الخميس، 18 أغسطس 2022

الأقدار الدامية.. سقوط طبقي أم سقوط وطن؟!

في فيلم المُخرج خيري بشارة الأول "الأقدار الدامية" ثمة محاولة منه لربط سقوط الوطن العربي- المُتمثل في حرب فلسطين 1948م، وقضية الأسلحة الفاسدة التي أدت إلى الهزيمة، ودخول العرب، لا سيما مصر في هذه الحرب- بسقوط الطبقية المصرية المُمثلة في طبقة الباشوات بكاملها تحت أقدام من كانوا يخدمونها، أي أنه يرغب في التأكيد على أن السقوط هنا لم يكن مُجرد سقوط وطن فقط، بل سقوط للمُجتمع المصري بالكامل، وإعادة تشكيل تراتبه الطبقي بشكل جديد لم تعهده مصر من قبل.

صحيح أن المُخرج هنا يعود إلى عهد قديم من أجل التعبير عن الانهيارات الطبقية الحادثة في المُجتمع المصري- وهي الانهيارات التي من المُمكن لنا سحبها على الفترة التي تمت فيها صناعة الفيلم- نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، حيث انهار كل شيء بسبب السياسات التي اتبعها السادات في السبعينيات، وتركت بأثرها لفترة طويلة فيما بعد- لكنه نجح في مثل هذا الربط بين ما هو قديم- القضية القومية الكبرى- وما هو آني- الانهيارات الكاملة على كافة الأصعدة داخل المُجتمع المصري؛ بسبب سياسات الانفتاح التي دمرت كل شيء، وفي مُقدمتها التراتب الاجتماعي الطبقي المصري- لا سيما سحق الطبقة البرجوازية بكاملها وبقسوة مُنقطعة النظير؛ لتصعد طبقات جديدة طفيلية من الحرفيين ورجال الأعمال الفاسدين الذين لا يعنيهم مصلحة الوطن بقدر ما يعنيهم اكتناز المال بكل الوسائل الفاسدة والمُتاحة!

ربما كان هذا الفيلم من أكثر أفلام خيري بشارة التي مرت بأزمة كبيرة لا سيما أزمة عرضه بعد الانتهاء من تصويره؛ فرغم أن بشارة قد بدأ التصوير في هذا الفيلم عام 1976م إلا أنه لم ينته منه إلا في 1981م، كما لم يتم عرضه جماهيريا إلا في 1982م، أي بعد مرور ستة أعوام كاملة على البدء في تصوير الفيلم؛ بسبب تخلي المُنتج الجزائري- علي محرز- عن الفيلم قبل إعداده للعرض، وإيقاف الإنفاق عليه؛ الأمر الذي أحبط بشارة كثيرا، وجعله يفكر في الهجرة إلى نيوزيلندا، كما قال المُخرج في أحد حواراته!

كتب سيناريو الفيلم المُنتج الجزائري علي محرز، وهو الفيلم المأخوذ عن المسرحية الأمريكية "الحداد يليق بإليكترا" للمسرحي يوجين أونيل، وكما فعل أونيل في مسرحيته الطويلة- التي استمر عرضها على المسرح ما يقارب الست ساعات متواصلة- حيث ربط يوجين بين الأسطورة الإغريقية والانهيار العائلي والطبقي في المُجتمع الأمريكي بعد الحرب الأهلية الأمريكية مُعتمدا في ذلك على نظريات عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد، حيث العلاقات بين الآباء والأبناء، فعل كذلك كل من المُخرج والسيناريست في فيلمهما حيث ربطا التاريخ- حرب فلسطين- بالمُجتمع المصري والانهيار الأسري والطبقي مُعتمدين على نظريات فرويد!

أي أن المُخرج كان حريصا منذ فيلمه الأول على عدم الانفصال عن المُجتمع، بل رأى ضرورة الاشتباك معه، ومحاولة تأمله، وتحليله، بل والتحذير من الانهيارات الحادثة فيه بسبب ما تمارسه الأنظمة السياسية من سياسات لا بد لها أن تؤدي إلى مثل هذه النتيجة المُفجعة!

