الخميس، 25 أغسطس 2022

جيم: السرد ذو الأوجه المُتعددة!

ثمة فارق شاسع بين مُبدع قادر على مُمارسة الكتابة الإبداعية بمُتعة مصدرها المعرفة المتواشجة مع موهبته، وبين آخر يمتلك الموهبة الإبداعية لكنه يفتقر إلى المعرفة اللازمة التي من شأنها العمل على إظهار وتشكيل مقدرته الإبداعية، ومُساعدته على مُمارسة اللعب الفني بوعي؛ الأمر الذي ينقل مُتعة التلاعب السردي، بدوره، إلى القارئ الذي يظل مُنتبها ومُتسائلا ومتشوقا حتى نهاية النص الفني؛ نظرا لمقدرة الكاتب التي من شأنها مُساعدته على ابتكار أساليب مُختلفة من الدهشة.

بمعنى آخر، إن اطلاع الكاتب على العديد من الروافد الثقافية من شأنها أن تنعكس على النص الفني في نهاية الأمر؛ لتكسبه الكثير من العُمق، والوعي الثقافي، والمزيد من الدهشة؛ مما يجعله مُتميزا عن غيره من النصوص الأخرى التي يكتبها بعض الكُتاب الذين يتكاسلون عن الاطلاع، فيقع نصهم الفني- رغم موهبتهم- في العادية، وربما السذاجة  مُفتقدا للدهشة التي هي الجوهر الحقيقي لأي شكل من أشكال الفن.

 هذه الدهشة التي تتركها المعرفة على النص الفني هي ما سنُلاحظه بشكل جلي في رواية "جيم" للروائية الجزائرية سارة النمس، حيث تظل الروائية تُصعِد من وتيرة التشويق مع التقدم عبر صفحات الرواية إلى أن تصفعنا في النهاية بدهشة مدويّة لم نكن ننتظرها؛ فينقلب مفهوم النص الروائي في النهاية إلى مفهوم جديد يجعلنا راغبين في إعادة القراءة مرة أخرى من أجل تلقيه بشكل مُخالف تماما للشكل الذي اعتقدناه فيما قبل، وإعادة تشكيل العالم الذي تخيلناه على أسس جديدة، بل ونتيقن أن اطلاع الكاتبة مُتضافرا مع موهبتها السردية هما ما أكسبا النص شكلا جديدا أكثر عمقا مما استقر في ضميرنا أثناء القراءة الأولى.

إن هذه المقدرة على كسر أفق توقع القارئ، ومحو كل ما دار في ذهنه، وإعادة ترتيب العالم الروائي بشكل مُغاير تماما إنما يُدلل على كاتبة تعي جيدا ما تفعله، بل وتستمتع بالعملية السردية باعتبارها لعبة فنية قادرة على الخلق بشكل مُختلف.

تبدأ سارة النمس روايتها بمقطع صادم يعمل على استفزاز القارئ والانتباه لما يقرأه، أي أنها تتعمد مُنذ الكلمة الأولى على امتلاك القارئ بالكامل من خلال الصدمة التي تعمدتها، وهي رغم عمديتها في هذه الصدمة إلا أنها لم تبدُ لنا صدمة مُفتعلة لمُجرد امتلاك انتباه القارئ، بل كانت مُتسقة تماما مع نفسية الراوي الذي بدأت به الرواية- حيث تعتمد الروائية في نصها على تعدد الرواة؛ الأمر الذي يعطيها المزيد من الحرية في السرد، والمزيد من وجهات النظر- فنقرأ: "الله الذي قاطعته مُنذ سنوات قليلة، اعتدت على التحدث معه كما لو كان صديقي الوحيد الذي يعرفني أكثر مما أعرف نفسي، تواصلتُ معه في جميع حالاتي؛ فإذا كنت حزينا شكوت له همي، وإذا كنت مُبتهجا مازحته كما لو كان جالسا على الكرسي المُقابل، كان إيماني به قاطعا ومُطلقا، ولا مجال لشك صغير أن يتسلل إلى رأسي. واليوم ما عدت أحدثه، ليس لدي ما أقوله له! لن أطرح عليه ذلك السؤال الذي يطرحه الناس في المصائب: لماذا أنا؟!".

إذا ما تأملنا الاقتباس السابق سنُلاحظ أن الروائية مُنذ الجملة الأولى قد تعمدت الصدمة بحديثها عن الله الذي تمت مُقاطعته، وهو ما يجعل القارئ راغبا في معرفة السبب، كما سنعرف أن الراوي هنا رجل وليس امرأة، أي أن الروائية تتمثل الرجل في كتابتها وتحكي على لسانه، وسنعرف أنه شاب جزائري اسمه لمين يعيش في وهران مع أمه التي تسعى عليه هو وأخته إكرام من أجل إعالتهما بعد مقتل والدهما مذبوحا على يد جبهة الإنقاذ في العشرية السوداء حينما كان ما زال طفلا.

يشعر لمين بالكثير من التعاسة التي لا تصرح الكاتبة بأسبابها دفعة واحدة، بل سنعرفها مع التقدم في صفحات الرواية، حيث تبث هذه الأسباب- التي تتكشف لنا واحدة تلو الأخرى- بهدوء ودونما افتعال، لكنه يشعر بالاختناق من الحياة في وهران بعدما عانى فيها كثيرا؛ لذلك سيفكر في الابتعاد عنها وعن العالم بأكمله بالذهاب إلى أقصى نقطة في الجزائر حيث يرغب في السفر إلى تمنراست في قلب الصحراء: "بعد الحادث الذي تعرضتُ له ووفاة والدتي، قررت البحث عن نفسي في مكان آخر؛ وبما أن شابا إفريقيا أعزب مثلي لا حظ له بالعيش في بلد أوروبي، قررت الاختباء في ذيل هذه البلاد! في أبعد مدينة وآخر نقطة جغرافية فيها، مدينة صحراوية اسمها تمنراست. سأعيش في صحراء قاحلة، مع أناس يجهلون من أكون باللاجدوى نفسها، أعمل وآكل وأنام، وأتمدد تحت الشمس الحارقة علّني أموت بضربة شمس، أجل، لا شيء يغريني كالانتحار، على الرغم من تحفظي على هذا المُصطلح السخيف الذي لا يسعُ معنى أن يُنهي إنسان بائس حياته بشجاعة. كنت جبانا جدا، حاولت وفشلت، ربما لأنني في لاوعيي ما زلت أحب الحياة قليلا، ولم يتمكن اليأس من قلبي كليا"! إن شخصية لمين- كما تقدمها لنا الكاتبة- هي شخصية تعاني من الكثير من اليأس والاندحار وعدم الرغبة في الحياة، أو الانخراط فيها، ورغم أنها لا تفضي لنا بالسبب في ذلك إلا أنها تتابعه- روائيا- من خلال مشاعره، وما يفكر فيه، ورغباته، من دون إيضاح السبب في هذه الحالة البائسة التي وصل إليها، أي أنها تترك أحداثها تنضج على مهل من دون أي تعجل في الإفضاء بها.

يتحدث لمين عن جيرانه الذين كان يحلو له التلصص عليهم من أجل قتل الوقت، وجارته ناديا التي شعر أمامها بالكثير من الرغبة من طرف واحد، لكنها حينما تزوجت شعر بأنها قد خانته، وإن لم يتوقف عن التلصص عليها أيضا، إلى أن يصل إلى محطة الباص مُستعدا للرحيل في رحلة طويلة من أجل الوصول إلى تمنراست. إن تتبع الروائية للمين في مشاعره وتصرفاته حتى وصوله إلى محطة الباص إنما يُدلل لنا على أنها تعمل على تشكيل العالم الروائي والتمهيد له بروية من أجل بنائه بشكل مُتقن؛ حيث أن هذا التمهيد هو الذي سيؤدي إلى ظهور شخصية جيم في حياته وأثرها الخطير عليه فيما بعد حينما يرى فتاة جميلة بشكل غير مألوف، خضراء العينين تستعد لركوب الباص وحيدة بينما تبدو وكأنها تعيش في عالم مُنفصل تماما عن العالم المُحيط بها، وهو ما يدفع لمين للاهتمام بها- نظرا لجمالها اللافت، ووحدتها غير الطبيعية- وبما أنه قد شاهد مُفكرتها تسقط منها؛ فلقد التقطها لتكون سبيله من أجل التعرف عليها، لكنه حينما حاول الجلوس إلى جانبها وفتح مجال للحديث معها تعاملت معه بجفاء وتعالٍ شديدين: "كنت سأعيد إليها مفكرتها اللعينة، وأختفي في مقعد بعيد، وأنسى رغبتي الغامضة بمعرفتها. انتظرت منها تحية فاترة على الأقل، أو سؤالا بسيطا يتمثل في ماذا أريد؟ ولكنها لم تنطق حرفا واحدا لمُخاطبتي. إنها ترفض حتى قول: مساء الخير، وكأن مُخاطبتي ستكون خطيئة ترتكبها في حق نفسها، ولا يجب على من مثلها الاختلاط بمن هم مثلي"؛ الأمر الذي جعله يعطيها مُفكرتها ويبتعد في مقعد خلفي، لكنه عاد للمحاولة مرة أخرى وطلب منها الجلوس إلى جانبها؛ فوافقت شريطة عدم الحديث معها، إلا أنه حاول مُحادثتها طالبا منها الاستماع إليه فقط لرغبته في الإفضاء إلى أي إنسان عن جرائمه الكثيرة التي ارتكبها في حياته لا سيما جريمة قتل أمه، وهو ما شد انتباهها وجعلها بالفعل تنصت إليه ليبدآ في تجاذب أطراف الحديث: "أنا يا أختي رجل هارب إلى مكان لا حياة فيه؛ لأعاقب نفسي على خطاياي. لو تعلمين أي الحماقات ارتكبت لما سمحت لي بالجلوس إلى جانبك. أعاني مُنذ سنوات لأنني آذيت كل الذين أحببتهم، وكان آخرهم والدتي. كيف أسامح نفسي على ما فعلته بها؟ لقد قتلتها! هل تفهمين ماذا يعني قتلتها؟ قتلت أكثر إنسانة أحبتني"!

