُكم، أي أن مصير هذا البلد في تدهور دائم من سيئ إلى أسوأ.

يبقى أمر لا يمكن لنا الاتفاق فيه مع الروائي رغم أنه لم يكن يقصده بمعناه الحرفي حينما يجعل الكاتب يرى نفسه في المرآة فيكتشف أن ملامحه في حقيقتها هي ملامح رجل زنجي في إحالة منه في ذلك إلى أنه مُجرد عبد لدى السلطة في الجزائر!

إن هذه الإحالة التي يُراد بها أن المواطن الجزائري مُجرد عبد لدى السُلطة لا يمكن لها أن تستقيم في نفوسنا؛ لأن الروائي هنا يرى أن أي أسود لا بد له أن يكون عبدا، والعكس صحيح، وهي نظرة عنصرية لا شك فيها، رغم أن الروائي لا يقصدها بمعناها الحرفي والمُباشر، لذلك كان قوله: "حينها، وفي تلك اللحظة فقط أدرك الكاتب الحقيقة التي جعلته يشعر سابقا بتلك الألفة الغريبة التي طالما تملكته كلما نظر إلى صورة الزنجي التي اقتناها من بائع التحف القديمة في تقاطع شارعي بيجو وديزلي. لم تنطق الصورة وقتما أصر على سؤالها من قبل، وما كانت لتفعل، فقط لأنها كانت صورته وصورة كل واحد من المدينة الدولة، فكما تنأى البديهية عن كل إثبات، لم يكن هو أو أي أحد من المدينة الدولة ليسأل عن حقيقة كانوا مُقتنعين في أعماقهم بها، وهي أنهم عبيد في دولة تمتهن النخاسة". إن هذه المحاولة من المُقاربة التي لجأ إليها الكاتب لم تكن موفقة؛ حيث كان يستطيع صياغتها بأي شكل آخر أكثر قبولا بدلا من الوقوع في نطاق العنصرية بهذا الشكل.

لكن، تأتي رواية "سلالم ترولار" للروائي الجزائري سمير قسيمي كرواية مُهمة لا بد من الالتفات إليها سواء على مستوى الأسلوبية التي انحاز إليها في كتابة روايته، أو حرصه على هندسة الشكل الروائي ومعماره البنائي الشديد الاشتباك والتداخل، أو انتقاده لكل ما يدور حوله في الجزائر بشكل فيه قدر كبير من التلقائية من دون السقوط في السطحية والمُباشرة. كما لا يفوتنا الإشارة إلى أن رواية قسيمي كانت قد صدرت في بداية عام 2019م، بينما بدأ الحراك الجزائري/ الثورة التي أسقطت حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في 22 فبراير 2019م، أي بعد صدور الرواية، فإذا ما انتبهنا إلى أحداث الرواية وما دار فيها من سقوط النظام السياسي الذي يمثله بوتفليقة، ثم حديث الروائي عن نظام آخر تسوده الكثير من الفوضى وسيطرة الغوغاء؛ لارتسمت الدهشة على وجوهنا لتشابه، أو تطابق ما قرأناه في الرواية مع ما حدث بالفعل على أرض الواقع الجزائري فيما بعد، وهو ما يُدلل على أن الخيال الروائي قادر على استشراف المُستقبل وما يمكن أن يحدث فيه، ولعل الدليل على ذلك أن من سيقرأ رواية قسيمي من دون معرفة تاريخ صدورها ربما ظن أنه قد كتبها بعد الحراك الجزائري وسقوط نظام بوتفليقة، رغم أنه كان هو الأسبق في الأحداث الروائية من الأحداث الواقعية.

يبقى أمر واحد طالما نراه في العديد من الروايات العربية وهو عدم سلامة اللغة التي يكتب بها الروائي، أو جهله بقواعد اللغة العربية الصحيحة، وإذا ما كان هذا الجهل باللغة يكاد أن يكون سمة لأغلب كتاب المنطقة العربية؛ فمن الضروري أن يدفع كل روائي بعمله إلى مُصحح لغوي من أجل تصحيحه بعد الانتهاء منه، كما أنه لا يمكن لنا هنا التغاضي عن إهمال دور النشر؛ فالناشر هنا يتحمل المسؤولية مُناصفة مع الكاتب فيما نقرأه، لأنه إذا ما كان الكاتب غير مُتقن للغته وقواعدها؛ فعلى دار النشر مسؤولية مُراجعة الأعمال التي تُقدم إليها قبل الدفع بها إلى المطابع، ولكن بما أن دور النشر تحولت في الآونة الأخيرة إلى مُجرد مطابع فقط لا تعنيها السلامة اللغوية للكتب التي تصدرها؛ فلقد تكاسل ناشر الرواية أيضا عن مُراجعتها؛ الأمر الذي جعل الرواية تغص بالعديد من الأخطاء الفادحة التي كان لا بد من تفاديها؛ فنرى على سبيل المثال الكاتب يعطف مُفردة "شبابيك" على "نوافذ" ليكتب: "شبابيك ونوافذ" رغم أن المُفردتين تؤديان نفس المعنى والدلالة لترادفهما؛ مما يحول الكتابة هنا إلى ثرثرة لا طائل من ورائها بسبب احتشاد اللغة بالمُترادفات، ويبدو لنا الأمر وكأنما الكاتب يفسر الماء بالماء ويثقل كاهل عمله اللغوي بما لا يفيد. كذلك نرى الكاتب يكتب: "يقف على الشرفة" بدلا من "يقف في الشرفة" مما يعطينا إيحاء بأن الشخص قد صعد بقدميه فوق الشرفة ليقف فوقها وكأنما قد أصابه الجنون، وكتابة "كلتي" بدلا من "كلتا" رغم أنها لا تتغير في الرسم مع اختلاف موقعها في الجملة، وقوله: "كان يسيران" بدلا من استخدام المثنى "كانا يسيران"، وكتابة "عبأها" والمقصود به "عبئها" أي عبء المرأة، و"الحماقة الذي حُررت به تلك الجملة جعل الكاتب مُتيقنا"، ولعلنا نلاحظ هنا الخلط في الضمائر بين المُذكر والمؤنث مما جعله يخلط بالضرورة في الأسماء الموصولة التي تخص المُذكر والمؤنث، وكتابته "تفاجؤوا" بدلا من "تفاجأوا"؛ فالهمزة على الألف لأن ما قبلها مفتوح، وقوله: "مواطنون بلا رأس" بدلا من "بلا رؤوس" لأنه لا يمكن أن يمتلك الجمع هنا رأسا واحدة، و"توقف الجميع على الإيمان" بدلا من "عن الإيمان"، وغير ذلك من الأخطاء الفادحة التي أساءت للنص رغم جودته، وهو ما يجعلنا غير قادرين على الثقة في دور النشر التي تهمل نصوصها بمثل هذا الشكل الفادح والمُخز في آن.

 

 

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة

3 مايو 2021م