يبدأ بشارة فيلمه بمشهد يعبر فيه عن الوضع الاجتماعي والسياسي السائد في مصر في هذه الفترة- 1948م- حيث نرى سيارة حلمي باشا- قام بدوره المُمثل يحيى شاهين- تحاول العبور في طريقها للوزارة، إلا أن الأمن يمنع السائق من العبور، موضحا لحلمي باشا بأن المُظاهرات والاضرابات في كل مكان، وأنهم قد قطعوا الطريق؛ وبالتالي فعليه العبور من طريق آخر خوفا على سلامته.

إذن، فالمُخرج منذ مشهده التأسيسي الأول يعمل على وضع المُشاهد في قلب الحدث الاجتماعي والسياسي الذي تمور به القاهرة في نهايات العهد الملكي، ويوضح لنا غليان المُجتمع المصري من أجل الضغط على الحكومة المصرية للاشتراك في الحرب مع الفلسطينيين.

يخبر وزير الداخلية- قام بدوره المُمثل حسن عابدين- حلمي باشا بوجود ضيوف إنجليز مُهمين في القاهرة، وأنهم سيذهبون في رحلة إلى الأقصر ولا بد من الاهتمام بهم جيدا؛ فيعده حلمي باشا بالاهتمام بالأمر واستضافتهم هناك حيث قصره، ليؤكد عليه الوزير بأنه سيلحقه هناك بعد أيام.


نعرف أن حلمي باشا على علاقة غير جيدة مع زوجته حورية- قامت بدورها المُمثلة نادية لطفي- حيث يسود بينهما الكثير من الفتور الذي يكاد أن يؤكد لنا بأن العلاقة بينهما قد تكون مُنتهية تماما، وأنهما مُضطران للتعايش مع بعضهما البعض من أجل الحفاظ على شكلهما الاجتماعي فقط. نلاحظ هذا الفتور، وعدم الاحترام في العلاقة الزوجية حينما نشاهدهما مع ابنيهما على مائدة الإفطار ونسمع حلمي باشا يقول: الحالة في مصر صعبة جدا، مظاهرات، اضطرابات، وكمان مُشكلة فلسطين دي مُشكلة كبيرة أوي، الضغوط قوية على الحكومة علشان تعلن الحرب، ربنا يستر. هنا ترد عليه حورية: يعني يا حلمي هنسيب عرب فلسطين يتقتلوا أو ينطردوا، ونقف نتفرج؟! فيرد عليها بشكل فيه الكثير من التحقير، والاستهانة برأيها: المسألة مش بالشكل دا، دي سياسة عليا، وأنت مش فاهمة حاجة وبترددي الكلام الفارغ اللي بتكتبه الجرايد إياها.

إن رد حلمي على زوجته/ حورية بمثل هذا الشكل المُبالغ فيه من الاستهانة التي لا تحمل في باطنها سوى التقليل من شأنها، أو فهمها للأمور يؤكد على شكل العلاقة المُنتهية بينهما، وهو ما ركز عليه المُخرج خيري بشارة بذكاء حينما انتقلت الكاميرا مُباشرة بعد انتهائه من جملته في لقطة كبيرة تهتم بالتركيز على تفاصيل وجهها؛ فرأينا نظراتها المُستاءة إليه، واحتقارها الداخلي له، وسُرعان ما تنتقل الكاميرا مرة أخرى على وجه ابنها سعد- قام بدوره المُمثل الجزائري أحمد محرز- المُرتبط بأمه ارتباطا وثيقا؛ فنرى على وجهه التعبير المُفرط في التعاطف معها في مثل هذا الموقف المُهين لها.

إذن، فالمُخرج يعي جيدا منذ بداية فيلمه كيفية التأسيس للفيلم ورسم شكل العلاقة الأسرية في هذه الأسرة التي ستنهار فيما بعد بسهولة، ليس على المستوى الأسري فقط، بل على المستوى الطبقي والاجتماعي أيضا.

يرضخ الملك في نهاية الأمر للاضطرابات الحادثة في مصر منذ عام من أجل الوقوف إلى جانب الفلسطينيين ويعلن حالة التعبئة العامة وإعلان الاشتراك في الحرب، ولعلنا نلاحظ اهتمام بشارة هنا بالتفاصيل الدقيقة التي أدت إلى الهزيمة حينما يعلن معالي الوزير في الحفل الذي أعده حلمي باشا للضيوف الإنجليز عن الخبر بقوله: جلالة الملك أصدر أمره السامي بدخول الجيش المصري الحرب؛ لطرد العصابات الصهيونية من فلسطين، ومنذ ساعات أعلن القائد العام أمام البرلمان أن الحرب لن تستغرق أكثر من أسبوعين، وعلى حد تعبيره، هتكون نزهة للجيش المصري!

ألا نُلاحظ، هنا، فيما قاله معالي الوزير، لا سيما جملته الأخيرة، قدر الاستهانة بالعدو حتى أن القائد العام وصف الحرب بأنها مُجرد نزهة؟ ألا يذكرنا ذلك بقول عبد الناصر فيما بعد: بأننا سنلقي بإسرائيل في البحر، لكن التاريخ أثبت لنا أننا قد انهزمنا أمامها في الحربين- 1948م، 1967م؟!

إن تركيز المُخرج على هذه التفاصيل الدقيقة والعابرة كان من الضرورة بمكان ما يجعلنا نتأمل الأمر فيما بعد، لا سيما الهزيمة التي مُنينا بها بسبب صفقة الأسلحة الفاسدة التي قتلت أبناء الجيش المصري، وهي الصفقة التي شاركت فيها الحكومة المصرية، وغيرهم من رجال الجيش الفاسدين، أي أن الفساد في السُلطة الذي جعل بعض رجالها يضحون بأرواح أبنائنا كان من أهم مُسببات الانهيار الكامل على المستوى القومي الذي استتبعه بالضرورة انهيار آخر على المستوى الطبقي المصري.

يتم تكليف حلمي باشا- رغم تقاعده عن الخدمة منذ ما يقارب العام- بقيادة الجيش أثناء الحرب، وهنا يعلن ابنه سعد رغبته في التطوع في الحرب، لكن أم الخير- قامت بدورها المُمثلة إحسان القلعاوي- التي أرضعت سعد وهو صغير، تشعر بالخوف الشديد على ابنها الوحيد خير- قام بدوره المُمثل أحمد زكي- وهو ما يدفعها إلى الذهاب إلى قصر الباشا وتخبر سعد بأنها تخشى على ابنها من الحرب، كما تطلب منه التوسط لدى حلمي باشا كي لا يشترك خير في الحرب، لكن سعد يؤكد لها أنه سيكون مع خير، وعليها ألا تخشى عليه، كما أنه لا يستطيع مُفاتحة والده في مثل هذا الأمر لا سيما أنه نفسه قد طلب منه لتوه التطوع في الحرب.


إن مشهد توسل أم الخير لسعد من أجل ابنها كان من المشاهد المُهمة والدالة؛ فهي توقن أن الحرب سيكون وقودها الفقراء من أمثال ابنها، بينما أبناء الباشوات- سعد- لن يصيبهم أي شيء، وهو ما أكدت عليه حينما أخبرت سعد بأنه سيكون في مهام مكتبية ولن يصيبه شيءٌ، أما خير فسيكون على الجبهة، لكنه أكد لها العكس وأنهما سيكونان معا.

لكن المشهد التالي يؤكد أن الفقراء بالفعل هم وقود الحرب، وأن ثمة تمييز حقيقي بين المُشاركين في الحرب تبعا لمكانتهم، وانتمائهم الطبقي، حيث نرى سعد يرافق أباه أثناء ركوبه القطار ويستقل معه الدرجة الأولى، في نفس التوقيت الذي نرى فيه خير وغيره من أبناء الفلاحين يستقلون الدرجة الثالثة الخاصة بالفقراء، أي أن سعد- نظرا لانتمائه الطبقي- لم يستقل القطار مع غيره من الجنود المُشاركين معه في الحرب، بل كان هناك تمييزٌ منذ البداية؛ لذلك حينما تلحق أم الخير حلمي باشا على محطة القطارات قائلة له: سعادة الباشا، كنت عايزة أوصيك على خير ولدي. فيرد عليها قائلا: الحرب مفيهاش واسطة يا أم الخير، اطمني، وخير هيكون مع سعد.

نقول إن هذا المشهد والحوار القصير بينهما كان من الضرورة والأهمية؛ حيث استقل الباشا مُباشرة القطار مع ابنه بشكل فيه الكثير من التمييز، أي أن رده عليها لا يمكن أن يكون صحيحا، أو مُقنعا بأي حال، وهو ما يُدلل على أن الفقراء هم وقود أي حرب، وهو ما يعطينا، أيضا، الإحساس بأن خير سيكون ضحية هذه الحرب والفساد الذي حدث فيها بسبب صفقة الأسلحة الفاسدة.

إذن، فبشارة من المُخرجين الذين يهتمون بالتفاصيل الدقيقة التي تعمل على رسم الشخصيات والمواقف في فيلمه، وهو ما أراده المُخرج من هذا المشهد المُتأمل.

ثمة مُلاحظة لا يمكن إغفالها في علاقة حورية بابنتها علية- قامت بدورها المُمثلة الجزائرية فاطمة بلحاج- المخطوبة لحسن- قام بدوره المُمثل محمد كامل- فالابنة تشعر تجاه أمها بالكثير من النفور والغيرة، كما أنها تفخر كثيرا بأبيها الذي يسيء مُعاملة أمها طوال الوقت. هذا الفخر بالأب نلاحظه حينما يغيب الأب في الحرب، وتقول علية لأمها: كل الناس بتقول إني شبهه خالص، سمعتي معالي الوزير قال إيه؟ قال: إن علية بنت أبوها، فيها شخصيته، ملامحه، وروحه. فترد عليها أمها: ودا يسعدك؟! لتقول علية: طبعا يسعدني.

لا يمكن إنكار أن شخصية علية بالفعل لا تختلف كثيرا عن شخصية أبيها، حتى أنها تتعامل مع أمها بنفور، واحتقار، وعدائية، ولا مبالاة تماما كما يفعل والدها، وربما كان هذا الإعجاب الشديد بشخصية الأب هو السبب في كراهية الابنة لأمها في محاولة منها لتمثل مشاعر الأب، أي اعتمادا على نظرية سيجموند فرويد وميل الابنة لأبيها ومُعاداة الأم!

تتقابل حورية مع كابتن كمال- قام بدوره المُمثل الجزائري سيد علي كويرات- الذي يأتي إلى القصر كثيرا أثناء غياب الأب والابن في الجبهة، وتشعر حورية تجاهه بالكثير من الميل، لكن الكارثة أن الابنة علية هي الأخرى تشعر تجاهه بالميل العاطفي حتى أنها تخون خطيبها حسن معه.

تسافر حورية إلى القاهرة بدعوى رغبتها في الاطمئنان على أبيها المريض، وهناك تذهب إلى كابتن كمال في بيته ويعترفان بعشقهما لبعضهما البعض، وتحدث بينهما علاقة جنسية لعدة أيام، ولأن علية كانت تتشكك في وجود ميل ما من أمها تجاه كمال؛ تسافر إلى القاهرة خفية لمُراقبتها والتأكد من وجود علاقة بينهما من عدمها؛ لذلك حينما تعود الأم إلى الأقصر تواجهها علية بأنها تعلم بخيانتها لأبيها مع كمال، وأنها قد سافرت خلفها لمُراقبتها، أي أن كل من الأم والابنة هنا تتنافسان على رجل واحد، بل وتشتركان في الخيانة- علية خانت خطيبها، والأم تخون زوجها!


تحدث مُشادة بين الأم وابنتها لتؤكد فيها حورية بأنه قد عاشت مع زوجها 25 عاما وهي تشعر معه بالاحتقار الشديد؛ مما يدفع علية لمواجهتها مُخبرة إياها بأنها لا تحبها بسبب شبهها بأبيها، وتؤكد لها الأم بأنها بالفعل تشبه الأب في كل شيء حتى في طباعه، وحينما تسألها علية عن سعد تخبرها حورية/ الأم بأن سعد منها هي؛ لذلك فهي تعشقه.

تضمر علية لأمها الكثير من الشر والحقد والغيرة؛ لذلك تنتظر عودة أبيها من الحرب التي راح خير ضحية لها كما توقعنا، وأُصيب فيها سعد بسبب الأسلحة الفاسدة، وحينما يعود الأب تخبره علية بأن كمال كان كثير التردد على البيت في غيابه؛ فتشككه في أمها، ولما ينفرد بحورية ويحاول سؤالها وتضييق الخناق عليها بشأن السبب الذي جعل كمال يتردد على البيت في غيابه يفهم أنها قد خانته مع كمال، ولأنه- حلمي باشا- يعاني من مرض القلب تصيبه نوبة قلبية في الوقت الذي يحاول فيه خنق حورية بعد معرفته بخيانتها؛ فيموت على أثرها؛ الأمر الذي يجعل علية تتهم أمها بأنها كانت هي السبب في موت أبيها، أي أنها من قتلته!

تنتظر علية خروج أخيها سعد من المُستشفى راغبة في إخباره بخيانة أمها لأبيهما، واتهامها بقتله؛ ومن ثم دفعه إلى قتل الأم، ولكن لأن سعد شديد القرب من الأم لا يستمع إلى كلامها مُتهما إياها بالجنون، إلا أن علية تصر على كشف خيانة الأم للأب مع كمال، وتعده بأنها ستثبت له صدق كلامها بالاتفاق معه على الادعاء بسفرهما معا إلى الإسكندرية لمُراقبة الأم التي لا بد لها من الذهاب إلى عشيقها، وبالفعل تذهب حورية إلى كمال الذي يؤكد لها أنهما لا بد لهما من الانقطاع عن اللقاء لفترة بسبب علية وما تفعله. يشاهد سعد أمه وهي تخرج من بيت كمال، وحينما تنصرف يهبط مع علية للصعود إليه، لتناول أخاها مُسدسا يقوم بقتل كمال به.

لعل مشهد قتل سعد لكمال كان من المشاهد المُهمة؛ حيث نرى مدى سيطرة الحقد والكره، والغيرة على علية؛ فهي التي دفعت أخاها من أجل قتل كمال، وهي من خططت للأمر، وهي من أعطته المُسدس ليقوم بقتله، ورغم ذلك حينما ترى كمال مُضرجا في دمائه تركع على ركبتيها لتقبله بعد موته، لكنها سُرعان ما تنهض لتكتب على الحائط كلمتي جاسوس، وعميل؛ للإيحاء بأن من قام بقتله قد فعل ذلك بسبب خيانته!

إن عشق علية الشديد لكمال جعلها تشعر بالكراهية الشديدة له ولأمها بسبب مُضاجعة كمال لها ولأمها معا، ولكن رغم تخلصها من كمال الذي تحبه، إلا أنها لم تستطع التخلص من مشاعر البغض الشديد تجاه أمها؛ لذلك حينما تعود مع أخيها إلى الأقصر تخبر الأم بتشفٍ أنهما قد تخلصا من كمال للأبد بقتله، وهو الأمر الذي يصيب حورية بصدمة شديدة؛ فتتجه إلى حجرتها ونسمع صوت إطلاق ناري لنعرف أنها قد انتحرت بعد سماعها بخبر قتل كمال، الرجل الوحيد الذي عشقته، وشعرت معه بالحياة الحقيقية.

بعد مقتل الأم يبقى كل من سعد وعلية وحيدين، وتمر الكثير من الأحداث منها ثورة العسكر على الملكية، وأحداث العدوان الثلاثي على مصر في 1956م؛ ولأنهما يعيشان حياة باهتة جافة منذ موت الأبوين يقرر سعد الاشتراك في الحرب على القنال باتجاهه إلى الإسماعيلية، وحينما تحاول علية منعه لا يستمع إليها. هنا تظل علية وحيدة في القصر الضخم، وفي الوقت الذي تستسلم فيه لخطيبها حسن ذات مرة تهمس له وهي في حضنه: خدني يا كمال، خدني دلوقتي!

أي أنها لم تستطع الخروج من أسر مشاعرها تجاه كمال الذي خططت لقتله؛ الأمر الذي جعلها تنطق باسمه بينما هي بين ذارعي خطيبها الذي يتركها مُنصرفا بمُجرد سماعه لما همست به.


تظل علية وحيدة في قصرها، وتتأمل سائس الخيول كثيرا، وربما لأنها تشعر بالوحدة الشديدة، والضياع التام تستسلم له داخل الاسطبل ليضاجعها على أرض الاسطبل في مشهد يُدلل على الانهيار الطبقي الكامل والفادح حينما استسلمت له بسقوطها تحت جسده مُستسلمة مُستمتعة بافتراسه لها؛ لنراه فيما بعد ينهض من فوقها مُرتديا ملابسه بينما هي في عمق المشهد مُلقاة على أرض الاسطبل!

إن فيلم المُخرج خيري بشارة الأول كان من أفضل الأفلام التي استطاع المُخرج من خلالها تقديم نفسه كمُخرج قادر على تقديم سينما جيدة وجادة، تهتم بالواقع، وتشتبك معه محاولة نقاشه حتى لو كان من خلال الرمز البعيد والعودة إلى الماضي؛ من أجل نقاش ما يحدث في الوقت الآني. كما لا يفوتنا أن المُخرج الذي جاء من قلب السينما التسجيلية لعدد لا يستهان به من السنوات لم يستطع التخلي بسهولة، أو عدم توظيف، هذه السينما من أجل الاستفادة بها في السينما الروائية التي انتقل إليها؛ لذلك رأينا طوال أحداث الفيلم استعانة المُخرج بالكثير من المشاهد التسجيلية التي أجاد المُخرج كثيرا في وضعها داخل السياق الفيلمي، كما لا يمكن إنكار أن هذه المشاهد قد أفادت الحدث الفيلمي أيما إفادة، وبالتالي لم تكن مُقحمة عليه، بل كانت من نسيجه الروائي حتى أن غيابها من المُمكن له أن يؤثر على الفيلم بسهولة.

إن فيلم "الأقدار الدامية" يريد المُخرج من خلاله الحديث عن الصراع العربي الصهيوني من خلال الربط بين هذا الصراع وبين الصراع الطبقي في مصر، أي أن الانهيار الطبقي الذي صوره المُخرج كان في جوهره نفس الانهيار الذي تعاني منه الدول العربية في صراعها مع العدو الإسرائيلي؛ لذلك فهو يريد التأكيد على أن الهزيمة الحقيقية لم تكن على الجبهة، بل في الداخل؛ فأثناء الحرب تخون علية/ الابنة حبيبها حسن مع كمال، كما تخون الأم زوجها مع نفس الرجل أيضا، وحينما يعود الزوج ويدرك ما حدث؛ يموت بالأزمة القلبية، وتحاول الابنة دفع أخيها سعد للانتقام من أمه؛ فتنتحر الأم، ولا يبقى سوى سعد الذي يعود إلى الاشتراك في الحرب مرة أخرى، بينما تستسلم علية- في مشهد يُدلل على الانهيار الطبقي التام- للسائس الذي يعاشرها، أي أن الانهيار الاجتماعي الكامل الذي يعاني منه المصريون يكاد يكون هو نفس أزمة الصراع العربي الصهيوني، وهو ما يؤكد لنا في نهاية الأمر أهمية ما قدمه المُخرج خيري بشارة من خلال فيلمه الروائي الأول، كما لا يفوتنا المُوسيقى التصويرية الدالة والمُهمة التي وضعتها المُوسيقية مُنى غنيم؛ حيث كانت المُوسيقى بمثابة المُحرك الدال والأساس للفيلم بما توحي به من أحداث قابضة ستحدث مُستقبلا، كما كانت توحي بالكثير من الاكتئاب مما يتناسب مع العالم الفيلمي الذي قدمه المُخرج.

 

 

 

محمود الغيطاني 

مجلة "نقد 21"

عدد أغسطس 2022م.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق