الجمعة، 20 يناير 2023

اللاعبون: الحياة في حالة مقامرة!

تحاول المخرجة الفرنسية Marie Monge ماري مونج في فيلمها Treat me Like Fire عامليني كاللهب، أو حسب عنوان الفيلم الأصلي باللغة الفرنسية Joueurs الانغماس في قاع المجتمع الفرنسي في العاصمة باريس؛ لتقدم لنا صورة حية- قد تكون مُبهجة أحيانا، ومثيرة في أحيان أخرى، وقاتمة معظم الوقت- عما يدور في عالم الليل لا سيما في صالات المقامرة غير القانونية.

هنا- في هذا العالم- الكل مُدمن للمقامرة بشكل مَرَضي، بل تتحول الحياة بالكامل إلى حلبة للمُقامرة، حتى لو كانت هذه المُقامرة على الذات، أو الحبيب، أو الأسرة، أو أي شيء يصلح لذلك، فالمهم في هذا العالم هو إرضاء وحش الإدمان نحو المقامرة، والذي ينهش في صاحبة ولا يمكن له أن يتركه إلا إذا ما جلس على مائدة اللعب مهما كانت خسائره.

تصور لنا المخرجة الفرنسية ماري مونج عالمها وما يدور فيه من جريمة، ورشوة وصفقات مشبوهة، وتداول لرؤوس الأموال لصالح العديدين من الأشخاص داخل صالات القمار غير القانونية؛ الأمر الذي يؤدي إلى تدمير الكثير من الحيوات الاجتماعية والزوجية، والعاطفية لمن يدمنون هذه اللعبة في تأكيد منها على وحشية المجتمع الرأسمالي الذي يستغل كل شيء من أجل المال؛ وبالتالي يصبح الهدف النهائي في هذه الدائرة المغلقة إما المال وقانون الربح والخسارة، أو الموت للمُقامر وهو ما يذكرنا بدرجة ما بفيلم المخرج الأمريكي الإيطالي الأصل مارتن سكورسيزي وفيلمه Casino 1995م، مع الاختلاف في التناول، وإن كان كل من الفيلمين يتناول نفس الأجواء ويناقش ما يدور فيها من فساد وصفقات مشبوهة تؤدي في النهاية لهلاك كل من هم داخل الدائرة.


ثمة ملاحظة أخرى لا يمكن تجاهلها لمن يشاهد الفيلم الفرنسي Joueurs، وهي ملاحظة لا يمكن لها أن تخفى على من قرأ رواية "أربع وعشرون ساعة في حياة امرأة" للروائي النمساوي ستيفان زيفايغ؛ حيث تهتم المخرجة بالتفاصيل الدقيقة جدا لحياة المقامرين على مائدة القمار؛ فتتابع انفعالاتهم، وتوجساتهم، وحركة أيديهم، وتردداتهم، واندفاعاتهم، وفرحهم، وحزنهم، بل ودمارهم النفسي أيضا، من خلال عين الكاميرا التي كانت تلتقط كل هذه التفاصيل بمهارة المصور Paul Guilhaume باول جيلهاوم، بل والتقاط ما يدور حول مناضد القمار من مؤامرات واتفاقيات سرية من أجل فوز أحدهم وخسارة الآخر، وهو ما لاحظناه من تفاصيل في رواية ستيفان زيفايغ من قبل.

إذن، فنحن أمام فيلم يتأمل فيما يدور في العالم السفلي من باريس، ويؤكد على أن كل من يدخل هذه الدائرة الجحيمية لا يمكن له الإفلات منها إلا بالإفلاس، أو الدمار الكامل لحياته، أو الانتحار، أو الجريمة. هذا الإدمان هو ما يؤكد عليه بطل الفيلم آبيل الذي أدى دوره ببراعة الممثل الفرنسي الجزائري الأصل Tahar Rahim طاهر رحيم حينما يقول لحبيبته إيلا- الممثلة الفرنسية Stacy Martin ستاسي مارتين: إنهم يلقون كل يوم من مائدة الحياة، التسوق، الإيجار، طعام الأولاد، يخسرون ويأتون ثانية. بقدر ما ينغمسون؛ تزيد صعوبة الانسحاب، ويزداد شعور الإثارة!


هذه الإثارة التي لا تنتهي لمن يبدأ في المقامرة هي ما حولت حياة إيلا إلى جحيم حقيقي حينما ارتبطت عاطفيا بآبيل- المُدمن للقمار- فنسبة الإثارة، واندفاع الأدرينالين في جسد من يقامر يشعرانه بلذة من يقف على حافة الحياة، بإحساس المغامرة، أو المخاطرة التي لا بد لها أن تُصاغ بمفهوم: نكون أو لا نكون؛ لذلك رأينا إيلا تسقط بمتعة نحو الهاوية غير قادرة على السيطرة على نفسها؛ نتيجة ارتباطها العاطفي بآبيل.

يبدأ الفيلم بالفتاة إيلا التي تُدير أحد المطاعم التي ورثتها عن أمها مع أبيها في وسط العاصمة الفرنسية باريس، وهو من أهم المطاعم وأكثرها ازدحاما، حيث يحاول الشاب الوسيم والمقتحم آبيل إدخال النبيذ إلى مخزنها مقتحما المكان بعد انتهاء العمل، بل ويطلب منها أن توظفه كعامل في المكان. ربما كانت شخصية آبيل المقتحمة والعبثية، غير الملتزمة بالقوانين والبروتوكولات في التعامل، ونظراته الشرهة تجاه النساء، وإن كانت بشكل مُحبب لديهن؛ مما يشعرهن بأنوثتهن هي السبب الرئيس في قبول إيلا لتوظيفه، لكنه بعد انتهاء اليوم الأول من توظيفه يلمحها وهي تحفظ إيراد اليوم في خزانتها؛ الأمر الذي يجعله يسطو على المال ويفر هاربا باتجاه المترو. تطارده إيلا لاستعادة مالها لكنه يظل يهرب منها حتى يصل إلى أحد نوادي المقامرة غير القانونية ويعرض عليها صفقة من صفقاته: إذا أرادت استعادة مالها؛ فلا بد لها أن تدخل معه للمقامرة به، ولأنه واثق من أنهما سيستعيدان المال مُضاعفا؛ فلا بد لهما من اقتسامه في نهاية الليلة.

تضطر إيلا- التي لم يكن أمامها أي خيار- لموافقته والدخول معه إلى النادي وتبدأ بالفعل في المقامرة بناء على توجيهات آبيل، والمدهش أنها كانت تكسب الكثير من المكاسب المضاعفة؛ الأمر الذي جعلها تشعر بالإثارة والمتعة والإيغال في المزيد من المقامرة، رغم أنها المرة الأولى لها في حياتها. إن مقدرة المخرجة ماري مونج في توجيه المصور البارع باول جيلهاوم الذي كان يتابع بكاميرته التفاصيل الدقيقة لوجه الممثلة ستاسي مارتين أثناء مقامرتها وربحها للمرة الأولى كانت من أهم المشاهد التي تُدلل على مدى الإثارة التي يمكن أن يشعر بها مدمنو المقامرات؛ حيث خلجات وجهها المنفعلة التي تتأثر بمجرد أي حركة أو بادرة على منضدة القمار، إلى أن تتسع ابتسامتها لتشق وجهها، ونظرتها المتباهية لشعورها بالتميز والربح حينما تجني المزيد من الأموال.


بالفعل، يستطيع الزوجان ربح 9000 يورو في هذه الليلة، واقتسامها فيما بينهما. هنا يبدأ السقوط السريع لإيلا في العالم الجحيمي الذي يحيا داخله آبيل؛ ومن ثم تظل طيلة الوقت منساقة له غير قادرة على الخروج من دائرته المغلقة.

ترتبط إيلا بآبيل عاطفيا وجسديا بشكل يجعلها تسقط بشكل أسرع، وغير قادرة على الخروج من أسر عالمه، وربما يبدو لنا هنا أن علاقة العشق بينهما- لا سيما من قبل إيلا- هي التي تجعلهما مرتبطين بمثل هذا الشكل القوي؛ حتى أنها تهجر عالمها الخاص وتبتعد عنه تماما للانغماس في عالم آبيل، لكن الأمر يبدو لنا في الحقيقة أن العلاقة بينهما ليست مجرد علاقة عشقية بين رجل وامرأة، بل هي علاقة مقامرة خطرة بحياة ومستقبل إيلا بالكامل ستؤدي إلى تدميرها في نهاية الأمر بسبب حبيبها المدمن للمقامرة بكل شيء حتى لو كان بها؛ الأمر الذي يدفعها بقوة إلى العالم السفلي ومواجهة الجريمة والخطر الشديد على حياتها.


إن شخصية آبيل بقدر ما تحمل داخلها قدرا غير هين من الكاريزما والجاذبية لا سيما من قبل النساء؛ حيث حياة المغامرة والاندفاع والسكر والشبق تجاه الحياة والفوضوية والجنون التي يحياها حتى في تناول إيلا أثناء العشق، بقدر ما تحمل داخلها أيضا أسباب دماره الشخصي، ودمار كل من يحيطون به، بل إن العلاقة كانت تبدو في جوهرها- معظم الوقت- كأنها شكل من أشكال المقامرة؛ فهو نفسه لا يعرف ما الذي يريده سوى المغامرة والتفوق في أي شيء، ومن أجل لا شيء، وهو ما يتضح لنا حينما يحادثها عن فيلم "فوريست جامب" بإعجاب؛ فتقول له: لا أفهم، إذن تريد أن تكون فوريست، أم متسابق سريع؟ فيرد عليها بثقة: فقط بطل، في أي مجال!

لعل هذا الطموح الجنوني نحو التميز في أي شيء لمجرد التميز فقط، هو ما يحرك آبيل في حقيقة الأمر نحو المقامرة التي تحمل المزيد من الإثارة، حتى أنه يقامر أيضا- بعيدا عن صالات المقامرة- في سباقات السيارات التي لا تنتهي إلا إذا كان الفائز مُحطما لكل سيارات من كانوا يتسابقون معه.

المُخرجة الفرنسية ماري مونج

تندفع إيلا بقوة في عالمه ويربحان الكثير من المال إلى أن تكون أول خسارة له أمامها حينما يشترك بالتعاون مع ابن عمه نسيم- الممثل الفرنسي Karim Leklou كريم ليكلو- في الرهان على سباق السيارات، وهنا تعطيه إيلا 300 يورو للرهان، لكنه يخرج من الرهان خاسرا؛ فيثور عليها ويبدأ في معاملتها معاملة فظة أمام ابن عمه؛ الأمر الذي يجعل نسيم يُخرج المال له كي يهدأ ويتوقف عن معاملتها بهذا الشكل السيء. هنا تُفاجأ إيلا بخديعة آبيل لها؛ فهو لم يكن يراهن بالفعل، بل كانت مجرد حيلة منه لأخذ المال منها بالاتفاق مع ابن عمه باعتباره مشترك في السباق، وحينما تبدي دهشتها يقول لها نسيم ببساطة: ألا ترين أين نحن؟ هنا الرهان على كل شيء، لقد خذلك!

أي أن آبيل من الممكن له أن يراهن عليها هي شخصيا وليس على أموالها فقط؛ ففعل المقامرة بالنسبة إليه هو فعل وجودي لا يمكن له التخلي عنه، حتى لو راهن على كل من يحبونه أو يبادلونه شيئا من المشاعر؛ الأمر الذي يجعلها تخاطبه مندهشة: لم يكن هناك رهان؟ لم فعلت ذلك؟ تمثل الخسارة، فقط، لأجل 300 يورو كي تعود وتأخذها من خلف ظهري؟ إذا أردت المال أخبرني وسأعطيك.

المُمثل الفرنسي الجزائري طاهر رحيم

ربما كان هذا الموقف من آبيل، وغيره من المواقف العديدة السابقة التي ظهرت منه من دون أن تنتبه إليها إيلا كانت كفيلة ببداية حذرها منه، والابتعاد عن هذه العلاقة العشقية التي لا بد لها أن تُدمر حياتها مع رجل من الممكن له أن يُقامر بها هي شخصيا؛ فهو سبق بعد أول لقاء له معها في بيتها أن استيقظت من نومها لتجده قد اختفى تماما، وكأنه تلاشى؛ الأمر الذي يجعلها تترك حياتها وعملها وتبدأ في البحث عنه في صالات القمار إلى أن تجده، وتبدأ في الانخراط معه داخل هذا العالم بسبب عشقها لها، وهو حينما خدعها بأنه في مراهنة من أجل 300 يورو واكتشافها أن الأمر كان مجرد خدعة كان لا بد لها من الانتباه مرة أخرى، وهو الأمر الذي يجعل المشاهد طوال أحداث الفيلم يتساءل: لم لا تتركه وتتخلى عنه؟ إنه في كل مرة يبدي لها الكثير من الخذلان والخسة في التعامل معها؛ فهو لا يعنيه سوى رغبته في القمار فقط، حتى لو دمر كل من يعرفونه، لكنها في كل مرة كانت تعود إليه، ربما لأن هذه العلاقة العاطفية بينهما قد باتت أشبه بحياة القمار التي يحيانها وما يحيطها من إثارة ومخاطر وشعور بالخطر، أي أنهما باتا يعيشان حياة المقامرة التي من الطبيعي أن يخسر فيها المقامر عدة مرات، لكن هذه الخسارة لا تجعله يقلع عنها أو يبتعد، بل تجعله ينغمس فيها أكثر حتى النخاع، وهو ما حدث لإيلا في علاقتها العاطفية مع آبيل؛ فكلما أظهر لها المزيد من الخذلان والتخلي عنها كلما انغمست في التعلق به أكثر عاجزة عن الابتعاد عنه، بل ومتابعته في كل مكان يذهب إليه.

المُمثل الفرنسي كريم ليكلو

يخسر آبيل خسارة كبيرة في القمار؛ الأمر الذي يجعله مديونا لأشخاص ما، ومن ثم يبدأ دياكو- أسوأ مُحصل ديون في باريس- في مطاردته من أجل استرداد الدين، ويحاول دياكو قتل نسيم ابن عمه أمامه وأمام إيلا، لكن آبيل يعده أنه سوف يأتي له بماله في الغد إذا ما ترك نسيم. هنا كان لا بد لإيلا من الانتباه إلى الخطر الذي وصلت إليه حياتها، لا سيما أنها تركت مطعمها وعالمها، بل وتم الحجز على شقتها لعدم امتلاكها لإيجارها، وها هي تدخل دائرة الخطر والتهديد بالقتل أيضا على يد دياكو باعتبارها حبيبة آبيل، لكنها لم تتعلم مما سبق، وأقنعها آبيل بالحصول على المال من أجل الحفاظ على حياته بأن تذهب إلى والدها وتطالبه بحقها في المطعم الذي ورثته من أمها وهو نصف قيمة المطعم. تحصل إيلا بالفعل على نصيبها من المطعم وتعطي الأموال لآبيل من أجل التخلص من الدين وخطر الموت المحدق به، ويطلب منها أمام أحد محلات المساج انتظاره لحين تسليم المال والخروج إليها، لكنها تقلق عليه وحينما تدخل المكان تُفاجأ بأنه له باب خروج آخر خرج منه آبيل هاربا بالأموال.

إن مشهد اكتشافها لاختفاء آبيل بأموالها يمثل ذروة الفيلم الذي يؤكد لها انتهاء حياتها ومستقبلها تماما؛ حينما حاولت التضحية من أجله بكل ما تمتلكه من مال لافتداء حياته، لكنه خدعها وفر بالمال نتيجة هوسه بالمقامرات التي أدت إلى المقامرة بها شخصيا، وتعريض حياتها معه للخطر وربما القتل!

 هنا تحاول إيلا- من أجل استمرار حياتها- العودة للعمل في مطعم أبيها كنادلة لا يحق لها سوى راتبها فقط بعدما كانت مالكة للمطعم معه، بل وتقع إيلا تحت سطوة دياكو- أسوأ محصل ديون في باريس- الذي يهددها بالقتل إذا لم تجد آبيل وتسلمه له؛ الأمر الذي يجعلها تبحث عنه في كل صالات القمار، وكل مكان في باريس، لكنها لا تجده، بل ويتخلى عنها نسيم ابن عم آبيل مخبرا إياها بأن هذا عهده وسيظل مختفيا، إلى أن تأتيها مهاتفة من آبيل يطلب منها لقاءها ويخبرها عن الفندق الذي يقيم فيه متخفيا. تسرع إيلا إلى دياكو وتخبره عن مكان آبيل، وبالفعل تذهب إليه في الفندق لكنها تضعف أمام مشاعرها تجاهه ولا تستطيع تسليمه وتطلب منه الهرب معها إلى المكسيك أو أي مكان آخر للاختفاء من دياكو وسطوته، إلا أنه يطاردهما؛ فيقتله آبيل بتدمير سيارته ويحاول الهروب معها في محاولة منه ليكون مخلصا لها والتخلي التام عن إدمان المقامرة، لكنه يبصق الكثير من الدماء في السيارة ليقول لها: أراهنك أن السيارة القادمة ستكون سوداء. في استمرارية منه على الرهان والمقامرة حتى لحظاته الأخيرة، بل يقول لها مراهنا: اختاري لونا، سأبقى على الأسود- في إشارة إلى موته- بينما تختار هي الأحمر بلون مشاعرها وعشقها له، لكنه يكسب وتخسر إيلا حياتها بالكامل!

المُمثلة الفرنسية ستاتسي مارتين

لعل أهم ما يميز الفيلم الفرنسي "اللاعبون" هو لهاث مشاهده وسرعتها الكبيرة، بل وتطور أحداثه التي لا تترك للمشاهد الفرصة للتفكير فيما يدور؛ فكل شيء يلهث بشكل غير طبيعي مصورا العالم السفلي للحياة في باريس، وهذا يعود إلى المونتاج السريع اللاهث المتدفق الحيوي الذي أفاد الفيلم كثيرا للمونتير الفرنسي فرانسوا كويكيري، بل إن المصور كان حريصا على تدرج الألوان في الحياة الليلية سواء داخل صالات القمار أو في شوارع باريس بألوان أفيشات المقامرة المتدرجة التي تنبض بالكثير من الألوان الساخنة الدالة على صخب الحياة، وصخب الدائرة الجحيمية التي يحيا فيها بطلي الفيلم.

نلاحظ كذلك أن العنوان الأصلي للفيلم في الفرنسية Joueurs، وهو العنوان الذي تتم ترجمته باسم "اللاعبون" أكثر أهمية واقترابا وتناسبا من مفهوم الفيلم الذي قدمته المخرجة الفرنسية ماري مونج من العنوان الإنجليزي  Tread me Like Fire عامليني كاللهب؛ حيث يبدو الفيلم في جوهره كمجموعة من اللاعبين المقامرين على كل شيء، سواء في صالات القمار ونواديه، أو حتى من خلال الحياة العاطفية بين كل من إيلا وآبيل، فكلاهما يتلاعبان بكل شيء حتى الحياة التي انتهت بدمارها بالنسبة لها، وموته بالنسبة لحبيبها.

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة

عدد يناير 2023م

الأربعاء، 11 يناير 2023

طار فوق عش المجانين.. وفكرة تحطيم المُؤسسات

في مشهد من أهم المشاهد التي ستظل عالقة في ذاكرة المُشاهد لفترة ليست بالقصيرة، حتى أنها قد تُعد تلخيصا لمحتوى الفيلم الأمريكي One Flew Over The Cuckoo’s Nest طار فوق عش المجانين للمُخرج التشيكي الأصل الأمريكي الجنسية Miloš Forman ميلوش فورمان، نرى الزعيم- قام بدوره المُمثل الأمريكي Will Sampson ويل سامبسون- يضع الوسادة على وجه راندل ماكميرفي- قام بدوره المُمثل الأمريكي Jack Nicholson جاك نيكلسون- الخائر القوى تماما بعد تعذيبه بالعديد من الجلسات الكهربائية محاولا خنقه والتخلص من حياته، رغم الألم والحب الشديد الذي يشعر بهما الزعيم تجاه راندل، وسُرعان ما يهرب من المُستشفى بعد التخلص من حياة راندل ليستمتع بحريته بعيدا عن هذا المكان الكابوسي الذي يفقد جميع نزلائه حيواتهم وأحلامهم، وآمالهم، وخيالاتهم، وحيويتهم داخله!

إن هذا المشهد الذي أنهى به المُخرج فيلمه بقدر ما كان صادما، وبقدر ما فيه من قسوة؛ بسبب الصداقة القوية التي ربطت بين الزعيم وراندل، وحب كل منهما للآخر وتقاربهما، واتفاقهما على الهروب من المشفى إلى كندا، بقدر ما كان انتصارا حقيقيا للحرية وانطلاق الروح وتخلصها من أسر الخوف، والخضوع الذي يعيشه جميع نزلاء المشفى، فضلا عن أنه كان الثمرة الحقيقية للجهد الكبير الذي بذله راندل من أجل تخليص زملائه- من المجانين- للثورة على المُؤسسة الرسمية، واكتساب الإرادة والحرية، ووهج الروح الذي فقدوه لفترة طويلة طوال مُدة إقامتهم في هذا المكان الجحيمي الذي يبدو في ظاهره مكانا من أجل علاجهم رغم أنه في حقيقته مُجرد مكان يعمل على قتل أرواحهم، وسلب حيواتهم، وحريتهم، بل وعقولهم أيضا، وبث الكثير من الخوف والرعب داخل نفوسهم!


في عام 1975م قدم المُخرج ميلوش فورمان فيلمه المُهم في تاريخ السينما العالمية، حتى اليوم، وهو الفيلم الذي ما زال يحتفظ بحيويته وطزاجته حتى أنه قد يُخيل إلينا بأنه قد صُنع لتوه، ولم يمر عليه كل هذه الفترة من الزمن؛ نظرا لاهتمامه بمُناقشة مفهوم الحرية، والتمرد، ورفض القوانين المُقيدة لحرية الإنسان، والثورة على المُؤسسات الرسمية التي تبدو في ظاهرها ديمقراطية رغم ديكتاتوريتها القاسية التي تعمل على خنق الإرادات والروح الحرة المُنطلقة؛ فتطفئها حتى تزوى تماما ويتحول الإنسان من جراء فعلها إلى مُجرد شيء خارج عن حدود العقل، مُغيب تماما في عالم آخر عدمي لا قيمة له، وكأنما قد ذاب في الفراغ.

إذن، ففورمان هنا يتأمل مفهوم الحرية والتمرد، مفهوم الانطلاق إلى آفاق أرحب، مفهوم امتلاء المرء بالطاقة العاتية التي تجعله مُحبا وعاشقا للحياة، مفهوم الثورة على القيود التي قد تُكبلنا وتمنعنا عن مُمارسة حياتنا بسعادة وحرية، وهو ما أكسب الفيلم طزاجته التي ما زلنا نستشعرها فيه حتى اليوم.

يدور الفيلم في مشفى للأمراض النفسية والعقلية، وهو المشفى الذي تسيطر عليه المُمرضة راتشيد- قامت بدورها المُمثلة الأمريكية Louise Fletcher لويز فليتشر- الحريصة على تطبيق القواعد واللوائح المُنظمة للمكان بشكل صارم، وبثلجية وهدوء أعصاب، وعدم الشعور بالذنب نابع من يقينها بأنها تقوم بعملها كما ينبغي عليها أن تقوم به من أجل مصلحة نزلاء المصحة، أي أنها تطبق القواعد بحرفيتها، وليس من خلال اللجوء إلى روح هذه القواعد؛ الأمر الذي يجعلها تدفع نزلاء المشفى إلى المزيد من المرض النفسي والاعتلال، بدلا من العمل على مُساعدتهم في تخطي أزماتهم النفسية!


لا يمكن لوم المُمرضة راتشيد هنا فيما تفعله، وبالتالي فالمُشاهد لا يمكن له أن يشعر بالكراهية تجاهها؛ لأنها غير مُدركة بفداحة ما تقوم به تجاه نزلاء المصحة، بل ترى أنها تفعل كل ما تفعله لصالحهم- رغم أن الحقيقة تؤكد عكس ما تقوم به- بجلساتها النفسية اليومية، والحرص على إعطائهم العلاج الذي يؤدي إلى زيادة أزماتهم النفسية والعقلية التي يمرون بها، وبالتطبيق الصارم للقواعد المُجحفة في حقهم. إذن فهي ترى الأمر من وجهة نظر أخرى مُغايرة تجعلها تشعر بالرضى عن نفسها، وبما تقوم به، رغم أنه يؤدي إلى سلبهم جميعا لعقولهم وأرواحهم، وجوهرهم، والدفع بهم إلى خارج حدود العقل تماما.

يصل راندل ماكميرفي إلى المصحة بعدما تحوله إدارة السجن الذي كان نزيلا فيه إليها؛ للتأكد من مدى سلامة قواه العقلية. نُلاحظ أن ماكميرفي يمتلك روحا مُنطلقة، وثابة، وإقبالا غير طبيعي على الحياة يجعله مُتمردا على كل ما يحيطه لا سيما القواعد والقوانين؛ لذلك يراه كل من حوله مُشاغبا راغبا في تدمير كل شيء، مثيرا للفوضى أينما حلّ، رغم أنه لا يرغب سوى في مُمارسة حريته، وتحرير روحه، ومُمارسة حياته بشكل يليق بها، وبالطاقة الهادرة الكامنة فيه تجاه الحياة.


يبلغ ماكميرفي 38 عاما، وهو مُتهم في قضية اغتصاب قاصر عمرها خمسة عشر عاما، لذلك في نقاشه مع مُدير المصحة نسمعه يقول له: لقد كان سنها 15 عاما، لكنها تبدو وكأنها على وشك أن تتم الخامسة والثلاثين، وهي قد أخبرتني أن سنها 15 عاما، ولقد كانت راغبة بشدة في ذلك، هل تعرف ما أقصده؟ أنا بالكاد استطعت إغلاق زمام البنطال، ولكن بيني وبينك، لقد كان عمرها بالفعل خمسة عشر عاما، ولكن حينما ترى هذه السيقان الجميلة أمامك مُباشرة فلا أظن أنه جنون على الإطلاق أن تفعل ذلك.

ألا نُلاحظ هنا أن ماكميرفي يمتلك من الإدراك والعقل ما يجعله بعيدا تماما عن دائرة الجنون، أو غياب العقل، أو حتى مُجرد الادعاء؟ إنه ما أكده للطبيب/ مُدير المصحة حينما سأله عما إذا ما كان يشعر بالجنون؛ فرد عليه ماكميرفي بأنه عاقل تماما، بل إن عقله هو مُعجزة العلم الحديث، أي أنه لم يدع الجنون، وبالتالي فالدفع به من قبل إدارة السجن إلى هذا المكان كان فيه الكثير من الظلم له لمُجرد أنه لا يلتزم بالقواعد والقوانين، ويثير الكثير من الفوضى والشغب بين زملائه في السجن، وهو ما لم يعتاده رجال السجون في أحد السُجناء من قبل.


إن ذهاب ماكميرفي إلى المصحة كان كفيلا بتدميره، والدفع به إلى الجنون الحقيقي رغم سلامة قواه العقلية، لكنه لم يستسلم لما يتم مُمارسته على نزلاء المصحة، بل كان مُتمردا على القوانين والقواعد، حتى أنه قد دفع غيره من المجانين إلى الثورة على كل ما يحيط بهم، وعدم الاستسلام والرضى، بل كان حريصا على تعريفهم مفهوم الحرية الذي لا يعرفونه بدلا من الرضوخ لما يُمارس تجاههم، ونجح كثيرا في علاجهم بطريقته، وجعلهم يقبلون على الحياة بحب من خلال أسلوبه في التعامل معهم، وأخذهم مأخذ الجدية بدلا من اعتبارهم مُجرد مجانين لا يدركون ما يدور من حولهم.

يقدم لنا المُخرج، من خلال فيلمه، العديد من النماذج المُختلفة من المجانين؛ فنرى بيلي- قام بدوره المُمثل الأمريكي Brad Dourif براد دوريف- الشاب الذي ما زال في مُقتبل العمر حتى أنه لم يتم العشرين من عمره، لكنه يعاني من التلعثم وصعوبة الكلام بشكل طبيعي؛ نتيجة العديد من الأزمات النفسية، وهاردنج- قام بدوره المُمثل الأمريكي William Redfield وليام ريدفيلد- الزوج الذي يعاني العديد من الأزمات النفسية بسبب شكه الدائم في سلوك زوجته وخيانتها له، ومارتيني- قام بدوره المُمثل الأمريكي Danny Devito داني ديفيتو- الرجل الشديد الحساسية تجاه كل ما يدور من حوله، والمُتعاطف مع الجميع، وغيرهم من النماذج النزيلة في هذه المصحة التي تحكمها المُمرضة راتشيد بشكل غير قليل من الصرامة والثلجية والقسوة باعتبارها تؤدي وظيفتها وواجبها كما ينبغي لها أن تقوم به؛ لذلك لا تشعر بأي ذنب أو ثقل في ضميرها تجاههم.


تحاول راتشيد يوميا عقد جلسات علاج نفسي جماعي تحاول من خلاله جعل النزلاء الحديث عن أنفسهم، بل والضغط عليهم من أجل الحديث؛ اعتقادا منها أن ما تفعله يساعدهم على تجاوز أزماتهم، وشفائهم، كما تحرص على مُمارستهم تمارين يومية سقيمة، وإعطائهم مجموعة من الأدوية التي ترى فيها علاجهم رغم أن هذه الأدوية تؤدي إلى مُضاعفة حالتهم المرضية وتجعلها أكثر سوءا مما كانت عليه؛ لذلك نراها أثناء إحدى جلسات العلاج النفسي الجماعي تقول: السيد هاردنج وضح أن زوجته جعلته يشعر بعدم الراحة؛ لأنها كانت تجتذب أنظار الرجال في الشارع. وتحاول جذب الآخرين من المرضى للحديث عن أنفسهم، لكنهم يمتنعون عن الاشتراك في ذلك مُفضلين الاستماع فقط.

نُلاحظ أن ماكميرفي مُنذ اللحظة الأولى التي دخل فيها المصحة يشعر بعدم الراحة، والرغبة في مُمارسة حياته بحرية غير خاضع للقواعد والقوانين؛ فيعلم النزلاء جميعا لعب الورق، ويحول المصحة إلى صالة صغيرة للمُقامرة، وهو ما يسعدهم كثيرا ويكسبهم المزيد من الحيوية، كما يشعر بالكثير من الضيق لأن المُمرضة راتشيد تُصرّ دائما على تشغيل الموسيقى للمرضى بصوت عال جدا؛ الأمر الذي يجعل من يرغب في الحديث إلى غيره مُضطرا إلى رفع صوته إلى درجة كبيرة كي يسمعه الآخر؛ لذا يقول لها: هل من المُمكن خفض صوت المُوسيقى حتى يستطيع أي اثنان هنا التحدث؟ لترد عليه بثلجية: المُوسيقى لكل فرد هنا سيد ماكميرفي. فيقول: أعلم، لكن هل من المُمكن، بعد إذنك، إخفاضها قليلا حتى لا يضطر الفتيان للصياح؟ فتقول: ربما ما لا تُدركه تماما أننا لدينا الكثير من كبار السن في هذا العنبر الذين لا يمكنهم سماع المُوسيقى إذا ما خفضنا الصوت أكثر من ذلك، هذه المُوسيقى هي كل ما لديهم.


إن هذا الحوار القصير الذي دار بين كل من راتشيد وماكميرفي يُدلل لنا على قدر البيروقراطية وعدم الفهم اللذين تتمتع بهما راتشيد في إدارة المصحة؛ فالمُوسيقى بالفعل تمنع أي اثنين من الحديث بشكل طبيعي، أو سماع بعضهما البعض، لكنها رغم ذلك ترفض إخفاضها مُتجاهلة صخبها بدعوى أن كبار السن لا بد لهم من أن يستمعوا إليها، وكأنها بإزعاجها للآخرين بمثل هذه الشكل من الضجيج تؤدي واجبها تجاه الآخرين!

لا يكتفي ماكميرفي بإصراره على مُمارسة حياته بشكل طبيعي فيه الكثير من الإقبال على الحياة ورفض القوانين التي قد تحد من حريته واستمتاعه بالحياة، بل يعمل على مُساعدة من حوله من المجانين على حب حيواتهم ومُمارستها بإقبال وبهجة، ففضلا عن تعليمهم لعب الورق والرهانات، وهي اللعبة التي شعروا معها بالكثير من المُتعة، نراه يحرص على تعليمهم لعب كرة السلة في ملعب المصحة، بل يلجأ إلى تعليم الزعيم اللعب معهم ومُشاركته لهم رغم أن الزعيم لا يسمع ولا يتكلم، لكنه لا يشعر بالملل من مُساعدته على الاشتراك معهم وتعليمه حب الحياة، فنراه في الملعب يضع الكرة بين يديه ويشير إليه بيديه من أجل وضع الكرة في مرماها؛ فيشعر رجل الأمن بالدهشة قائلا له: ماكميرفي، لماذا تكلمه بحق الجحيم؟! إنه لا يستطيع سماع أي شيء. ليرد عليه: أنا لا أتحدث إليه، أنا أكلم نفسي، إن ذلك يساعدني على التفكير. فيقول الحارس: نعم، لكن ذلك لا يساعده في شيء. فيقول ماكميرفي: حسنا، إنه لا يضره أيضا، أليس كذلك؟


إن إصرار ماكميرفي على تعليم الزعيم، ضخم الجثة كجبل مُتحرك، رغم يقينه بأنه لا يسمعه يُدلل على أنه راغب في جذب جميع نزلاء المصحة إلى الحياة ومُمارستها بدلا من الانزواء بعيدا عنها، أو انسحابهم منها، أي أنه قادر على منح الآخرين الكثير من طاقته التي يمتلئ بها حد التخمة، كما لا يفوتنا جملته التي قالها للحارس في الحوار السابق حينما قال له: أنا لا أتحدث إليه، أنا أكلم نفسي، إن ذلك يساعدني على التفكير. إن هذه الجملة التي حرص عليها ماكميرفي تدل على أنه يقاتل من أجل الحفاظ على صحته العقلية وعدم الانغماس مع باقي المرضى فيما يحدث من حوله، أو الدفع به إلى الجنون ليكون مثلهم؛ فجميع المُمارسات التي تتم مُمارستها على النزلاء لا يمكن لها أن تؤدي بهم إلا إلى طريق واحد، وهو الخروج بعيدا عن حدود العقل؛ لذلك فهو يحاول التغلب على هذه المُمارسات بتحديها، ورفضها، بل وكسر القواعد والقوانين، والحديث إلى الزعيم الذي لا يسمع ولا يتكلم، وهو ما يجعل الزعيم- الذي يعيش دائما في عزلة عن الآخرين- قريبا منه، مُحبا له رغم أنه غير قادر على التواصل معه.


إن المُمارسات الصارمة التي تتم مُمارستها ضد النزلاء تتضح لنا بشكل جلي وقاس في إحدى جلسات العلاج النفسي حينما يقول ماكميرفي للمُمرضة: اليوم كما تعلمين أو لا تعلمين، لا يهم، هو افتتاح بطولة العالم، ما أريد اقتراحه هو تغيير تفاصيل العمل اليوم كي نستطيع مُشاهدة المُباراة. لكنها ترد ببرود: حسنا سيد ماكميرفي، إن ما تطلبه هو تغيير جدول وُضع بعناية شديدة. فيقول: بعض التغيير لا يضر أبدا، صحيح؟ بعض التنوع. لكنها تقول: ليس هذا صحيحا بالضرورة، بعض الرجال في العنبر يأخذون أوقاتا طويلة للاعتياد على الجدول، وتغييره الآن من المُمكن أن يجدونه مُربكا جدا. ليرد غاضبا: تبا للجدول، يمكنهم العودة للجدول بعد البطولة، أنا أتحدث عن بطولة العالم أيتها المُمرضة. فتقول: حسنا، على أي حال لا سبيل لأن نستكمل هذا الطلب، كيف الحال إذا ما أخذنا الأصوات وتركنا الأغلبية تقرر؟

إن راتشيد لديها من اليقين بأن جميع النزلاء لديهم من الخشية والتردد وعدم امتلاك الإرادة الحرة ما يجعلهم غير قادرين على الانسياق خلف ماكميرفي- رغم حبهم له- فيما يرغبه؛ لذلك حينما يوافق على التصويت لا يجد من يؤيده من المرضى في تغيير الجدول اليومي سوى اثنين فقط وهو ما يشعره بالإحباط.

المخرج التشيكي الأصل الأمريكي الجنسية ميلوش فورمان

لكن لأن النزلاء يشعرون تجاهه بالكثير من الحب والإعجاب يطلب أحدهم في الجلسة التالية إعادة التصويت مرة أخرى، وحينها يرفع تسعة من النزلاء أيديهم كدليل على موافقتهم وتأييدهم لطلب ماكيرفي، لكنها تصدمهم بقولها أن العنبر فيه 18 نزيلا، وأنها في حاجة إلى المزيد من الأصوات كي توافق على طلبهم؛ مما يجعل ماكميرفي يشعر بالغبن والدهشة الشديدة؛ لأن باقي النزلاء لا يدركون ما يدور حولهم من أمور بل إن عقولهم مُغيبة تماما. يسرع ماكميرفي محاولا إقناع الآخرين للتصويت معهم، لكنهم لا يدركون شيئا، وأخيرا يلجأ للزعيم الذي ينضم إليهم، لكنها ترفض رغم ذلك!

مع رفض راتشيد يشعر ماكميرفي بغضب شديد، لكنه يحاول دائما التغلب على الظروف المُحيطة به، والتي قد تدفعه إلى الجنون، أو الوقوع في أسر أزمة نفسية مثلما يعاني من حوله من النزلاء. إنه غير راغب في فقد روحه لحيويتها؛ لذلك يتغلب على غضبه بجلوسه أمام التلفاز محاولا تخيل نفسه يشاهد إحدى المُبارايات ويبدأ في التعليق عليها، ويصيح فرحا لرؤيته أحد الأهداف؛ الأمر الذي يجعل المجانين يندمجون معه وكأنهم بالفعل يشاهدون المُباراة ويبدأون في التصايح معه؛ مما يحيل المكان إلى فوضى لا يمكن السيطرة عليها.

الممثل الأمريكي براد دوريف

إنه الإقبال على الحياة ومُمارستها في أفضل صورها من خلال الطاقة العظيمة التي يحيا بها ماكميرفي، وهي الطاقة التي يبثها فيمن يحيطون به من نزلاء المصحة؛ فيمنحهم قدرا كبيرا من الحياة والرغبة في مُمارستها بسعادة وإقبال، بل والتغلب على مشاكلهم النفسية التي يعانون منها، لذلك حينما يراهم يتشاجرون على أوراق اللعب يفتح عليهم المياه ليغرقهم جميعا مُستمتعا ضاحكا، أي أنه يمتلك من عشق الحياة ما يجعله يقابل كل ما يواجهه من صعوبات بالضحك والسُخرية.

لا يكتفي ماكيرفي بالفوضى التي أثارها في المصحة مُنذ دخلها، بل يحاول أيضا الهروب وتهريب النزلاء معه من أجل الاستمتاع برحلة حرة بعيدا عن النظام والقيود المفروضة عليهم؛ فيهرب من المصحة أثناء استعداد النزلاء لرحلة خارجها، ويقود الأتوبيس هاربا بهم، ليذهب إلى بيت صديقته كاندي- قامت بدورها المُمثلة الأمريكية Mews small ميوز سمول- مُصطحبا إياها معهم في رحلتهم، ثم يقوم بسرقة أحد اليخوت والدخول به إلى البحر من أجل رحلة صيد!

ربما كان هذا المشهد من المشاهد المُهمة في الفيلم؛ لأن حارس اليخوت حينما يتشكك فيهم يذهب إليهم مُستفسرا عن هوياتهم؛ فيؤكد له ماكميرفي بأنهم من مصحة الولاية وأنهم مُجرد أطباء ذاهبين في رحلة صيد، بل ويقدم كل واحد منهم إلى الحارس باسمه باعتباره طبيبا! يتجه ماكميرفي باليخت إلى عرض البحر، ويساعدهم جميعا على الصيد، وحينما يعود من الرحلة يكونوا بالفعل قد اصطادوا كمية لا بأس بها من الأسماك، لكن أفضل ما قام به أنه قد عاد بجميع النزلاء وقد شعروا بالكثير من السعادة والحيوية، وحب الحياة، والإقبال عليها، وهو الشعور الذي لم يشعروا به من قبل، أي أن ما يقوم به ماكميرفي من فوضى، وكسر للقواعد والقوانين هو في حقيقته طريقة ناجعة لعلاج النزلاء ومُساعدتهم على تخطي أزماتهم، بل إنه يبث داخلهم روح التمرد من أجل اقتناص الحياة التي يفتقدونها.

الممثل الأمريكي جاك نيكلسون

تجتمع إدارة المصحة راغبة في إعادة ماكميرفي إلى السجن مرة أخرى؛ لاقتناعهم بأنه ليس مجنونا، لكن المُمرضة راتشيد- التي تمارس عملها بشكل صارم يفتقد للروح والفهم- ترفض ذلك، وترى بأنه في حاجة إلى العلاج قائلة: إذا أعدناه على أنه مُشاغب سيكون الأمر مُجرد طريقة أخرى لرمي أعبائنا على الآخرين!

إن يقينها بأنها تفعل الصواب، يجعلها ترفض عودته للسجن، رغم أن ما تقوم به لا بد له أن يدفعه في النهاية إلى حافة الجنون الحقيقي. يشعر راندال ماكميرفي بالكثير من المسؤولية تجاه زملائه من نزلاء المصحة، وهو ما يجعله حريصا على مُشاركتهم في كل شيء، وتوعيتهم إلى معنى التمرد، والحياة، وكسر الروتين والقوانين المفروضة عليهم، أي أنه حريص على بث الحياة الحقيقية في نفوسهم. لذلك حينما يضرب ماكميرفي أحد الحراس دفاعا عن مارتيني الذي تمنع عنه راتشيد سجائره وكأنها تمنع الحلوى عن أحد الأطفال، يضربه حارس آخر محاولا تقييده، وهو الأمر الذي يدفع الزعيم الضخم الجثة يدافع عن ماكميرفي الذي يحبه الجميع. هنا يتم تقييدهم وإعطائهم جلسات صدمات كهربائية من أجل السيطرة عليهم. لكن ماكميرفي يكتشف أن الزعيم ليس أصما ولا أبكما، بل هو قادر على الحديث والاستماع، لكنه فضل أن ينعزل وحده، ويدعي ذلك بدلا من الاشتراك في هذا الجنون الذي يدور من حوله. يتفق ماكميرفي مع الزعيم على الهروب والاتجاه إلى كندا، ويوافق الزعيم.

حينما يعود ماكميرفي من الجلسة الكهربائية ويشترك في جلسات المُمرضة للعلاج النفسي يكتشف أن العديد من النزلاء موجودين في المصحة باعتبارهم متطوعين، وأن القليلين منهم هم من يتواجدون رغما عنهم لا سيما المُغيبين تماما؛ لذلك ينفعل عليهم لا سيما على بيلي/ الشاب اليافع المُتلعثم قائلا بغضب: إنك مُجرد فتى صغير، ماذا تفعل هنا؟! المفروض أن تكون بالخارج في سيارتك المكشوفة تُعاكس الفتيات الجميلات، وتُضاجع النساء، ماذا تفعل هنا بحق السماء؟! رباه! أعني أنكم يا رفاق لا تفعلون شيئا سوى الشكوى من كيف أنكم لا تطيقون هذا المكان، وليست لديكم الشجاعة للخروج منه؟ ماذا تعتقدون أنفسكم بحق الله؟! مجانين أو شيء من هذا القبيل؟! حسنا، أنتم لستم كذلك، إنكم لستم بأجن من أي وغد عادي يسير في الشارع مُطمئنا.

الممثل الأمريكي داني ديفيتو

لكنهم كانوا قد تم تدجينهم، واعتادوا الخضوع والانصياع لقواعد المصحة الصارمة؛ ومن ثم بات العالم الخارجي بالنسبة إليهم جميعا شيئا مُرعبا غير قادرين على المُشاركة فيه، أو الحلم به.

ينتظر ماكميرفي في إحدى الليالي انصراف المُمرضة ويقوم بمُهاتفة كاندي طالبا منها الاتجاه إلى المصحة هي وإحدى صديقاتها وجلب بعض الشراب معها، كما يتفق مع الزعيم على الهروب من المصحة في تلك الليلة. وبالفعل ينجح في إغراء الحارس الليلي للسماح لكاندي وصديقتها بالدخول حينما يخبر الحارس بأنه يستطيع مُضاجعة صديقة كاندي. هنا يقيم ماكميرفي حفلا من اللهو والشراب والمُتعة لجميع زملائه من نزلاء المصحة في هذه الليلة، وهو الحفل الذي كان بمثابة العلاج النفسي لهم جميعا، والخروج بهم من أزماتهم؛ لذلك تنفك عقدة لسان الشاب اليافع بيلي الذي لم يكن من المُمكن له الحديث بسهولة. إلا أنه حينما تعرف على كاندي وأُعجب بها وحادثها، بل وضاجعها في نهاية الليلة تحت ضغط من ماكميرفي نراه يتحدث بانطلاق ومن دون أي لعثمة، أي أن ماكميرفي قد ساعده على الشفاء من وهمه/ مرضه بدفعه لمُمارسة الحياة الطبيعية، والاحتفال بها.

لكن هل هرب ماكميرفي من المصحة في تلك الليلة كما خطط للأمر؟ في الصباح نرى ماكميرفي مُستلقيا بجوار النافذة التي فتحها من أجل الهروب مع الزعيم، كما نرى المصحة قد تحولت إلى فوضى عارمة إثر الاحتفال الليلي الذي مارسه النزلاء بفضل ماكميرفي. أي أنه فضل البقاء معهم في النهاية رغم أهمية الحرية التي كان يتشوق إليها، لكن رغم قيمة هذه الحرية بالنسبة له رأى أن صداقته مع النزلاء أهم بكثير منها؛ لذلك فضل البقاء معهم من أجل دفعهم إلى المزيد من الرغبة في الحياة والحرية.

الممثلة الأمريكية لويز فليتشر

حينما تكتشف المُمرضة راتشيد ما حدث، وتعرف أن الشاب بيلي قد مارس الجنس مع كاندي توبخه وتهدده بأنها ستخبر والدته بما كان؛ الأمر الذي يجعله ينتحر خشية. لكن ماكميرفي بمُجرد ما رأى بيلي مُنتحرا يسرع غاضبا باتجاه راتشيد محاولا قتلها خنقا، عازما على الانتقام للفتى وكل نزلاء المصحة، إلا أن الحراس يتكاثرون عليه ليغيب عن الوعي.

يتم إنقاذ راتشيد التي تصاب بكسر في العنق فقط، وتعود إلى مُمارساتها الصارمة تجاه نزلاء المصحة وكأن شيئا لم يكن، وبما أنها تقوم بعملها مُعتقدة أنه الصواب؛ فهي لا تشعر بأي ذنب تجاه ما حدث، وفي نفس الوقت يمارس الأطباء العديد من الجلسات الكهربائية على ماكميرفي، وهي الجلسات التي تفقده عقله تماما، بل والمقدرة على الحركة أو الوقوف على قدميه، أي أنه يتحول إلى مُجرد جثة لا روح فيها سوى الأنفاس التي تخرج من فمه؛ لذلك حينما يراه الزعيم بمثل هذه الصورة يشعر بالألم الشديد ويرى أن موت ماكميرفي وتحرير جسده أفضل له من أن يظل بمثل هذا الشكل المسلوب الحياة الذي حوله إليه الأطباء بمُمارساتهم واضطهادهم له؛ فيضع الوسادة على وجهه مُقيدا إياه حتى يلفظ أنفاسه تماما، ثم يقوم بتحطيم النافذة والهروب من المصحة لينتهي الفيلم على مفهوم الحرية الذي بذره ماكميرفي في الزعيم، ومفهوم التمرد الذي بذره في جميع النزلاء.

الممثل الأمريكي وليام ريدفيلد

إن مفهوم الحرية والرغبة الحقيقية في الحياة كان هو الهدف الذي يقصده المُخرج ميلوش فورمان من خلال فيلمه. هذا المفهوم هو ما نُلاحظه في قول الزعيم لماكميرفي: أبي كان كبير الحجم، كان يفعل ما يحلو له، لهذا اضطهده الجميع، آخر مرة رأيت فيها والدي كان قد أُصيب بالعمى من الشُرب وسط أشجار الأرز، وفي كل مرة كان يضع فمه على الزجاجة لم يكن يشرب منها، بل كانت هي التي تشرب منه حتى تهدل جسده، وتجعد، واصفر لونه حتى صارت الكلاب لا تعرفه. فيسأله ماكميرفي: لقد قتلوه، أليس كذلك؟ ليقول الزعيم: أنا لم أقل أنهم قتلوه، لقد اضطهدوه فقط كما يضطهدونك الآن!

إن هذا الحوار المُهم الذذي دار بين الزعيم وماكميرفي يلخص لنا مفهوم الفيلم الذي قدمه المُخرج التشيكي الأصل ميلوش فورمان، فهو لا يتحدث عن الجنون، ولا عن مجموعة من المجانين في إحدى المصحات النفسية، بل هو يتحدث عن الحرية التي يتم قمعها، واضطهاد من يمارسها لدرجة دفعه إلى الجنون، أو الموت، أو فقده لحيويته وروحه ليمسي مُجرد جسد لا حياة فيه، وهو ما حدث لوالد الزعيم لأنه أصر على مُمارسة حياته بحرية، وهو أيضا ما كان مصير ماكميرفي الذي أصر على الحياة كما يحلو له من دون قيود، أي أن فيلم "طار فوق عش المجانين" هو فيلم يؤكد لنا بأن التنازل عن الكثير من السُلطة للحكومات لا بد أن يقتل الإنسان فينا، ويعطيهم الفرصة في قتلنا وفقدنا لأرواحنا وانطلاقها، هو أمر يقتل فينا جوهرنا الحقيقي والتوق للحرية. إنه أحد أهم الأفلام الذي يؤكد على ضرورة مُعاداة وتحطيم المُؤسسات التي تعمل على التحكم في حيواتنا، وإرادتنا، وانطلاقنا باسم القانون أو القواعد، ولعل إصرار ماكميرفي الدائم على إثارة الفوضى وكسر القوانين المُقيدة له دليل على أن الحرية أغلى بكثير من أي فكرة للسيطرة حتى لو كان ثمن هذه الحرية هو فقد حياته وتدميرها تماما كما حدث معه في النهاية من قبل أطباء المصحة. لكننا سنُلاحظ أن قتل الزعيم لماكميرفي في نهاية الأمر كان هو الحل المُناسب والصحيح، رغم قسوته الشديدة، لأن الصدمات الكهربائية المُركزة والمُتتالية التي مارسها الأطباء على ماكميرفي لم تتركه سوى جثة خاوية فاقدة للحياة. مُجرد جسد من دون روح، أو إرادة، وبما أن ماكميرفي هو من بث مفاهيم الحرية، والانطلاق، وعشق الحياة، والتمرد، والرفض، والتحدي داخل الزعيم وغيره من النزلاء، كان لا بد للزعيم من قتل ماكميرفي من أجل تحرير روحه الثائرة المُتمردة دائما، بدلا من تركه على هذا الشكل المُؤلم الذي صار إليه.

الممثلة الأمريكية ميوز سمول

يؤكد لنا الفيلم الأمريكي طار فوق عش المجانين للمخرج ميلوش فورمان أن القانون والقواعد ليسا بالضرورة من أجل تنظيم الحياة، بل من المُمكن أن يتم وضعهما وتنفيذهما من أجل قتل الحياة فينا، كما أن كسر هذه القواعد والقوانين وإثارة الفوضى بشكل ظاهري لا يعني مُجرد تمرد وفوضى، بل هو شكل من أشكال عشق الحياة، ومُمارستها بإقبال، والحرص على امتلاك حريتنا التي يحاول الآخرون سلبها منا باسم القانون!

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد يناير 2023م.