إن هذا المدخل في الحديث، وسوق هذه المعلومة في طيات السرد إنما يحمل وجهين مُهمين، أولهما: هو جذب انتباه القارئ لجريمته تجاه أمه، وبالتالي تظل الكاتبة مُسيطرة على ذهن القارئ والمقدرة على التشويق في السرد، ثانيهما: جذب انتباه الفتاة/ جيم له؛ ومن ثم محاولتها معرفة كيف قتل أمه؛ الأمر الذي سيؤدي إلى استمرار الحديث الطويل بينهما طوال الرحلة الطويلة إلى الجنوب.

يبدأ لمين في الحديث عن نفسه لجيم بعد معرفة السر في اسمها الغريب: "هو اسمي الحقيقي، الحرف المُشترك بين اسم والديّ جهاد وجنات، كان شاعرا، وكانت روائية، أرادا اسما خاصا لابنتهما، هذه هي حكاية اسمي التي مللت من شرحها لكل من يقابلني"، بغض النظر عن إفراد الكاتبة لمُفردة "اسم" بدلا من تثنيتها في الاقتباس السابق، سنُلاحظ أنها ترغب في إحاطتنا الكاملة بحياة وخلفية لمين؛ لذلك فهو يبدأ سرده لحكايته وحياته مُنذ صغره، كما تخبره جيم بأنها قد فقدت أباها وأمها بموتهما وهو ما يشعرها بالكثير من اليتم: "عمري أربعة وعشرون عاما، ولم أعجن الحياة، بل هي التي عجنتني، وأعتقد أن عُمر الإنسان لا يُقاس بالوقت الذي قضاه في هذا العالم، بل بكم الألم الذي تلقاه فيه. جملتها الأخيرة فتحت شهية فضولي. أنا أيضا تملكتني اللهفة لتصفح ذاكرة رأس هذه الصغيرة، هل هو اليتم وحده ما شوّه طفولتها أم أحداث أخرى؟ ثم هل هناك ما هو أشد مرارة من اليتم؟ أن تولد وليس لك حضن تأوي إليه؟ أم تُطعمك، وتُغطيك، تزرر معطفك، تُناولك ملعقة الدواء، تُساعدك على إنهاء فروضك المنزلية؟ أنا أيضا اختبرت اليتم. كنت أرغب بإخبارها  بأنه قبل أن تموت أمي، فقدتُ والدي في سن مُبكرة، وافتقادك للوالد يشبه بأن تُقيم في بيت لا سقف له ولا أبواب، لا أحد في العالم بوسعه حمايتك من قسوة الآخرين". إذن، فهما يشتركان في تجربة شعورية واحدة ساعدت كثيرا على التقريب بينهما، وهي تجربة اليتم القاسية التي مرا بها، وهو ما ساعدهما على التقارب بشكل أكبر وسريع.

ربما لاحظنا، هنا، أن الكاتبة ماهرة في التقريب بين الشخصيتين ليحدث بينهما التآلف الذي سيفضي إلى معرفة كل منهما للآخر؛ ومن ثم تحيك روايتها بمهل غير راغبة في التعجل.

يحكي لمين عن حياته مُنذ صغره فيقول: "عشتُ الفقر مُنذ نعومة أظافري، ولكن ما يفعله الفقر هو إطالة أظافرك وتقويتها، ويُضاعف كراهيتك لهذا العالم، ويجعلك تتساءلين: لماذا الحياة ليست عادلة؟ لماذا ليس مُتاحا لجميع الأطفال أن يأكلوا اللحم كل يوم؟ أن يلتحقوا بالمدارس؟ أن يحصلوا على ألعاب يتسلوا بها كغيرهم؟ وترين بأن العالم يتسع لنا جميعا، وعلى الرغم من أن الإحصائيات التي تقول بأن عدد الدجاج أكثر من عدد الناس على وجه الأرض، يأكل واحد من الناس عشر دجاجات في الشهر، وآخر لا يأكل قطعة دجاج إلا في المُناسبات"، هذا الفقر الذي يعاني منه لمين وأدى إلى تشكيل شخصيته الكارهة والحاقدة على كل ما هو حوله تحرص الكاتبة على تعميق أثره حينما يسترسل: "كنت أبيع العلكة في الصيف، وفي أحد أيام عملي أزعجتني معدتي بتقلصاتها، إنه ألم الجوع. ألمٌ يجعل كل حواسك وتفكيرك يتركز على لقمة تقذفين بها في جوفك، حاجة حيوانية تجعلك تتصرفين بخسة، وتجلبين العار لنفسك. ألمٌ لا يعرفه سوى الفقراء والمساجين. عندما يجوع الآخرون، فإنهم يفتحون الثلاجة ويحضرون شيئا يأكلونه، أو يوقفون سياراتهم ويبتاعون أكلا جاهزا. ساقتني معدتي إلى شارع مليء بالمطاعم، ففعلت بي تلك الروائح ما تفعله رائحة الويسكي بشخص مُدمن على الكحول. وقفت أمام آنسة مُدللة أعرض عليها العلكة. كانت تجلس تحت شمسية خارج المطعم تتناول طبق سمك، وقبلت شراء قطع علك بطعم النعناع كي ينتعش فمها بعد تناول وجبتها، وكان كلبها جالسا بمُحاذاة ساقها، يفتح فمه، فيسيل لعابه، وكنت أفتح فمي تماما كالكلب، وكاد لعابي يسيل! رأيتها تحمل سمكة حمراء مُتدلية لتُطعم كلبها، وفي تلك اللحظة، وأنا أُعيد لها ما تبقى من النقود، تمنيت في قلبي لو وُلدتُ كلبا يعيش في منزل هذه الآنسة الثرية"!

إنه الإيغال في الشعور بالفقر والحرمان من أجل التمهيد للعديد من الأحداث التي ستتتالى على طول الرواية. لذلك سيحكي لها عن جاره الذي لجأت إليه أمه من أجل تقويته في دروس اللغة الفرنسية، لكن هذا الجار سيعتدي عليه جنسيا؛ الأمر الذي سيؤثر عليه، ويجعله يلتزم بيته لعدة أيام غير راغب في الذهاب إلى مدرسته، ولا يخبر سوى صديقيه اللذين في عمره واللذين لا يعرف سواهما. وسيحاول الصديقان الانتقام له بتصويب الحجارة على هذا الشاب غير مرة إلى أن يرحل من الحي. ومن هنا سيروي لها جريمته الأولى التي اقترفها في حياته، والتي تقض عليه مضجعه، حيث سيكبر مع هذين الصديقين إلى أن يتخطون البكالوريا، وذات مرة يقود سيارة صديقه سمير ويسرع بها كثيرا فتنقلب بهم السيارة ويموت الصديقان، ليظل هو وحده على قيد الحياة. إن موت الصديقين يسبب له الكثير من الذنب ويشعره بشكل يقيني أنه قد قتل أقرب الناس إليه، وأنه في حقيقته ليس سوى مُجرم: "كان يجب أن أكون الميت! لماذا ألقى سمير المُفتاح في يدي، ولماذا علمني السياقة؟ لأقتله؟ الطبيب الذي عالجني وصف نجاتي بالمُعجزة، مُعجزة عليّ أن أحمد الله عليها، ولكن كان ذلك الشيء الوحيد الذي لم يكن بإمكاني شُكر الله عليه. شعرت بالذنب لسببين: لأنني قتلت صديقيّ، ولأنني نجوت. هل تتخيلين حزني وأنا أعود إلى حيي بعكازين لأجد في الحي مأتمين لأحب إنسانين إلى قلبي؟ سمعتُ صوت البكاء والعويل والنحيب يتعالى من بيتيهما. أمرتني أمي بالتزام البيت، ولكنني غادرته أتعكز عكازي لأقدم التعازي وأعتذر. ولكن، كيف لأم أن تغفر لي ما فعلته بابنها يا جيم؟ بصقت أم مالك في وجهي ثم أُغمى عليها، وأم سمير أسقطت عكازي وحاولت خنقي بيديها حتى أبعدها عني أقاربها. إنني قاتل يا جيم، هذا ما أنا عليه، أنت تجلسين بجانب قاتل انتقى أفضل ضحاياه وأحنّهم عليه؟". في الاقتباس السابق سنُلاحظ أن الكاتبة حريصة على تعميق الحدث في نفس لمين، ورغم أنه لا ذنب له فيما حدث، إلا أن تطور الحدث كما كتبته لا بد له أن يشعره بأنه قاتل حقيقي طوال الوقت، ويظل يؤنب نفسه على جريمته.

إن رغبة الكاتبة سارة النمس في التأكيد على الأزمة التي يشعر بها لمين يجعلها تسترسل- على لسانه- في حكي جرائمه، أو ما يرى أنها جرائم قد ارتكبها، لذلك يحكي لجيم جريمته الثانية مع جارته وردة التي تعرف عليها، وارتبط معها بعلاقة حب، ورغم أن وردة كانت مُتدينة كثيرا، حتى أنها لم تكن تسمح له بلمس كفها، إلا أنه غيّر من كل مُعتقداتها حتى أنها باتت تختلي به، وترقص لها بالقميص الداخلي، ويمارسان حبهما عاريين، إلى أن مارس معها ذات مرة علاقة جنسية كاملة واستمرا على ذلك. هنا شعر لمين- كأي رجل شرقي- أن انجذابه لوردة قد خبا، وأنه قد اكتشفها تماما، ولا يمكن له الارتباط بها لا سيما أنه قد أخذ منها كل شيء، وأخبرها بأنه غير راغب في إكمال العلاقة بينهما، لكنها أخبرته أنه إذا ما تركها ستقوم بالانتحار، فلم يهتم بما قالته إلى أن انتحرت بالفعل بإلقاء نفسها من الطابق الخامس: "دامت علاقتنا سنتين. في أثنائها، كنت أنتهك مُحرماتها شيئا فشيئا، أول شيء سلبتها إياه كان حريتها. عندما لا تعجبني صديقة من صديقاتها، أُخيرها بيني وبينها، فتختارني. أبرر تسلطي بأنها ليست عشيقة ألهو بها، بل زوجة مُستقبلية عليّ امتحانها لأرى إذا كنت سأجد فيها الزوجة الصالحة. أصبحت تبادلني القبلات بشغف، وعندما أعانقها تضمني إلى صدرها بقوة. خلعتُ لها الوشاح، وداعبتُ شعرها وشممته. وبعد الشعر تمكنت من مُلاطفة صدرها بيديّ. أصبحت أدعوها إلى بيتنا حين تكون أمي وأختي غائبتين، نستلقي عاريين ونفعل كل شيء، إلا ذلك الشيء المُهم. تتصل بي وردة بعد كل موعد نادمة على ما فعلناه، قلت لها: ما دمت كل مرة تندمين، فلن أضع يدي عليك بعد اليوم، وبإمكانك أن تتوبي وسيغفر الله لك. ومُنذ ذلك التهديد، توقفت عن غناء الاسطوانة بعد كل موعد".

ألا نُلاحظ، هنا، أن الكاتبة من خلال حكي لمين لما فعله تؤكد لنا أنه قد قام بجريمة حقيقية بالفعل، وإن كان القانون لا يمكن له أن يدينه عليها؟ إنها حريصة على تعميق المأساة والذنب الثقيل الذي يشعر به على ما اقترفه في حياته لتعميق حالته الشعورية والإيغال فيها بقسوة أكبر، وهو ما يبرر إحساسنا به كشخص رافض للحياة والاستمرار فيها، كما يفسر لنا سلوكه اللامبالي تجاه كل شيء، ورغبته في الانعزال عن الحياة بالكامل، لا سيما عزل نفسه في تمنراست.

تحت إلحاح جيم في معرفة جريمته الأشد وطأة- وهي الجريمة التي جذبتها للحديث معه مُنذ البداية- يحادثها لمين عن قتله لأمه، فيخبرها بأنه قد عمل كحارس أمن في إحدى المُدن الجامعية، وهناك لفت نظره فتاة مُحجبة اسمها ناريمان، وارتبط بها سرا حتى لا يفقد عمله، وأنفق عليها كل ما كان يأتيه من مال من أجل إرضائها، ولقد كانت الفتاة تمتلك تشوه يمتد من أسفل وجهها إلى عنقها بسبب حرق قديم، وهو السبب في حجابها، وقد طلبت منه ذات مرة المال من أجل إجراء جراحة تجميل لهذا التشوه الذي تشعر بسببه بالخجل الشديد. في ذات التوقيت كانت أم لمين تعاني من آلام المرارة التي لا بد من إجراء جراحة لاستئصالها، وقد باعت الذهب القليل الذي تمتلكه من أجل هذه الجراحة؛ فطلب لمين من أمه إعارته المال من أجل ناريمان، وهو الأمر الذي جعلها تحزن باكية لعدم اهتمام ابنها بها، لكنها لم تعطه المال، فسرقه وأعطاره لناريمان. هنا التزمت أمه الفراش مريضة حتى أن عينيها قد بدتا صفراوين من فرط المرض. كانت المرارة قد انفجرت في بطنها. ليكتشف لمين فيما بعد أن ناريمان تعرف الكثير من الرجال غيره، وأنه ليس سوى رجل يعطيها المال وتتلاعب به؛ فهجم عليها من أجل خنقها، لكن زملاءه أبعدوه عنها، وحينما حاول العودة لأمه بالمال الذي سرقه من أجل إجراء جراحتها كان الوقت قد مرّ وانفجار المرارة قد أودى بحياتها: "لم أخجل من نفسي حين طلبت من والدتي أن تعيرني مالها لأستعيد احترام حبيبتي: أُعيده لك بعد شهرين من مُرتبي، وما سأستلفه من الأصدقاء. اشمأزت من طلبي الوضيع، لم تصدق بأنني ابنها الذي شاركتها معاناة الفقر والبؤس واليتم والترمل، الابن الذي كانت تعمل في البيوت خادمة لتُطعمه من فضلات الأثرياء، وتلبسه ما يعافه أولادهم من ثياب. ذكرتني بكل تضحياتها بصوت يجرحه البكاء، فقلت لها: أنت تبالغين كعادتك، تغارين من كنّة مُستقبلية وترينها تنافسك في ابنك من الآن. سرقتُ المال، وسافرت إلى مدينة سيدي بلعباس. وسلمته لحبيبتي لتعالج ندوب وجهها. عانقتني بقوة: قلبي ما غلطش، كان يقولي لمين عمره ما راح يبخلك. في طريق عودتي إلى وهران، كنت أفكر في طريقة أُراضي فيها أمي الطيبة. سأتدبر المال، وأُجري لها العملية في أقرب وقت. وعندما تتعافى سنذهب جميعا لنخطب المرأة التي أحب. وصلت إلى البيت معجونا بخجلي، بحثتُ عن أمي وجدتها مُستلقية هناك في فراشها، عيناها متورمتان من البكاء، تهز رأسها خائبة الأمل، ولم تُعاتبني بكلمة واحدة"!

ربما تبدو لنا جريمته تجاه أمه جريمة حقيقية، رغم أنها بدروها ليست بالجريمة التي يعاقب عليها القانون، ولا يمكن اتهامه فيها بقتل الأم، لكنها من أبشع الجرائم التي ارتكبها في حياته، وهو ما يوضح لنا شعوره الموغل في العدمية ولا جدوى أي شيء في حياته.

إن اعتراف لمين لجيم بما دار في حياته، وهو ما كان يثقل نفسه كثيرا، يجعلها تطمئن إليه بدورها، ومن ثم تبدأ في سرد قصة حياتها التي عانت منها؛ فتخبره عن أبيها جهاد وأمها جنات اللذين تعارفا في الجامعة، وكيف وقع جهاد في عشق الأم الجميلة، لكنها كانت مُعرضة عنه إلى أن بادلته العشق بعشق، وحينما تزوجا كان هائما بها وحدها، غير راغب في الإنجاب، إلا أنها كانت لديها الرغبة في الأمومة؛ فوافق راضخا لرغبتها، ولعدم مقدرته على إكسابها الحزن، لكنه كان يتعامل مع الابنة/ جيم باعتبارها كائنا غريبا عنه، ولم يكن يهتم في حياته سوى بالأم فقط وكأن الابنة لا وجود لها، إلى أن أُصيبت جنات بورم في الرحم وماتت؛ الأمر الذي أوقع الأب في أزمة نفسية وكاد أن يفقد عقله بسبب موت زوجته: "ليته تزوج، عذبني بها كما عذبته! ظل يقارنني بها ويرغب بأن أكون نسخة عنها في لباسها، وحديثها، ومشيتها، وكلما اخترت ذوقا مُغايرا وتصرفت على طبيعتي كرهني واشمأز مني، لأنني أقتل ذكرى جنات. أرادني ناعمة مثلها، كان صوتها خفيضا وبالكاد يُسمع، وكنتُ مُختلفة عنها كل الاختلاف، طباعي حادة ومزاجية وأتحدث بصوت مُرتفع، مما يجعلني في عينيه أفتقر إلى الأنوثة، ومما يجعله يخجل بي أمام معارفه وأصدقائه"! أي أن جهاد قد بات يرى الابنة كزوجته، لا سيما أنها تشبهها شكليا تماما وكأنهما توأمان مُتشابهان، ونظرا لعشقه الشديد لزوجته؛ فهو يريد من جيم أن تكون صورتها بعد الموت حتى لا يشعر بفقده لها، إن هذه الرغبة في الاستبدال والإحلال هي رغبة مرضية خطيرة جعلته ينادي الابنة باسم أمها مُتناسيا أنها ابنته، بل وبدأ في التعامل معها باعتبارها زوجته الراحلة جنات!

تكتب النمس: "كنت أناديه Papa قبل موت أمي، ولم تكن تعني له الكلمة سوى أداة للنداء، بعد انتقالنا، أول ما فرضه عليّ مُناداته بجهاد حتى أمام الناس والضيوف، وفضّل مُناداتي بجنات، تخيل؟ في الطائرة ونحن في طريقنا إلى باريس قال: من اليوم اسمك جنات. استغربت ولم أرتح للأمر، وكنت أصغر من أن أفهم بأنه يسلبني اسمي وحقي في أن تكون لي هويتي الخاصة كابنة، وليس كتذكار تركته له زوجته الراحلة. في الطائرة، داعب وجهي وملامحي كما لم يفعل يوما. تأمل يديّ وأظافري وتنهد مُبتسما ومُرتاحا باستعادتي، أو بالأحرى استعادة زوجته الراحلة"! أي أن الأب قد وصل إلى مرحلة مرضية يرى من خلالها ابنته هي زوجته الراحلة، ومن ثم يحاول التغلب على آلامه، وأحزانه من خلال هذا التخيل والإحلال المرضي، أو الخلط المُلتبس بين الزوجة والابنة، وهو الأمر الذي سيعقد الأمور أكثر مما هي عليه، وبالتالي يبدأ في الشعور تجاه الابنة بمشاعر جنسية باعتبارها زوجته جنات وليست جيم: "عاد ثملا وبوجه سعيد لا أعرفه، استلقى إلى جانبي وعانقني بقوة من الخلف: بشير المجنون حاول إقناعي بالتعرف على شابة إيطالية توددت إليّ، لكن كيف لي أن أخونك يا جنات. التصق بجسدي أكثر، أحس بأنفاسه الساخنة على عنقي ورائحة الشراب الكريهة تصل إلى أنفي. داعب شعري بحنان، ثم تحسس صدري بلطف أربكني. أبعدتُ يده، فوضعها بين ساقيّ وبدأ يحرك أصابعه هناك بخفة ساحر، شعرت بالدغدغة والحرارة في جسدي، الإرباك والتوتر ونبضات القلب تتسارع، أبعدتُ يده بصرامة هذه المرة. تقلّب إلى الجهة الأخرى ونام، أما أنا فقضيت ليلتي حائرة أفكر بما حدث. وفي الليلة التالية لم يكن ثملا، بل واعيا وصاحيا، أطفأنا الأنوار، ودخلنا السرير نستعد للنوم، حينها داعب بظري فوق ملابسي حتى ارتعشت، صرخت في وجهه أبكي وأُخبره بأنني أكرهه، وسأهرب من البيت إذا فعلها مرة أخرى. لم تكن لدي فكرة واضحة عن الجنس، وعيي له كان بريئا وسطحيا، أرعبتني تجربة اكتشافي للذة وبداية التعرف على جسدي، عضو صغير مجهول في جسدي يتسبب لي بكل تلك الفوضى النفسية"!

سنُلاحظ في هذا الاقتباس السابق أن الأب قد بات مريضا بالابنة مُعتقدا أنها زوجته جنات بالفعل، أي أنه غير قادر على التعايش، أو تصديق موت الأم، وبما أن جيم كانت صورة حقيقية من أمها؛ فلقد حاول تعويض الأمر بإحلال الأم محل ابنتها في حالة من حالات الخلط الهذيانية التي يرى من خلالها زوجته في الابنة. لكن الخطأ هنا لم يكن هو خطأ الأب فقط- فهو في حقيقة الأمر مريض في حاجة للعلاج النفسي- بل كان خطأ جيم التي انساقت لرغبات الأب رغم إدراكها لما تفعله جيدا: "قلت لك سابقا، في بدايات اقتراب جهاد مني، كنت خائفة ومُرتبكة، لأن التجربة جديدة عليّ، أساسا كنت خارجة للتو من فصل الطفولة، وما كنت لأفهم حتى لو عشتُ التجربة مع من كان في سني. ولكن بعد مرور الوقت، أصبح ما كان غريبا بيننا عاديا. في سنتي السادسة عشرة وأنا شابة يافعة، وبعد أن احتلمتُ ونضج جسدي ونهداي، وتخلصت من ثوب الطفولة، أصبحت أنا المُبادرة، أفتحُ له الباب كما تفتح الزوجة لزوجها، أستقبله بقبلة في فمه وعناق حار"!

إن انسياق جيم لتخيلات أبيها هي ما يمكن لنا لومها عليها وليس الأب؛ فهو مريض بالفعل لا يُدرك حقيقة ما يقوم به تجاه الابنة، لكنها مُدركة لما تفعله إدراكا حقيقيا، ورغم ذلك فلقد انساقت خلف رغباتها الجنسية التي اكتشفتها، ولم تجد من سبيل من أجل مُمارستها سوى مع أبيها، وهو الأمر الذي جعل جهاد/ الأب ينساق أكثر خلف ما يفعله باعتبارها جنات/ زوجته؛ لذلك أخذها إلى أحد الملاهي الجنسية ذات مرة كهدية لها في عيد ميلادها: "كهدية لعيد ميلادي، وليرفع جهاد معنوياتي قليلا، اصطحبني إلى ملهى ليلي اسمه Sunset، مكان يشبه النادي لا يرتاده إلا عدد مُحدد ومعروف من الزبائن، يفتح أبوابه من الساعة الخامسة مساءً وتُغلق أبوابه في مُنتصف الليل مع بقاء الزبائن الموجودين حتى صباح اليوم التالي. ها نحن نسير في رواق مُظلم، فيه إضاءة شحيحة تكفي لنرى أقدامنا، ولا نتعثر أو نرتطم بجدران. الجدران فيها أبواب خشبية مقوسة، طلب مني التلصص من خلال فتحة مُستديرة في الباب أكبر من العين الساحرة بقليل لأرى ماذا يحدث في إحدى الغرف. امرأة مُقيدة على نحو مُؤلم بأشرطة تعصر أطرافها ونهديها، وفي فمها كرة مطاطية حمراء تلزمها الصمت. أما الرجل الواقف بين ساقيها المُنفرجتين، والذي توقعت أن يضربها أو أن يولج فيها، جلب عصا سميكة وبدأ يقحمها في فرجها، والمرأة تئن ودموعها تسيل مُختلطة بالكحل".

تحكي جيم عن العديد من المُمارسات الجنسية الغريبة التي رأتها في هذا المكان، منها ما هو مثلي، ومنها ما هو جماعي، وغير ذلك من أشكال الجنس المُختلفة التي يمارسها رواد المكان، لكن، هل يمكن لنا إدانة الأب هنا على ما يفعله مع جيم؟

لقد انساقت إليه، وتعاملت معه، بالفعل، باعتبارها زوجة له، بل وأخذت مكان جنات/ أمها انسياقا لهذيانه وخلطه بينهما، ووصل بها الأمر إلى شعورها بالغيرة من إحدى صديقاتها، والحقد عليها حينما زارتها في منزلها ورأت نظرات الإعجاب من الأب تجاه صديقتها؛ الأمر الذي جعلها تثور على الصديقة، بل وتطردها من المنزل لتخرج هذه الصديقة من بيتهما وتبدأ في الحديث مع الآخرين بأن ثمة علاقة مُريبة تربط بين جيم وأبيها، وهو ما جعل جيم شديدة الشراسة في الرد على هذه الأقوال وتدافع عن أبيها، وتنكر كل ما قيل؛ ومن ثم ترك الأب وابنته باريس للحياة في لندن بعيدا عمن يعرفهما في باريس؛ لذلك حينما يعرف الأب بارتباط جيم بعلاقة مع أحد أساتذتها في الجامعة ويدخل البيت ذات مرة ليراها في أحضان هذا الأستاذ يثور عليها باعتبارها خانته، بل إنه يتحدث إليها باعتبار أن جنات هي التي خانته: "حطم المزهرية وخرج مُنفعلا ليعود في ساعة مُتأخرة. جلس جهاد على الكرسي المُقابل لي في المطبخ. لم يقل شيئا، كان هادئا جدا، ذلك الهدوء المُخيف الذي تنتظر عاقبته. أخذتُ قنينة ماء من الثلاجة، وصعدتُ لغرفتي كي أخلد إلى النوم. وفي الساعة الرابعة صباحا فتح باب غرفتي، وتحت تأثير الغضب والخمر قام باغتصابي. لم أستطع منعه، صفعني أكثر من صفعة قوية على وجهي، ينعتني بالعاهرة والحلوفة والخداعة. لم يتوقف عن مُخاطبتي باسم جنات. أبكي، أقول له جيم، أنا جيم، لكنه لا يصغى. ومن دون أن يقبلني أو يتودد إليّ فتح ساقيّ بقوة وثبت معصميّ على السرير، وبكل القسوة التي يمتلكها انتهكني. فض بكارتي بعنف حتى تخيلت من الألم بأنه يفعل ذلك بخنجر لا بعضو من دم ولحم. وبعد ذلك قلبني على ظهري وواصل انتهاكه من الخلف، ليكون امتلاكه لجسدي كاملا. في أثناء ذلك كان يشدني من شعري يصيح: انتيا تاعي. أما أنا، لم أصدق بأن هذا الرجل الذي يقوم باغتصابي وإهانتي هو الرجل نفسه الذي عشت معه حياتي كلها في بيت واحد. كنت مصدومة ومدهوشة، ولم أمتلك كلمة واحدة في فمي أرد بها عليه، أو أدافع بها عن نفسي. كانت تلك أول تجربة كاملة لي في مُمارسة الجنس"!

 لقد وصل الهذيان والخلط، والمرض النفسي بالأب مبلغه؛ فلم يعد يفرق تماما بين الأم وابنتها، ولعل جيم كانت عاملا مُساعدا مُهما فيما وصلت إليه حالة الأب، ورغم أنه قد تعارف على إحدى الجزائريات على الإنترنت، بل وسافرت إلى باريس من أجل لقائه بشكل شخصي بعدما وقعت في حبه، إلا أنه لم يستطع التخلص من هذيانه. هذه المرأة الجزائرية لاحظت أن جهاد ينادي جيم باسم جنات، ويقدمها لها باعتبارها زوجته وليست ابنته؛ وبالتالي نصحته باستشارة طبيب نفسي مُؤكدة أنه يخلط بين زوجته الراحلة وابنته، وهو ما دفعه للذهاب إلى طبيب نفسي بالفعل.

تحاول جيم تفسير ميلها إلى أبيها أثناء حكيها للمين، حتى لكأنها من خلال هذا التفسير تلجأ للدفاع عن نفسها واتهامه هو بأنه كان السبب في كل ما كان: "جهاد كان عالمي، كنتُ مُكتفية به عن أي أحد، مُكتفية به إلى حد لا أريد معرفة أشخاص آخرين. كان رجلا يعجبني، يُضحكني، يعاملني جيدا ويعلمني كيف أعيش الحياة، لأنه يرى العالم بعين مُختلفة، بعين حقيقية وشفافة، وبإمكانه أن يُعيد نظرك في أشياء كثيرة كنت تعتقد بأنك تحبها وتفهمها. عشتُ صراعا لسنوات وأنا أحاول منع نفسي أن أحبه كامرأة وأحبه كابنة فقط، عشت سنوات أتعذب وأتألم بعد كل مُتعة جسدية يقدمها لي. أحيانا، أطمع في المزيد وأحلم بالليلة التي سيفتض فيها بكارتي، لأنه حبيبي ورجل حياتي، وأحيانا أهرب منه وأعذبه عندما أكرّس التركيز على أخلاقي، أو الأخلاق التي وضعها الناس، كما كان يقول. عاش عمره يحاول حمايتي من كل شيء حتى من نفسي، حتى تلك الليلة التي حطم فيها كل شيء ودمرني، دمرني تماما"!

الروائية الجزائرية سارة النمس

إذن، فجيم بلا منازع مُشتركة في جريمة علاقتها بأبيها، بل تبدو هنا جريمتها أكبر مما اقترفه هو؛ لأنه ليس في وعيه الطبيعي، ويعاني من الضلالات والهذيان، بينما هي مُدركة تماما لكل ما كان يحدث بينهما، وتعرف أنه ما كان له أن يحدث، لكنها كانت تشعر تجاهه بمشاعر المرأة تجاه الرجل، وليس مشاعر الابنة تجاه أبيها؛ ولذلك وافقت على كل ما كان يدور بينهما من علاقة عاطفية وجنسية!

إن التجربة التي مر بها كل من لمين وجيم في حياتيهما فيها من الروابط المُشتركة ما يجعل الشخصيتين قريبتين من بعضهما البعض؛ فإذا ما كان أبو جيم لا يهتم بها، ويعاملها باعتبارها كشيء مفروض عليه في صغرها، فلمين أيضا شعر بهذا الإحساس من أبيه في صغره- مع الفارق بينهما- لذلك يقول: "لم يكن والدي أبا رائعا ولا أبا سيئا، كان رجلا عاديا، لا يضربني وفي الوقت نفسه لا يحتضنني. لم يكن يقسو عليّ ولا يلعب معي. هل تعلمين لماذا قد يكون الأب باردا لهذا الحد؟ حاولتُ أن أجد أعذارا لائقة لبروده، وفهمت بأنه الفقر الذي يجعل الإنسان مُنشغلا عن عيش علاقته الطبيعية بأحبائه. لقد أجهد والدي نفسه بالعمل ليوفر لنا اللقمة، لم يدرس، ولم تكن بحوزته شهادات. لذا، كان يعمل في كل شيء، في البناء، وفي دهن البيوت، والسمكرة، يخرج صباحا ويعرض خدماته على معارفه في المقهى، يعمل ويعود مُتعبا، يفكر بمُستقبلي وبمُستقبل أختي إكرام النائمة في رحم أمي. يضربني فقط حين أحصل على علامات مُتدنية في المدرسة: هل تريد أن تصبح حمارا مثلي؟ هذه هي الجملة الوحيدة التي أسمعها في رأسي واضحة بصوته".

أي أنهما اشتركا في تجربة حياتية مُتشابهة من حيث تعامل وتجاهل الأب لكل منهما، ولكن إذا ما كان جهاد يعاملها ببرود قبل موت الزوجة لأنه لم يكن راغبا في أبناء، فوالد لمين كان يعامله هذه المُعاملة التي تبدو في ظاهرها باردة وغير مُهتمة بسبب الفقر الشديد الضاغط على الأب، كما اشترك كل منهما في تجربة التحرش بهما صغارا أيضا؛ فلمين تم اغتصابه من جاره في صغره، كما تم التحرش بجيم من أبيها أيضا في صغرها: "أصغت جيم إلى حكايتي ودموع غزيرة تُغادر عينيها الواسعتين، قالت: أتفهم ما تعرضت له، التحرش يدمر أشياء جميلة في قلب الطفل، يلوث براءته، لكن ما مررت به كان قاسيا. المُتحرش بي كان لطيفا، يعبث بجسدي ويقنعني بأن ما نقوم به ليس أمرا خاطئا، كان يقنعني بأننا نلعب لعبة اسمها لعبة الحُب! وبسببه، كرهت الرجال والحب وكل ما يتعلق به"، لذلك اكتسبت جيم قدرا من اللامبالاة تجاه كل شيء في حياتها جعلها غير مُهتمة بأي شيء، وكأنها خالية تماما من المشاعر، جامدة القلب، وهو ما نقرأه في: "حسنا، أنا أجد من السخف إنفاق أموال طائلة على الثياب والمطاعم، فقط لأننا نستهلك أشياء تجلب لنا السعادة، بحيث بإمكاننا أن نحظى على قسطنا من السعادة بدون استهلاك الأشياء بغباء، أما المُدن فكلها مُتشابهة! حتى المُدن الرائعة التي تحلم بزيارتها، أو تعشقها لأنك مررت بها زائرا، ستملّها إذا عشت فيها وحفظت شوارعها ومداخلها عن ظهر قلب. الاعتياد يقتل شغف كل شيء، والناس! قل لي ما الفائدة من حبهم أو كراهيتهم ما دمنا زائلين؟ الإنسان حتى إذا عمّر فهو لا يُخلد، لا يبقى على الأرض سوى حفنة من السنوات تتسرب من جسده بسرعة مُذهلة، فلماذا يرهق نفسه بالحب والكراهية؟ لماذا لا يكتفي بعلاقات بسيطة بلا دراما، ولا مُعاناة، ولا تعلُق، بل بقبول للطرف الآخر كيفما كان، وقبول رحيله بعد ذلك؟"، إن هذه النظرة العدمية التي تتمتع بها جيم إنما كان سببها الرئيس حياتها ومُعاناتها التي عاشتها مع أبيها إلى أن قتلته حينما حاول اغتصابها مرة أخرى؛ فصوبت إليه المُسدس لتطلق ثلاث طلقات جاءت إحداها في بطنه، والثانية في صدره، لتستقر الثالثة في وجهه الذي انقسم قسمين، وسُرعان ما هربت وتصرفت في جواز سفر جزائري مزور جاءت به إلى الجزائر لتتجه في طريقها إلى أقصى الجنوب في تمنراست!

ربما نُلاحظ أن الحوار الذي دار بين كل من لمين وجيم لنعرف من خلاله قصة حياة كل منهما ومُعاناته إنما أخذ القسم الأكبر من الرواية في رحلتهما إلى أقصى الجنوب الجزائري، وهو الأمر الذي كان من المُمكن أن يوقع السرد في العادية ولا يعطي الرواية أي ميزة عن غيرها من الأعمال الروائية، لكن النمس تستمر في سردها بمُجرد وصولهما إلى تمنراست، فيطلب لمين منها أي طريقة اتصال بها، لكنها تخبره بأنها ستأخذ رقم هاتفه وستتواصل معه بنفسها، وبالفعل بعد مرور شهر كامل على وجودها في الجنوب تتواصل معها هاتفيا لاستقبالها في مطار وهران عائدة من الجنوب، وهنا يطلب منها الزواج فتوافق غير مُترددة بعدما تخبره بأنها لا تعرف فعل أي شيء، لا طهو الطعام، ولا ترتيب البيت، إلا أنه كان قد تعلق بها تماما، ووافق على الزواج منها، أي أن الكاتبة تُدرك جيدا أنها لو كانت توقفت بسردها عند معرفة الحكايتين لما كان لروايتها أي أهمية فنية أو تميز، لكنها رغبت في استمرار السرد والتقدم به لمُتابعة حياة كل منهما مع بعضهما البعض، ولعل السبب الرئيس لموافقة جيم على الارتباط بلمين من دون تردد يعود إلى قلقها منه بعدما أخبرته بجريمتها وقتلها لأبيها: "تكمن المُشكلة في طباع الرجال الكريهة! فالرجل إذا أحب امرأة وافتتن بها يغض تفكيره عن عيوبها ويكتفي بمزاياها، وتتيقظ نزعة البطولة داخله لحمايتها واحتوائها، ولكن ما إن يتلقى رفضا صادما منها، ما إن يتملكه اليأس بأنه لن يحصل عليها أبدا حتى يبدأ بالتكشير عن أنيابه، مثل كلب بولدوغ تم ربطه وتجويعه، ينقض على أول غريب خائف. هذا ما خشيته من لمين، أن يستخدم اعترافي ضدي في حال ما رفضته، ولكن ما حدث قد حدث"، أي أنها كانت تخشاه لاعترافها له؛ ومن ثم لم تتردد في قبول الزواج منه لاتقاء شره، كما أنها كانت لديها رغبة براجماتية في الزواج منه، وهي الشعور بالأمان، أي أن يكون حصنا أمينا لها يحميها في وهران، والحياة في كنفه آمنة: "وجدت لمين ينتظرني خارج المطار وقد جهز كل شيء للزواج، عاد إلى وهران وتواصل مع معارفه، ودبّر لي شهادة ميلاد مُزيفة لقريبة له في مثل عمري، ماتت طفلة مُنذ سنوات في ريف تيارت، ولم يُعلن عن وفاتها أحد. سأتزوج من لمين، لا مُشكلة لدي، على الرغم من أنه لا يعجبني. بإمكاني أن أتزوج من أي رجل، والعيش مع أي رجل، فأنا سريعة التأقلم، بإمكاني قبول رجل ليست فيه الصفات المُفضلة، بإمكاني التزوج من رجل بدين، قصير، أصلع، عجوز، داكن البشرة، فقير، مُشرد، يهودي، مُلحد، برجل من الجزائر أو من الكاميرون، من القطب الشمالي. لا يهم، الصفات لا تهم، لا الشكلية، ولا المُعتقدات تهم، ولا المكان الذي جاء منه! كل ما أريده رجل أحس معه بأنني لست مُهددة".

إذن، فالرغبة العارمة بالشعور بالأمان مع لمين هي السبب الرئيس لقبولها الزواج منه، فضلا عن خشيتها من استخدام اعترافها له ضدها، لكن المرأة الملائكية التي رآها لمين في جيم لم تكن هي التي تخيلها في حقيقة الأمر، بل عاش معها في جحيم حقيقي؛ بسبب تجاهلها التام له، وصمتها الطويل، ومكوثها في غرفتها وحيدة طيلة الوقت، وبرودها الجنسي الشديد والعاطفي أيضا، بل واحتقارها له ورؤيته بأنه أقل منها بكثير، وقبيح في كل شيء حتى في ملبسه: "عندما وافقت جيم على الزواج بي ظننتني سأكون أسعد رجال العالم. لم أحلم قط بأن تقبل بي. لقد جربت حظي فقط، حظي الذي ما علمت أنه سيكون تعيسا بهذا الشكل، أعيش مع امرأة أحبها من دون أن أعرف كيف أكسب قلبها، أو أستمتع بوقتي معها على الأقل. في الأيام الأولى، عذرتها. قلت: ربما هي لم تعتد عليّ بعد، ولكننا الآن معا مُنذ سبعة أشهر ولم يتغير شيء في برودها وشرودها الطويلين"، أي أن الحياة مع جيم لمُدة عام كامل- هو عمر زواجهما- قد تحول إلى جحيم حقيقي يعيش فيه لمين، كما لاحظ أنها رغم قتلها لأبيها إلا أنها مُتعلقة به عاطفيا ونفسيا حتى أنها لا تكف عن ذكره في كل المواقف التي تحدث لها في حياتها، أي أنها كانت مريضة بعشقه والتعلق به مثلما كان مريضا بها باعتبارها جنات: "ظلت في الأيام الأولى تذكر جهاد، هو يحب كذا، يكره كذا، يعتقد كذا. استغربت كيف أنها تربط كل معلوماتها وذكرياتها به، وآذاني ذلك. هل ما زالت مُتعلقة به بعد كل هذا الدمار الذي ألحقه بها؟ التحرش الذي اقترفه وهي طفلة، اغتصابها وهي شابة، تعنيفها وضربها، تشويه قناعاتها ومُعتقداتها؟ لقد دفعها الرجل لارتكاب جريمة من الأذى الذي ألحقه بها، وما زالت تتحدث عنه بحب وكأنه حاضر معنا. صارحتها بأنني ما عدت أرغب بسماع اسمه في هذا البيت، قالت: أنا آسفة، عشت حياتي كلها مع هذا الرجل، والماضي لا يمكن اقتطاعه من الذاكرة بهذه السهولة. اعتذرتْ وبعد اعتذارها صمتتْ لأشهر"!

يلاحظ لمين حقيقة جيم التي كانت غائبة عنه، وصفاتها التي لا يمكن لأي إنسان احتمالها: "هي امرأة لا تحس، ولا تبكي، ولا تتأثر، ولا تحزن. لا أدري!"، كما يبدأ في الشك فيها حينما يقرأ عن حادث ذبح امرأة في تمنراست في نفس الفترة التي كانت جيم فيها هناك، ورغم أنه سألها كثيرا عما كانت تفعله هناك إلا أنها لم تخبره، وعرضت عليه مجموعة من الصور لها مع العديد من الأصدقاء هناك: "أسمع كل يوم عن العديد من جرائم القتل، ولا أهتم بمعرفة التفاصيل إلا إن كانت تتعلق بحكاية جديدة أو مروعة! ولكن البارحة، وبالمُصادفة، شاهدت ذكرى سنوية لشاعرة قُتلت السنة الماضية في تمنراست. تلك السيدة كانت تُدرّس مناهج النقد في الجامعة إلى جانب هوايتها في نظم الشعر. قُتلت في بدايات شهر جانفيه، أي في الفترة التي كان كل منا أنا وجيم في تمنراست. القاتل استغل وجودها بمُفردها في البيت وذبحها في فراش نومها من الوريد إلى الوريد، ثم خرج بهدوء ولم يكتشفوا الجثة إلا بعد ثلاثة أيام. لم تتمكن التحقيقات من الوصول إلى ذلك القاتل حتى يومنا هذا. أحباؤها وعائلتها، اجتمعوا ليقرأوا الفاتحة على روحها، يحملون صورها، وما زالوا يتألمون، لأن القاتل ما زال يتنفس سعيدا في الخارج، بينما ابنتهم ماتت ميتة بشعة من دون أن تفعل السُلطات شيئا للعثور عليه ومُعاقبته"!

حينما يقرأ لمين هذا الخبر البشع يبدأ في الشك بجيم، ويفاتحها في الأمر، لكنها تقنعه بأنها لا علاقة لها بالأمر، وبأنها كانت بعيدة عن مكان الحادث، ويميل إلى تصديقها، لكنه لا يستطيع الاستمرار معها في الحياة أكثر من ذلك بعدما تحولت حياته معها إلى جحيم حقيقي، ولذلك يخبرها بأنه قد قرر الطلاق منها، ويتم الأمر بالفعل. بعد عام من الطلاق نعرف أن جيم قد تزوجت من رئيسها الرجل التركي الذي عملت معه في وهران أثناء زواجها من لمين، وذهبت معه للمعيشة في قصره باسطنبول، لكنها ترسل للمين لتخبره بأنها قد أُصيبت بسرطان في الرحم، وأجرت جراحة للتخلص منه؛ فيسافر لمين إليها للاطمئنان عليها، ويجدها قد تغيرت تماما، وازدادت جمالا، بل وتأخذه إلى الكوخ الذي خصصه لها زوجها في الفيلا كي تنفرد بنفسها، وهناك يلاحظ المُفكرة التي سبق أن عثر عليها مُنذ سنوات والتي كانت السبب في تعارفه على جيم؛ فيأخذ به الفضول مأخذه لمعرفة ما فيها كي يفهم جيم التي لم يفهمها طيلة هذين العامين، وبالفعل يخفي المُفكرة في ملابسه ليبدأ في قراءتها فيما بعد.

إن لجوء الكاتبة سارة النمس إلى هذا الجزء من الرواية، وقراءة المُفكرة وما تم خطه فيها هو القسم الذي أكسب روايتها فنيتها الحقيقية واختلافها الذي لا بد له أن يجعلنا نُعيد قراءة الرواية من خلال مفهوم آخر جديد ومُغاير، ولولا هذا الفصل لظلت الرواية مُجرد رواية عادية لا قيمة فنية كبيرة لها، كما لا ننكر أن هذا الفصل هو ما سبق أن قلنا عنه في البداية: إن اطلاع الكاتب على الثقافات المُختلفة هو ما يصقل موهبته ويكسبها المزيد من المهارة؛ فلقد اعتمدت الكاتبة في هذا الفصل على مفهوم علم النفس، ومن ثم قرأنا ما خطه جهاد في هذه المُفكرة من يوميات كان يكتبها، وهي اليوميات التي أعادت بناء العالم الروائي في أذهاننا بناء آخر جديدا تماما عما كنا نراه، أو نفكر فيه، ومن ثم اكتسبت الشخصيات الروائية في العمل الروائي بُعدا جديدا لم نكن نتخيله أو نُدركه طوال مُدة قراءتنا للرواية.

لذلك نقرأ: "أخونك معك! هل تتخيلين هذا؟ كيف ستغفرين لي؟ كيف ستنظرين إلى وجهي بعد اليوم؟ كيف سيبقى في قلبك أي احترام لهذا الرجل الحقير الذي أدهشك في البدايات بنبله؟ وحده العار أحس به ينخر قلبي. برجولتي قد ذابت وتحللت، بإنسانيتي تعفنت، أرغب برمي نفسي تحت عجلات القطار حتى تنكسر عظامي ويُفرم لحمي، وتتحطم جمجمتي ولا يتعرف على جثتي أحد، جيم تستغل وحدتي وإدماني، وتقوم بتصرفات قذرة. أدخل السرير فأجدها عارية فيه، تلتصق بي وتقوم بحركات تجعلني أهتاج وأغرق في اللذة معها. تقول: بإنني رجلها الوحيد، اكتشفتُ أنوثتي على يديك، وفتحت عينيّ على العالم معك، فكيف تريد منعي عن حبك واشتهائك. وإذ نتشاجر أطردها من غرفتي وأرغمها على المكوث في غرفتها، تغلق الباب على نفسها بالمُفتاح، تنتحب وتؤذي نفسها، تجرح معصمها، تشرب الأدوية. تهددني بالانتحار، المُشكلة وأنا ثمل أكون خارج وعيي، ويصعب عليّ التفريق بينكما، تصبحين وجيم امرأة واحدة"!

أي أن هذا الفصل الذي كتب فيه جهاد يومياته، أوضح لنا الوجه الآخر للحقيقة حيث كانت جيم مُنحرفة السلوك وتستغل أباها الذي تُدرك جيدا حقيقة مرضه، وأنه يخلط بينها وبين أمها التي كان يعشقها، كما يؤكد الأب من خلال هذه اليوميات أنها مريضة أيضا وخطرة على كل من حولها إذا لم تحصل على ما تريده: "علمتُ بأنها غاضبة، ولكن ليس إلى ذلك الحد! في الواقع، أصبحتُ إذا رأيتها تعبّر عن غضبها أطمئن، وعندما لا تفعل، ياه كم هي مُرعبة! تجلس هناك في الزاوية متوترة، تشتعل حرفيا من الغضب، أراها تتنفس بسرعة بعينين جامدتين لا ترمشان، لون خديها الشاحب يتحول إلى أحمر، تقضم أظافرها أو تحك شاعدها مثل المُدمنة التي تنقصها جرعة من المُخدرات. كان القط "آلي" صديقها الوحيد، وكان أكثر ما تحبه بعدي، وتخيلتُ أي شيء إلا أن تصيبه بالأذى. لقد قتلته! في لحظة غضب وطيش قتلت قطها، صرعت رأسه بالمطرقة التي جلبتها من القبو، ومات في اللحظة نفسها، بعد ذلك أدخلته في كيس ورمت به في القمامة، بهذه البساطة، وبذلك البرود. كنت أراها تستمتع في طفولتها باصطياد الحشرات، ومُطاردة الفئران وتعذيبهم، ولكن آلي مخلوق آخر، هو حبيبها، ودميتها، والصديق الذي تداعبه وينام معنا في السرير. بعد ما فعلته عادت أخيرا إلى طبيعتها الهادئة، كأنها تخلصت من عبء كبير، وبعد ما فعلته، أدركت بأنها لا تحب أحدا، ولا تحبني، ولا تحب حتى نفسها"!

أي أنها قادرة على ارتكاب أي جريمة ببرود، ولعل هذا ما جعلها تقتل أباها بهذه البساطة لمُجرد أنها عرفت بعلاقته مع المرأة الجزائرية التي كانت من تمنراست، فحينما ذهبت إليه المرأة في باريس وعرفت علاقتها بأبيها قامت بقتله غيرة منها حتى لا يكون لغيرها، كما أنها لم تكتفِ بقتله بل سافرت إليها لتقوم بذبحها أيضا، ولنقرأ: "ولأن قلبي ما عاد قادرا على احتمال هذه التعاسة، لم أعد أستخدم عقلي. أصبحت عبدا لهذه الشيطانة التي تسكن بيتي، عبدا مُطيعا ينفذ الأوامر، ويفكر كل ليلة بطريقة جديدة للانتحار"!

إن اليوميات التي كتبها جهاد تقلب لنا كل الأحداث رأسا على عقب، وتفسر لنا الكثير من الأمور التي لم تكن مفهومة، فإذا ما كان الأب قد أخذ جيم في عيد ميلادها إلى نادٍ لمُمارسة الجنس بكل أشكاله، وهو ما عرفناه فيما قبل، فإن اليوميات ستعيد بناء الحدث من خلال مُعطيات أخرى جديدة تماما في: "البارحة كان عيد ميلادك يا جنات! لطالما أحببتِ المُفاجآت والعوالم الغريبة التي تُلهمك لكتابة رواياتك. لطالما عبدتِ الجنون الذي ينقذك من رتابة الضجر وكآبة الحياة. أخذتكِ إلى الملهى الجنسي كما طلبتِ مني مُنذ سنوات لتكتبي الرواية الفضائحية التي حدثتني عنها، وشجعتك على كتابتها، ولكنني تفاجأت بك تغضبين وتغادرين المكان باستياء مُحيّر، اشرحي لي. ماذا يحدث بيننا، حتى ما عاد يفهم أحدنا الآخر"، أي أن جهاد قد وصل إلى مرحلة مرضية لم يعد يفرق فيها بالفعل بين الزوجة والابنة، وهو الأمر الذي استغلته الابنة وأمعنت فيه لمُضاجعة والدها والاستحواذ عليه لنفسها فقط! لذلك فجيم ستوهمه بأن ابنته جيم هي التي ماتت، وأن من تحيا معه هي جنات زوجته التي يعشقها؛ فتتداخل في ذهنه الأمور ويزداد هذيانه: "مُنذ وفاة ابنتنا جيم في ذلك الحادث اللعين وأنتِ ما عدتِ أنتِ يا جنات. إنني أفهم جيدا هذه الخسارة، أنا أيضا كنت والدها، وشاركتك كل لحظات حياتها، وقت ظهور السن الأولى، والخطوة الأولى، وأعنتك على تنشئتها، وكم ركضنا خلفها كي لا ترتطم، وكي لا تحترق. وكم توترنا ونحن نُرسلها للمدرسة أول مرة، ولكنها رحلت. ابنتنا ماتت، وعليكِ أن تتعلمي قبول هذه الحقيقة. نحن لم يتبق لنا إلا بعضنا، وهذه الخسارة الفادحة كان من المُفترض أن تقربنا لا أن تحفر الهوة العميقة بيننا. أنا مُستعد لفعل أي شيء لأرى الابتسامة على وجهك مرة أخرى. أفتقد نشاطك وحيويتك ورغبتك الدائمة في الضحك والرقص ومُشاهدة الأفلام. لم أعد أطيق رؤيتك بهذه الكآبة. مرت سنوات وأنا أنتظر التئام هذا الجرح بلا فائدة، ويبدو أن هذا الجرح لن يلتئم أبدا!". ربما يتضح لنا من الاقتباس السابق، أن الأب إنما كان يتعامل مع الابنة بحنو وحب في صغرها، وهو عكس ما روته تماما للمين حينما حكت له حكايتها عن أبيها الذي تعامل معها ببرود شديد وعدم اهتمام باعتبارها مفروضة عليه من قبل الأم؛ لأنه لم يكن يرغب في الإنجاب.

إن استغلال جيم لأبيها ومرضه بسبب موت جنات يدفعه إلى الجنون الحقيقي: "إنني أفقد عقلي، من منكما توفيت؟ أنت أم ابنتنا جيم؟ من هذه المرأة التي تعيش معي؟ أنتِ جيم، أم حبيبتي جنات؟ إن المرأة التي تعيش معي تشبهك إلى حد مُرعب! تتصرف كما لو كانت أنتِ، تقلدك وترتدي ملابسك القديمة، معاطف الكشمير التي تخصك، تترك شعرها بريا وغجريا كما تفعلين، وتقول: أنا حبيبتك جنات، أنا زوجتك. تُذكرني بلقاءاتنا الأولى. تحفظ رسائلنا عن ظهر قلب. ولكن ثمة شيء في قلبي يشبه الحدس يقول لي: إن هذه المرأة القاسية والجافة ليست أنتِ. ربما تُشبهك شكلا إلى حد يجعلني أذوب فيها كما أذوب فيكِ، ولكن طباعها حادة، ولا مكان للرحمة في قلبها، روحها ملعونة. كلا، مُستحيل أن تكون أنتِ"، لذلك حينما يرى جيم مع أستاذها الجامعي يكتب لجنات مُعاتبا لها خيانتها له، أي أنه مُقتنع تماما بأن جيم هي زوجته جنات، ولا يدرك حقيقة مرضه العقلي أو النفسي بسبب موت الزوجة، وهو ما يتضح لنا في قوله: "يقول الطبيب: إنني أعاني من الفصام، وإن عقلي يتخيل ويتوهم، ويختلق أحداثا لم تحدث. ذاكرتي كلها مشوشة، والأشخاص في حياتي ضبابيون جميعهم. ثمة أحباء موتى، ما زلت أتعامل معهم على أنهم أحياء، وأحياء أتعامل معهم على أنهم موتى وحقيقيون من لحم ودم أمحو وجودهم تمام في واقعي، وآخرون خلقتهم بنفسي ووضعتهم في الأمكنة المُناسبة لأواسي وحدتي. أكتب هذه الكلمات بينما أنا في مصحة، مُستسلم للجلسات الطويلة وأشرب الأدوية بانتظام. جيم طيلة هذه السنوات، تستغل مرضي، لفقت ذكريات لم تحدث قط، وأقنعتني بأنها جنات، وبأن ابنتنا جيم ماتت في حادث سيارة، وأنا أعيش بهذه الذاكرة مُنذ سنوات"!

إذن، فمن خلال اعتماد الكاتبة سارة النمس على علم النفس والأمراض النفسية التي قد يُصاب بها الأشخاص، ومن خلال وعيها وإدراكها وفهمها لما تتحدث فيه؛ كان الجزء الأخير من روايتها وكأنه إعادة بناء للبنيان الروائي بالكامل حتى أنها قد قلبت مفهومه رأسا على عقب؛ الأمر الذي لا بد له من جعل القارئ راغبا في العودة إلى الرواية من بدايتها مرة أخرى من أجل تلقيها بشكل مُختلف ومن خلال معطيات جديدة لم يكن يدركها أو يتخيلها، وهو ما يجعل سردها الروائي يمتلك العديد من الأوجه المُتعددة والمُختلفة، بل والمُدهشة تلك الدهشة الفنية التي لا بد منها في أي عمل فني باعتبار أن هذه الدهشة هي الجوهر الحقيقي للإبداع.

تأتي رواية "جيم" للروائية الجزائرية سارة النمس كعمل روائي جاد ومُدهش في آن، وهي لم يكن لها امتلاك هذه الدهشة التي تُعيد تشكيل النص الإبداعي لولا معرفتها بما تكتبه واعتمادها على ثقافتها واطلاعها على العديد من المجالات الثقافية الأخرى، وهو الاطلاع الذي ساعدها على هندسة روايتها بمثل هذا الشكل الذي رأيناه، والذي لولاه لباتت الرواية مُجرد سرد عادي لم يكتسب جدته، ولا دهشته، ولا أوجهه المُختلفة في التأويل والتفسير.

لكن، رغم هذا المجهود الذي رأيناه في كتابة العمل الروائي، إلا أننا لاحظنا أن الروائية لم تهتم بمُراجعة النص الذي كتبته بعدما انتهت منه- سواء من ناحية الكتابة، أو من ناحية سلامة اللغة- وهو أمر تشترك فيه دار النشر في المسؤولية، وليس المؤلفة وحدها، حتى لكأن دار النشر أخذت العمل على صورته النهائية الذي سلمته الروائية لهم، ولم يهتموا بمُجرد الاطلاع عليه، وهذه مُشكلة الكثير من دور النشر التي لا يعنيها سلامة ما تنتجه، كما يدل هذا الفعل على عدم احترامهم لعقلية القارئ الذي يتعاطى العمل الإبداعي؛ فلقد قرأنا في الصفحة 23: "أدار السائق مفتاح الحافلة، وسمعنا جميعا صوت المُحرك وشعرنا باهتزازات الحافلة. أغلق المُحاسب الباب، واستدارت الحافلة لتغادر المدينة. الناس يبسملون ويتوكلون على الله، وتلك الجميلة تحدق إلى النافذة مُنبهرة بالعتمة وأضواء المدينة التي ننسحب منها شيئا فشيئا باتجاه الجنوب. شغل السائق مُوسيقى مغربية..."، نقول إن هذا الاقتباس السابق الذي قرأناه في الصفحة 23 ستكرره الروائية مرة أخرى في الصفحة 27 كما ذكرناه تماما من دون اختلاف أي مُفردة فيه؛ الأمر الذي يُدلل على عدم مُراجعة الكاتبة أو دار النشر للنص قبل النشر، كما لا يفوتنا وقوع الروائية في العديد من الأخطاء التي ما كان لها الوقوع فيها مع اكتمال النص من حيث الشكل الفني؛ فقرأنا "مُلفتة" بدلا من "لافتة"، و"هل كان سينقص منك شيء" بدلا من "شيئا" المفعول به المنصوب، وكتابتها "احكي" بدلا من "احك" حيث الفعل هنا هو فعل أمر، ولا بد من حذف حرف العلة، وكتابتها "يخجل بي" بدلا من "يخجل مني"، ووضع همزة القطع في "الإبنة" بدلا من "الابنة"، وكتابتها "رميت بنفسي عليهم" قاصدا صديقيه بدلا من التثنية في "عليهما"، إلا أن الخطأ الفادح المُثير للكثير من الدهشة هو كتابة المُؤلفة "إلى مَ" والتي تقصد بها "إلام"! وغير ذلك الكثير من الأخطاء.

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة

عدد أغسطس 2022م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق