الخميس، 25 أغسطس 2022

جيم: السرد ذو الأوجه المُتعددة!

ثمة فارق شاسع بين مُبدع قادر على مُمارسة الكتابة الإبداعية بمُتعة مصدرها المعرفة المتواشجة مع موهبته، وبين آخر يمتلك الموهبة الإبداعية لكنه يفتقر إلى المعرفة اللازمة التي من شأنها العمل على إظهار وتشكيل مقدرته الإبداعية، ومُساعدته على مُمارسة اللعب الفني بوعي؛ الأمر الذي ينقل مُتعة التلاعب السردي، بدوره، إلى القارئ الذي يظل مُنتبها ومُتسائلا ومتشوقا حتى نهاية النص الفني؛ نظرا لمقدرة الكاتب التي من شأنها مُساعدته على ابتكار أساليب مُختلفة من الدهشة.

بمعنى آخر، إن اطلاع الكاتب على العديد من الروافد الثقافية من شأنها أن تنعكس على النص الفني في نهاية الأمر؛ لتكسبه الكثير من العُمق، والوعي الثقافي، والمزيد من الدهشة؛ مما يجعله مُتميزا عن غيره من النصوص الأخرى التي يكتبها بعض الكُتاب الذين يتكاسلون عن الاطلاع، فيقع نصهم الفني- رغم موهبتهم- في العادية، وربما السذاجة  مُفتقدا للدهشة التي هي الجوهر الحقيقي لأي شكل من أشكال الفن.

 هذه الدهشة التي تتركها المعرفة على النص الفني هي ما سنُلاحظه بشكل جلي في رواية "جيم" للروائية الجزائرية سارة النمس، حيث تظل الروائية تُصعِد من وتيرة التشويق مع التقدم عبر صفحات الرواية إلى أن تصفعنا في النهاية بدهشة مدويّة لم نكن ننتظرها؛ فينقلب مفهوم النص الروائي في النهاية إلى مفهوم جديد يجعلنا راغبين في إعادة القراءة مرة أخرى من أجل تلقيه بشكل مُخالف تماما للشكل الذي اعتقدناه فيما قبل، وإعادة تشكيل العالم الذي تخيلناه على أسس جديدة، بل ونتيقن أن اطلاع الكاتبة مُتضافرا مع موهبتها السردية هما ما أكسبا النص شكلا جديدا أكثر عمقا مما استقر في ضميرنا أثناء القراءة الأولى.

إن هذه المقدرة على كسر أفق توقع القارئ، ومحو كل ما دار في ذهنه، وإعادة ترتيب العالم الروائي بشكل مُغاير تماما إنما يُدلل على كاتبة تعي جيدا ما تفعله، بل وتستمتع بالعملية السردية باعتبارها لعبة فنية قادرة على الخلق بشكل مُختلف.

تبدأ سارة النمس روايتها بمقطع صادم يعمل على استفزاز القارئ والانتباه لما يقرأه، أي أنها تتعمد مُنذ الكلمة الأولى على امتلاك القارئ بالكامل من خلال الصدمة التي تعمدتها، وهي رغم عمديتها في هذه الصدمة إلا أنها لم تبدُ لنا صدمة مُفتعلة لمُجرد امتلاك انتباه القارئ، بل كانت مُتسقة تماما مع نفسية الراوي الذي بدأت به الرواية- حيث تعتمد الروائية في نصها على تعدد الرواة؛ الأمر الذي يعطيها المزيد من الحرية في السرد، والمزيد من وجهات النظر- فنقرأ: "الله الذي قاطعته مُنذ سنوات قليلة، اعتدت على التحدث معه كما لو كان صديقي الوحيد الذي يعرفني أكثر مما أعرف نفسي، تواصلتُ معه في جميع حالاتي؛ فإذا كنت حزينا شكوت له همي، وإذا كنت مُبتهجا مازحته كما لو كان جالسا على الكرسي المُقابل، كان إيماني به قاطعا ومُطلقا، ولا مجال لشك صغير أن يتسلل إلى رأسي. واليوم ما عدت أحدثه، ليس لدي ما أقوله له! لن أطرح عليه ذلك السؤال الذي يطرحه الناس في المصائب: لماذا أنا؟!".

إذا ما تأملنا الاقتباس السابق سنُلاحظ أن الروائية مُنذ الجملة الأولى قد تعمدت الصدمة بحديثها عن الله الذي تمت مُقاطعته، وهو ما يجعل القارئ راغبا في معرفة السبب، كما سنعرف أن الراوي هنا رجل وليس امرأة، أي أن الروائية تتمثل الرجل في كتابتها وتحكي على لسانه، وسنعرف أنه شاب جزائري اسمه لمين يعيش في وهران مع أمه التي تسعى عليه هو وأخته إكرام من أجل إعالتهما بعد مقتل والدهما مذبوحا على يد جبهة الإنقاذ في العشرية السوداء حينما كان ما زال طفلا.

يشعر لمين بالكثير من التعاسة التي لا تصرح الكاتبة بأسبابها دفعة واحدة، بل سنعرفها مع التقدم في صفحات الرواية، حيث تبث هذه الأسباب- التي تتكشف لنا واحدة تلو الأخرى- بهدوء ودونما افتعال، لكنه يشعر بالاختناق من الحياة في وهران بعدما عانى فيها كثيرا؛ لذلك سيفكر في الابتعاد عنها وعن العالم بأكمله بالذهاب إلى أقصى نقطة في الجزائر حيث يرغب في السفر إلى تمنراست في قلب الصحراء: "بعد الحادث الذي تعرضتُ له ووفاة والدتي، قررت البحث عن نفسي في مكان آخر؛ وبما أن شابا إفريقيا أعزب مثلي لا حظ له بالعيش في بلد أوروبي، قررت الاختباء في ذيل هذه البلاد! في أبعد مدينة وآخر نقطة جغرافية فيها، مدينة صحراوية اسمها تمنراست. سأعيش في صحراء قاحلة، مع أناس يجهلون من أكون باللاجدوى نفسها، أعمل وآكل وأنام، وأتمدد تحت الشمس الحارقة علّني أموت بضربة شمس، أجل، لا شيء يغريني كالانتحار، على الرغم من تحفظي على هذا المُصطلح السخيف الذي لا يسعُ معنى أن يُنهي إنسان بائس حياته بشجاعة. كنت جبانا جدا، حاولت وفشلت، ربما لأنني في لاوعيي ما زلت أحب الحياة قليلا، ولم يتمكن اليأس من قلبي كليا"! إن شخصية لمين- كما تقدمها لنا الكاتبة- هي شخصية تعاني من الكثير من اليأس والاندحار وعدم الرغبة في الحياة، أو الانخراط فيها، ورغم أنها لا تفضي لنا بالسبب في ذلك إلا أنها تتابعه- روائيا- من خلال مشاعره، وما يفكر فيه، ورغباته، من دون إيضاح السبب في هذه الحالة البائسة التي وصل إليها، أي أنها تترك أحداثها تنضج على مهل من دون أي تعجل في الإفضاء بها.

يتحدث لمين عن جيرانه الذين كان يحلو له التلصص عليهم من أجل قتل الوقت، وجارته ناديا التي شعر أمامها بالكثير من الرغبة من طرف واحد، لكنها حينما تزوجت شعر بأنها قد خانته، وإن لم يتوقف عن التلصص عليها أيضا، إلى أن يصل إلى محطة الباص مُستعدا للرحيل في رحلة طويلة من أجل الوصول إلى تمنراست. إن تتبع الروائية للمين في مشاعره وتصرفاته حتى وصوله إلى محطة الباص إنما يُدلل لنا على أنها تعمل على تشكيل العالم الروائي والتمهيد له بروية من أجل بنائه بشكل مُتقن؛ حيث أن هذا التمهيد هو الذي سيؤدي إلى ظهور شخصية جيم في حياته وأثرها الخطير عليه فيما بعد حينما يرى فتاة جميلة بشكل غير مألوف، خضراء العينين تستعد لركوب الباص وحيدة بينما تبدو وكأنها تعيش في عالم مُنفصل تماما عن العالم المُحيط بها، وهو ما يدفع لمين للاهتمام بها- نظرا لجمالها اللافت، ووحدتها غير الطبيعية- وبما أنه قد شاهد مُفكرتها تسقط منها؛ فلقد التقطها لتكون سبيله من أجل التعرف عليها، لكنه حينما حاول الجلوس إلى جانبها وفتح مجال للحديث معها تعاملت معه بجفاء وتعالٍ شديدين: "كنت سأعيد إليها مفكرتها اللعينة، وأختفي في مقعد بعيد، وأنسى رغبتي الغامضة بمعرفتها. انتظرت منها تحية فاترة على الأقل، أو سؤالا بسيطا يتمثل في ماذا أريد؟ ولكنها لم تنطق حرفا واحدا لمُخاطبتي. إنها ترفض حتى قول: مساء الخير، وكأن مُخاطبتي ستكون خطيئة ترتكبها في حق نفسها، ولا يجب على من مثلها الاختلاط بمن هم مثلي"؛ الأمر الذي جعله يعطيها مُفكرتها ويبتعد في مقعد خلفي، لكنه عاد للمحاولة مرة أخرى وطلب منها الجلوس إلى جانبها؛ فوافقت شريطة عدم الحديث معها، إلا أنه حاول مُحادثتها طالبا منها الاستماع إليه فقط لرغبته في الإفضاء إلى أي إنسان عن جرائمه الكثيرة التي ارتكبها في حياته لا سيما جريمة قتل أمه، وهو ما شد انتباهها وجعلها بالفعل تنصت إليه ليبدآ في تجاذب أطراف الحديث: "أنا يا أختي رجل هارب إلى مكان لا حياة فيه؛ لأعاقب نفسي على خطاياي. لو تعلمين أي الحماقات ارتكبت لما سمحت لي بالجلوس إلى جانبك. أعاني مُنذ سنوات لأنني آذيت كل الذين أحببتهم، وكان آخرهم والدتي. كيف أسامح نفسي على ما فعلته بها؟ لقد قتلتها! هل تفهمين ماذا يعني قتلتها؟ قتلت أكثر إنسانة أحبتني"!

إن هذا المدخل في الحديث، وسوق هذه المعلومة في طيات السرد إنما يحمل وجهين مُهمين، أولهما: هو جذب انتباه القارئ لجريمته تجاه أمه، وبالتالي تظل الكاتبة مُسيطرة على ذهن القارئ والمقدرة على التشويق في السرد، ثانيهما: جذب انتباه الفتاة/ جيم له؛ ومن ثم محاولتها معرفة كيف قتل أمه؛ الأمر الذي سيؤدي إلى استمرار الحديث الطويل بينهما طوال الرحلة الطويلة إلى الجنوب.

يبدأ لمين في الحديث عن نفسه لجيم بعد معرفة السر في اسمها الغريب: "هو اسمي الحقيقي، الحرف المُشترك بين اسم والديّ جهاد وجنات، كان شاعرا، وكانت روائية، أرادا اسما خاصا لابنتهما، هذه هي حكاية اسمي التي مللت من شرحها لكل من يقابلني"، بغض النظر عن إفراد الكاتبة لمُفردة "اسم" بدلا من تثنيتها في الاقتباس السابق، سنُلاحظ أنها ترغب في إحاطتنا الكاملة بحياة وخلفية لمين؛ لذلك فهو يبدأ سرده لحكايته وحياته مُنذ صغره، كما تخبره جيم بأنها قد فقدت أباها وأمها بموتهما وهو ما يشعرها بالكثير من اليتم: "عمري أربعة وعشرون عاما، ولم أعجن الحياة، بل هي التي عجنتني، وأعتقد أن عُمر الإنسان لا يُقاس بالوقت الذي قضاه في هذا العالم، بل بكم الألم الذي تلقاه فيه. جملتها الأخيرة فتحت شهية فضولي. أنا أيضا تملكتني اللهفة لتصفح ذاكرة رأس هذه الصغيرة، هل هو اليتم وحده ما شوّه طفولتها أم أحداث أخرى؟ ثم هل هناك ما هو أشد مرارة من اليتم؟ أن تولد وليس لك حضن تأوي إليه؟ أم تُطعمك، وتُغطيك، تزرر معطفك، تُناولك ملعقة الدواء، تُساعدك على إنهاء فروضك المنزلية؟ أنا أيضا اختبرت اليتم. كنت أرغب بإخبارها  بأنه قبل أن تموت أمي، فقدتُ والدي في سن مُبكرة، وافتقادك للوالد يشبه بأن تُقيم في بيت لا سقف له ولا أبواب، لا أحد في العالم بوسعه حمايتك من قسوة الآخرين". إذن، فهما يشتركان في تجربة شعورية واحدة ساعدت كثيرا على التقريب بينهما، وهي تجربة اليتم القاسية التي مرا بها، وهو ما ساعدهما على التقارب بشكل أكبر وسريع.

ربما لاحظنا، هنا، أن الكاتبة ماهرة في التقريب بين الشخصيتين ليحدث بينهما التآلف الذي سيفضي إلى معرفة كل منهما للآخر؛ ومن ثم تحيك روايتها بمهل غير راغبة في التعجل.

يحكي لمين عن حياته مُنذ صغره فيقول: "عشتُ الفقر مُنذ نعومة أظافري، ولكن ما يفعله الفقر هو إطالة أظافرك وتقويتها، ويُضاعف كراهيتك لهذا العالم، ويجعلك تتساءلين: لماذا الحياة ليست عادلة؟ لماذا ليس مُتاحا لجميع الأطفال أن يأكلوا اللحم كل يوم؟ أن يلتحقوا بالمدارس؟ أن يحصلوا على ألعاب يتسلوا بها كغيرهم؟ وترين بأن العالم يتسع لنا جميعا، وعلى الرغم من أن الإحصائيات التي تقول بأن عدد الدجاج أكثر من عدد الناس على وجه الأرض، يأكل واحد من الناس عشر دجاجات في الشهر، وآخر لا يأكل قطعة دجاج إلا في المُناسبات"، هذا الفقر الذي يعاني منه لمين وأدى إلى تشكيل شخصيته الكارهة والحاقدة على كل ما هو حوله تحرص الكاتبة على تعميق أثره حينما يسترسل: "كنت أبيع العلكة في الصيف، وفي أحد أيام عملي أزعجتني معدتي بتقلصاتها، إنه ألم الجوع. ألمٌ يجعل كل حواسك وتفكيرك يتركز على لقمة تقذفين بها في جوفك، حاجة حيوانية تجعلك تتصرفين بخسة، وتجلبين العار لنفسك. ألمٌ لا يعرفه سوى الفقراء والمساجين. عندما يجوع الآخرون، فإنهم يفتحون الثلاجة ويحضرون شيئا يأكلونه، أو يوقفون سياراتهم ويبتاعون أكلا جاهزا. ساقتني معدتي إلى شارع مليء بالمطاعم، ففعلت بي تلك الروائح ما تفعله رائحة الويسكي بشخص مُدمن على الكحول. وقفت أمام آنسة مُدللة أعرض عليها العلكة. كانت تجلس تحت شمسية خارج المطعم تتناول طبق سمك، وقبلت شراء قطع علك بطعم النعناع كي ينتعش فمها بعد تناول وجبتها، وكان كلبها جالسا بمُحاذاة ساقها، يفتح فمه، فيسيل لعابه، وكنت أفتح فمي تماما كالكلب، وكاد لعابي يسيل! رأيتها تحمل سمكة حمراء مُتدلية لتُطعم كلبها، وفي تلك اللحظة، وأنا أُعيد لها ما تبقى من النقود، تمنيت في قلبي لو وُلدتُ كلبا يعيش في منزل هذه الآنسة الثرية"!

إنه الإيغال في الشعور بالفقر والحرمان من أجل التمهيد للعديد من الأحداث التي ستتتالى على طول الرواية. لذلك سيحكي لها عن جاره الذي لجأت إليه أمه من أجل تقويته في دروس اللغة الفرنسية، لكن هذا الجار سيعتدي عليه جنسيا؛ الأمر الذي سيؤثر عليه، ويجعله يلتزم بيته لعدة أيام غير راغب في الذهاب إلى مدرسته، ولا يخبر سوى صديقيه اللذين في عمره واللذين لا يعرف سواهما. وسيحاول الصديقان الانتقام له بتصويب الحجارة على هذا الشاب غير مرة إلى أن يرحل من الحي. ومن هنا سيروي لها جريمته الأولى التي اقترفها في حياته، والتي تقض عليه مضجعه، حيث سيكبر مع هذين الصديقين إلى أن يتخطون البكالوريا، وذات مرة يقود سيارة صديقه سمير ويسرع بها كثيرا فتنقلب بهم السيارة ويموت الصديقان، ليظل هو وحده على قيد الحياة. إن موت الصديقين يسبب له الكثير من الذنب ويشعره بشكل يقيني أنه قد قتل أقرب الناس إليه، وأنه في حقيقته ليس سوى مُجرم: "كان يجب أن أكون الميت! لماذا ألقى سمير المُفتاح في يدي، ولماذا علمني السياقة؟ لأقتله؟ الطبيب الذي عالجني وصف نجاتي بالمُعجزة، مُعجزة عليّ أن أحمد الله عليها، ولكن كان ذلك الشيء الوحيد الذي لم يكن بإمكاني شُكر الله عليه. شعرت بالذنب لسببين: لأنني قتلت صديقيّ، ولأنني نجوت. هل تتخيلين حزني وأنا أعود إلى حيي بعكازين لأجد في الحي مأتمين لأحب إنسانين إلى قلبي؟ سمعتُ صوت البكاء والعويل والنحيب يتعالى من بيتيهما. أمرتني أمي بالتزام البيت، ولكنني غادرته أتعكز عكازي لأقدم التعازي وأعتذر. ولكن، كيف لأم أن تغفر لي ما فعلته بابنها يا جيم؟ بصقت أم مالك في وجهي ثم أُغمى عليها، وأم سمير أسقطت عكازي وحاولت خنقي بيديها حتى أبعدها عني أقاربها. إنني قاتل يا جيم، هذا ما أنا عليه، أنت تجلسين بجانب قاتل انتقى أفضل ضحاياه وأحنّهم عليه؟". في الاقتباس السابق سنُلاحظ أن الكاتبة حريصة على تعميق الحدث في نفس لمين، ورغم أنه لا ذنب له فيما حدث، إلا أن تطور الحدث كما كتبته لا بد له أن يشعره بأنه قاتل حقيقي طوال الوقت، ويظل يؤنب نفسه على جريمته.

إن رغبة الكاتبة سارة النمس في التأكيد على الأزمة التي يشعر بها لمين يجعلها تسترسل- على لسانه- في حكي جرائمه، أو ما يرى أنها جرائم قد ارتكبها، لذلك يحكي لجيم جريمته الثانية مع جارته وردة التي تعرف عليها، وارتبط معها بعلاقة حب، ورغم أن وردة كانت مُتدينة كثيرا، حتى أنها لم تكن تسمح له بلمس كفها، إلا أنه غيّر من كل مُعتقداتها حتى أنها باتت تختلي به، وترقص لها بالقميص الداخلي، ويمارسان حبهما عاريين، إلى أن مارس معها ذات مرة علاقة جنسية كاملة واستمرا على ذلك. هنا شعر لمين- كأي رجل شرقي- أن انجذابه لوردة قد خبا، وأنه قد اكتشفها تماما، ولا يمكن له الارتباط بها لا سيما أنه قد أخذ منها كل شيء، وأخبرها بأنه غير راغب في إكمال العلاقة بينهما، لكنها أخبرته أنه إذا ما تركها ستقوم بالانتحار، فلم يهتم بما قالته إلى أن انتحرت بالفعل بإلقاء نفسها من الطابق الخامس: "دامت علاقتنا سنتين. في أثنائها، كنت أنتهك مُحرماتها شيئا فشيئا، أول شيء سلبتها إياه كان حريتها. عندما لا تعجبني صديقة من صديقاتها، أُخيرها بيني وبينها، فتختارني. أبرر تسلطي بأنها ليست عشيقة ألهو بها، بل زوجة مُستقبلية عليّ امتحانها لأرى إذا كنت سأجد فيها الزوجة الصالحة. أصبحت تبادلني القبلات بشغف، وعندما أعانقها تضمني إلى صدرها بقوة. خلعتُ لها الوشاح، وداعبتُ شعرها وشممته. وبعد الشعر تمكنت من مُلاطفة صدرها بيديّ. أصبحت أدعوها إلى بيتنا حين تكون أمي وأختي غائبتين، نستلقي عاريين ونفعل كل شيء، إلا ذلك الشيء المُهم. تتصل بي وردة بعد كل موعد نادمة على ما فعلناه، قلت لها: ما دمت كل مرة تندمين، فلن أضع يدي عليك بعد اليوم، وبإمكانك أن تتوبي وسيغفر الله لك. ومُنذ ذلك التهديد، توقفت عن غناء الاسطوانة بعد كل موعد".

ألا نُلاحظ، هنا، أن الكاتبة من خلال حكي لمين لما فعله تؤكد لنا أنه قد قام بجريمة حقيقية بالفعل، وإن كان القانون لا يمكن له أن يدينه عليها؟ إنها حريصة على تعميق المأساة والذنب الثقيل الذي يشعر به على ما اقترفه في حياته لتعميق حالته الشعورية والإيغال فيها بقسوة أكبر، وهو ما يبرر إحساسنا به كشخص رافض للحياة والاستمرار فيها، كما يفسر لنا سلوكه اللامبالي تجاه كل شيء، ورغبته في الانعزال عن الحياة بالكامل، لا سيما عزل نفسه في تمنراست.

تحت إلحاح جيم في معرفة جريمته الأشد وطأة- وهي الجريمة التي جذبتها للحديث معه مُنذ البداية- يحادثها لمين عن قتله لأمه، فيخبرها بأنه قد عمل كحارس أمن في إحدى المُدن الجامعية، وهناك لفت نظره فتاة مُحجبة اسمها ناريمان، وارتبط بها سرا حتى لا يفقد عمله، وأنفق عليها كل ما كان يأتيه من مال من أجل إرضائها، ولقد كانت الفتاة تمتلك تشوه يمتد من أسفل وجهها إلى عنقها بسبب حرق قديم، وهو السبب في حجابها، وقد طلبت منه ذات مرة المال من أجل إجراء جراحة تجميل لهذا التشوه الذي تشعر بسببه بالخجل الشديد. في ذات التوقيت كانت أم لمين تعاني من آلام المرارة التي لا بد من إجراء جراحة لاستئصالها، وقد باعت الذهب القليل الذي تمتلكه من أجل هذه الجراحة؛ فطلب لمين من أمه إعارته المال من أجل ناريمان، وهو الأمر الذي جعلها تحزن باكية لعدم اهتمام ابنها بها، لكنها لم تعطه المال، فسرقه وأعطاره لناريمان. هنا التزمت أمه الفراش مريضة حتى أن عينيها قد بدتا صفراوين من فرط المرض. كانت المرارة قد انفجرت في بطنها. ليكتشف لمين فيما بعد أن ناريمان تعرف الكثير من الرجال غيره، وأنه ليس سوى رجل يعطيها المال وتتلاعب به؛ فهجم عليها من أجل خنقها، لكن زملاءه أبعدوه عنها، وحينما حاول العودة لأمه بالمال الذي سرقه من أجل إجراء جراحتها كان الوقت قد مرّ وانفجار المرارة قد أودى بحياتها: "لم أخجل من نفسي حين طلبت من والدتي أن تعيرني مالها لأستعيد احترام حبيبتي: أُعيده لك بعد شهرين من مُرتبي، وما سأستلفه من الأصدقاء. اشمأزت من طلبي الوضيع، لم تصدق بأنني ابنها الذي شاركتها معاناة الفقر والبؤس واليتم والترمل، الابن الذي كانت تعمل في البيوت خادمة لتُطعمه من فضلات الأثرياء، وتلبسه ما يعافه أولادهم من ثياب. ذكرتني بكل تضحياتها بصوت يجرحه البكاء، فقلت لها: أنت تبالغين كعادتك، تغارين من كنّة مُستقبلية وترينها تنافسك في ابنك من الآن. سرقتُ المال، وسافرت إلى مدينة سيدي بلعباس. وسلمته لحبيبتي لتعالج ندوب وجهها. عانقتني بقوة: قلبي ما غلطش، كان يقولي لمين عمره ما راح يبخلك. في طريق عودتي إلى وهران، كنت أفكر في طريقة أُراضي فيها أمي الطيبة. سأتدبر المال، وأُجري لها العملية في أقرب وقت. وعندما تتعافى سنذهب جميعا لنخطب المرأة التي أحب. وصلت إلى البيت معجونا بخجلي، بحثتُ عن أمي وجدتها مُستلقية هناك في فراشها، عيناها متورمتان من البكاء، تهز رأسها خائبة الأمل، ولم تُعاتبني بكلمة واحدة"!

ربما تبدو لنا جريمته تجاه أمه جريمة حقيقية، رغم أنها بدروها ليست بالجريمة التي يعاقب عليها القانون، ولا يمكن اتهامه فيها بقتل الأم، لكنها من أبشع الجرائم التي ارتكبها في حياته، وهو ما يوضح لنا شعوره الموغل في العدمية ولا جدوى أي شيء في حياته.

إن اعتراف لمين لجيم بما دار في حياته، وهو ما كان يثقل نفسه كثيرا، يجعلها تطمئن إليه بدورها، ومن ثم تبدأ في سرد قصة حياتها التي عانت منها؛ فتخبره عن أبيها جهاد وأمها جنات اللذين تعارفا في الجامعة، وكيف وقع جهاد في عشق الأم الجميلة، لكنها كانت مُعرضة عنه إلى أن بادلته العشق بعشق، وحينما تزوجا كان هائما بها وحدها، غير راغب في الإنجاب، إلا أنها كانت لديها الرغبة في الأمومة؛ فوافق راضخا لرغبتها، ولعدم مقدرته على إكسابها الحزن، لكنه كان يتعامل مع الابنة/ جيم باعتبارها كائنا غريبا عنه، ولم يكن يهتم في حياته سوى بالأم فقط وكأن الابنة لا وجود لها، إلى أن أُصيبت جنات بورم في الرحم وماتت؛ الأمر الذي أوقع الأب في أزمة نفسية وكاد أن يفقد عقله بسبب موت زوجته: "ليته تزوج، عذبني بها كما عذبته! ظل يقارنني بها ويرغب بأن أكون نسخة عنها في لباسها، وحديثها، ومشيتها، وكلما اخترت ذوقا مُغايرا وتصرفت على طبيعتي كرهني واشمأز مني، لأنني أقتل ذكرى جنات. أرادني ناعمة مثلها، كان صوتها خفيضا وبالكاد يُسمع، وكنتُ مُختلفة عنها كل الاختلاف، طباعي حادة ومزاجية وأتحدث بصوت مُرتفع، مما يجعلني في عينيه أفتقر إلى الأنوثة، ومما يجعله يخجل بي أمام معارفه وأصدقائه"! أي أن جهاد قد بات يرى الابنة كزوجته، لا سيما أنها تشبهها شكليا تماما وكأنهما توأمان مُتشابهان، ونظرا لعشقه الشديد لزوجته؛ فهو يريد من جيم أن تكون صورتها بعد الموت حتى لا يشعر بفقده لها، إن هذه الرغبة في الاستبدال والإحلال هي رغبة مرضية خطيرة جعلته ينادي الابنة باسم أمها مُتناسيا أنها ابنته، بل وبدأ في التعامل معها باعتبارها زوجته الراحلة جنات!

تكتب النمس: "كنت أناديه Papa قبل موت أمي، ولم تكن تعني له الكلمة سوى أداة للنداء، بعد انتقالنا، أول ما فرضه عليّ مُناداته بجهاد حتى أمام الناس والضيوف، وفضّل مُناداتي بجنات، تخيل؟ في الطائرة ونحن في طريقنا إلى باريس قال: من اليوم اسمك جنات. استغربت ولم أرتح للأمر، وكنت أصغر من أن أفهم بأنه يسلبني اسمي وحقي في أن تكون لي هويتي الخاصة كابنة، وليس كتذكار تركته له زوجته الراحلة. في الطائرة، داعب وجهي وملامحي كما لم يفعل يوما. تأمل يديّ وأظافري وتنهد مُبتسما ومُرتاحا باستعادتي، أو بالأحرى استعادة زوجته الراحلة"! أي أن الأب قد وصل إلى مرحلة مرضية يرى من خلالها ابنته هي زوجته الراحلة، ومن ثم يحاول التغلب على آلامه، وأحزانه من خلال هذا التخيل والإحلال المرضي، أو الخلط المُلتبس بين الزوجة والابنة، وهو الأمر الذي سيعقد الأمور أكثر مما هي عليه، وبالتالي يبدأ في الشعور تجاه الابنة بمشاعر جنسية باعتبارها زوجته جنات وليست جيم: "عاد ثملا وبوجه سعيد لا أعرفه، استلقى إلى جانبي وعانقني بقوة من الخلف: بشير المجنون حاول إقناعي بالتعرف على شابة إيطالية توددت إليّ، لكن كيف لي أن أخونك يا جنات. التصق بجسدي أكثر، أحس بأنفاسه الساخنة على عنقي ورائحة الشراب الكريهة تصل إلى أنفي. داعب شعري بحنان، ثم تحسس صدري بلطف أربكني. أبعدتُ يده، فوضعها بين ساقيّ وبدأ يحرك أصابعه هناك بخفة ساحر، شعرت بالدغدغة والحرارة في جسدي، الإرباك والتوتر ونبضات القلب تتسارع، أبعدتُ يده بصرامة هذه المرة. تقلّب إلى الجهة الأخرى ونام، أما أنا فقضيت ليلتي حائرة أفكر بما حدث. وفي الليلة التالية لم يكن ثملا، بل واعيا وصاحيا، أطفأنا الأنوار، ودخلنا السرير نستعد للنوم، حينها داعب بظري فوق ملابسي حتى ارتعشت، صرخت في وجهه أبكي وأُخبره بأنني أكرهه، وسأهرب من البيت إذا فعلها مرة أخرى. لم تكن لدي فكرة واضحة عن الجنس، وعيي له كان بريئا وسطحيا، أرعبتني تجربة اكتشافي للذة وبداية التعرف على جسدي، عضو صغير مجهول في جسدي يتسبب لي بكل تلك الفوضى النفسية"!

سنُلاحظ في هذا الاقتباس السابق أن الأب قد بات مريضا بالابنة مُعتقدا أنها زوجته جنات بالفعل، أي أنه غير قادر على التعايش، أو تصديق موت الأم، وبما أن جيم كانت صورة حقيقية من أمها؛ فلقد حاول تعويض الأمر بإحلال الأم محل ابنتها في حالة من حالات الخلط الهذيانية التي يرى من خلالها زوجته في الابنة. لكن الخطأ هنا لم يكن هو خطأ الأب فقط- فهو في حقيقة الأمر مريض في حاجة للعلاج النفسي- بل كان خطأ جيم التي انساقت لرغبات الأب رغم إدراكها لما تفعله جيدا: "قلت لك سابقا، في بدايات اقتراب جهاد مني، كنت خائفة ومُرتبكة، لأن التجربة جديدة عليّ، أساسا كنت خارجة للتو من فصل الطفولة، وما كنت لأفهم حتى لو عشتُ التجربة مع من كان في سني. ولكن بعد مرور الوقت، أصبح ما كان غريبا بيننا عاديا. في سنتي السادسة عشرة وأنا شابة يافعة، وبعد أن احتلمتُ ونضج جسدي ونهداي، وتخلصت من ثوب الطفولة، أصبحت أنا المُبادرة، أفتحُ له الباب كما تفتح الزوجة لزوجها، أستقبله بقبلة في فمه وعناق حار"!

إن انسياق جيم لتخيلات أبيها هي ما يمكن لنا لومها عليها وليس الأب؛ فهو مريض بالفعل لا يُدرك حقيقة ما يقوم به تجاه الابنة، لكنها مُدركة لما تفعله إدراكا حقيقيا، ورغم ذلك فلقد انساقت خلف رغباتها الجنسية التي اكتشفتها، ولم تجد من سبيل من أجل مُمارستها سوى مع أبيها، وهو الأمر الذي جعل جهاد/ الأب ينساق أكثر خلف ما يفعله باعتبارها جنات/ زوجته؛ لذلك أخذها إلى أحد الملاهي الجنسية ذات مرة كهدية لها في عيد ميلادها: "كهدية لعيد ميلادي، وليرفع جهاد معنوياتي قليلا، اصطحبني إلى ملهى ليلي اسمه Sunset، مكان يشبه النادي لا يرتاده إلا عدد مُحدد ومعروف من الزبائن، يفتح أبوابه من الساعة الخامسة مساءً وتُغلق أبوابه في مُنتصف الليل مع بقاء الزبائن الموجودين حتى صباح اليوم التالي. ها نحن نسير في رواق مُظلم، فيه إضاءة شحيحة تكفي لنرى أقدامنا، ولا نتعثر أو نرتطم بجدران. الجدران فيها أبواب خشبية مقوسة، طلب مني التلصص من خلال فتحة مُستديرة في الباب أكبر من العين الساحرة بقليل لأرى ماذا يحدث في إحدى الغرف. امرأة مُقيدة على نحو مُؤلم بأشرطة تعصر أطرافها ونهديها، وفي فمها كرة مطاطية حمراء تلزمها الصمت. أما الرجل الواقف بين ساقيها المُنفرجتين، والذي توقعت أن يضربها أو أن يولج فيها، جلب عصا سميكة وبدأ يقحمها في فرجها، والمرأة تئن ودموعها تسيل مُختلطة بالكحل".

تحكي جيم عن العديد من المُمارسات الجنسية الغريبة التي رأتها في هذا المكان، منها ما هو مثلي، ومنها ما هو جماعي، وغير ذلك من أشكال الجنس المُختلفة التي يمارسها رواد المكان، لكن، هل يمكن لنا إدانة الأب هنا على ما يفعله مع جيم؟

لقد انساقت إليه، وتعاملت معه، بالفعل، باعتبارها زوجة له، بل وأخذت مكان جنات/ أمها انسياقا لهذيانه وخلطه بينهما، ووصل بها الأمر إلى شعورها بالغيرة من إحدى صديقاتها، والحقد عليها حينما زارتها في منزلها ورأت نظرات الإعجاب من الأب تجاه صديقتها؛ الأمر الذي جعلها تثور على الصديقة، بل وتطردها من المنزل لتخرج هذه الصديقة من بيتهما وتبدأ في الحديث مع الآخرين بأن ثمة علاقة مُريبة تربط بين جيم وأبيها، وهو ما جعل جيم شديدة الشراسة في الرد على هذه الأقوال وتدافع عن أبيها، وتنكر كل ما قيل؛ ومن ثم ترك الأب وابنته باريس للحياة في لندن بعيدا عمن يعرفهما في باريس؛ لذلك حينما يعرف الأب بارتباط جيم بعلاقة مع أحد أساتذتها في الجامعة ويدخل البيت ذات مرة ليراها في أحضان هذا الأستاذ يثور عليها باعتبارها خانته، بل إنه يتحدث إليها باعتبار أن جنات هي التي خانته: "حطم المزهرية وخرج مُنفعلا ليعود في ساعة مُتأخرة. جلس جهاد على الكرسي المُقابل لي في المطبخ. لم يقل شيئا، كان هادئا جدا، ذلك الهدوء المُخيف الذي تنتظر عاقبته. أخذتُ قنينة ماء من الثلاجة، وصعدتُ لغرفتي كي أخلد إلى النوم. وفي الساعة الرابعة صباحا فتح باب غرفتي، وتحت تأثير الغضب والخمر قام باغتصابي. لم أستطع منعه، صفعني أكثر من صفعة قوية على وجهي، ينعتني بالعاهرة والحلوفة والخداعة. لم يتوقف عن مُخاطبتي باسم جنات. أبكي، أقول له جيم، أنا جيم، لكنه لا يصغى. ومن دون أن يقبلني أو يتودد إليّ فتح ساقيّ بقوة وثبت معصميّ على السرير، وبكل القسوة التي يمتلكها انتهكني. فض بكارتي بعنف حتى تخيلت من الألم بأنه يفعل ذلك بخنجر لا بعضو من دم ولحم. وبعد ذلك قلبني على ظهري وواصل انتهاكه من الخلف، ليكون امتلاكه لجسدي كاملا. في أثناء ذلك كان يشدني من شعري يصيح: انتيا تاعي. أما أنا، لم أصدق بأن هذا الرجل الذي يقوم باغتصابي وإهانتي هو الرجل نفسه الذي عشت معه حياتي كلها في بيت واحد. كنت مصدومة ومدهوشة، ولم أمتلك كلمة واحدة في فمي أرد بها عليه، أو أدافع بها عن نفسي. كانت تلك أول تجربة كاملة لي في مُمارسة الجنس"!

 لقد وصل الهذيان والخلط، والمرض النفسي بالأب مبلغه؛ فلم يعد يفرق تماما بين الأم وابنتها، ولعل جيم كانت عاملا مُساعدا مُهما فيما وصلت إليه حالة الأب، ورغم أنه قد تعارف على إحدى الجزائريات على الإنترنت، بل وسافرت إلى باريس من أجل لقائه بشكل شخصي بعدما وقعت في حبه، إلا أنه لم يستطع التخلص من هذيانه. هذه المرأة الجزائرية لاحظت أن جهاد ينادي جيم باسم جنات، ويقدمها لها باعتبارها زوجته وليست ابنته؛ وبالتالي نصحته باستشارة طبيب نفسي مُؤكدة أنه يخلط بين زوجته الراحلة وابنته، وهو ما دفعه للذهاب إلى طبيب نفسي بالفعل.

تحاول جيم تفسير ميلها إلى أبيها أثناء حكيها للمين، حتى لكأنها من خلال هذا التفسير تلجأ للدفاع عن نفسها واتهامه هو بأنه كان السبب في كل ما كان: "جهاد كان عالمي، كنتُ مُكتفية به عن أي أحد، مُكتفية به إلى حد لا أريد معرفة أشخاص آخرين. كان رجلا يعجبني، يُضحكني، يعاملني جيدا ويعلمني كيف أعيش الحياة، لأنه يرى العالم بعين مُختلفة، بعين حقيقية وشفافة، وبإمكانه أن يُعيد نظرك في أشياء كثيرة كنت تعتقد بأنك تحبها وتفهمها. عشتُ صراعا لسنوات وأنا أحاول منع نفسي أن أحبه كامرأة وأحبه كابنة فقط، عشت سنوات أتعذب وأتألم بعد كل مُتعة جسدية يقدمها لي. أحيانا، أطمع في المزيد وأحلم بالليلة التي سيفتض فيها بكارتي، لأنه حبيبي ورجل حياتي، وأحيانا أهرب منه وأعذبه عندما أكرّس التركيز على أخلاقي، أو الأخلاق التي وضعها الناس، كما كان يقول. عاش عمره يحاول حمايتي من كل شيء حتى من نفسي، حتى تلك الليلة التي حطم فيها كل شيء ودمرني، دمرني تماما"!

الروائية الجزائرية سارة النمس

إذن، فجيم بلا منازع مُشتركة في جريمة علاقتها بأبيها، بل تبدو هنا جريمتها أكبر مما اقترفه هو؛ لأنه ليس في وعيه الطبيعي، ويعاني من الضلالات والهذيان، بينما هي مُدركة تماما لكل ما كان يحدث بينهما، وتعرف أنه ما كان له أن يحدث، لكنها كانت تشعر تجاهه بمشاعر المرأة تجاه الرجل، وليس مشاعر الابنة تجاه أبيها؛ ولذلك وافقت على كل ما كان يدور بينهما من علاقة عاطفية وجنسية!

إن التجربة التي مر بها كل من لمين وجيم في حياتيهما فيها من الروابط المُشتركة ما يجعل الشخصيتين قريبتين من بعضهما البعض؛ فإذا ما كان أبو جيم لا يهتم بها، ويعاملها باعتبارها كشيء مفروض عليه في صغرها، فلمين أيضا شعر بهذا الإحساس من أبيه في صغره- مع الفارق بينهما- لذلك يقول: "لم يكن والدي أبا رائعا ولا أبا سيئا، كان رجلا عاديا، لا يضربني وفي الوقت نفسه لا يحتضنني. لم يكن يقسو عليّ ولا يلعب معي. هل تعلمين لماذا قد يكون الأب باردا لهذا الحد؟ حاولتُ أن أجد أعذارا لائقة لبروده، وفهمت بأنه الفقر الذي يجعل الإنسان مُنشغلا عن عيش علاقته الطبيعية بأحبائه. لقد أجهد والدي نفسه بالعمل ليوفر لنا اللقمة، لم يدرس، ولم تكن بحوزته شهادات. لذا، كان يعمل في كل شيء، في البناء، وفي دهن البيوت، والسمكرة، يخرج صباحا ويعرض خدماته على معارفه في المقهى، يعمل ويعود مُتعبا، يفكر بمُستقبلي وبمُستقبل أختي إكرام النائمة في رحم أمي. يضربني فقط حين أحصل على علامات مُتدنية في المدرسة: هل تريد أن تصبح حمارا مثلي؟ هذه هي الجملة الوحيدة التي أسمعها في رأسي واضحة بصوته".

أي أنهما اشتركا في تجربة حياتية مُتشابهة من حيث تعامل وتجاهل الأب لكل منهما، ولكن إذا ما كان جهاد يعاملها ببرود قبل موت الزوجة لأنه لم يكن راغبا في أبناء، فوالد لمين كان يعامله هذه المُعاملة التي تبدو في ظاهرها باردة وغير مُهتمة بسبب الفقر الشديد الضاغط على الأب، كما اشترك كل منهما في تجربة التحرش بهما صغارا أيضا؛ فلمين تم اغتصابه من جاره في صغره، كما تم التحرش بجيم من أبيها أيضا في صغرها: "أصغت جيم إلى حكايتي ودموع غزيرة تُغادر عينيها الواسعتين، قالت: أتفهم ما تعرضت له، التحرش يدمر أشياء جميلة في قلب الطفل، يلوث براءته، لكن ما مررت به كان قاسيا. المُتحرش بي كان لطيفا، يعبث بجسدي ويقنعني بأن ما نقوم به ليس أمرا خاطئا، كان يقنعني بأننا نلعب لعبة اسمها لعبة الحُب! وبسببه، كرهت الرجال والحب وكل ما يتعلق به"، لذلك اكتسبت جيم قدرا من اللامبالاة تجاه كل شيء في حياتها جعلها غير مُهتمة بأي شيء، وكأنها خالية تماما من المشاعر، جامدة القلب، وهو ما نقرأه في: "حسنا، أنا أجد من السخف إنفاق أموال طائلة على الثياب والمطاعم، فقط لأننا نستهلك أشياء تجلب لنا السعادة، بحيث بإمكاننا أن نحظى على قسطنا من السعادة بدون استهلاك الأشياء بغباء، أما المُدن فكلها مُتشابهة! حتى المُدن الرائعة التي تحلم بزيارتها، أو تعشقها لأنك مررت بها زائرا، ستملّها إذا عشت فيها وحفظت شوارعها ومداخلها عن ظهر قلب. الاعتياد يقتل شغف كل شيء، والناس! قل لي ما الفائدة من حبهم أو كراهيتهم ما دمنا زائلين؟ الإنسان حتى إذا عمّر فهو لا يُخلد، لا يبقى على الأرض سوى حفنة من السنوات تتسرب من جسده بسرعة مُذهلة، فلماذا يرهق نفسه بالحب والكراهية؟ لماذا لا يكتفي بعلاقات بسيطة بلا دراما، ولا مُعاناة، ولا تعلُق، بل بقبول للطرف الآخر كيفما كان، وقبول رحيله بعد ذلك؟"، إن هذه النظرة العدمية التي تتمتع بها جيم إنما كان سببها الرئيس حياتها ومُعاناتها التي عاشتها مع أبيها إلى أن قتلته حينما حاول اغتصابها مرة أخرى؛ فصوبت إليه المُسدس لتطلق ثلاث طلقات جاءت إحداها في بطنه، والثانية في صدره، لتستقر الثالثة في وجهه الذي انقسم قسمين، وسُرعان ما هربت وتصرفت في جواز سفر جزائري مزور جاءت به إلى الجزائر لتتجه في طريقها إلى أقصى الجنوب في تمنراست!

ربما نُلاحظ أن الحوار الذي دار بين كل من لمين وجيم لنعرف من خلاله قصة حياة كل منهما ومُعاناته إنما أخذ القسم الأكبر من الرواية في رحلتهما إلى أقصى الجنوب الجزائري، وهو الأمر الذي كان من المُمكن أن يوقع السرد في العادية ولا يعطي الرواية أي ميزة عن غيرها من الأعمال الروائية، لكن النمس تستمر في سردها بمُجرد وصولهما إلى تمنراست، فيطلب لمين منها أي طريقة اتصال بها، لكنها تخبره بأنها ستأخذ رقم هاتفه وستتواصل معه بنفسها، وبالفعل بعد مرور شهر كامل على وجودها في الجنوب تتواصل معها هاتفيا لاستقبالها في مطار وهران عائدة من الجنوب، وهنا يطلب منها الزواج فتوافق غير مُترددة بعدما تخبره بأنها لا تعرف فعل أي شيء، لا طهو الطعام، ولا ترتيب البيت، إلا أنه كان قد تعلق بها تماما، ووافق على الزواج منها، أي أن الكاتبة تُدرك جيدا أنها لو كانت توقفت بسردها عند معرفة الحكايتين لما كان لروايتها أي أهمية فنية أو تميز، لكنها رغبت في استمرار السرد والتقدم به لمُتابعة حياة كل منهما مع بعضهما البعض، ولعل السبب الرئيس لموافقة جيم على الارتباط بلمين من دون تردد يعود إلى قلقها منه بعدما أخبرته بجريمتها وقتلها لأبيها: "تكمن المُشكلة في طباع الرجال الكريهة! فالرجل إذا أحب امرأة وافتتن بها يغض تفكيره عن عيوبها ويكتفي بمزاياها، وتتيقظ نزعة البطولة داخله لحمايتها واحتوائها، ولكن ما إن يتلقى رفضا صادما منها، ما إن يتملكه اليأس بأنه لن يحصل عليها أبدا حتى يبدأ بالتكشير عن أنيابه، مثل كلب بولدوغ تم ربطه وتجويعه، ينقض على أول غريب خائف. هذا ما خشيته من لمين، أن يستخدم اعترافي ضدي في حال ما رفضته، ولكن ما حدث قد حدث"، أي أنها كانت تخشاه لاعترافها له؛ ومن ثم لم تتردد في قبول الزواج منه لاتقاء شره، كما أنها كانت لديها رغبة براجماتية في الزواج منه، وهي الشعور بالأمان، أي أن يكون حصنا أمينا لها يحميها في وهران، والحياة في كنفه آمنة: "وجدت لمين ينتظرني خارج المطار وقد جهز كل شيء للزواج، عاد إلى وهران وتواصل مع معارفه، ودبّر لي شهادة ميلاد مُزيفة لقريبة له في مثل عمري، ماتت طفلة مُنذ سنوات في ريف تيارت، ولم يُعلن عن وفاتها أحد. سأتزوج من لمين، لا مُشكلة لدي، على الرغم من أنه لا يعجبني. بإمكاني أن أتزوج من أي رجل، والعيش مع أي رجل، فأنا سريعة التأقلم، بإمكاني قبول رجل ليست فيه الصفات المُفضلة، بإمكاني التزوج من رجل بدين، قصير، أصلع، عجوز، داكن البشرة، فقير، مُشرد، يهودي، مُلحد، برجل من الجزائر أو من الكاميرون، من القطب الشمالي. لا يهم، الصفات لا تهم، لا الشكلية، ولا المُعتقدات تهم، ولا المكان الذي جاء منه! كل ما أريده رجل أحس معه بأنني لست مُهددة".

إذن، فالرغبة العارمة بالشعور بالأمان مع لمين هي السبب الرئيس لقبولها الزواج منه، فضلا عن خشيتها من استخدام اعترافها له ضدها، لكن المرأة الملائكية التي رآها لمين في جيم لم تكن هي التي تخيلها في حقيقة الأمر، بل عاش معها في جحيم حقيقي؛ بسبب تجاهلها التام له، وصمتها الطويل، ومكوثها في غرفتها وحيدة طيلة الوقت، وبرودها الجنسي الشديد والعاطفي أيضا، بل واحتقارها له ورؤيته بأنه أقل منها بكثير، وقبيح في كل شيء حتى في ملبسه: "عندما وافقت جيم على الزواج بي ظننتني سأكون أسعد رجال العالم. لم أحلم قط بأن تقبل بي. لقد جربت حظي فقط، حظي الذي ما علمت أنه سيكون تعيسا بهذا الشكل، أعيش مع امرأة أحبها من دون أن أعرف كيف أكسب قلبها، أو أستمتع بوقتي معها على الأقل. في الأيام الأولى، عذرتها. قلت: ربما هي لم تعتد عليّ بعد، ولكننا الآن معا مُنذ سبعة أشهر ولم يتغير شيء في برودها وشرودها الطويلين"، أي أن الحياة مع جيم لمُدة عام كامل- هو عمر زواجهما- قد تحول إلى جحيم حقيقي يعيش فيه لمين، كما لاحظ أنها رغم قتلها لأبيها إلا أنها مُتعلقة به عاطفيا ونفسيا حتى أنها لا تكف عن ذكره في كل المواقف التي تحدث لها في حياتها، أي أنها كانت مريضة بعشقه والتعلق به مثلما كان مريضا بها باعتبارها جنات: "ظلت في الأيام الأولى تذكر جهاد، هو يحب كذا، يكره كذا، يعتقد كذا. استغربت كيف أنها تربط كل معلوماتها وذكرياتها به، وآذاني ذلك. هل ما زالت مُتعلقة به بعد كل هذا الدمار الذي ألحقه بها؟ التحرش الذي اقترفه وهي طفلة، اغتصابها وهي شابة، تعنيفها وضربها، تشويه قناعاتها ومُعتقداتها؟ لقد دفعها الرجل لارتكاب جريمة من الأذى الذي ألحقه بها، وما زالت تتحدث عنه بحب وكأنه حاضر معنا. صارحتها بأنني ما عدت أرغب بسماع اسمه في هذا البيت، قالت: أنا آسفة، عشت حياتي كلها مع هذا الرجل، والماضي لا يمكن اقتطاعه من الذاكرة بهذه السهولة. اعتذرتْ وبعد اعتذارها صمتتْ لأشهر"!

يلاحظ لمين حقيقة جيم التي كانت غائبة عنه، وصفاتها التي لا يمكن لأي إنسان احتمالها: "هي امرأة لا تحس، ولا تبكي، ولا تتأثر، ولا تحزن. لا أدري!"، كما يبدأ في الشك فيها حينما يقرأ عن حادث ذبح امرأة في تمنراست في نفس الفترة التي كانت جيم فيها هناك، ورغم أنه سألها كثيرا عما كانت تفعله هناك إلا أنها لم تخبره، وعرضت عليه مجموعة من الصور لها مع العديد من الأصدقاء هناك: "أسمع كل يوم عن العديد من جرائم القتل، ولا أهتم بمعرفة التفاصيل إلا إن كانت تتعلق بحكاية جديدة أو مروعة! ولكن البارحة، وبالمُصادفة، شاهدت ذكرى سنوية لشاعرة قُتلت السنة الماضية في تمنراست. تلك السيدة كانت تُدرّس مناهج النقد في الجامعة إلى جانب هوايتها في نظم الشعر. قُتلت في بدايات شهر جانفيه، أي في الفترة التي كان كل منا أنا وجيم في تمنراست. القاتل استغل وجودها بمُفردها في البيت وذبحها في فراش نومها من الوريد إلى الوريد، ثم خرج بهدوء ولم يكتشفوا الجثة إلا بعد ثلاثة أيام. لم تتمكن التحقيقات من الوصول إلى ذلك القاتل حتى يومنا هذا. أحباؤها وعائلتها، اجتمعوا ليقرأوا الفاتحة على روحها، يحملون صورها، وما زالوا يتألمون، لأن القاتل ما زال يتنفس سعيدا في الخارج، بينما ابنتهم ماتت ميتة بشعة من دون أن تفعل السُلطات شيئا للعثور عليه ومُعاقبته"!

حينما يقرأ لمين هذا الخبر البشع يبدأ في الشك بجيم، ويفاتحها في الأمر، لكنها تقنعه بأنها لا علاقة لها بالأمر، وبأنها كانت بعيدة عن مكان الحادث، ويميل إلى تصديقها، لكنه لا يستطيع الاستمرار معها في الحياة أكثر من ذلك بعدما تحولت حياته معها إلى جحيم حقيقي، ولذلك يخبرها بأنه قد قرر الطلاق منها، ويتم الأمر بالفعل. بعد عام من الطلاق نعرف أن جيم قد تزوجت من رئيسها الرجل التركي الذي عملت معه في وهران أثناء زواجها من لمين، وذهبت معه للمعيشة في قصره باسطنبول، لكنها ترسل للمين لتخبره بأنها قد أُصيبت بسرطان في الرحم، وأجرت جراحة للتخلص منه؛ فيسافر لمين إليها للاطمئنان عليها، ويجدها قد تغيرت تماما، وازدادت جمالا، بل وتأخذه إلى الكوخ الذي خصصه لها زوجها في الفيلا كي تنفرد بنفسها، وهناك يلاحظ المُفكرة التي سبق أن عثر عليها مُنذ سنوات والتي كانت السبب في تعارفه على جيم؛ فيأخذ به الفضول مأخذه لمعرفة ما فيها كي يفهم جيم التي لم يفهمها طيلة هذين العامين، وبالفعل يخفي المُفكرة في ملابسه ليبدأ في قراءتها فيما بعد.

إن لجوء الكاتبة سارة النمس إلى هذا الجزء من الرواية، وقراءة المُفكرة وما تم خطه فيها هو القسم الذي أكسب روايتها فنيتها الحقيقية واختلافها الذي لا بد له أن يجعلنا نُعيد قراءة الرواية من خلال مفهوم آخر جديد ومُغاير، ولولا هذا الفصل لظلت الرواية مُجرد رواية عادية لا قيمة فنية كبيرة لها، كما لا ننكر أن هذا الفصل هو ما سبق أن قلنا عنه في البداية: إن اطلاع الكاتب على الثقافات المُختلفة هو ما يصقل موهبته ويكسبها المزيد من المهارة؛ فلقد اعتمدت الكاتبة في هذا الفصل على مفهوم علم النفس، ومن ثم قرأنا ما خطه جهاد في هذه المُفكرة من يوميات كان يكتبها، وهي اليوميات التي أعادت بناء العالم الروائي في أذهاننا بناء آخر جديدا تماما عما كنا نراه، أو نفكر فيه، ومن ثم اكتسبت الشخصيات الروائية في العمل الروائي بُعدا جديدا لم نكن نتخيله أو نُدركه طوال مُدة قراءتنا للرواية.

لذلك نقرأ: "أخونك معك! هل تتخيلين هذا؟ كيف ستغفرين لي؟ كيف ستنظرين إلى وجهي بعد اليوم؟ كيف سيبقى في قلبك أي احترام لهذا الرجل الحقير الذي أدهشك في البدايات بنبله؟ وحده العار أحس به ينخر قلبي. برجولتي قد ذابت وتحللت، بإنسانيتي تعفنت، أرغب برمي نفسي تحت عجلات القطار حتى تنكسر عظامي ويُفرم لحمي، وتتحطم جمجمتي ولا يتعرف على جثتي أحد، جيم تستغل وحدتي وإدماني، وتقوم بتصرفات قذرة. أدخل السرير فأجدها عارية فيه، تلتصق بي وتقوم بحركات تجعلني أهتاج وأغرق في اللذة معها. تقول: بإنني رجلها الوحيد، اكتشفتُ أنوثتي على يديك، وفتحت عينيّ على العالم معك، فكيف تريد منعي عن حبك واشتهائك. وإذ نتشاجر أطردها من غرفتي وأرغمها على المكوث في غرفتها، تغلق الباب على نفسها بالمُفتاح، تنتحب وتؤذي نفسها، تجرح معصمها، تشرب الأدوية. تهددني بالانتحار، المُشكلة وأنا ثمل أكون خارج وعيي، ويصعب عليّ التفريق بينكما، تصبحين وجيم امرأة واحدة"!

أي أن هذا الفصل الذي كتب فيه جهاد يومياته، أوضح لنا الوجه الآخر للحقيقة حيث كانت جيم مُنحرفة السلوك وتستغل أباها الذي تُدرك جيدا حقيقة مرضه، وأنه يخلط بينها وبين أمها التي كان يعشقها، كما يؤكد الأب من خلال هذه اليوميات أنها مريضة أيضا وخطرة على كل من حولها إذا لم تحصل على ما تريده: "علمتُ بأنها غاضبة، ولكن ليس إلى ذلك الحد! في الواقع، أصبحتُ إذا رأيتها تعبّر عن غضبها أطمئن، وعندما لا تفعل، ياه كم هي مُرعبة! تجلس هناك في الزاوية متوترة، تشتعل حرفيا من الغضب، أراها تتنفس بسرعة بعينين جامدتين لا ترمشان، لون خديها الشاحب يتحول إلى أحمر، تقضم أظافرها أو تحك شاعدها مثل المُدمنة التي تنقصها جرعة من المُخدرات. كان القط "آلي" صديقها الوحيد، وكان أكثر ما تحبه بعدي، وتخيلتُ أي شيء إلا أن تصيبه بالأذى. لقد قتلته! في لحظة غضب وطيش قتلت قطها، صرعت رأسه بالمطرقة التي جلبتها من القبو، ومات في اللحظة نفسها، بعد ذلك أدخلته في كيس ورمت به في القمامة، بهذه البساطة، وبذلك البرود. كنت أراها تستمتع في طفولتها باصطياد الحشرات، ومُطاردة الفئران وتعذيبهم، ولكن آلي مخلوق آخر، هو حبيبها، ودميتها، والصديق الذي تداعبه وينام معنا في السرير. بعد ما فعلته عادت أخيرا إلى طبيعتها الهادئة، كأنها تخلصت من عبء كبير، وبعد ما فعلته، أدركت بأنها لا تحب أحدا، ولا تحبني، ولا تحب حتى نفسها"!

أي أنها قادرة على ارتكاب أي جريمة ببرود، ولعل هذا ما جعلها تقتل أباها بهذه البساطة لمُجرد أنها عرفت بعلاقته مع المرأة الجزائرية التي كانت من تمنراست، فحينما ذهبت إليه المرأة في باريس وعرفت علاقتها بأبيها قامت بقتله غيرة منها حتى لا يكون لغيرها، كما أنها لم تكتفِ بقتله بل سافرت إليها لتقوم بذبحها أيضا، ولنقرأ: "ولأن قلبي ما عاد قادرا على احتمال هذه التعاسة، لم أعد أستخدم عقلي. أصبحت عبدا لهذه الشيطانة التي تسكن بيتي، عبدا مُطيعا ينفذ الأوامر، ويفكر كل ليلة بطريقة جديدة للانتحار"!

إن اليوميات التي كتبها جهاد تقلب لنا كل الأحداث رأسا على عقب، وتفسر لنا الكثير من الأمور التي لم تكن مفهومة، فإذا ما كان الأب قد أخذ جيم في عيد ميلادها إلى نادٍ لمُمارسة الجنس بكل أشكاله، وهو ما عرفناه فيما قبل، فإن اليوميات ستعيد بناء الحدث من خلال مُعطيات أخرى جديدة تماما في: "البارحة كان عيد ميلادك يا جنات! لطالما أحببتِ المُفاجآت والعوالم الغريبة التي تُلهمك لكتابة رواياتك. لطالما عبدتِ الجنون الذي ينقذك من رتابة الضجر وكآبة الحياة. أخذتكِ إلى الملهى الجنسي كما طلبتِ مني مُنذ سنوات لتكتبي الرواية الفضائحية التي حدثتني عنها، وشجعتك على كتابتها، ولكنني تفاجأت بك تغضبين وتغادرين المكان باستياء مُحيّر، اشرحي لي. ماذا يحدث بيننا، حتى ما عاد يفهم أحدنا الآخر"، أي أن جهاد قد وصل إلى مرحلة مرضية لم يعد يفرق فيها بالفعل بين الزوجة والابنة، وهو الأمر الذي استغلته الابنة وأمعنت فيه لمُضاجعة والدها والاستحواذ عليه لنفسها فقط! لذلك فجيم ستوهمه بأن ابنته جيم هي التي ماتت، وأن من تحيا معه هي جنات زوجته التي يعشقها؛ فتتداخل في ذهنه الأمور ويزداد هذيانه: "مُنذ وفاة ابنتنا جيم في ذلك الحادث اللعين وأنتِ ما عدتِ أنتِ يا جنات. إنني أفهم جيدا هذه الخسارة، أنا أيضا كنت والدها، وشاركتك كل لحظات حياتها، وقت ظهور السن الأولى، والخطوة الأولى، وأعنتك على تنشئتها، وكم ركضنا خلفها كي لا ترتطم، وكي لا تحترق. وكم توترنا ونحن نُرسلها للمدرسة أول مرة، ولكنها رحلت. ابنتنا ماتت، وعليكِ أن تتعلمي قبول هذه الحقيقة. نحن لم يتبق لنا إلا بعضنا، وهذه الخسارة الفادحة كان من المُفترض أن تقربنا لا أن تحفر الهوة العميقة بيننا. أنا مُستعد لفعل أي شيء لأرى الابتسامة على وجهك مرة أخرى. أفتقد نشاطك وحيويتك ورغبتك الدائمة في الضحك والرقص ومُشاهدة الأفلام. لم أعد أطيق رؤيتك بهذه الكآبة. مرت سنوات وأنا أنتظر التئام هذا الجرح بلا فائدة، ويبدو أن هذا الجرح لن يلتئم أبدا!". ربما يتضح لنا من الاقتباس السابق، أن الأب إنما كان يتعامل مع الابنة بحنو وحب في صغرها، وهو عكس ما روته تماما للمين حينما حكت له حكايتها عن أبيها الذي تعامل معها ببرود شديد وعدم اهتمام باعتبارها مفروضة عليه من قبل الأم؛ لأنه لم يكن يرغب في الإنجاب.

إن استغلال جيم لأبيها ومرضه بسبب موت جنات يدفعه إلى الجنون الحقيقي: "إنني أفقد عقلي، من منكما توفيت؟ أنت أم ابنتنا جيم؟ من هذه المرأة التي تعيش معي؟ أنتِ جيم، أم حبيبتي جنات؟ إن المرأة التي تعيش معي تشبهك إلى حد مُرعب! تتصرف كما لو كانت أنتِ، تقلدك وترتدي ملابسك القديمة، معاطف الكشمير التي تخصك، تترك شعرها بريا وغجريا كما تفعلين، وتقول: أنا حبيبتك جنات، أنا زوجتك. تُذكرني بلقاءاتنا الأولى. تحفظ رسائلنا عن ظهر قلب. ولكن ثمة شيء في قلبي يشبه الحدس يقول لي: إن هذه المرأة القاسية والجافة ليست أنتِ. ربما تُشبهك شكلا إلى حد يجعلني أذوب فيها كما أذوب فيكِ، ولكن طباعها حادة، ولا مكان للرحمة في قلبها، روحها ملعونة. كلا، مُستحيل أن تكون أنتِ"، لذلك حينما يرى جيم مع أستاذها الجامعي يكتب لجنات مُعاتبا لها خيانتها له، أي أنه مُقتنع تماما بأن جيم هي زوجته جنات، ولا يدرك حقيقة مرضه العقلي أو النفسي بسبب موت الزوجة، وهو ما يتضح لنا في قوله: "يقول الطبيب: إنني أعاني من الفصام، وإن عقلي يتخيل ويتوهم، ويختلق أحداثا لم تحدث. ذاكرتي كلها مشوشة، والأشخاص في حياتي ضبابيون جميعهم. ثمة أحباء موتى، ما زلت أتعامل معهم على أنهم أحياء، وأحياء أتعامل معهم على أنهم موتى وحقيقيون من لحم ودم أمحو وجودهم تمام في واقعي، وآخرون خلقتهم بنفسي ووضعتهم في الأمكنة المُناسبة لأواسي وحدتي. أكتب هذه الكلمات بينما أنا في مصحة، مُستسلم للجلسات الطويلة وأشرب الأدوية بانتظام. جيم طيلة هذه السنوات، تستغل مرضي، لفقت ذكريات لم تحدث قط، وأقنعتني بأنها جنات، وبأن ابنتنا جيم ماتت في حادث سيارة، وأنا أعيش بهذه الذاكرة مُنذ سنوات"!

إذن، فمن خلال اعتماد الكاتبة سارة النمس على علم النفس والأمراض النفسية التي قد يُصاب بها الأشخاص، ومن خلال وعيها وإدراكها وفهمها لما تتحدث فيه؛ كان الجزء الأخير من روايتها وكأنه إعادة بناء للبنيان الروائي بالكامل حتى أنها قد قلبت مفهومه رأسا على عقب؛ الأمر الذي لا بد له من جعل القارئ راغبا في العودة إلى الرواية من بدايتها مرة أخرى من أجل تلقيها بشكل مُختلف ومن خلال معطيات جديدة لم يكن يدركها أو يتخيلها، وهو ما يجعل سردها الروائي يمتلك العديد من الأوجه المُتعددة والمُختلفة، بل والمُدهشة تلك الدهشة الفنية التي لا بد منها في أي عمل فني باعتبار أن هذه الدهشة هي الجوهر الحقيقي للإبداع.

تأتي رواية "جيم" للروائية الجزائرية سارة النمس كعمل روائي جاد ومُدهش في آن، وهي لم يكن لها امتلاك هذه الدهشة التي تُعيد تشكيل النص الإبداعي لولا معرفتها بما تكتبه واعتمادها على ثقافتها واطلاعها على العديد من المجالات الثقافية الأخرى، وهو الاطلاع الذي ساعدها على هندسة روايتها بمثل هذا الشكل الذي رأيناه، والذي لولاه لباتت الرواية مُجرد سرد عادي لم يكتسب جدته، ولا دهشته، ولا أوجهه المُختلفة في التأويل والتفسير.

لكن، رغم هذا المجهود الذي رأيناه في كتابة العمل الروائي، إلا أننا لاحظنا أن الروائية لم تهتم بمُراجعة النص الذي كتبته بعدما انتهت منه- سواء من ناحية الكتابة، أو من ناحية سلامة اللغة- وهو أمر تشترك فيه دار النشر في المسؤولية، وليس المؤلفة وحدها، حتى لكأن دار النشر أخذت العمل على صورته النهائية الذي سلمته الروائية لهم، ولم يهتموا بمُجرد الاطلاع عليه، وهذه مُشكلة الكثير من دور النشر التي لا يعنيها سلامة ما تنتجه، كما يدل هذا الفعل على عدم احترامهم لعقلية القارئ الذي يتعاطى العمل الإبداعي؛ فلقد قرأنا في الصفحة 23: "أدار السائق مفتاح الحافلة، وسمعنا جميعا صوت المُحرك وشعرنا باهتزازات الحافلة. أغلق المُحاسب الباب، واستدارت الحافلة لتغادر المدينة. الناس يبسملون ويتوكلون على الله، وتلك الجميلة تحدق إلى النافذة مُنبهرة بالعتمة وأضواء المدينة التي ننسحب منها شيئا فشيئا باتجاه الجنوب. شغل السائق مُوسيقى مغربية..."، نقول إن هذا الاقتباس السابق الذي قرأناه في الصفحة 23 ستكرره الروائية مرة أخرى في الصفحة 27 كما ذكرناه تماما من دون اختلاف أي مُفردة فيه؛ الأمر الذي يُدلل على عدم مُراجعة الكاتبة أو دار النشر للنص قبل النشر، كما لا يفوتنا وقوع الروائية في العديد من الأخطاء التي ما كان لها الوقوع فيها مع اكتمال النص من حيث الشكل الفني؛ فقرأنا "مُلفتة" بدلا من "لافتة"، و"هل كان سينقص منك شيء" بدلا من "شيئا" المفعول به المنصوب، وكتابتها "احكي" بدلا من "احك" حيث الفعل هنا هو فعل أمر، ولا بد من حذف حرف العلة، وكتابتها "يخجل بي" بدلا من "يخجل مني"، ووضع همزة القطع في "الإبنة" بدلا من "الابنة"، وكتابتها "رميت بنفسي عليهم" قاصدا صديقيه بدلا من التثنية في "عليهما"، إلا أن الخطأ الفادح المُثير للكثير من الدهشة هو كتابة المُؤلفة "إلى مَ" والتي تقصد بها "إلام"! وغير ذلك الكثير من الأخطاء.

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة

عدد أغسطس 2022م.

الخميس، 18 أغسطس 2022

الأقدار الدامية.. سقوط طبقي أم سقوط وطن؟!

في فيلم المُخرج خيري بشارة الأول "الأقدار الدامية" ثمة محاولة منه لربط سقوط الوطن العربي- المُتمثل في حرب فلسطين 1948م، وقضية الأسلحة الفاسدة التي أدت إلى الهزيمة، ودخول العرب، لا سيما مصر في هذه الحرب- بسقوط الطبقية المصرية المُمثلة في طبقة الباشوات بكاملها تحت أقدام من كانوا يخدمونها، أي أنه يرغب في التأكيد على أن السقوط هنا لم يكن مُجرد سقوط وطن فقط، بل سقوط للمُجتمع المصري بالكامل، وإعادة تشكيل تراتبه الطبقي بشكل جديد لم تعهده مصر من قبل.

صحيح أن المُخرج هنا يعود إلى عهد قديم من أجل التعبير عن الانهيارات الطبقية الحادثة في المُجتمع المصري- وهي الانهيارات التي من المُمكن لنا سحبها على الفترة التي تمت فيها صناعة الفيلم- نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، حيث انهار كل شيء بسبب السياسات التي اتبعها السادات في السبعينيات، وتركت بأثرها لفترة طويلة فيما بعد- لكنه نجح في مثل هذا الربط بين ما هو قديم- القضية القومية الكبرى- وما هو آني- الانهيارات الكاملة على كافة الأصعدة داخل المُجتمع المصري؛ بسبب سياسات الانفتاح التي دمرت كل شيء، وفي مُقدمتها التراتب الاجتماعي الطبقي المصري- لا سيما سحق الطبقة البرجوازية بكاملها وبقسوة مُنقطعة النظير؛ لتصعد طبقات جديدة طفيلية من الحرفيين ورجال الأعمال الفاسدين الذين لا يعنيهم مصلحة الوطن بقدر ما يعنيهم اكتناز المال بكل الوسائل الفاسدة والمُتاحة!

ربما كان هذا الفيلم من أكثر أفلام خيري بشارة التي مرت بأزمة كبيرة لا سيما أزمة عرضه بعد الانتهاء من تصويره؛ فرغم أن بشارة قد بدأ التصوير في هذا الفيلم عام 1976م إلا أنه لم ينته منه إلا في 1981م، كما لم يتم عرضه جماهيريا إلا في 1982م، أي بعد مرور ستة أعوام كاملة على البدء في تصوير الفيلم؛ بسبب تخلي المُنتج الجزائري- علي محرز- عن الفيلم قبل إعداده للعرض، وإيقاف الإنفاق عليه؛ الأمر الذي أحبط بشارة كثيرا، وجعله يفكر في الهجرة إلى نيوزيلندا، كما قال المُخرج في أحد حواراته!

كتب سيناريو الفيلم المُنتج الجزائري علي محرز، وهو الفيلم المأخوذ عن المسرحية الأمريكية "الحداد يليق بإليكترا" للمسرحي يوجين أونيل، وكما فعل أونيل في مسرحيته الطويلة- التي استمر عرضها على المسرح ما يقارب الست ساعات متواصلة- حيث ربط يوجين بين الأسطورة الإغريقية والانهيار العائلي والطبقي في المُجتمع الأمريكي بعد الحرب الأهلية الأمريكية مُعتمدا في ذلك على نظريات عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد، حيث العلاقات بين الآباء والأبناء، فعل كذلك كل من المُخرج والسيناريست في فيلمهما حيث ربطا التاريخ- حرب فلسطين- بالمُجتمع المصري والانهيار الأسري والطبقي مُعتمدين على نظريات فرويد!

أي أن المُخرج كان حريصا منذ فيلمه الأول على عدم الانفصال عن المُجتمع، بل رأى ضرورة الاشتباك معه، ومحاولة تأمله، وتحليله، بل والتحذير من الانهيارات الحادثة فيه بسبب ما تمارسه الأنظمة السياسية من سياسات لا بد لها أن تؤدي إلى مثل هذه النتيجة المُفجعة!

يبدأ بشارة فيلمه بمشهد يعبر فيه عن الوضع الاجتماعي والسياسي السائد في مصر في هذه الفترة- 1948م- حيث نرى سيارة حلمي باشا- قام بدوره المُمثل يحيى شاهين- تحاول العبور في طريقها للوزارة، إلا أن الأمن يمنع السائق من العبور، موضحا لحلمي باشا بأن المُظاهرات والاضرابات في كل مكان، وأنهم قد قطعوا الطريق؛ وبالتالي فعليه العبور من طريق آخر خوفا على سلامته.

إذن، فالمُخرج منذ مشهده التأسيسي الأول يعمل على وضع المُشاهد في قلب الحدث الاجتماعي والسياسي الذي تمور به القاهرة في نهايات العهد الملكي، ويوضح لنا غليان المُجتمع المصري من أجل الضغط على الحكومة المصرية للاشتراك في الحرب مع الفلسطينيين.

يخبر وزير الداخلية- قام بدوره المُمثل حسن عابدين- حلمي باشا بوجود ضيوف إنجليز مُهمين في القاهرة، وأنهم سيذهبون في رحلة إلى الأقصر ولا بد من الاهتمام بهم جيدا؛ فيعده حلمي باشا بالاهتمام بالأمر واستضافتهم هناك حيث قصره، ليؤكد عليه الوزير بأنه سيلحقه هناك بعد أيام.


نعرف أن حلمي باشا على علاقة غير جيدة مع زوجته حورية- قامت بدورها المُمثلة نادية لطفي- حيث يسود بينهما الكثير من الفتور الذي يكاد أن يؤكد لنا بأن العلاقة بينهما قد تكون مُنتهية تماما، وأنهما مُضطران للتعايش مع بعضهما البعض من أجل الحفاظ على شكلهما الاجتماعي فقط. نلاحظ هذا الفتور، وعدم الاحترام في العلاقة الزوجية حينما نشاهدهما مع ابنيهما على مائدة الإفطار ونسمع حلمي باشا يقول: الحالة في مصر صعبة جدا، مظاهرات، اضطرابات، وكمان مُشكلة فلسطين دي مُشكلة كبيرة أوي، الضغوط قوية على الحكومة علشان تعلن الحرب، ربنا يستر. هنا ترد عليه حورية: يعني يا حلمي هنسيب عرب فلسطين يتقتلوا أو ينطردوا، ونقف نتفرج؟! فيرد عليها بشكل فيه الكثير من التحقير، والاستهانة برأيها: المسألة مش بالشكل دا، دي سياسة عليا، وأنت مش فاهمة حاجة وبترددي الكلام الفارغ اللي بتكتبه الجرايد إياها.

إن رد حلمي على زوجته/ حورية بمثل هذا الشكل المُبالغ فيه من الاستهانة التي لا تحمل في باطنها سوى التقليل من شأنها، أو فهمها للأمور يؤكد على شكل العلاقة المُنتهية بينهما، وهو ما ركز عليه المُخرج خيري بشارة بذكاء حينما انتقلت الكاميرا مُباشرة بعد انتهائه من جملته في لقطة كبيرة تهتم بالتركيز على تفاصيل وجهها؛ فرأينا نظراتها المُستاءة إليه، واحتقارها الداخلي له، وسُرعان ما تنتقل الكاميرا مرة أخرى على وجه ابنها سعد- قام بدوره المُمثل الجزائري أحمد محرز- المُرتبط بأمه ارتباطا وثيقا؛ فنرى على وجهه التعبير المُفرط في التعاطف معها في مثل هذا الموقف المُهين لها.

إذن، فالمُخرج يعي جيدا منذ بداية فيلمه كيفية التأسيس للفيلم ورسم شكل العلاقة الأسرية في هذه الأسرة التي ستنهار فيما بعد بسهولة، ليس على المستوى الأسري فقط، بل على المستوى الطبقي والاجتماعي أيضا.

يرضخ الملك في نهاية الأمر للاضطرابات الحادثة في مصر منذ عام من أجل الوقوف إلى جانب الفلسطينيين ويعلن حالة التعبئة العامة وإعلان الاشتراك في الحرب، ولعلنا نلاحظ اهتمام بشارة هنا بالتفاصيل الدقيقة التي أدت إلى الهزيمة حينما يعلن معالي الوزير في الحفل الذي أعده حلمي باشا للضيوف الإنجليز عن الخبر بقوله: جلالة الملك أصدر أمره السامي بدخول الجيش المصري الحرب؛ لطرد العصابات الصهيونية من فلسطين، ومنذ ساعات أعلن القائد العام أمام البرلمان أن الحرب لن تستغرق أكثر من أسبوعين، وعلى حد تعبيره، هتكون نزهة للجيش المصري!

ألا نُلاحظ، هنا، فيما قاله معالي الوزير، لا سيما جملته الأخيرة، قدر الاستهانة بالعدو حتى أن القائد العام وصف الحرب بأنها مُجرد نزهة؟ ألا يذكرنا ذلك بقول عبد الناصر فيما بعد: بأننا سنلقي بإسرائيل في البحر، لكن التاريخ أثبت لنا أننا قد انهزمنا أمامها في الحربين- 1948م، 1967م؟!

إن تركيز المُخرج على هذه التفاصيل الدقيقة والعابرة كان من الضرورة بمكان ما يجعلنا نتأمل الأمر فيما بعد، لا سيما الهزيمة التي مُنينا بها بسبب صفقة الأسلحة الفاسدة التي قتلت أبناء الجيش المصري، وهي الصفقة التي شاركت فيها الحكومة المصرية، وغيرهم من رجال الجيش الفاسدين، أي أن الفساد في السُلطة الذي جعل بعض رجالها يضحون بأرواح أبنائنا كان من أهم مُسببات الانهيار الكامل على المستوى القومي الذي استتبعه بالضرورة انهيار آخر على المستوى الطبقي المصري.

يتم تكليف حلمي باشا- رغم تقاعده عن الخدمة منذ ما يقارب العام- بقيادة الجيش أثناء الحرب، وهنا يعلن ابنه سعد رغبته في التطوع في الحرب، لكن أم الخير- قامت بدورها المُمثلة إحسان القلعاوي- التي أرضعت سعد وهو صغير، تشعر بالخوف الشديد على ابنها الوحيد خير- قام بدوره المُمثل أحمد زكي- وهو ما يدفعها إلى الذهاب إلى قصر الباشا وتخبر سعد بأنها تخشى على ابنها من الحرب، كما تطلب منه التوسط لدى حلمي باشا كي لا يشترك خير في الحرب، لكن سعد يؤكد لها أنه سيكون مع خير، وعليها ألا تخشى عليه، كما أنه لا يستطيع مُفاتحة والده في مثل هذا الأمر لا سيما أنه نفسه قد طلب منه لتوه التطوع في الحرب.


إن مشهد توسل أم الخير لسعد من أجل ابنها كان من المشاهد المُهمة والدالة؛ فهي توقن أن الحرب سيكون وقودها الفقراء من أمثال ابنها، بينما أبناء الباشوات- سعد- لن يصيبهم أي شيء، وهو ما أكدت عليه حينما أخبرت سعد بأنه سيكون في مهام مكتبية ولن يصيبه شيءٌ، أما خير فسيكون على الجبهة، لكنه أكد لها العكس وأنهما سيكونان معا.

لكن المشهد التالي يؤكد أن الفقراء بالفعل هم وقود الحرب، وأن ثمة تمييز حقيقي بين المُشاركين في الحرب تبعا لمكانتهم، وانتمائهم الطبقي، حيث نرى سعد يرافق أباه أثناء ركوبه القطار ويستقل معه الدرجة الأولى، في نفس التوقيت الذي نرى فيه خير وغيره من أبناء الفلاحين يستقلون الدرجة الثالثة الخاصة بالفقراء، أي أن سعد- نظرا لانتمائه الطبقي- لم يستقل القطار مع غيره من الجنود المُشاركين معه في الحرب، بل كان هناك تمييزٌ منذ البداية؛ لذلك حينما تلحق أم الخير حلمي باشا على محطة القطارات قائلة له: سعادة الباشا، كنت عايزة أوصيك على خير ولدي. فيرد عليها قائلا: الحرب مفيهاش واسطة يا أم الخير، اطمني، وخير هيكون مع سعد.

نقول إن هذا المشهد والحوار القصير بينهما كان من الضرورة والأهمية؛ حيث استقل الباشا مُباشرة القطار مع ابنه بشكل فيه الكثير من التمييز، أي أن رده عليها لا يمكن أن يكون صحيحا، أو مُقنعا بأي حال، وهو ما يُدلل على أن الفقراء هم وقود أي حرب، وهو ما يعطينا، أيضا، الإحساس بأن خير سيكون ضحية هذه الحرب والفساد الذي حدث فيها بسبب صفقة الأسلحة الفاسدة.

إذن، فبشارة من المُخرجين الذين يهتمون بالتفاصيل الدقيقة التي تعمل على رسم الشخصيات والمواقف في فيلمه، وهو ما أراده المُخرج من هذا المشهد المُتأمل.

ثمة مُلاحظة لا يمكن إغفالها في علاقة حورية بابنتها علية- قامت بدورها المُمثلة الجزائرية فاطمة بلحاج- المخطوبة لحسن- قام بدوره المُمثل محمد كامل- فالابنة تشعر تجاه أمها بالكثير من النفور والغيرة، كما أنها تفخر كثيرا بأبيها الذي يسيء مُعاملة أمها طوال الوقت. هذا الفخر بالأب نلاحظه حينما يغيب الأب في الحرب، وتقول علية لأمها: كل الناس بتقول إني شبهه خالص، سمعتي معالي الوزير قال إيه؟ قال: إن علية بنت أبوها، فيها شخصيته، ملامحه، وروحه. فترد عليها أمها: ودا يسعدك؟! لتقول علية: طبعا يسعدني.

لا يمكن إنكار أن شخصية علية بالفعل لا تختلف كثيرا عن شخصية أبيها، حتى أنها تتعامل مع أمها بنفور، واحتقار، وعدائية، ولا مبالاة تماما كما يفعل والدها، وربما كان هذا الإعجاب الشديد بشخصية الأب هو السبب في كراهية الابنة لأمها في محاولة منها لتمثل مشاعر الأب، أي اعتمادا على نظرية سيجموند فرويد وميل الابنة لأبيها ومُعاداة الأم!

تتقابل حورية مع كابتن كمال- قام بدوره المُمثل الجزائري سيد علي كويرات- الذي يأتي إلى القصر كثيرا أثناء غياب الأب والابن في الجبهة، وتشعر حورية تجاهه بالكثير من الميل، لكن الكارثة أن الابنة علية هي الأخرى تشعر تجاهه بالميل العاطفي حتى أنها تخون خطيبها حسن معه.

تسافر حورية إلى القاهرة بدعوى رغبتها في الاطمئنان على أبيها المريض، وهناك تذهب إلى كابتن كمال في بيته ويعترفان بعشقهما لبعضهما البعض، وتحدث بينهما علاقة جنسية لعدة أيام، ولأن علية كانت تتشكك في وجود ميل ما من أمها تجاه كمال؛ تسافر إلى القاهرة خفية لمُراقبتها والتأكد من وجود علاقة بينهما من عدمها؛ لذلك حينما تعود الأم إلى الأقصر تواجهها علية بأنها تعلم بخيانتها لأبيها مع كمال، وأنها قد سافرت خلفها لمُراقبتها، أي أن كل من الأم والابنة هنا تتنافسان على رجل واحد، بل وتشتركان في الخيانة- علية خانت خطيبها، والأم تخون زوجها!


تحدث مُشادة بين الأم وابنتها لتؤكد فيها حورية بأنه قد عاشت مع زوجها 25 عاما وهي تشعر معه بالاحتقار الشديد؛ مما يدفع علية لمواجهتها مُخبرة إياها بأنها لا تحبها بسبب شبهها بأبيها، وتؤكد لها الأم بأنها بالفعل تشبه الأب في كل شيء حتى في طباعه، وحينما تسألها علية عن سعد تخبرها حورية/ الأم بأن سعد منها هي؛ لذلك فهي تعشقه.

تضمر علية لأمها الكثير من الشر والحقد والغيرة؛ لذلك تنتظر عودة أبيها من الحرب التي راح خير ضحية لها كما توقعنا، وأُصيب فيها سعد بسبب الأسلحة الفاسدة، وحينما يعود الأب تخبره علية بأن كمال كان كثير التردد على البيت في غيابه؛ فتشككه في أمها، ولما ينفرد بحورية ويحاول سؤالها وتضييق الخناق عليها بشأن السبب الذي جعل كمال يتردد على البيت في غيابه يفهم أنها قد خانته مع كمال، ولأنه- حلمي باشا- يعاني من مرض القلب تصيبه نوبة قلبية في الوقت الذي يحاول فيه خنق حورية بعد معرفته بخيانتها؛ فيموت على أثرها؛ الأمر الذي يجعل علية تتهم أمها بأنها كانت هي السبب في موت أبيها، أي أنها من قتلته!

تنتظر علية خروج أخيها سعد من المُستشفى راغبة في إخباره بخيانة أمها لأبيهما، واتهامها بقتله؛ ومن ثم دفعه إلى قتل الأم، ولكن لأن سعد شديد القرب من الأم لا يستمع إلى كلامها مُتهما إياها بالجنون، إلا أن علية تصر على كشف خيانة الأم للأب مع كمال، وتعده بأنها ستثبت له صدق كلامها بالاتفاق معه على الادعاء بسفرهما معا إلى الإسكندرية لمُراقبة الأم التي لا بد لها من الذهاب إلى عشيقها، وبالفعل تذهب حورية إلى كمال الذي يؤكد لها أنهما لا بد لهما من الانقطاع عن اللقاء لفترة بسبب علية وما تفعله. يشاهد سعد أمه وهي تخرج من بيت كمال، وحينما تنصرف يهبط مع علية للصعود إليه، لتناول أخاها مُسدسا يقوم بقتل كمال به.

لعل مشهد قتل سعد لكمال كان من المشاهد المُهمة؛ حيث نرى مدى سيطرة الحقد والكره، والغيرة على علية؛ فهي التي دفعت أخاها من أجل قتل كمال، وهي من خططت للأمر، وهي من أعطته المُسدس ليقوم بقتله، ورغم ذلك حينما ترى كمال مُضرجا في دمائه تركع على ركبتيها لتقبله بعد موته، لكنها سُرعان ما تنهض لتكتب على الحائط كلمتي جاسوس، وعميل؛ للإيحاء بأن من قام بقتله قد فعل ذلك بسبب خيانته!

إن عشق علية الشديد لكمال جعلها تشعر بالكراهية الشديدة له ولأمها بسبب مُضاجعة كمال لها ولأمها معا، ولكن رغم تخلصها من كمال الذي تحبه، إلا أنها لم تستطع التخلص من مشاعر البغض الشديد تجاه أمها؛ لذلك حينما تعود مع أخيها إلى الأقصر تخبر الأم بتشفٍ أنهما قد تخلصا من كمال للأبد بقتله، وهو الأمر الذي يصيب حورية بصدمة شديدة؛ فتتجه إلى حجرتها ونسمع صوت إطلاق ناري لنعرف أنها قد انتحرت بعد سماعها بخبر قتل كمال، الرجل الوحيد الذي عشقته، وشعرت معه بالحياة الحقيقية.

بعد مقتل الأم يبقى كل من سعد وعلية وحيدين، وتمر الكثير من الأحداث منها ثورة العسكر على الملكية، وأحداث العدوان الثلاثي على مصر في 1956م؛ ولأنهما يعيشان حياة باهتة جافة منذ موت الأبوين يقرر سعد الاشتراك في الحرب على القنال باتجاهه إلى الإسماعيلية، وحينما تحاول علية منعه لا يستمع إليها. هنا تظل علية وحيدة في القصر الضخم، وفي الوقت الذي تستسلم فيه لخطيبها حسن ذات مرة تهمس له وهي في حضنه: خدني يا كمال، خدني دلوقتي!

أي أنها لم تستطع الخروج من أسر مشاعرها تجاه كمال الذي خططت لقتله؛ الأمر الذي جعلها تنطق باسمه بينما هي بين ذارعي خطيبها الذي يتركها مُنصرفا بمُجرد سماعه لما همست به.


تظل علية وحيدة في قصرها، وتتأمل سائس الخيول كثيرا، وربما لأنها تشعر بالوحدة الشديدة، والضياع التام تستسلم له داخل الاسطبل ليضاجعها على أرض الاسطبل في مشهد يُدلل على الانهيار الطبقي الكامل والفادح حينما استسلمت له بسقوطها تحت جسده مُستسلمة مُستمتعة بافتراسه لها؛ لنراه فيما بعد ينهض من فوقها مُرتديا ملابسه بينما هي في عمق المشهد مُلقاة على أرض الاسطبل!

إن فيلم المُخرج خيري بشارة الأول كان من أفضل الأفلام التي استطاع المُخرج من خلالها تقديم نفسه كمُخرج قادر على تقديم سينما جيدة وجادة، تهتم بالواقع، وتشتبك معه محاولة نقاشه حتى لو كان من خلال الرمز البعيد والعودة إلى الماضي؛ من أجل نقاش ما يحدث في الوقت الآني. كما لا يفوتنا أن المُخرج الذي جاء من قلب السينما التسجيلية لعدد لا يستهان به من السنوات لم يستطع التخلي بسهولة، أو عدم توظيف، هذه السينما من أجل الاستفادة بها في السينما الروائية التي انتقل إليها؛ لذلك رأينا طوال أحداث الفيلم استعانة المُخرج بالكثير من المشاهد التسجيلية التي أجاد المُخرج كثيرا في وضعها داخل السياق الفيلمي، كما لا يمكن إنكار أن هذه المشاهد قد أفادت الحدث الفيلمي أيما إفادة، وبالتالي لم تكن مُقحمة عليه، بل كانت من نسيجه الروائي حتى أن غيابها من المُمكن له أن يؤثر على الفيلم بسهولة.

إن فيلم "الأقدار الدامية" يريد المُخرج من خلاله الحديث عن الصراع العربي الصهيوني من خلال الربط بين هذا الصراع وبين الصراع الطبقي في مصر، أي أن الانهيار الطبقي الذي صوره المُخرج كان في جوهره نفس الانهيار الذي تعاني منه الدول العربية في صراعها مع العدو الإسرائيلي؛ لذلك فهو يريد التأكيد على أن الهزيمة الحقيقية لم تكن على الجبهة، بل في الداخل؛ فأثناء الحرب تخون علية/ الابنة حبيبها حسن مع كمال، كما تخون الأم زوجها مع نفس الرجل أيضا، وحينما يعود الزوج ويدرك ما حدث؛ يموت بالأزمة القلبية، وتحاول الابنة دفع أخيها سعد للانتقام من أمه؛ فتنتحر الأم، ولا يبقى سوى سعد الذي يعود إلى الاشتراك في الحرب مرة أخرى، بينما تستسلم علية- في مشهد يُدلل على الانهيار الطبقي التام- للسائس الذي يعاشرها، أي أن الانهيار الاجتماعي الكامل الذي يعاني منه المصريون يكاد يكون هو نفس أزمة الصراع العربي الصهيوني، وهو ما يؤكد لنا في نهاية الأمر أهمية ما قدمه المُخرج خيري بشارة من خلال فيلمه الروائي الأول، كما لا يفوتنا المُوسيقى التصويرية الدالة والمُهمة التي وضعتها المُوسيقية مُنى غنيم؛ حيث كانت المُوسيقى بمثابة المُحرك الدال والأساس للفيلم بما توحي به من أحداث قابضة ستحدث مُستقبلا، كما كانت توحي بالكثير من الاكتئاب مما يتناسب مع العالم الفيلمي الذي قدمه المُخرج.

 

 

 

محمود الغيطاني 

مجلة "نقد 21"

عدد أغسطس 2022م.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأربعاء، 10 أغسطس 2022

خيري بشارة: الذاتية وإعادة صياغة الواقع

المُخرج خيري بشارة
خيري بشارة هو ابن السينما المصرية، أي أنه لم يكن دخيلا أو غريبا عنها، لكنه ابن السينما التي أراد صناعتها وتقديمها ورؤيتها من خلال مفهومه الخاص، وثقافته الشخصية التي تخصه وحده، من خلال مُشاهداته ومُراقبته لما يحدث من حوله، من خلال إيمانه بانهيار الأيديولوجيات والأحلام والآمال التي كان يعقدها جيله على المُستقبل، أي من خلال تفاعله مع ما يدور في الواقع وعدم الاستسلام للنظرة المثالية؛ فلم يستلهم أسلوب أو طريقة غيره في صناعتها، بل صنع سينما تخصه وتعبر عنه، وتختلف عن غيره من المُخرجين؛ وبالتالي نجج كثيرا في إعادة صياغة الواقع الذي يتحدث عنه من خلال هذه الرؤية الذاتية جدا، والتي تُقدم الواقع من خلال عينيه، وثقافته وحده.

إذن، فهو مُخرج يقدم السينما كما يحب أن يراها، وليس كما يحب أن يراها الآخرون، يضيف إليها الكثير من ذاته بعد تأمله للموضوعات التي يطرحها، حتى أنه حينما لجأ لرواية يحيى الطاهر عبد الله في فيلمه "الطوق والإسورة" 1986م لاحظنا أن ثمة بونا شاسعا بين الرواية والفيلم، وإن حرص في فيلمه على الحفاظ على روح الرواية، لكنه من خلال نقل العمل المكتوب- الذي يعتمد في الأساس على اللغة والخيال فقط- إلى وسيط آخر يعتمد في مُفرداته على الصورة كان حريصا على أن يكون العمل السينمائي مُنتميا له هو، مُمثلا لوجهة نظره وما يحمله من ثقافة يرى من خلالها العالم، وليس من خلال ثقافة كاتبه الذي يتحدث عن قرية في عُمق الصعيد في الأقصر.

من فيلم الطوق والإسورة

يبدو هذا الاختلاف في رؤيته للعمل السينمائي منذ تخرجه في المعهد العالي للسينما 1967م، ثم عودته من بولندا بعد منحة دراسية للسينما هناك لمُدة عام ونصف العام. في هذا التوقيت بدأ بشارة في صناعة الأفلام التسجيلية بعدما عمل كمُساعد مُخرج مع المُخرج عباس كامل في فيلمه "أنا الدكتور" 1968م، ثم مع المُخرج توفيق صالح في فيلمه "يوميات نائب في الأرياف" 1968م، كما ساعد في الإخراج في فيلمين بولنديين هما فيلم "في الصحراء وفي الأحراش" للمُخرج البولندي فواديسواف شيلشتسكي 1971م، ثم الفيلم البولندي "تاييس" للمُخرج ريشارد بر 1983م- أي بعد عمله في الإخراج للعديد من الأفلام التسجيلية بلغت التسعة أفلام، وفيلمين روائيين- ثم لم يلبث- بعد عدة سنوات بعيدا عن الفيلم البولندي الأخير- أن قدم أول أفلامه التسجيلية "صائد الدبابات" 1974م عن المُجند المصري محمد عبد العاطي الذي نجح في تدمير ثلاث وعشرين دبابة وحده أثناء حرب أكتوبر 1973م، وهو الفيلم الذي حاز على ثلاث جوائز بالإضافة إلى شهادة تقدير من مهرجان "ليبزج" الدولي.

لفت محمد عبد العاطي وما قام به من عمل بطولي ومُهم نظر المُخرج خيري بشارة؛ الأمر الذي جعله يهتم بصناعة فيلمه الأول عنه، ولعلنا نلاحظ من خلال أفلام بشارة التسجيلية أنه أراد أن يقدم مفهوما جديدا للسينما التسجيلية يبتعد بها عن التقريرية أو النزعة الإخبارية التي كانت تميزها كما رأيناها، على سبيل المثال، لدى صلاح التهامي- رغم عمله كمُساعد مُخرج مع التهامي عام 1971م في فيلم "تحية لعمال أبو زعبل"-، أو حتى النزعة الشاعرية التي رأيناها مع المُخرج هاشم النحاس. أي أن بشارة منذ بدايته كان راغبا في تقديم السينما كما يحب أن يراها هو، ومن خلال ثقافته الشخصية وحده؛ الأمر الذي جعله يصنع العديد من الأفلام التسجيلية قبل اتجاهه لصناعة السينما الروائية الطويلة؛ فرأينا له: "طبيب في الأرياف" 1975م، و"طائر النورس" 1976م، و"تنوير" 1977م، و"حديث الحجر" 1978م، و"حديث القرية" 1979م، و"تجاوز اليأس" 1980م، وعباد الشمس 1981م.

الأقدار الدامية

إن محاولة إعادة صياغة الواقع من خلال الثقافة الخاصة لبشارة هي ما جعلته يقدم سينما تسجيلية مُختلفة عما هو سائد حينها، وهو أمر لا ينكره المُخرج نفسه؛ حيث يؤكد: "إنني أنتمي إلى جيل تلقى وعيه الاجتماعي والسياسي بسلبياته وإيجابياته خلال نمو حركة ثورة 23 يوليو في المُجتمع المصري؛ فعندما قامت الثورة كان عمري خمس سنوات، وعندما حدثت نكسة 1967م كنت في نهاية دراستي بالمعهد العالي للسينما. كنت في العشرين من عمري، ومعروف أن المُثقفين المصريين بعد 67، على اختلاف اتجاهاتهم أو تياراتهم، بدأوا يعيدون تقييم الواقع المصري، سواء في لحظاته الحاضرة، أو من خلال ماضيه، وهذا الشيء عظيم، كان بالنسبة لي- كشاب- هو بداية وعيي الحقيقي، وبدأت أكتشف، كمُخرج سينما، أن الثقافة السينمائية ليست هي كل شيء"[1].

إذن، فإعادة تقييم الواقع، وإعادة صياغته وترتيبه من خلال رؤية سينمائية هو ما كان يقصده بشارة في صناعته السينمائية؛ الأمر الذي جعله يتميز بسينما تخصه وحده، مُختلفا في ذلك عمن سبقوه من مُخرجين، أو حتى المُجايلين له؛ لذلك حينما قدم فيلمه التسجيلي الأول "صائد الدبابات" 1974م لم يكن اهتمامه الأول باصطياد عبد العاطي للدبابات فقط- فلو فعل ذلك لكان قد قدم لنا فيلما تسجيليا تقريريا مثل غيره- بل بالظروف الاجتماعية والثقافية، والإنسانية التي تحيط وأنتجت شخصية عبد العاطي الذي نجح في اصطياد هذه الدبابات؛ لذلك نرى أن الناقد أحمد يوسف كان مُغاليا حينما قال: "لقد كان ألمع ما في هذه الأفلام هو "أفكار" خيري بشارة، وليست "عواطفه"، فهي إذا كانت تبدأ دائما من الواقع إلا أنها تسعى دائما إلى أن تصنع من هذا الواقع عالما جماليا مُتكاملا، يحول الحجر إلى إنسان، لكنه قد يحول الإنسان إلى حجر، فكل عناصر الواقع تصبح على درجة متساوية من الأهمية، دون نقاط ساخنة أو أخرى باردة، حتى أن الواقع يصبح في أفلامه عالما جماليا (ولا نقول جميلا) مُتسقا، مُكتفيا بذاته، لأن هناك مسافة من التباعد العقلاني تفصل دائما بين الفنان خيري بشارة، والواقع الذي يتعامل معه، حيث ينبغي أن يخضع الواقع في النهاية إلى مفهوم جمالي ذهني، وحيث يفقد الواقع جانبا كبيرا من دفئه وحرارته"[2]. فمن خلال ما ذهب إليه الناقد أحمد يوسف نفهم أن بشارة كان يحاول دخول عمله الفني دائما من خلال قالب جاهز لصناعة السينما لا بد أن يروض من خلاله الفكرة التي ينطلق منها؛ ومن ثم فهو يعمل على ليّ عنق الفن ليا؛ من أجل فكرته المُسيطرة على ذهنه مُسبقا، ولعل في هذا المذهب- إذا ما صح- ما يؤكد عمدية الفن التي تُفسده وتبتعد به عن التلقائية وطبيعية الأمور والأحداث الواقعية؛ ومن ثم يصبح ما يقدمه خيري بشارة مُجرد أعمال ثلجية باردة، ومصنوعة، لا روح فيها، ولا مشاعر؛ ومن ثم ستفقد أي تعاطف أو تفاعل بينها وبين المُشاهد؛ لأنها مُجرد أعمال ذهنية خاضعة لذهنية صانعها فقط، ولعله في الواقع السينمائي، من خلال ما قدمه بشارة من أفلام تسجيلية أو روائية طويلة، ما يُدلل على عدم صدق هذه النظرة التي ذهب إليها أحمد يوسف؛ وبالتالي يكون فيما ذهب إليه الناقد قدر كبير من المُغالاة والتجني، أو محاولة لقراءة سينما بشارة من خلال مفهوم ذهني يخص الناقد نفسه، لكنه لا يخص الواقع السينمائي الذي قدمه المُخرج بالفعل.

الأقدار الدامية

لعل ما يحكيه بشارة، نفسه، عن تجربته في صناعة فيلم "صائد الدبابات" ما يُدلل على أن المُخرج لم يكن يفكر في صياغات جاهزة، أو ذهنية قبل صناعة أفلامه، بل كانت الفكرة تتطور معه تبعا لظروف إنتاجها: "تقدمت في أواخر الربيع الأول لعام 1974م بفكرة فيلم "صائد الدبابات"؛ لإدراجها في خطة المركز القومي للأفلام التسجيلية والقصيرة، وذلك قبل أن يتم تكليف المركز رسميا بإنتاج أربع بطولات من أكتوبر. كانت الفكرة حينئذ غير متبلورة بالقدر الكافي؛ فلقد كتبتها في سطور قليلة، وعلى عجل، موضحا أن الفيلم سوف يعتمد في بنائه على الانتقال المتوازي بين مُقابلات سينمائية مع عبد العاطي (صائد الدبابات)، وبين حُطام دبابات العدو في معرض الغنائم الذي أُقيم وقتها في القاهرة على أرض المعارض بالجزيرة، وكان عبد العاطي قد حُظي قدرا من الشهرة عندما طلب منه وزير الحربية، وقتها، (المرحوم المُشير أحمد إسماعيل علي) أن يتقدم؛ ليقص معه الشريط إيذانا بافتتاح معرض الغنائم. ويرجع الفضل إلى جمال الغيطاني في إلقاء الضوء بقوة على بطولات عبد العاطي، وبطولات رفاقه من "أكلة الدبابات"، وفي الحقيقة فقد ساهم كتاب الغيطاني "المصريون والحرب" بصورة أكيدة وفعالة في توجيه أفكاري ناحية الجوانب العميقة في شخصية عبد العاطي والمُقاتلين المصريين بوجه عام؛ فالكتاب يتميز برؤية إنسانية واجتماعية واعية لعين ثاقبة لمُراسل صحفي حربي، هو أديب في الوقت ذاته. عندما تراجعت خطة المركز لتحتل أفلام أكتوبر الأربعة المُكلف بها أولوية التنفيذ؛ وقع عليّ الاختيار بسبب مُبادرتي السالفة لإخراج فيلم عن مُقاتل من الصعيد دمر سبع دبابات، إلا أن ظروف البحث عن هذا المُقاتل الذي كان قد سُرح من الجيش كانت من الصعوبة بحيث فرضت العودة إلى مُبادرتي الأولية، وهي عمل فيلم عن عبد العاطي، وهذا كان يتفق، بالطبع، مع رغبتي منذ البداية؛ مما أراح أعصابي القلقة- وهذا لا يعني المُفاضلة بين مُقاتل ومُقاتل- أو لأن عبد العاطي قد أصبح نجما على صورة ما، أو لأنه دمر عددا أكثر من الدبابات، وإنما الواقع أنني كنت قد تعاطفت مع عبد العاطي بصورة فورية لكل ما يمكن أن يمثله، وذلك خلال مراحل القراءة المُختلفة عنه، وعبر التفكير في اتجاه تنمية الفكرة، وكان من الصعب أن أقطع هذا الوصال الفكري والوجداني فجأة لأبدأ من جديد عبر طريق آخر"[3].

من خلال ما يقوله بشارة عن صناعة فيلمه يتضح أنه لم يكن لديه فكرة جاهزة عن صناعة الفيلم، وإذا ما حاولنا تجاوز ما قاله المُخرج باعتباره مُجرد تبرير، أو محاولة لصياغة ما كان يأمله ويحلم به؛ فإن الفيلم الذي قدمه لنا في نهاية الأمر يؤكد لنا أنه لم يكن مُجرد عمل ذهني بحت يخص صاحبه، بل هو عمل يهتم بصناعة سينما مُختلفة عما كان سائدا في هذه الفترة الزمنية. سينما تؤنسن الأمور وتهتم بما يحيط بها من عوامل مُختلفة- خلافا لما ذهب إليه أحمد يوسف سابقا- وهو ما يؤكده الناقد الراحل سامي السلاموني في: "هل يستطيع أعظم كاتب سيناريو في العالم أن يكتب حوارا أجمل من هذه الكلمات العفوية على لسان مُقاتل فلاح لا يُجيد حرفة الكلام؟ في مواجهة للكاميرا والميكروفون يروي لنا المُقاتل محمد عبد العاطي عطية شرف من مواليد 1950م بقرية شية قش مركز منيا القمح شرقية كيف صنع بمُفرده هذه المُعجزة التي ربما لا يدرك أنها مُعجزة. إن الكاميرا تصحبه إلى مواقع القتال الحقيقية؛ ليحكي، على الطبيعة، كيف دمر الدبابات التي ترقد على الرمال جثثا هامدة للغرور الذي واجه الفلاحين البسطاء؛ فانهزم- بمُجرد العقل والشجاعة- لقد حصل الفلاحون على سلاح يواجه به الرجل دبابة، واستطاع أن يستوعب أصعب تفاصيل السلاح بسرعة وذكاء نادر كامن تحت الجلد الأسمر الذي يبدو أحيانا صامتا وصابرا بأكثر مما يجب، وهذه هي مُعجزة أكتوبر التي صنعها الناس العاديون. إن عبد العاطي ليس بطلا حتى بعد أن تحول إلى أسطورة، إنه شاب عجيب، يتدفق بالحيوية والبساطة الآسرة كأنه لم يصنع شيئا، إنه البطل عندما يظل إنسانا، ويملك هذه القدرة النادرة على أن يُبهرك بالإنسان الذي فيه، وليس بالبطل. وهذا هو أعظم ما حققه وأبرزه المُخرج خيري بشارة في هذا الفيلم، مع قدرته الفائقة على تقديم البطل، ليس كأسطورة نادرة، وإنما كظاهرة طبيعية كامنة في أعماقنا وقابلة للتكرار كل يوم. إن عبد العاطي مُحاط دائما برفاقه في الحرب، وهو يتحدث دائما عنهم، وكل منهم ينسب الشرف للآخر. المُقاتل بيومي ضرب دبابتين، وأنا اثنتين، المُقاتل الخولي، المُقاتل عبد الفضيل، المُقاتل عوض، وقائد الكتيبة الضابط عبد الجابر يتحدث عنهم باعتزاز، ولكنه بوعي شديد لا ينسب البطولة لأفراد: "ابن القرية المصرية البسيطة قدر يستوعب المعلومات الإليكترونية المُعقدة، رغم إن أجهزة الدعاية كانت بتقول: إن الإنسان المصري مش مُمكن يستوعب الأجهزة دي"، وهذا هو درس أكتوبر يدركه ضابط واع. والدرس الرائع الآخر في هذا الفيلم أن مُخرجه لا يعزل البطل عن واقعه، إنه يعود به إلى قريته التي صنعته وتصنع آلافا غيره؛ فنرى عبد العاطي الشاب المصري في بيته، ومقهاه، وفي الشارع، وفي "قعدة" الرجال الذين يطالبون بأن "النور يخش بلدنا"، "ياعم المُهم المواصلات"، حيث لا تنفصل البطولة عن الواقع وعن الحلم بمُستقبل أفضل يحقق فيه عبد العاطي حلمه المشروع، "دي محاسن خطيبتي وفي نفس الوقت بنت عمي، خدت دبلوم التجارة الثانوية السنة دي، وأنا خدت شقة في منيا القمح، وإن شاء الله حنتجوز فيها". إن هذا الفيلم الرائع يقدم لنا خيري بشارة مُخرجا جيدا مُتمكنا في أول أفلامه الذي يبدأ فيه البداية الصحيحة بعد خمس سنوات من الانتظار والفراغ بلا عمل بعد تخرجه في معهد السينما، وبعثته إلى بولندا، وشكرا لأكتوبر؛ فلولاه لما أخذ الفرصة"[4].

الطوق والإسورة

إذن، فمن خلال ما يؤكده السلاموني يتضح لنا أن خيري بشارة لم يكن بالفعل ينطلق من أفكار ذهنية خالصة يحاول من خلالها إلباس الواقع أفكاره المُجردة؛ لصناعة السينما كما يفكر فيها، بل سعى المُخرج، جاهدا، إلى صناعة سينما جديدة تنطلق من الواقع ليكون أداتها الأولى من دون إغفال الجوانب الإنسانية والاجتماعية المُحيطة، أي أنه ابتعد بالسينما التسجيلية عن التقريرية والدعائية- اللتين كانتا الميزتين المُميزتين لها- إلى سينما جديدة ومُختلفة عما هو سائد.

ربما كانت رغبة المُخرج في التجديد بعيدا عما هو موروث بالفعل في السينما التسجيلية المصرية هو ما دفعه للحزن؛ لأن مُعظم نقاد السينما لم ينتبهوا إلى الجماليات والتجديد الذي أحدثه في الفيلم التسجيلي الذي قدمه؛ وبالتالي انصب جل اهتمامهم على الموضوع فقط من دون الشكل. في هذا الأمر يقول خيري بشارة: "كان طموحي في فيلم "صائد الدبابات" أن أجمع بين قيمة الصدق في المادة، وبين القيم الشكلية، فعلى سبيل المثال، حاولت بالنسبة لتكنيك تصوير المُقابلات السينمائية أن أكسر ثبات الكاميرا وأن أُحررها؛ لتبدو المُقابلة، بجانب قيمة الصدق في المادة ذاتها، حية ومثيرة للاهتمام من ناحية الشكل. باختصار كان طموحي أن أبحث عن حلول أفضل بعيدا عن استاتيكية المُقابلة الأكثر استخداما، مع إيماني القاطع بأن قيمة الصدق في المادة تسبق أعظم الاستخدامات التكتيكية براعة ومهارة، وأن هناك بعض الأفلام التي نادرا ما تتحرك فيها الكاميرا، ولكنها تُعد تُحفا فنية تتوارى خلفها، خجلا أو قسرا، أفلام تحركت فيها الكاميرات في كل اتجاه، وطارت دون أن تُحرك في نفوسنا أدنى اهتمام. وقد حاولت أن أُجسد، مُهتما بالقيم البصرية، ذلك الجمال الذي يكمن في المألوف والاعتيادي في حياة القرية، وحاولت أن أطرح بصورة أو بأخرى قضايا خاصة بالشكل- شكل الفيلم التسجيلي وعلاقته بالواقع الذي يستمد منه وجوده- ومدى إمكانية التحكم في هذا الواقع بالقدر الذي يسمح بتأكيد وتدعيم قيمة الصدق في المادة الواقعية وإمكانياتها دون أن يجور عليها؛ فلقطات فيلم "صائد الدبابات" لم تكن "مسروقة"، بمعنى أن الكاميرا لم تكن مُخبأة، وكان الناس الذين يقفون ويتحركون، ويحلمون، ويتكلمون أمامها يعرفون بالفعل أنها موجودة، وأنها تلتقط صورتهم، وتُسجل كلماتهم، والتحكم الذي أمكنني تحقيقه هنا، هو محاولة لتعويض سحر التدفق التلقائي للواقع في اللقطات المسروقة، وهذا الذي حاولته عموما ليس جديدا تماما بالنسبة للسينما التسجيلية خارج مصر، ولكن أعتقد أنه كان- إلى حد كبير- مُتميزا في مسار حركة السينما التسجيلية المصرية، وللأسف فإن المشاكل الخاصة بالشكل في هذا الفيلم لم تأخذ حقها كما يجب في مُعظم الكتابات عن الفيلم، وانصب التركيز على المضمون أو التأثير النهائي لهذا الفيلم، ولا جدال، بالطبع، فإن هذا التركيز أكثر أهمية رغم وقبل كل شيء"[5].

الطوق والإسورة

ربما كان اهتمامنا بالحديث عن فيلم بشارة التسجيلي الأول نابعا مما ذهب إليه الناقد أحمد يوسف حينما حاول التأكيد على أن كل سينما بشارة- سواء التسجيلية منها أو الروائية- هي مُجرد سينما ذهنية، مرسومة في ذهن صانعها، ولا علاقة حقيقية لها بالواقع، وهو الأمر الذي ينفيه الواقع الذي رأيناه من خلال أفلامه التي كانت مُشتبكة اشتباكا حقيقيا مع هذا الواقع، نابعة منه، محاولة التحاور معه، وتقديم العديد من المُشكلات التي يعاني منها، بل والتعبير عما يعاني منه هذا المُجتمع، لاسيما جيل بشارة نفسه الذي عاش الثورة، والهزيمة، والانتصار، والانفتاح، أي أنه الجيل الذي عاش الأزمة بكل صخبها، وكل أحلامها الموءودة، وكل عبثية هذا الواقع؛ ولعل الدليل الدامغ على هذا الاندماج ومحاولة تقديم سينما تناقش هذا الواقع بشكل فعلي هو ما قاله عن فيلمه التسجيلي الثاني "طبيب في الأرياف" 1975م: "إذا كنت قد حاولت في "صائد الدبابات" أن ألقي بعض الضوء على العلاقة بين الإنسان والأرض بصورة كانت بسيطة، ومن قبيل الطرح التأملي لهذا الواقع؛ ففي فيلم "طبيب في الأرياف" حاولت أن أُحلل العلاقات أو الظروف التي تعيش فيها القرية المصرية، وأكثر الأوضاع حدة وبروزا في مُعاناة هذه القرية، والتي استحوذت على اهتمامي كانت هي الأوضاع الصحية فيها، وارتباط هذه الأوضاع بعلاقات مُتباينة ارتباطا عضويا، كالعلاقة الاقتصادية والاجتماعية، وبصورة تبسيطية العلاقة بين القرية والمدينة الصغيرة، وبين القرية والعاصمة، وبين الفلاح والأفندي، وهذه العلاقات جميعها مُركبة للغاية، وهي في النهاية ترتبط بفهم التقدم والتخلف. قدمت فكرة إلى المركز القومي للأفلام التسجيلية والقصيرة بتاريخ 15 مايو 1975م، وفيما يلي سطور الفكرة كما قدمتها: "يقدم الفيلم حياة طبيب شاب حديث التخرج يعمل في قرية مصرية، حيث نراه في عمله اليومي وفي أوقات فراغه، ونسمع منه مشاكله وأحلامه، في نفس الوقت الذي نستعرض فيه مُشكلات القرية وأحلامها، وقد يكون هذا الطبيب نموذجا لما يجب أن يكون عليه الفرد الذي يخلص لمُشكلات بلده ويتفهم جيدا واجباته القومية، وقد يكون نموذجا- كالأغلبية- للرغبة في الكسب المادي الوفير والحياة السهلة المُمتعة. عيادة في وسط البلد في القاهرة، أو أي مدينة كبيرة، وسيارة.. إلخ. ويدخل الفيلم في حوار جدل مع النموذج الذي يقع عليه الاختيار؛ ليوضح- باقناع ودون مُبالغة- أي حياة من الحياتين أجدر بأن يعيشها الطبيب الشاب- بل كل شاب- ليخدم وطنه الذي أنجبه وعلمه، وتبرز أهمية الفيلم إذا ما بدت هجرة شبابنا المُتعلم إلى الخارج تُمثل ظاهرة تُهدد مُجتمعنا الذي يسعى إلى تخطي التخلف- رغم ظروفه التاريخية الصعبة- وحتى إذا ما صدرت قوانين لتحد من هجرة بعض التخصصات- فإن حلم الهجرة أو حلم تكوين المرء لمُستقبله الذاتي في المدن الكبيرة- يسيطران على تفكير الكثيرين من أطبائنا الشبان- وغيرهم من الشبان حديثي التخرج في التخصصات الأخرى. باختصار، هذا فيلم يحاول أن يكشف الإيجابيات والسلبيات في واقعنا المُعاصر، وقد تبدو سلبية كالأنانية أو اللامبالاة التي يبديها الفرد نحو الآخرين أو المُجتمع من أخطر هذه السلبيات"[6].


أي أن بشارة نجح مرة أخرى في الاشتباك مع الواقع وتقديم فيلم مُهم عنه ومُختلف عما يقدمه غيره من المُخرجين السابقين عليه، بل والمُجايلين له، وهو ما أكده مرة أخرى الناقد الراحل سامي السلاموني في قوله: "بينما يبدو التسجيليون التقليديون قد تجمدوا عند أساليبهم الخالدة، وتناولهم التقرير الزاعق، والساذج أحيانا، للموضوعات التي يمطونها من باب "أداء الواجب الوظيفي"، ولمُجرد الاستماتة للبقاء في الصورة، فإنك تستطيع أن تلمح أيضا- ورغم أنوفهم أحيانا- ميلاد سينما تسجيلية مصرية جديدة. والفيلم الفائز بالميدالية الذهبية للمهرجان باعتباره أحسن أفلام 1975م هو نموذج حقيقي لهذه السينما التسجيلية المصرية التي كان لا بد لها أن تُولد. إن المُخرج الشاب خيري بشارة يخطو في فيلمه القصير الثاني "يوميات طبيب في الأرياف" خطوة أكثر تقدما بكثير مما قدمه في فيلمه الأول "صائد الدبابات". إنه يختار موضوعه بعناية هذه المرة، ويبدو أكثر حرية في التعبير عن رؤيته الشخصية وأسلوبه الفني، وهما أهم دعائم الفيلم التسجيلي، وهو من خلال تحقيقه عن حياة طبيب شاب في قرية نائية في أعماق الصعيد لا يقدم مُجرد تقرير جاف عن حياة ومُعاناة هذا الطبيب كما يمكن أن نتوقعه، وإنما يقدم الشخص من خلال المكان، أو العكس، فنحن لا نرى الطبيب كمُجرد مفتاح لتحليل الواقع الذي يعمل فيه. إن الحركة هنا لا ترصد شخصا، وإنما تُحلل واقعا اجتماعيا مُختلفا بكل علاقاته وتناقضاته وحقائقه المُخيفة التي تصرخ كي نغيرها. ونحن نتلقى هذا الواقع طازجا حقيقيا بلا تزييف أو تزويق، ويبقى دور خيري بشارة مُجرد نقل هذا الواقع بالسينما، ولكن ليس بهذا التصوير الفوتوغرافي، أو الفولكولوري الذي يتاجر فيه بعض التسجيليين الزائفين بمظاهر التخلف؛ لكي يدهشوا به مهرجانات أوروبا ويفوزوا بجوائزها، وإنما يحلل خيري بشارة هذا الواقع من داخله، وبمنطق فنان مصري يحب ما يرصده، وإن كان يثور عليه لكي يصبح أفضل، وبلا أي استعراضات تكنيكية يحاول بها خداع الناس، وهذا الحب والحس المصري الصادق هو الذي يجعله لا يُغفل حتى مواضع الجمال في قلب البؤس، والضحكة الساخرة تنبع من المأساة كما هي أعجوبة حياتنا المُدهشة. وهو يقيم بناءه التسجيلي على عناصر تستخلص المادة الروائية أيضا، واكتشاف الشخصيات الفريدة من بين الناس العاديين كما يفعل مع مُنادي القرية؛ مما يؤكد أن خيري بشارة سيصبح أيضا مُخرجا روائيا جيدا، يشاركه في فهم المادة التي يتعامل معها المصور الشاب الموهوب محمود عبد السميع"[7].

العوامة رقم 70

إذن فلقد استمر بشارة في صناعة أفلامه التسجيلية. كما بدأ عام 1976م في تصوير فيلمه الروائي الأول "الأقدار الدامية" الذي انتهى منه عام 1981م، ولم يُعرض سوى عام 1982م، وعن هذا الفيلم يقول بشارة في أحد حواراته الصحفية: "أنا كالذي يرقص على السلم؛ فقد حصلت بالفعل على فرصتي الأولى لإخراج فيلم روائي طويل وهو "الأقدار الدامية"، وبعد أن قطعت مُعظم خطوات العمل، ومنها إتمام تصويره، توقف العمل فيه لأسباب إنتاجية، فالمُنتج الذي تعاقد معي واسمه علي محرز هو شريك مع مُؤسسة السينما الجزائرية، والاتصالات تجري عن طريقه، وقد أوقف الصرف على الفيلم قبل إعداده للعرض، وبعد أن بذلت فيه كل جهدي؛ لأثبت أنني أستحق هذه الفرصة، ولكن ها أنا الآن حصلت ولم أفعل، حصلت على فرصة ولم ير أحد نتيجتها، لي فيلم روائي وليس لي في نفس الوقت، فهل هناك وضع أعجب من ذلك؟"[8].

إن عدم عرض فيلم "الأقدار الدامية" أدى إلى شكل من أشكال اليأس لدى بشارة؛ وهو الأمر الذي جعله يفكر في الهجرة الجدية إلى نيوزيلندا، حيث أكد ذلك في نفس الحوار السابق: "ما فائدة الكلام في هذه الظروف التي تدفعني إلى طريق آخر تماما؟ وحينما سأله المُحاور عن الطريق الآخر الذي يقصده، وهل يقصد به أنه يرغب في ترك الإخراج قال: لا، وإنما أترك هذا العالم كله، وأهاجر؛ علني أنسى، إنني، حقيقة، أفكر في الهجرة إلى نيوزيلندا إذا استمر الحال على ما هو عليه؛ فهو البلد الذي لم يغلق أبوابه بعد أمام المُهاجرين من بلاد العالم الثالث؛ فالبدء هناك من جديد في أي عمل أفضل من البقاء بلا عمل سوى فيلم تسجيلي واحد كل عام أو عامين، ومن هنا فإن الجائزة الكبرى التي حصلت عليها فجرت في داخلي ينابيع الألم بأكثر مما كنت أعتقد عندما تحققت"[9].

العوامة رقم 70

يتناول فيلم "الأقدار الدامية"- المأخوذ عن مسرحية "الحداد يليق بإلكترا" للمسرحي الأمريكي يوجين أونيل- حرب 1948م؛ حيث تبدأ أحداث الفيلم قبل حرب فلسطين عام 1948م وصفقة الأسلحة الفاسدة التي راح ضحيتها عدد كبير من أبناء الجيش المصري. يعيش أبطال الفيلم المأساة من خلال الأب الضابط الكبير "يحيى شاهين"، وزوجته الشابة التي تضيق ببعده عنها باستمرار "نادية لطفي"، ويشوب العلاقة بينها وبين ابنها "أحمد محرز" مشاعر من الحنان، بينما يسودها سوء الفهم بالنسبة لابنتها الشابة "المُمثلة الجزائرية "فاطمة بلحاج"، وتمضي السنون بأحداث كبرى منها قيام الثورة، وأحداث 1956م، وموت الوالد لاكتشافه خيانة زوجته مع رجل آخر "المُمثل الجزائري سيد علي كويرات" الذي هو في نفس الوقت عشيق الابنة، وتتواجه الاثنتان- الأم والابنة- وتنتهي المواجهة بالمصير المحتوم، ولا ينجو سوى الابن الذي يبحث عن الخلاص بعيدا وينضم إلى الجيش تاركا أخته وحدها في القصر؛ حيث تنهار وتستسلم للسائس.

نلاحظ في هذا الفيلم- الذي كان الفيلم الروائي الأول للمُخرج خيري بشارة- أن المشاهد التسجيلية تكاد أن تكون جزءا مُهما في صناعته، وتتجاور جنبا إلى جنب مع المشاهد الروائية، أي أن المُخرج الذي دخل عالم السينما الروائية من عالم السينما التسجيلية لم يستطع التخلص بعد من تأثير السينما التسجيلية عليه؛ الأمر الذي جعله يستعين بالعديد من مشاهدها أثناء صناعة فيلمه الروائي الأول. لكن، ليس معنى استعانة بشارة بالعديد من المشاهد التسجيلية التي تجاورت في فيلمه مع المشاهد الروائية أن هذه المشاهد قد أثرت على الفيلم بالسلب، بل كانت من أهم العوامل التي أثرت الفيلم وزادته غنى في الموضوع الذي يتحدث فيه.


إنه فيلم يريد من خلاله المُخرج الحديث عن الصراع العربي الصهيوني من خلال الربط بين هذا الصراع وبين الصراع الطبقي في مصر، أي أن الانهيار الطبقي الذي صوره المُخرج كان في جوهره نفس الانهيار الذي تعاني منه الدول العربية في صراعها مع العدو الإسرائيلي؛ لذلك فهو يريد التأكيد على أن الهزيمة الحقيقية لم تكن على الجبهة، بل في الداخل؛ فأثناء الحرب تخون علية/ الابنة حبيبها حسن مع كمال، كما تخون الأم زوجها مع نفس الرجل أيضا، وحينما يعود الزوج ويدرك ما حدث؛ يموت بالأزمة القلبية، وتحاول الابنة دفع أخيها سعد للانتقام من أمه بقتل العشيق؛ فتنتحر الأم، ولا يبقى سوى سعد الذي يعود إلى الاشتراك في الحرب مرة أخرى، بينما تستسلم علية- في مشهد يُدلل على الانهيار الطبقي التام- للسائس الذي يعاشرها، أي أن الانهيار الاجتماعي الكامل الذي يعاني منه المصريون يكاد يكون هو نفس أزمة الصراع العربي الصهيوني.

ربما نلاحظ بعض العناصر الميلودرامية في الفيلم الذي مال بأحداثه إلى القتامة، لكن رغم هذه العناصر الميلودرامية لم يسقط المُخرج في فخ الميلودراما، ولم تستطع السيطرة على الفيلم، بل كانت مُجرد أداة يحاول من خلالها بشارة تصوير الواقع، والسقوط الطبقي المُرتبط بقضية حرب 1948م.

إذن، فلقد نجح بشارة في تجربته الروائية الأولى في تقديم فيلم روائي مُتماسك وجيد يستطيع من خلاله مُعالجة الواقع والاشتباك مع قضاياه الراهنة، محاولا من خلال هذا الاشتباك الربط بين ما هو آني، وما هو ماضٍ في تاريخنا القريب. ولعلنا لا نستطيع إنكار أن بشارة كان من المُخرجين الذين يعملون على مُعالجة ما يمور به الواقع من مُشكلات قد تؤدي به إلى التصدع، كما كان يرى أن السينما لا يمكن لها أن تكون أداة تغييبية تتناسى ما يدور من حولها في محاولة منها لصنع عالم مُزيف لا علاقة له بالحقيقة، وهو ما يؤكده في أحد حواراته: "أنا الحقيقة ضد البدائل، الفيلم التسجيلي كبديل للسينما الروائية، أو الشعر كبديل لكذا، الأغنية كبديل للأوبريت، بشكل ما، لا يوجد شيء بديل عن آخر. إذا كان الفيلم الروائي يستطيع أن يعبر عن الواقع بصورة جيدة- طيب ليه لأ- ولكن، وليس هناك خطأ في فهم السؤال، ربما كان المقصود بالسينما الروائية تلك السينما التقليدية المبنية على الوهم وتزييف الواقع، تلك التي تقدم مُجتمعات مُنفصلة تماما بقضاياها عن واقع الطبقات الشعبية أو الوسطى بصفة عامة. يمكن أن أوضح فكرتي بتعبير مُختلف، السينما التسجيلية أفضل إنتاجا، أو النماذج الجيدة منها تفضح السينما الروائية، ليس فقط من ناحية التعبير عن الواقع، لكن الفضح يأتي من خلال القدر المُتاح لها من حرية التعبير مضمونا وشكلا، ويعطي لهم إحساسا- أي التسجيليين- لأي مدى هم مُختلفين عن هذه السينما، ولكن كونها بديلا، لا، إنما أفضل أن تكون السينما الروائية مثل السينما التسجيلية"[10].

في نفس العام- 1982م- نشاهد الفيلم الروائي الثاني للمُخرج- العوامة رقم 70- ورغم الإتقان الفني الذي قدم من خلاله بشارة فيلمه الأول- الأقدار الدامية- إلا أن فيلم "العوامة رقم 70" كان الفيلم الأكثر اكتمالا للمُخرج مما سبقه؛ فهو فيلم يتناول المُخرج نفسه وكل أبناء جيله. يتناول آمالهم، وطموحاتهم، وأحلامهم، وإخفاقاتهم، ويأسهم، وترددهم، وسقوطهم. كان الفيلم من أكثر الأفلام صدقا في التعبير عن الذات والواقع، والجيل الذي عاش الأحداث بكاملها منذ بدأت ثورة 1952م. هنا، رغب بشارة في التعبير عن رؤيته ومُشاهداته، ومُلاحظاته، وما يشعر به باعتباره جزءا لا يتجزأ من هذا الجيل الذي عاش الفترتين السياسيتين السابقتين وآثارهما المُدمرة على المُجتمع المصري بالكامل، والتحولات الخطيرة التي حدثت فيه؛ نتيجة هذه الأحداث المُتناقضة والمُتشابكة؛ لذلك فمن خلال الفيلم نلحظ أن البطل "أحمد الشاذلي" لا يمكن أن يكون سوى المُخرج خيري بشارة نفسه، أي أنه يتحدث في هذا الفيلم عن ذاته من خلال تجربة ذاتية يمزج فيها حياته الشخصية- كمُخرج للأفلام التسجيلية- بالعالم الروائي الذي يدور من خلاله الفيلم.


لعل في الحوار الذي أجراه الناقد يعقوب وهبي مع السيناريست فايز غالي- كاتب الفيلم- ما يُدلل بوضوح على أن بشارة كان يرغب في التعبير عن ذاته وعن جيله بالكامل من خلال هذا الفيلم حينما نقرأ سؤال يعقوب: "عن تجربتك الرابعة والعوامة رقم 70؟"، يرد غالي: "أثناء تصوير فيلم "ضربة شمس" 1978م جاءني المُخرج خيري بشارة، وقال لي: أريد أن أعمل معك فيلما، والحقيقة أني قبلت؛ لأني أعرف من هو خيري وأستطيع أن أقول أنه سيكون أهم مُخرج في خلال السنوات العشر القادمة، ليس لأنه من عالم الفيلم التسجيلي، أو لأنه حاصل على جائزة الدولة التشجيعية، أو لأنه أخرج فيلما روائيا طويلا لم ير النور بعد رغم قيمته، وإنما لما يتمتع به- من خلال التجربة التي دخلت فيها معه- من حساسية وفكر سينمائي لم أقابلهما إلا قليلا، وهذا ما وجدته في خيري بشارة. إنه مُخرج يجعلك تعمل وكأنك ستحصل على جائزة مهرجان "كان"، يرد عليه يعقوب وهبي: هذا عن المُخرج، أما عن الفيلم الذي بدأت في إعداده معه؟ يقول فايز: "كان في رأسه فكرة حول مُخرج تسجيلي وحياته ومُعاناته، وكانت هذه إرهاصة عن نفسه، وشعرت وكأنه يتحدث عن نفسه، وشعرت كأنه يتحدث عني أيضا، أو عن جيل الشباب من السينمائيين في أفكاره وأحلامه، ثم بدأت في كتابة المُعالجة، وبحثنا عن مُنتج، وعرضنا الأمر على مُنتج، ولكنه تخوف منها، ومع ذلك لم أيأس، وظللنا نعمل دون أي تعقيدات بيننا، وكان واثقا أنه ستأتي الفرصة إن آجلا أو عاجلا، وهكذا ببساطة جاءني المُخرج ذات يوم بمُنتج الفيلم، وكانت المُفارقة أن يكون هذا المُنتج شركة تصدير تُدعى "ميما" أصحابها مُحبون للسينما، ويريدون أن يصنعوا فيلما بكل الشروط التي يتمناها مُخرج كخيري بشارة، وعلى هذا لم أُدهش من طبيعة عملهم الأصلي، بل شعرت أننا قد توصلنا إلى حل المُعادلة الصعبة"[11].

يتناول فيلم "العوامة رقم 70" "أحمد الشاذلي" المُخرج التسجيلي الذي يخرج فيلما عن أحد محالج القطن، ويلاحظ أثناء التصوير أحد العمال الذي يراقبه عن كثب في كل تحركاته، ثم يلتقي به خارج المحلج، ويخبره أنه لديه معلومات خطيرة عما يدور داخل المحلج. يدعوه أحمد للقاء في عوامة تحمل رقم 70 تقع على نيل إمبابة. يذهب "عبد العاطي" إليه ويبلغه بمعلومات عن عمليات تبديد للقطن في المحلج. هنا تهتم الصحفية "وداد"- خطيبة أحمد التي حضرت المُقابلة- بالموضوع، وتتفق مع عبد العاطي على إبلاغ الشرطة في اليوم التالي، لكن عند انصراف عبد العاطي يقوم عاملان من المحلج بقتله، وإلقاء جثته في النيل. يذهب أحمد لزيارة أبيه في القرية التي جاء منها إلى القاهرة، ويلتقي وهو عائد إلى القاهرة- مُصادفة- "بسعاد"- صديقة طفولته- التي تدعوه لزيارتها في شقتها بالقاهرة؛ حيث تُقيم مع والدها المشلول. تتورط سعاد في علاقتها مع أحمد الذي يرفض الزواج بها، ويُفاجأ أحمد بجثة عبد العاطي الغارقة تخرج من تحت العوامة. خلال التحقيق يُدلي أحمد ووداد بما لديهما من معلومات، وتأتي أحمد فرصة عمل فيلم روائي؛ فيقرر أن يكون العامل المقتول هو قصة فيلمه، لكن المُنتج يضع شروطا تجارية رخيصة؛ حتى يربح الفيلم؛ فيرفض العرض، ويلتقي بعمه الذي ينصحه بأن يقبض على الجناة بنفسه؛ فيتوجه إلى القرية بحثا عن أحد العمال الذين اتهموه بقتل عبد العاطي، لكن العامل يهرب منه، وتبلغ إدارة المحلج سُلطات التحقيق بأن أحمد هو المسؤول عن قتل عبد العاطي؛ فيُقبض على أحمد ويوضع في الحجز مع المُجرمين الذين يتحرشون به، ويضربونه بقسوة، لكنه يُفرج عنه؛ لعدم ثبوت شيء عليه، وكيدية البلاغ. يتأزم أحمد، ويحاول فسخ خطوبته بوداد، لكنها تتمسك به وترفض تركه، وتدعوه ليكون أكثر إيجابية؛ فيقرر أن يكون فيلمه التالي عن البلهارسيا المُصاب بها الكثيرون من الشعب المصري وعلى رأسهم أخوه.

فيلم كابوريا

إذن، فبشارة يقدم فيلما واقعيا يتحدث عما آل إليه أبناء جيله بالكامل؛ حيث يُعبر أحمد الشاذلي عن هذا الجيل الذي يحلم بالكثير من الأمور، لكنه في الحقيقة- نتيجة الكثير من الإحباطات التي مر بها- غير قادر على فعل أي شيء في الواقع؛ ومن ثم تحولت شخصياته إلى شخصيات مُهتزة، مُترددة، مُحبطة، غير قادرة على فعل أي شيء؛ فهو يعرف أن عبد العاطي قد قُتل؛ لأنه أخبره بحقيقة ما يدور في المحلج، وأن الإدارة متواطئة لحرق بقايا القطن في العلن، ويعلنون أن القطن قد حُرق بالفعل من أجل بيعه لحسابهم، وبدلا من أن يأخذ موقفا إيجابيا تجاه هذا الأمر ويحاول كشف الحقيقة وفضح ما يحدث في المحلج، يُفضل الانسحاب والتظاهر بأنه لا يعرف أي شيء عن الموضوع، بل ويطلب من خطيبته وداد نسيان الأمر وعدم السعي وراء الحقيقة فيه، ورغم أن إدارة المحلج تتهمه هو بالقتل، إلا أنه يظل في موقف المُتردد الخائف، غير القادر على فعل شيء حيال ما يعرفه، أو ما يدور في الواقع. تبدو علاقات البطل في هذا الفيلم كلها وكأنها علاقات قاصرة مُتقطعة الأواصر؛ فهو غير قادر على الانتماء إلى القرية التي أتى منها، أو المدينة، علاقته بأبيه مُتذبذبة- رغم أنه يُمثل الجانب الإيجابي- بينما علاقته بعمه- السكير في البارات- هي العلاقة الأقوى- رغم أنه الأضعف في المقدرة على اتخاذ القرار- حتى علاقته بخطيبته مُتذبذبة لا يستطيع اتخاذ القرار فيها. هو يريد أن يصنع فيلما تسجيليا من أجل كشف الواقع ومساوئه وسلبياته، ورغم سعيه للحقيقة من خلال السينما، إلا أنه غير قادر على الصمود أمام هذه الحقيقة في الحياة الحقيقية. لكن البطل لا يظل في هذه المنطقة الرمادية إلى ما لا نهاية، بل تدفعه خطيبته وداد بكافة الطُرق كي يكون أكثر إيجابية، وهو ما نراه في نهاية الفيلم بالفعل حينما نراه يُدخل لقطة عبد العاطي في سياق فيلمه أثناء المُونتاج، ورغم أن المُونتير يعترض؛ لأن هذا ليس في سياق فيلمه، إلا أنه يُصر على وجود عبد العاطي مع التعليق أثناء الفيلم على أنه قد قُتل، كما يسعى لصناعة فيلم تسجيلي جديد عن البلهارسيا، أي أنه قد نجح في تجاوز أزمته الذاتية جدا وبدأ يتعاطى مع هذا الواقع، الذي يدور من حوله، بشكل أكثر إيجابية.

فيلم كابوريا

إن فيلم "العوامة رقم 70" من أهم أفلام الواقعية الجديدة اشتباكا مع هذا الواقع، وأكثر التزاما بآليات السينما الواقعية، والأكثر نضجا واكتمالا من الناحية الفنية، وهو فيلم يثبت فيه خيري بشارة مقدرته على تقديم أفلام روائية طويلة قادرة على تغيير وجه السينما المصرية التي غابت كثيرا في سباتها خلال فترة السبعينيات التي انحسرت فيها السينما الجيدة، وهو ما يؤكده السيناريست فايز غالي في حواره السابق مع يعقوب وهبي حينما يسأله وهبي: "رؤيتك في سيناريو العوامة رقم 70؟ فيرد غالي بقوله: إني أضع خبرة ثلاث عشرة سنة في كتابة السيناريو، وثقافتي السينمائية كلها، وعلاقتي بالسينما ذات المستوى الرفيع التي اكتسبتها أيضا من مُشاهدتي للأفلام في جمعيات ونوادي السينما، وكناقد سينمائي كان يبحث ويتطلع للأفضل ويحلم بسينما مصرية لها شأن بمعنى مُستجد في العوامة رقم 70 الخط البوليسي، ولكنه مُجرد خط يحرك الأحداث، لكن العلاقات الأساسية التي يدخل فيها البطل هي بناء الفيلم، وهي تُحدد مفهومه للواقع، كيف يؤثر ويتأثر به، كيف في النهاية تُغيره؛ لتجعله إنسانا مُختلفا، ومن هنا نحن أمام دراما سينمائية تتحرك على عدة مستويات، الأساس الأول والأخير هو الإيقاع بكل ما تشمله هذه الكلمة من معنى[12].

ربما كان تعبير أحمد الشاذلي عن هذا الجيل بالكامل هو ما دفع المُخرج إلى إطلاق اسم "العوامة رقم 70" على هذا الفيلم، فهو فعليا فيلم يُعبر عن جيل السبعينيات بالكامل وما حدث له من انهيار كل آماله وطموحاته وأحلامه؛ ومن ثم بات جيلا مُترددا، مُهتزا غير راغب في الاستقرار لدرجة أن البطل يُفضل السكنى في عوامة، وليس في مكان مُستقر، وهو دليل على عدم استقرار هذا الجيل وفشله في الفعل، أو عدم قدرته في فعل هذا الاستقرار.


عام 1986م يقدم بشارة فيلمه الروائي الثالث "الطوق والإسورة" المأخوذ عن رواية الروائي يحيى الطاهر عبد الله بنفس العنوان، وهو الفيلم الذي يدور في أقصى صعيد مصر حيث التخلف والخرافات تمتزج ببؤس الحياة، وحيث الحياة تبدو جامدة وساكنة تماما وتتكرر بشكل عبثي وكأنها لا يتقدم بها الزمن. تنتظر "حزينة" مع زوجها المشلول عودة ابنها من غربته في السودان، وتعاني هي وابنتها، وحفيدتها من بعدها، من ظلم المُجتمع وتمييزه ضد الإناث، سواء مع "فهيمة" التي تتزوج من رجل عاجز جنسيا، وتذهب بها حزينة إلى المعبد وتحمل، أو "فرحانة" الابنة التي تحمل سفاحا ويغضب عليها خالها.

في فيلم "الطوق والإسورة" يرغب المُخرج في نقاش مفهوم الخصوبة، وليس المقصود هنا بالخصوبة هو المفهوم المُباشر فقط أي الزواج والإنجاب، بل يقصد به أيضا خصوبة الأفكار، والحياة، والتغيير؛ فالحياة التي يصورها في أعماق الصعيد حيث قرية "الكرنك" هي مُجرد حياة دائرية. كل شيء فيها ينتهي حيث يبدأ، ويبدأ حيث ينتهي، لتعود الدائرة مرة أخرى إلى إحكام إغلاقها؛ فالأم، والابنة، والحفيدة مُجرد تجليات مُختلفة لحياة واحدة، وتنتهي بهم الحياة في نهاية المطاف نفس النهاية، بعد أن يكن قد عشن نفس شكل الحياة السابق لكل منهما، وهو ما نراه أيضا مع الأب والابن؛ فالابن المُنتظر عودته تنتهي به الحياة نفس نهاية الأب المشلول الموضوع في "قفة" ينقلونها من الظل إلى الشمس، ومن الشمس إلى الظل. أي أن بشارة يتناول هنا المُجتمع المُغلق الذي يجهل التغيير؛ ومن ثم لا يرغبه، كما أنه يعيش على الخُرافات الدائمة التي تعمل على المزيد من التغذية الأسطورية؛ لتتجه به نحو المزيد من الثبات؛ فرغم أن الابنة قد تزوجت من رجل عاجز جنسيا إلا أن الأم تأخذها إلى الشيخ "هارون" وتعود من عنده حاملا رغم عجز زوجها، أي أن الخرافة هنا تلعب دورا لا يمكن الاستهانة به في تشكيل ثقافة هذا المُجتمع وشكله. هذه الحياة الخرافية، التي تتكرر في شكل دورات لا يمكن لها أن تنتهي- ورغم هذا الدوران- تبدو من الخارج- إذا ما حاولنا الابتعاد عنها بالقدر الكافي من أجل رؤيتها بشكل شامل وكلي- وكأنها حياة استاتيكية لا يمكن لها أن تتحرك، أي أن الفيلم قدم مُجتمعا غريبا ساكنا، أبديا، تتكرر فيه المأساة إلى ما لا نهاية بشكل سيزيفي أسطوري.

هذه الاستاتيكية التي عبر عنها الفيلم يقول عنها خيري بشارة: "ما يشغلني من أول الفيلم تقريبا، وأيضا ما يشغلني في الحياة: لماذا يفتقر المُجتمع المصري إلى أشخاص مُتميزين ومُتوقدين؟ إذا تأملت المواطن المصري فأنت لا تستطيع أن تقول: هذا المواطن عاجز أو خامل، أو فاقد القدرة على التفكير والإبداع في أي تخصص، فلماذا إذن نحن كمُجتمع فقدنا القدرة على الإخصاب، وهو ما له علاقة في النهاية بالتقدم والتخلف، وما أخشاه هو انقراض الفرد المصري والعربي في القرن العشرين، وإحساسي أن ما سينقذنا من الانقراض هو عُمق التنوير، وإحساسي أن هذا ما عبرت عنه في فيلم "الطوق والإسورة" أي لماذا يبقى "الحال دايما هو الحال"، لماذا لا يريد الناس أن يتغيروا، لماذا- وهؤلاء الناس لديهم كل هذه القدرات- يصبحون عاجزين، وغير قادرين على الفعالية والإخصاب، والفيلم في النهاية عن هذه الأطواق والأساور التي تُكبلنا وتمنعنا من أن نكون مُخصبين، ومن التقدم إلى الأمام"[13].


لكن، رغم أهمية هذا الفيلم في تاريخ السينما المصرية، ورغم التفات جميع النقاد- تقريبا- له واحتفائهم به؛ للغته السينمائية وأهمية ما ناقشه، وكيفية تقديمه ذلك يهاجمه المُخرج حسن الإمام في مجلة روز اليوسف: "يقول حسن الإمام تعقيبا على فيلم "الطوق والإسورة" للمُخرج خيري بشارة: يُقاس نجاح الفليم بثلاثة: البكاء، أو التصفيق، أو الضحك، وقد شاهدت "الطوق والإسورة" داخل دار العرض؛ فلم أبك، أو أُصفق، أو أضحك، ونظرت إلى جواري؛ فوجدت الحاضرين لم يزد عددهم على أصابع اليدين، وليست هناك دمعة، أو ضحكة، أو تصفيقة. شيئا فشيئا بدأ يتسرب الجمهور من دار العرض، ولم يصمد حتى النهاية سوى اثنين فقط هما أنا وزوجتي التي لم تشأ- مشكورة- أن تتركني نهبا للوحدة والصقيع في دار العرض، لكنها أخذت عليّ تعهدا  بألا أعاقبها مرة أخرى، وأنا، في العادة، لا أملك إلا تنفيذ رغبات "الحكومة""[14]. أي أن المُخرج حسن الإمام حاول الحكم على فيلم بشارة- المُهم- من خلال المقاييس التجارية فقط، وليس من خلال المقاييس الفنية، أو أهمية ما قدمه بشارة في هذا الفيلم الذي يُعد من أهم أفلام السينما المصرية، لكن، رغم هذا الهجوم من الإمام، ورغم هجوم بعض النقاد الآخرين عليه سواء في هذه المرحلة، أو في المرحلة الثانية التي بدأها عام 1990م مع فيلمه "كابوريا". نقول: إن بشارة كان عنيدا لا يمكن له أن يقدم سوى السينما التي يقتنع بها فقط، أي السينما التي يرى أنها تستحق أن يصنعها، ويرى أنها ستُجدد في مسار وتاريخ السينما المصرية.

ربما نلمح هذا الإصرار لديه في حواره مع الناقد اللبناني الراحل سمير نصري لجريدة النهار اللبنانية حينما يقول له نصري: "لمست جدا تناوب لحظات السرد القصصي ولحظات التأمل والاسترسال، وأتساءل: هل يلعب الجمهور اللعبة ويتبع اللحظات التي يشط فيها خيري بشارة؛ ليتأمل؟ أرى بوضوح تيارين. متوازيين أحيانا، ومُتداخلين أحيانا: دراميا وتسجيليا تأمليا. هل تتبعك الناس في لعبتك؟" هنا يرد عليه بشارة بقوله: "أتذكر كلمة قاسية قالها لي المُونتير الموهوب عادل مُنير. قال: أنت تسير في سكة محفوفة بالمخاطر، قد تكون في النهاية ضحيتها. كان يتحدث عن السينما المُختلفة التي نصبو إليها، ونُصرّ عليها، وفي النهاية هو مُحتاج إليها. كل أمة يُقاس ثقلها وقيمة حضارتها بما هو مُختلف. في فرصوفيا وباريس وغيرهما لديك سينما عادية ومسرح تجاري وكتب تجارية، وهذا طبيعي ووارد ومقبول، وهناك ما يصنع ثقل أمة وحضارة أمة، وهو المُختلف. ولا أرغب في صورة الضحية المُضحية، إنما- وأنا أعرف مقدرتي وموهبتي وصبري- رافض كذلك أن أكون عاهرة. أحيانا نمر بصراع داخلي أكان أحمد قاسم، أو داود عبد السيد أم غيرهما، وفي الختام مرة أخرى لسنا عاهرات، لسنا قادرين أن نكون عاهرات، أحمد قال لي: أفضل أن أُترجم من الفرنسي إلى العربي؛ كي أتمكن أن أعيش على أن أقبل بصنع أي سينما هي في وسع مئة واحد. المسألة قدرة وموهبة وحدود، ولكثيرين دورهم في السينما التي نريدها: دور المُثقفين، دور النقاد، دور الجمهور، لا بد أن يساعدوا هذه السينما"[15].

يوم مر يوم حلو

مرة أخرى في عام 1988م يجذب بشارة الجمهور والنقاد؛ ليشيدوا به من خلال مُغامرته الرابعة في فيلم "يوم مُر.. يوم حلو"، وهو الفيلم الذي يبدو من خلاله المُخرج قد وصل إلى ذُرى النضج السينمائي والفني بصناعته لهذا الفيلم الذي ما زال نقاد السينما يعتبرونه مثالا لصناعة سينما جيدة، ومن أهم ما قدمه جيل الواقعية الجديدة في الثمانينيات، ورغم أن الفيلم قد يميل بكفته باتجاه الميلودراما؛ نظرا لأنه يمتلئ بالفواجع التي تمر بها الأم، ولضعف شخصياته في الفيلم أمام القدر، إلا أنه نجح في عدم السقوط داخل دائرة الميلودراما المُغلقة التي تستدر الدموع من المُشاهدين، أي أن مُشاهد هذا الفيلم لن يبكي، بالتأكيد، على الكثير من المآسي التي تمر بها هذه الأسرة، لكنه لا بد له أن يتفاعل معها إيجابيا.

إنه فيلم يتأمل الواقع تأملا مليا بهدوء ووقار، ويتفاعل ويشتبك مع هذا الواقع الرازح بثقله على المُجتمع المصري في الثمانينيات؛ حيث الفقر، والعوز، والحاجة الشديدة، وعدم القدرة على مواجهة الحياة ونكباتها رغم المحاولة الدائمة. يتناول الفيلم قصة الأم "فاتن حمامة" التي مات زوجها وترك لها أربع بنات وابنا واحدا؛ ومن ثم تحاول هذه الأم إنقاذ أسرتها من الانهيار وتعمل على أن تكافح بكل الطرق المُتاحة؛ كي تستمر هذه الأسرة وتبتعد بهم عن الضياع، لكن ظروف الحياة دائمة لا تساعدها؛ فنرى البنت الأولى عاملة في مصنع وتحب جارها النجار الذي سافر إلى الخليج، وعاد إلى نقطة الصفر قبل أن يذهب، والثانية التي يطاردها جارها الميكانيكي لكنها لا تحبه؛ فتهرب وتتزوج من الذي تحبه وتنجب منه، والثالثة التي توقفت عن التعليم وتعلمت حقن المرضى، والرابعة المريضة، لكنها رغم ذلك تواصل التعليم في مراحله الأولى، بينما الابن يدرس بدوره، لكن الفقر يدفع أمه إلى أن تطلب منه التوقف عن التعليم من أجل العمل؛ فيفعل مُضطرا. نحن هنا أمام أسرة مصرية تعاني الكثير من الحاجة والفقر، والمطلوب من الأم الأرملة هنا أن تحافظ عليها؛ لذلك نرى الأم تحاول، بقدر إمكانها، لم ّشمل أسرتها، والإنفاق عليها من خلال الطرق المُتاحة والمشروعة، لكن الحياة كثيرا ما تواجهها بالكثير من النكبات المُفجعة، مثل اعتداء زوج الكبرى التي تزوجت من العامل الذي عاد من الخليج على الابنة الثالثة وهربه؛ الأمر الذي يدفع الأخت الكبرى للانتحار نتيجة شعورها الكبير بالذنب تجاه شقيقتها، أي أن الفيلم كان يحمل داخله بالفعل عوامل الميلودراما التي كان من المُمكن لها أن تجنح به إلى الإغراق فيها، لكن المُخرج خيري بشارة كان من الذكاء والعقلانية ما جعله يمر بفيلمه بعيدا عن ذلك؛ نتيجة تأمله لما يدور داخل العالم الفيلمي، أي أن الفيلم كان عبارة عن نظرة تأملية طويلة للواقع، وما يحدث للعديد من الأسر من دون المُغالاة في عرض هذا الواقع. صحيح أن الفيلم كان ناجحا إلى حد كبير من هذه الناحية، لكنه كان مُغرقا في الحوار من خلال الأمثال الشعبية، وهو ما أضعف حوار الفيلم إلى حد ما؛ بسبب إصرار السيناريست والمُخرج على هذا الحوار المُعتمد على الأمثال الشعبية التي لا مُبرر لها داخل الفيلم.

حول هذه النزعة الميلودرامية التي تطل برأسها داخل الفيلم، رغم عدم سيطرتها عليه، يقول المُخرج في حواره مع محمود الكردوسي حينما سأله: "اعتلى فيلم "الطوق والإسورة صهوة الواقع وحلق في جو من الشاعرية والغموض الجميل، وكان فيلم "يوم مُر.. يوم حلو" شديد الجهامة والميلودرامية. ما رأيك؟ يرد بشارة: أريد، مبدئيا، أن أتحدث عن عملية الإبداع بالنسبة لي ولبعض من أبناء جيلي، نحن لا نعمل بالطريقة التقليدية، أي أن تكون هناك فكرة أو قصة تتم صياغتها بشكل احترافي؛ لتحويلها إلى سيناريو طبقا لمواصفات ثابتة ومُستقرة، ولكن في عملنا- مُخرجين وكتابا- دائما ما يحدث عراك وصراع مع المادة الواقعية، صراع ومُعاناة حقيقية، نحب ونكره ونتأزم؛ لكي نصل إلى صيغة نهائية لسيناريو الفيلم، وهذا الجدل العنيف لا ينطلق من مواصفات مُحددة وثابتة، فنحن بالأساس جيل مُتمرد نحاول أن نصنع ما أسميه "سينما مُختلفة". وبالنسبة لمسألة "الجهامة" فإنني أتساءل: هل يمكن إلقاء اللوم على "ماكبث" أو "هاملت" مثلا بسبب جهامتهما؟ طبعا قد يقول قائل: إن هذه الجهامة هي سمة من سمات العصر الإليزابيثي، ولكن ما قولك في الدراما الحديثة من هنريك أبسن إلى الآن؟ فلأكن جهما؛ لأنني لست الصانع الأوحد للسينما، وقد أشعر فجأة باحتياج شديد لتقديم ملهاة أو عبث، ونحن كجيل لا ننطلق في صناعة الأفلام إلا من هذا الاحتياج. قد نكون مُدانين أمام شعب مُجهد يريد أن يستمتع بحياته وبالسينما التي يراها، ولكن هذا هو احتياجنا الفعلي كمواطنين، وليس فقط كصُناع أفلام. فأنا مُتحفظ على مسألة "الجهامة"، وإلا علينا من باب أولى أن نرفض النسبة الغالبة من الإبداع الدرامي في تاريخ الإنسان. أما اتهام الفيلم بالميلودرامية فهو في رأيي نوع من "الاستسهال" في قراءته والتعامل معه. هناك فرق بين العمل الميلودرامي، وبين أن أستخدم عناصر ميلودرامية؛ لأبني عليها فيلما غير ميلودرامي. هذه نقطة مُهمة تحتاج إلى تأمل حقيقي؛ لأن أفلامنا ليست خارجة من فراغ، ولها علاقة وثيقة بثقافتنا، وليس فقط باحترامنا لمهنة السينما"[16].



إذن، فبشارة يؤكد هنا اشتباكه الحقيقي مع الواقع من أجل تقديم سينما واقعية صادقة تحاول تأمله وعلاجه، بدلا من تزييف الواقع وتغييب المُشاهد في أفلام لا علاقة لها بما يدور في الحقيقة؛ لذلك فهذا الاشتباك مع الواقع لا يمكن أن يكون بعيدا تماما عن بعض العناصر الميلودرامية، لكن الأهم هنا- مع الاستعانة ببعض هذه العناصر- عدم وقوع الفيلم في النهاية في الميلودراما، ويصبح مُغرقا فيها، غير قادر على الخلاص منها.

يوم مر يوم حلو

نجح بشارة، في فترة الثمانينيات، في تقديم أربعة أفلام روائية مُهمة، كل منها مثل علامة مُتميزة في مسيرة السينما المصرية الجديدة في تعبيرها عن الواقع الذي وصل إليه المُجتمع المصري بمشاكله وهمومه، وآماله، وطموحاته، وإخفاقاته، أو نجاحه، لكن، يبدو أن التمرد لدى المُخرج خيري بشارة لا يمكن الخلاص منه، وهذا التمرد ليس قاصرا على الشكل أو المضمون السينمائي فقط، ولم يقتصر كذلك على التمرد على الواقع، بل وصل إلى التمرد على نفسه أيضا، ورغم أنه كان من أنجح المُخرجين بما قدمه من الأفلام السابقة، إلا أنه رغب في التمرد على هذا الاتجاه، وهذا الشكل من الأفلام التي سبق أن قدمها؛ فبدأ مرحلة سينمائية جديدة تختلف كليا عما سبق أن قدمه سواء من ناحية الشكل أو المضمون، صحيح أنه غيّر الشكل السينمائي تماما، لكنه من ناحية المضمون لم يشتط بحيث يكون بعيدا كل البعد عن نقاش الواقع في أفلامه، بل ظل يناقش مُشكلاته ويشتبك معها، ولكن من خلال تقديم جديد، وتأمل مُختلف لما يدور من حوله.

بدأ خيري بشارة هذا التمرد، وهذا المسار الجديد حينما قدم فيلمه "كابوريا" 1990م الذي كان بمثابة الانقلاب الحاد لمسيرته السينمائية سواء فيما يقدمه- فيما بعد- أو في علاقته مع نقاد السينما الذين انقلبوا عليه انقلابا حادا بدورهم؛ ومن ثم نال من الهجوم الضاري ما لم يكن يتوقعه، أو يُوجه إليه من قبل. إلا أنه أصرّ على تقديم ما يراه هو وما يرغبه من سينما تخصه واستمر في اتجاهه الجديد في مرحلة التسعينيات.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة نقد 21

عدد أغسطس 2022م

 

من كتاب "صناعة الصخب: ستون عاما من تاريخ السينما لمصرية 1959- 2019م"

الجزء الثاني من الكتاب

 



[1] انظر كتاب "خيري بشارة: فيلم طويل عن الحياة" إعداد الناقد أحمد شوقي/ الكتاب ص 13/ من إصدارات المهرجان القومي للسينما المصرية/ 2017م.

[2] انظر مقال الناقد أحمد يوسف "خيري بشارة: العالم من خلف زجاج ملون"/ مجلة الفن السابع/ المجلة ص 19/ العدد الخامس/ إبريل 1998م.

[3] انظر كتاب "خيري بشارة: فيلم طويل عن الحياة" إعداد الناقد أحمد شوقي/ الكتاب ص 13/ 14/ مرجع سبق ذكره.

[4] انظر كتاب "خيري بشارة: فيلم طويل عن الحياة" إعداد الناقد أحمد شوقي/ الكتاب ص 15/ مرجع سبق ذكره.

[5] انظر المرجع السابق ص 15- 16.

[6] انظر المرجع السابق ص 17- 18.

[7] انظر كتاب "خيري بشارة: فيلم طويل عن الحياة" إعداد الناقد أحمد شوقي/ الكتاب ص 19/ مرجع سبق ذكره.

[8] المرجع السابق ص 28.

[9] المرجع السابق ص 29.

[10] انظر المرجع السابق ص 31.

[11] انظر كتاب "خيري بشارة: فيلم طويل عن الحياة"/ الكتاب ص 32/ مرجع سبق ذكره.

[12] انظر المرجع السابق ص 32.

[13] انظر المرجع السابق ص 40.

[14] انظر المرجع السابق ص 43.

[15] انظر المرجع السابق ص 45.

[16] انظر كتاب "خيري بشارة: فيلم طويل عن الحياة" إعداد الناقد أحمد شوقي/ الكتاب ص 47/ من إصدارات المهرجان القومي للسينما المصرية/ 2017م.