المُخرج خيري بشارة |
إذن، فهو مُخرج يقدم السينما كما يحب أن يراها، وليس كما يحب أن يراها
الآخرون، يضيف إليها الكثير من ذاته بعد تأمله للموضوعات التي يطرحها، حتى أنه
حينما لجأ لرواية يحيى الطاهر عبد الله في فيلمه "الطوق والإسورة" 1986م
لاحظنا أن ثمة بونا شاسعا بين الرواية والفيلم، وإن حرص في فيلمه على الحفاظ على
روح الرواية، لكنه من خلال نقل العمل المكتوب- الذي يعتمد في الأساس على اللغة
والخيال فقط- إلى وسيط آخر يعتمد في مُفرداته على الصورة كان حريصا على أن يكون
العمل السينمائي مُنتميا له هو، مُمثلا لوجهة نظره وما يحمله من ثقافة يرى من
خلالها العالم، وليس من خلال ثقافة كاتبه الذي يتحدث عن قرية في عُمق الصعيد في الأقصر.من فيلم الطوق والإسورة
يبدو هذا الاختلاف في رؤيته للعمل السينمائي منذ تخرجه في المعهد العالي للسينما 1967م، ثم عودته من بولندا بعد منحة دراسية للسينما هناك لمُدة عام ونصف العام. في هذا التوقيت بدأ بشارة في صناعة الأفلام التسجيلية بعدما عمل كمُساعد مُخرج مع المُخرج عباس كامل في فيلمه "أنا الدكتور" 1968م، ثم مع المُخرج توفيق صالح في فيلمه "يوميات نائب في الأرياف" 1968م، كما ساعد في الإخراج في فيلمين بولنديين هما فيلم "في الصحراء وفي الأحراش" للمُخرج البولندي فواديسواف شيلشتسكي 1971م، ثم الفيلم البولندي "تاييس" للمُخرج ريشارد بر 1983م- أي بعد عمله في الإخراج للعديد من الأفلام التسجيلية بلغت التسعة أفلام، وفيلمين روائيين- ثم لم يلبث- بعد عدة سنوات بعيدا عن الفيلم البولندي الأخير- أن قدم أول أفلامه التسجيلية "صائد الدبابات" 1974م عن المُجند المصري محمد عبد العاطي الذي نجح في تدمير ثلاث وعشرين دبابة وحده أثناء حرب أكتوبر 1973م، وهو الفيلم الذي حاز على ثلاث جوائز بالإضافة إلى شهادة تقدير من مهرجان "ليبزج" الدولي.
لفت محمد عبد العاطي وما قام به من عمل بطولي ومُهم نظر المُخرج خيري
بشارة؛ الأمر الذي جعله يهتم بصناعة فيلمه الأول عنه، ولعلنا نلاحظ من خلال أفلام
بشارة التسجيلية أنه أراد أن يقدم مفهوما جديدا للسينما التسجيلية يبتعد بها عن
التقريرية أو النزعة الإخبارية التي كانت تميزها كما رأيناها، على سبيل المثال،
لدى صلاح التهامي- رغم عمله كمُساعد مُخرج مع التهامي عام 1971م في فيلم "تحية
لعمال أبو زعبل"-، أو حتى النزعة الشاعرية التي رأيناها مع المُخرج هاشم
النحاس. أي أن بشارة منذ بدايته كان راغبا في تقديم السينما كما يحب أن يراها هو،
ومن خلال ثقافته الشخصية وحده؛ الأمر الذي جعله يصنع العديد من الأفلام التسجيلية
قبل اتجاهه لصناعة السينما الروائية الطويلة؛ فرأينا له: "طبيب في
الأرياف" 1975م، و"طائر النورس" 1976م، و"تنوير" 1977م،
و"حديث الحجر" 1978م، و"حديث القرية" 1979م، و"تجاوز
اليأس" 1980م، وعباد الشمس 1981م.الأقدار الدامية
إن محاولة إعادة صياغة الواقع من خلال الثقافة الخاصة لبشارة هي ما جعلته يقدم سينما تسجيلية مُختلفة عما هو سائد حينها، وهو أمر لا ينكره المُخرج نفسه؛ حيث يؤكد: "إنني أنتمي إلى جيل تلقى وعيه الاجتماعي والسياسي بسلبياته وإيجابياته خلال نمو حركة ثورة 23 يوليو في المُجتمع المصري؛ فعندما قامت الثورة كان عمري خمس سنوات، وعندما حدثت نكسة 1967م كنت في نهاية دراستي بالمعهد العالي للسينما. كنت في العشرين من عمري، ومعروف أن المُثقفين المصريين بعد 67، على اختلاف اتجاهاتهم أو تياراتهم، بدأوا يعيدون تقييم الواقع المصري، سواء في لحظاته الحاضرة، أو من خلال ماضيه، وهذا الشيء عظيم، كان بالنسبة لي- كشاب- هو بداية وعيي الحقيقي، وبدأت أكتشف، كمُخرج سينما، أن الثقافة السينمائية ليست هي كل شيء"[1].
إذن، فإعادة تقييم الواقع، وإعادة صياغته وترتيبه من خلال رؤية سينمائية هو
ما كان يقصده بشارة في صناعته السينمائية؛ الأمر الذي جعله يتميز بسينما تخصه
وحده، مُختلفا في ذلك عمن سبقوه من مُخرجين، أو حتى المُجايلين له؛ لذلك حينما قدم
فيلمه التسجيلي الأول "صائد الدبابات" 1974م لم يكن اهتمامه الأول
باصطياد عبد العاطي للدبابات فقط- فلو فعل ذلك لكان قد قدم لنا فيلما تسجيليا
تقريريا مثل غيره- بل بالظروف الاجتماعية والثقافية، والإنسانية التي تحيط وأنتجت
شخصية عبد العاطي الذي نجح في اصطياد هذه الدبابات؛ لذلك نرى أن الناقد أحمد يوسف
كان مُغاليا حينما قال: "لقد كان ألمع ما في هذه الأفلام هو
"أفكار" خيري بشارة، وليست "عواطفه"، فهي إذا كانت تبدأ دائما
من الواقع إلا أنها تسعى دائما إلى أن تصنع من هذا الواقع عالما جماليا مُتكاملا،
يحول الحجر إلى إنسان، لكنه قد يحول الإنسان إلى حجر، فكل عناصر الواقع تصبح على
درجة متساوية من الأهمية، دون نقاط ساخنة أو أخرى باردة، حتى أن الواقع يصبح في
أفلامه عالما جماليا (ولا نقول جميلا) مُتسقا، مُكتفيا بذاته، لأن هناك مسافة من
التباعد العقلاني تفصل دائما بين الفنان خيري بشارة، والواقع الذي يتعامل معه، حيث
ينبغي أن يخضع الواقع في النهاية إلى مفهوم جمالي ذهني، وحيث يفقد الواقع جانبا
كبيرا من دفئه وحرارته"[2]. فمن
خلال ما ذهب إليه الناقد أحمد يوسف نفهم أن بشارة كان يحاول دخول عمله الفني دائما
من خلال قالب جاهز لصناعة السينما لا بد أن يروض من خلاله الفكرة التي ينطلق منها؛
ومن ثم فهو يعمل على ليّ عنق الفن ليا؛ من أجل فكرته المُسيطرة على ذهنه مُسبقا،
ولعل في هذا المذهب- إذا ما صح- ما يؤكد عمدية الفن التي تُفسده وتبتعد به عن
التلقائية وطبيعية الأمور والأحداث الواقعية؛ ومن ثم يصبح ما يقدمه خيري بشارة
مُجرد أعمال ثلجية باردة، ومصنوعة، لا روح فيها، ولا مشاعر؛ ومن ثم ستفقد أي تعاطف
أو تفاعل بينها وبين المُشاهد؛ لأنها مُجرد أعمال ذهنية خاضعة لذهنية صانعها فقط،
ولعله في الواقع السينمائي، من خلال ما قدمه بشارة من أفلام تسجيلية أو روائية
طويلة، ما يُدلل على عدم صدق هذه النظرة التي ذهب إليها أحمد يوسف؛ وبالتالي يكون
فيما ذهب إليه الناقد قدر كبير من المُغالاة والتجني، أو محاولة لقراءة سينما
بشارة من خلال مفهوم ذهني يخص الناقد نفسه، لكنه لا يخص الواقع السينمائي الذي
قدمه المُخرج بالفعل.الأقدار الدامية
لعل ما يحكيه بشارة، نفسه، عن تجربته في صناعة فيلم "صائد الدبابات" ما يُدلل على أن المُخرج لم يكن يفكر في صياغات جاهزة، أو ذهنية قبل صناعة أفلامه، بل كانت الفكرة تتطور معه تبعا لظروف إنتاجها: "تقدمت في أواخر الربيع الأول لعام 1974م بفكرة فيلم "صائد الدبابات"؛ لإدراجها في خطة المركز القومي للأفلام التسجيلية والقصيرة، وذلك قبل أن يتم تكليف المركز رسميا بإنتاج أربع بطولات من أكتوبر. كانت الفكرة حينئذ غير متبلورة بالقدر الكافي؛ فلقد كتبتها في سطور قليلة، وعلى عجل، موضحا أن الفيلم سوف يعتمد في بنائه على الانتقال المتوازي بين مُقابلات سينمائية مع عبد العاطي (صائد الدبابات)، وبين حُطام دبابات العدو في معرض الغنائم الذي أُقيم وقتها في القاهرة على أرض المعارض بالجزيرة، وكان عبد العاطي قد حُظي قدرا من الشهرة عندما طلب منه وزير الحربية، وقتها، (المرحوم المُشير أحمد إسماعيل علي) أن يتقدم؛ ليقص معه الشريط إيذانا بافتتاح معرض الغنائم. ويرجع الفضل إلى جمال الغيطاني في إلقاء الضوء بقوة على بطولات عبد العاطي، وبطولات رفاقه من "أكلة الدبابات"، وفي الحقيقة فقد ساهم كتاب الغيطاني "المصريون والحرب" بصورة أكيدة وفعالة في توجيه أفكاري ناحية الجوانب العميقة في شخصية عبد العاطي والمُقاتلين المصريين بوجه عام؛ فالكتاب يتميز برؤية إنسانية واجتماعية واعية لعين ثاقبة لمُراسل صحفي حربي، هو أديب في الوقت ذاته. عندما تراجعت خطة المركز لتحتل أفلام أكتوبر الأربعة المُكلف بها أولوية التنفيذ؛ وقع عليّ الاختيار بسبب مُبادرتي السالفة لإخراج فيلم عن مُقاتل من الصعيد دمر سبع دبابات، إلا أن ظروف البحث عن هذا المُقاتل الذي كان قد سُرح من الجيش كانت من الصعوبة بحيث فرضت العودة إلى مُبادرتي الأولية، وهي عمل فيلم عن عبد العاطي، وهذا كان يتفق، بالطبع، مع رغبتي منذ البداية؛ مما أراح أعصابي القلقة- وهذا لا يعني المُفاضلة بين مُقاتل ومُقاتل- أو لأن عبد العاطي قد أصبح نجما على صورة ما، أو لأنه دمر عددا أكثر من الدبابات، وإنما الواقع أنني كنت قد تعاطفت مع عبد العاطي بصورة فورية لكل ما يمكن أن يمثله، وذلك خلال مراحل القراءة المُختلفة عنه، وعبر التفكير في اتجاه تنمية الفكرة، وكان من الصعب أن أقطع هذا الوصال الفكري والوجداني فجأة لأبدأ من جديد عبر طريق آخر"[3].
من خلال ما يقوله بشارة عن صناعة فيلمه يتضح أنه لم يكن لديه فكرة جاهزة عن
صناعة الفيلم، وإذا ما حاولنا تجاوز ما قاله المُخرج باعتباره مُجرد تبرير، أو
محاولة لصياغة ما كان يأمله ويحلم به؛ فإن الفيلم الذي قدمه لنا في نهاية الأمر
يؤكد لنا أنه لم يكن مُجرد عمل ذهني بحت يخص صاحبه، بل هو عمل يهتم بصناعة سينما
مُختلفة عما كان سائدا في هذه الفترة الزمنية. سينما تؤنسن الأمور وتهتم بما يحيط
بها من عوامل مُختلفة- خلافا لما ذهب إليه أحمد يوسف سابقا- وهو ما يؤكده الناقد
الراحل سامي السلاموني في: "هل يستطيع أعظم كاتب سيناريو في العالم أن يكتب
حوارا أجمل من هذه الكلمات العفوية على لسان مُقاتل فلاح لا يُجيد حرفة الكلام؟ في
مواجهة للكاميرا والميكروفون يروي لنا المُقاتل محمد عبد العاطي عطية شرف من
مواليد 1950م بقرية شية قش مركز منيا القمح شرقية كيف صنع بمُفرده هذه المُعجزة
التي ربما لا يدرك أنها مُعجزة. إن الكاميرا تصحبه إلى مواقع القتال الحقيقية؛
ليحكي، على الطبيعة، كيف دمر الدبابات التي ترقد على الرمال جثثا هامدة للغرور
الذي واجه الفلاحين البسطاء؛ فانهزم- بمُجرد العقل والشجاعة- لقد حصل الفلاحون على
سلاح يواجه به الرجل دبابة، واستطاع أن يستوعب أصعب تفاصيل السلاح بسرعة وذكاء نادر
كامن تحت الجلد الأسمر الذي يبدو أحيانا صامتا وصابرا بأكثر مما يجب، وهذه هي
مُعجزة أكتوبر التي صنعها الناس العاديون. إن عبد العاطي ليس بطلا حتى بعد أن تحول
إلى أسطورة، إنه شاب عجيب، يتدفق بالحيوية والبساطة الآسرة كأنه لم يصنع شيئا، إنه
البطل عندما يظل إنسانا، ويملك هذه القدرة النادرة على أن يُبهرك بالإنسان الذي
فيه، وليس بالبطل. وهذا هو أعظم ما حققه وأبرزه المُخرج خيري بشارة في هذا الفيلم،
مع قدرته الفائقة على تقديم البطل، ليس كأسطورة نادرة، وإنما كظاهرة طبيعية كامنة
في أعماقنا وقابلة للتكرار كل يوم. إن عبد العاطي مُحاط دائما برفاقه في الحرب،
وهو يتحدث دائما عنهم، وكل منهم ينسب الشرف للآخر. المُقاتل بيومي ضرب دبابتين،
وأنا اثنتين، المُقاتل الخولي، المُقاتل عبد الفضيل، المُقاتل عوض، وقائد الكتيبة
الضابط عبد الجابر يتحدث عنهم باعتزاز، ولكنه بوعي شديد لا ينسب البطولة لأفراد:
"ابن القرية المصرية البسيطة قدر يستوعب المعلومات الإليكترونية المُعقدة،
رغم إن أجهزة الدعاية كانت بتقول: إن الإنسان المصري مش مُمكن يستوعب الأجهزة
دي"، وهذا هو درس أكتوبر يدركه ضابط واع. والدرس الرائع الآخر في هذا الفيلم
أن مُخرجه لا يعزل البطل عن واقعه، إنه يعود به إلى قريته التي صنعته وتصنع آلافا
غيره؛ فنرى عبد العاطي الشاب المصري في بيته، ومقهاه، وفي الشارع، وفي
"قعدة" الرجال الذين يطالبون بأن "النور يخش بلدنا"،
"ياعم المُهم المواصلات"، حيث لا تنفصل البطولة عن الواقع وعن الحلم
بمُستقبل أفضل يحقق فيه عبد العاطي حلمه المشروع، "دي محاسن خطيبتي وفي نفس
الوقت بنت عمي، خدت دبلوم التجارة الثانوية السنة دي، وأنا خدت شقة في منيا القمح،
وإن شاء الله حنتجوز فيها". إن هذا الفيلم الرائع يقدم لنا خيري بشارة مُخرجا
جيدا مُتمكنا في أول أفلامه الذي يبدأ فيه البداية الصحيحة بعد خمس سنوات من
الانتظار والفراغ بلا عمل بعد تخرجه في معهد السينما، وبعثته إلى بولندا، وشكرا
لأكتوبر؛ فلولاه لما أخذ الفرصة"[4].الطوق والإسورة
إذن، فمن خلال ما يؤكده السلاموني يتضح لنا أن خيري بشارة لم يكن بالفعل ينطلق من أفكار ذهنية خالصة يحاول من خلالها إلباس الواقع أفكاره المُجردة؛ لصناعة السينما كما يفكر فيها، بل سعى المُخرج، جاهدا، إلى صناعة سينما جديدة تنطلق من الواقع ليكون أداتها الأولى من دون إغفال الجوانب الإنسانية والاجتماعية المُحيطة، أي أنه ابتعد بالسينما التسجيلية عن التقريرية والدعائية- اللتين كانتا الميزتين المُميزتين لها- إلى سينما جديدة ومُختلفة عما هو سائد.
ربما كانت رغبة المُخرج في التجديد بعيدا عما هو موروث بالفعل في السينما
التسجيلية المصرية هو ما دفعه للحزن؛ لأن مُعظم نقاد السينما لم ينتبهوا إلى
الجماليات والتجديد الذي أحدثه في الفيلم التسجيلي الذي قدمه؛ وبالتالي انصب جل
اهتمامهم على الموضوع فقط من دون الشكل. في هذا الأمر يقول خيري بشارة: "كان
طموحي في فيلم "صائد الدبابات" أن أجمع بين قيمة الصدق في المادة، وبين
القيم الشكلية، فعلى سبيل المثال، حاولت بالنسبة لتكنيك تصوير المُقابلات السينمائية
أن أكسر ثبات الكاميرا وأن أُحررها؛ لتبدو المُقابلة، بجانب قيمة الصدق في المادة
ذاتها، حية ومثيرة للاهتمام من ناحية الشكل. باختصار كان طموحي أن أبحث عن حلول
أفضل بعيدا عن استاتيكية المُقابلة الأكثر استخداما، مع إيماني القاطع بأن قيمة
الصدق في المادة تسبق أعظم الاستخدامات التكتيكية براعة ومهارة، وأن هناك بعض
الأفلام التي نادرا ما تتحرك فيها الكاميرا، ولكنها تُعد تُحفا فنية تتوارى خلفها،
خجلا أو قسرا، أفلام تحركت فيها الكاميرات في كل اتجاه، وطارت دون أن تُحرك في
نفوسنا أدنى اهتمام. وقد حاولت أن أُجسد، مُهتما بالقيم البصرية، ذلك الجمال الذي
يكمن في المألوف والاعتيادي في حياة القرية، وحاولت أن أطرح بصورة أو بأخرى قضايا
خاصة بالشكل- شكل الفيلم التسجيلي وعلاقته بالواقع الذي يستمد منه وجوده- ومدى
إمكانية التحكم في هذا الواقع بالقدر الذي يسمح بتأكيد وتدعيم قيمة الصدق في
المادة الواقعية وإمكانياتها دون أن يجور عليها؛ فلقطات فيلم "صائد
الدبابات" لم تكن "مسروقة"، بمعنى أن الكاميرا لم تكن مُخبأة، وكان
الناس الذين يقفون ويتحركون، ويحلمون، ويتكلمون أمامها يعرفون بالفعل أنها موجودة،
وأنها تلتقط صورتهم، وتُسجل كلماتهم، والتحكم الذي أمكنني تحقيقه هنا، هو محاولة
لتعويض سحر التدفق التلقائي للواقع في اللقطات المسروقة، وهذا الذي حاولته عموما
ليس جديدا تماما بالنسبة للسينما التسجيلية خارج مصر، ولكن أعتقد أنه كان- إلى حد
كبير- مُتميزا في مسار حركة السينما التسجيلية المصرية، وللأسف فإن المشاكل الخاصة
بالشكل في هذا الفيلم لم تأخذ حقها كما يجب في مُعظم الكتابات عن الفيلم، وانصب
التركيز على المضمون أو التأثير النهائي لهذا الفيلم، ولا جدال، بالطبع، فإن هذا
التركيز أكثر أهمية رغم وقبل كل شيء"[5].الطوق والإسورة
ربما كان اهتمامنا بالحديث عن فيلم بشارة التسجيلي الأول نابعا مما ذهب إليه الناقد أحمد يوسف حينما حاول التأكيد على أن كل سينما بشارة- سواء التسجيلية منها أو الروائية- هي مُجرد سينما ذهنية، مرسومة في ذهن صانعها، ولا علاقة حقيقية لها بالواقع، وهو الأمر الذي ينفيه الواقع الذي رأيناه من خلال أفلامه التي كانت مُشتبكة اشتباكا حقيقيا مع هذا الواقع، نابعة منه، محاولة التحاور معه، وتقديم العديد من المُشكلات التي يعاني منها، بل والتعبير عما يعاني منه هذا المُجتمع، لاسيما جيل بشارة نفسه الذي عاش الثورة، والهزيمة، والانتصار، والانفتاح، أي أنه الجيل الذي عاش الأزمة بكل صخبها، وكل أحلامها الموءودة، وكل عبثية هذا الواقع؛ ولعل الدليل الدامغ على هذا الاندماج ومحاولة تقديم سينما تناقش هذا الواقع بشكل فعلي هو ما قاله عن فيلمه التسجيلي الثاني "طبيب في الأرياف" 1975م: "إذا كنت قد حاولت في "صائد الدبابات" أن ألقي بعض الضوء على العلاقة بين الإنسان والأرض بصورة كانت بسيطة، ومن قبيل الطرح التأملي لهذا الواقع؛ ففي فيلم "طبيب في الأرياف" حاولت أن أُحلل العلاقات أو الظروف التي تعيش فيها القرية المصرية، وأكثر الأوضاع حدة وبروزا في مُعاناة هذه القرية، والتي استحوذت على اهتمامي كانت هي الأوضاع الصحية فيها، وارتباط هذه الأوضاع بعلاقات مُتباينة ارتباطا عضويا، كالعلاقة الاقتصادية والاجتماعية، وبصورة تبسيطية العلاقة بين القرية والمدينة الصغيرة، وبين القرية والعاصمة، وبين الفلاح والأفندي، وهذه العلاقات جميعها مُركبة للغاية، وهي في النهاية ترتبط بفهم التقدم والتخلف. قدمت فكرة إلى المركز القومي للأفلام التسجيلية والقصيرة بتاريخ 15 مايو 1975م، وفيما يلي سطور الفكرة كما قدمتها: "يقدم الفيلم حياة طبيب شاب حديث التخرج يعمل في قرية مصرية، حيث نراه في عمله اليومي وفي أوقات فراغه، ونسمع منه مشاكله وأحلامه، في نفس الوقت الذي نستعرض فيه مُشكلات القرية وأحلامها، وقد يكون هذا الطبيب نموذجا لما يجب أن يكون عليه الفرد الذي يخلص لمُشكلات بلده ويتفهم جيدا واجباته القومية، وقد يكون نموذجا- كالأغلبية- للرغبة في الكسب المادي الوفير والحياة السهلة المُمتعة. عيادة في وسط البلد في القاهرة، أو أي مدينة كبيرة، وسيارة.. إلخ. ويدخل الفيلم في حوار جدل مع النموذج الذي يقع عليه الاختيار؛ ليوضح- باقناع ودون مُبالغة- أي حياة من الحياتين أجدر بأن يعيشها الطبيب الشاب- بل كل شاب- ليخدم وطنه الذي أنجبه وعلمه، وتبرز أهمية الفيلم إذا ما بدت هجرة شبابنا المُتعلم إلى الخارج تُمثل ظاهرة تُهدد مُجتمعنا الذي يسعى إلى تخطي التخلف- رغم ظروفه التاريخية الصعبة- وحتى إذا ما صدرت قوانين لتحد من هجرة بعض التخصصات- فإن حلم الهجرة أو حلم تكوين المرء لمُستقبله الذاتي في المدن الكبيرة- يسيطران على تفكير الكثيرين من أطبائنا الشبان- وغيرهم من الشبان حديثي التخرج في التخصصات الأخرى. باختصار، هذا فيلم يحاول أن يكشف الإيجابيات والسلبيات في واقعنا المُعاصر، وقد تبدو سلبية كالأنانية أو اللامبالاة التي يبديها الفرد نحو الآخرين أو المُجتمع من أخطر هذه السلبيات"[6].
أي أن بشارة نجح مرة أخرى في الاشتباك مع الواقع وتقديم فيلم مُهم عنه
ومُختلف عما يقدمه غيره من المُخرجين السابقين عليه، بل والمُجايلين له، وهو ما
أكده مرة أخرى الناقد الراحل سامي السلاموني في قوله: "بينما يبدو التسجيليون
التقليديون قد تجمدوا عند أساليبهم الخالدة، وتناولهم التقرير الزاعق، والساذج
أحيانا، للموضوعات التي يمطونها من باب "أداء الواجب الوظيفي"، ولمُجرد
الاستماتة للبقاء في الصورة، فإنك تستطيع أن تلمح أيضا- ورغم أنوفهم أحيانا- ميلاد
سينما تسجيلية مصرية جديدة. والفيلم الفائز بالميدالية الذهبية للمهرجان باعتباره
أحسن أفلام 1975م هو نموذج حقيقي لهذه السينما التسجيلية المصرية التي كان لا بد
لها أن تُولد. إن المُخرج الشاب خيري بشارة يخطو في فيلمه القصير الثاني
"يوميات طبيب في الأرياف" خطوة أكثر تقدما بكثير مما قدمه في فيلمه
الأول "صائد الدبابات". إنه يختار موضوعه بعناية هذه المرة، ويبدو أكثر
حرية في التعبير عن رؤيته الشخصية وأسلوبه الفني، وهما أهم دعائم الفيلم التسجيلي،
وهو من خلال تحقيقه عن حياة طبيب شاب في قرية نائية في أعماق الصعيد لا يقدم مُجرد
تقرير جاف عن حياة ومُعاناة هذا الطبيب كما يمكن أن نتوقعه، وإنما يقدم الشخص من
خلال المكان، أو العكس، فنحن لا نرى الطبيب كمُجرد مفتاح لتحليل الواقع الذي يعمل
فيه. إن الحركة هنا لا ترصد شخصا، وإنما تُحلل واقعا اجتماعيا مُختلفا بكل علاقاته
وتناقضاته وحقائقه المُخيفة التي تصرخ كي نغيرها. ونحن نتلقى هذا الواقع طازجا
حقيقيا بلا تزييف أو تزويق، ويبقى دور خيري بشارة مُجرد نقل هذا الواقع بالسينما،
ولكن ليس بهذا التصوير الفوتوغرافي، أو الفولكولوري الذي يتاجر فيه بعض التسجيليين
الزائفين بمظاهر التخلف؛ لكي يدهشوا به مهرجانات أوروبا ويفوزوا بجوائزها، وإنما
يحلل خيري بشارة هذا الواقع من داخله، وبمنطق فنان مصري يحب ما يرصده، وإن كان
يثور عليه لكي يصبح أفضل، وبلا أي استعراضات تكنيكية يحاول بها خداع الناس، وهذا
الحب والحس المصري الصادق هو الذي يجعله لا يُغفل حتى مواضع الجمال في قلب البؤس،
والضحكة الساخرة تنبع من المأساة كما هي أعجوبة حياتنا المُدهشة. وهو يقيم بناءه
التسجيلي على عناصر تستخلص المادة الروائية أيضا، واكتشاف الشخصيات الفريدة من بين
الناس العاديين كما يفعل مع مُنادي القرية؛ مما يؤكد أن خيري بشارة سيصبح أيضا
مُخرجا روائيا جيدا، يشاركه في فهم المادة التي يتعامل معها المصور الشاب الموهوب
محمود عبد السميع"[7].العوامة رقم 70
إذن فلقد استمر بشارة في صناعة أفلامه التسجيلية. كما بدأ عام 1976م في تصوير فيلمه الروائي الأول "الأقدار الدامية" الذي انتهى منه عام 1981م، ولم يُعرض سوى عام 1982م، وعن هذا الفيلم يقول بشارة في أحد حواراته الصحفية: "أنا كالذي يرقص على السلم؛ فقد حصلت بالفعل على فرصتي الأولى لإخراج فيلم روائي طويل وهو "الأقدار الدامية"، وبعد أن قطعت مُعظم خطوات العمل، ومنها إتمام تصويره، توقف العمل فيه لأسباب إنتاجية، فالمُنتج الذي تعاقد معي واسمه علي محرز هو شريك مع مُؤسسة السينما الجزائرية، والاتصالات تجري عن طريقه، وقد أوقف الصرف على الفيلم قبل إعداده للعرض، وبعد أن بذلت فيه كل جهدي؛ لأثبت أنني أستحق هذه الفرصة، ولكن ها أنا الآن حصلت ولم أفعل، حصلت على فرصة ولم ير أحد نتيجتها، لي فيلم روائي وليس لي في نفس الوقت، فهل هناك وضع أعجب من ذلك؟"[8].
إن عدم عرض فيلم "الأقدار الدامية" أدى إلى شكل من أشكال اليأس
لدى بشارة؛ وهو الأمر الذي جعله يفكر في الهجرة الجدية إلى نيوزيلندا، حيث أكد ذلك
في نفس الحوار السابق: "ما فائدة الكلام في هذه الظروف التي تدفعني إلى طريق
آخر تماما؟ وحينما سأله المُحاور عن الطريق الآخر الذي يقصده، وهل يقصد به أنه
يرغب في ترك الإخراج قال: لا، وإنما أترك هذا العالم كله، وأهاجر؛ علني أنسى،
إنني، حقيقة، أفكر في الهجرة إلى نيوزيلندا إذا استمر الحال على ما هو عليه؛ فهو
البلد الذي لم يغلق أبوابه بعد أمام المُهاجرين من بلاد العالم الثالث؛ فالبدء
هناك من جديد في أي عمل أفضل من البقاء بلا عمل سوى فيلم تسجيلي واحد كل عام أو
عامين، ومن هنا فإن الجائزة الكبرى التي حصلت عليها فجرت في داخلي ينابيع الألم
بأكثر مما كنت أعتقد عندما تحققت"[9].العوامة رقم 70
يتناول فيلم "الأقدار الدامية"- المأخوذ عن مسرحية "الحداد يليق بإلكترا" للمسرحي الأمريكي يوجين أونيل- حرب 1948م؛ حيث تبدأ أحداث الفيلم قبل حرب فلسطين عام 1948م وصفقة الأسلحة الفاسدة التي راح ضحيتها عدد كبير من أبناء الجيش المصري. يعيش أبطال الفيلم المأساة من خلال الأب الضابط الكبير "يحيى شاهين"، وزوجته الشابة التي تضيق ببعده عنها باستمرار "نادية لطفي"، ويشوب العلاقة بينها وبين ابنها "أحمد محرز" مشاعر من الحنان، بينما يسودها سوء الفهم بالنسبة لابنتها الشابة "المُمثلة الجزائرية "فاطمة بلحاج"، وتمضي السنون بأحداث كبرى منها قيام الثورة، وأحداث 1956م، وموت الوالد لاكتشافه خيانة زوجته مع رجل آخر "المُمثل الجزائري سيد علي كويرات" الذي هو في نفس الوقت عشيق الابنة، وتتواجه الاثنتان- الأم والابنة- وتنتهي المواجهة بالمصير المحتوم، ولا ينجو سوى الابن الذي يبحث عن الخلاص بعيدا وينضم إلى الجيش تاركا أخته وحدها في القصر؛ حيث تنهار وتستسلم للسائس.
نلاحظ في هذا الفيلم- الذي كان الفيلم الروائي الأول للمُخرج خيري بشارة- أن المشاهد التسجيلية تكاد أن تكون جزءا مُهما في صناعته، وتتجاور جنبا إلى جنب مع المشاهد الروائية، أي أن المُخرج الذي دخل عالم السينما الروائية من عالم السينما التسجيلية لم يستطع التخلص بعد من تأثير السينما التسجيلية عليه؛ الأمر الذي جعله يستعين بالعديد من مشاهدها أثناء صناعة فيلمه الروائي الأول. لكن، ليس معنى استعانة بشارة بالعديد من المشاهد التسجيلية التي تجاورت في فيلمه مع المشاهد الروائية أن هذه المشاهد قد أثرت على الفيلم بالسلب، بل كانت من أهم العوامل التي أثرت الفيلم وزادته غنى في الموضوع الذي يتحدث فيه.
إنه فيلم يريد من خلاله المُخرج الحديث عن الصراع العربي الصهيوني من خلال الربط بين هذا الصراع وبين الصراع الطبقي في مصر، أي أن الانهيار الطبقي الذي صوره المُخرج كان في جوهره نفس الانهيار الذي تعاني منه الدول العربية في صراعها مع العدو الإسرائيلي؛ لذلك فهو يريد التأكيد على أن الهزيمة الحقيقية لم تكن على الجبهة، بل في الداخل؛ فأثناء الحرب تخون علية/ الابنة حبيبها حسن مع كمال، كما تخون الأم زوجها مع نفس الرجل أيضا، وحينما يعود الزوج ويدرك ما حدث؛ يموت بالأزمة القلبية، وتحاول الابنة دفع أخيها سعد للانتقام من أمه بقتل العشيق؛ فتنتحر الأم، ولا يبقى سوى سعد الذي يعود إلى الاشتراك في الحرب مرة أخرى، بينما تستسلم علية- في مشهد يُدلل على الانهيار الطبقي التام- للسائس الذي يعاشرها، أي أن الانهيار الاجتماعي الكامل الذي يعاني منه المصريون يكاد يكون هو نفس أزمة الصراع العربي الصهيوني.
ربما نلاحظ بعض العناصر الميلودرامية في الفيلم الذي مال بأحداثه إلى القتامة، لكن رغم هذه العناصر الميلودرامية لم يسقط المُخرج في فخ الميلودراما، ولم تستطع السيطرة على الفيلم، بل كانت مُجرد أداة يحاول من خلالها بشارة تصوير الواقع، والسقوط الطبقي المُرتبط بقضية حرب 1948م.
إذن، فلقد نجح بشارة في تجربته الروائية الأولى في تقديم فيلم روائي مُتماسك وجيد يستطيع من خلاله مُعالجة الواقع والاشتباك مع قضاياه الراهنة، محاولا من خلال هذا الاشتباك الربط بين ما هو آني، وما هو ماضٍ في تاريخنا القريب. ولعلنا لا نستطيع إنكار أن بشارة كان من المُخرجين الذين يعملون على مُعالجة ما يمور به الواقع من مُشكلات قد تؤدي به إلى التصدع، كما كان يرى أن السينما لا يمكن لها أن تكون أداة تغييبية تتناسى ما يدور من حولها في محاولة منها لصنع عالم مُزيف لا علاقة له بالحقيقة، وهو ما يؤكده في أحد حواراته: "أنا الحقيقة ضد البدائل، الفيلم التسجيلي كبديل للسينما الروائية، أو الشعر كبديل لكذا، الأغنية كبديل للأوبريت، بشكل ما، لا يوجد شيء بديل عن آخر. إذا كان الفيلم الروائي يستطيع أن يعبر عن الواقع بصورة جيدة- طيب ليه لأ- ولكن، وليس هناك خطأ في فهم السؤال، ربما كان المقصود بالسينما الروائية تلك السينما التقليدية المبنية على الوهم وتزييف الواقع، تلك التي تقدم مُجتمعات مُنفصلة تماما بقضاياها عن واقع الطبقات الشعبية أو الوسطى بصفة عامة. يمكن أن أوضح فكرتي بتعبير مُختلف، السينما التسجيلية أفضل إنتاجا، أو النماذج الجيدة منها تفضح السينما الروائية، ليس فقط من ناحية التعبير عن الواقع، لكن الفضح يأتي من خلال القدر المُتاح لها من حرية التعبير مضمونا وشكلا، ويعطي لهم إحساسا- أي التسجيليين- لأي مدى هم مُختلفين عن هذه السينما، ولكن كونها بديلا، لا، إنما أفضل أن تكون السينما الروائية مثل السينما التسجيلية"[10].
في نفس العام- 1982م- نشاهد الفيلم الروائي الثاني للمُخرج- العوامة رقم 70- ورغم الإتقان الفني الذي قدم من خلاله بشارة فيلمه الأول- الأقدار الدامية- إلا أن فيلم "العوامة رقم 70" كان الفيلم الأكثر اكتمالا للمُخرج مما سبقه؛ فهو فيلم يتناول المُخرج نفسه وكل أبناء جيله. يتناول آمالهم، وطموحاتهم، وأحلامهم، وإخفاقاتهم، ويأسهم، وترددهم، وسقوطهم. كان الفيلم من أكثر الأفلام صدقا في التعبير عن الذات والواقع، والجيل الذي عاش الأحداث بكاملها منذ بدأت ثورة 1952م. هنا، رغب بشارة في التعبير عن رؤيته ومُشاهداته، ومُلاحظاته، وما يشعر به باعتباره جزءا لا يتجزأ من هذا الجيل الذي عاش الفترتين السياسيتين السابقتين وآثارهما المُدمرة على المُجتمع المصري بالكامل، والتحولات الخطيرة التي حدثت فيه؛ نتيجة هذه الأحداث المُتناقضة والمُتشابكة؛ لذلك فمن خلال الفيلم نلحظ أن البطل "أحمد الشاذلي" لا يمكن أن يكون سوى المُخرج خيري بشارة نفسه، أي أنه يتحدث في هذا الفيلم عن ذاته من خلال تجربة ذاتية يمزج فيها حياته الشخصية- كمُخرج للأفلام التسجيلية- بالعالم الروائي الذي يدور من خلاله الفيلم.
لعل في الحوار الذي أجراه الناقد يعقوب وهبي مع السيناريست فايز غالي- كاتب الفيلم- ما يُدلل بوضوح على أن بشارة كان يرغب في التعبير عن ذاته وعن جيله بالكامل من خلال هذا الفيلم حينما نقرأ سؤال يعقوب: "عن تجربتك الرابعة والعوامة رقم 70؟"، يرد غالي: "أثناء تصوير فيلم "ضربة شمس" 1978م جاءني المُخرج خيري بشارة، وقال لي: أريد أن أعمل معك فيلما، والحقيقة أني قبلت؛ لأني أعرف من هو خيري وأستطيع أن أقول أنه سيكون أهم مُخرج في خلال السنوات العشر القادمة، ليس لأنه من عالم الفيلم التسجيلي، أو لأنه حاصل على جائزة الدولة التشجيعية، أو لأنه أخرج فيلما روائيا طويلا لم ير النور بعد رغم قيمته، وإنما لما يتمتع به- من خلال التجربة التي دخلت فيها معه- من حساسية وفكر سينمائي لم أقابلهما إلا قليلا، وهذا ما وجدته في خيري بشارة. إنه مُخرج يجعلك تعمل وكأنك ستحصل على جائزة مهرجان "كان"، يرد عليه يعقوب وهبي: هذا عن المُخرج، أما عن الفيلم الذي بدأت في إعداده معه؟ يقول فايز: "كان في رأسه فكرة حول مُخرج تسجيلي وحياته ومُعاناته، وكانت هذه إرهاصة عن نفسه، وشعرت وكأنه يتحدث عن نفسه، وشعرت كأنه يتحدث عني أيضا، أو عن جيل الشباب من السينمائيين في أفكاره وأحلامه، ثم بدأت في كتابة المُعالجة، وبحثنا عن مُنتج، وعرضنا الأمر على مُنتج، ولكنه تخوف منها، ومع ذلك لم أيأس، وظللنا نعمل دون أي تعقيدات بيننا، وكان واثقا أنه ستأتي الفرصة إن آجلا أو عاجلا، وهكذا ببساطة جاءني المُخرج ذات يوم بمُنتج الفيلم، وكانت المُفارقة أن يكون هذا المُنتج شركة تصدير تُدعى "ميما" أصحابها مُحبون للسينما، ويريدون أن يصنعوا فيلما بكل الشروط التي يتمناها مُخرج كخيري بشارة، وعلى هذا لم أُدهش من طبيعة عملهم الأصلي، بل شعرت أننا قد توصلنا إلى حل المُعادلة الصعبة"[11].
يتناول فيلم "العوامة رقم 70" "أحمد الشاذلي" المُخرج
التسجيلي الذي يخرج فيلما عن أحد محالج القطن، ويلاحظ أثناء التصوير أحد العمال
الذي يراقبه عن كثب في كل تحركاته، ثم يلتقي به خارج المحلج، ويخبره أنه لديه
معلومات خطيرة عما يدور داخل المحلج. يدعوه أحمد للقاء في عوامة تحمل رقم 70 تقع
على نيل إمبابة. يذهب "عبد العاطي" إليه ويبلغه بمعلومات عن عمليات
تبديد للقطن في المحلج. هنا تهتم الصحفية "وداد"- خطيبة أحمد التي حضرت
المُقابلة- بالموضوع، وتتفق مع عبد العاطي على إبلاغ الشرطة في اليوم التالي، لكن
عند انصراف عبد العاطي يقوم عاملان من المحلج بقتله، وإلقاء جثته في النيل. يذهب
أحمد لزيارة أبيه في القرية التي جاء منها إلى القاهرة، ويلتقي وهو عائد إلى
القاهرة- مُصادفة- "بسعاد"- صديقة طفولته- التي تدعوه لزيارتها في شقتها
بالقاهرة؛ حيث تُقيم مع والدها المشلول. تتورط سعاد في علاقتها مع أحمد الذي يرفض
الزواج بها، ويُفاجأ أحمد بجثة عبد العاطي الغارقة تخرج من تحت العوامة. خلال
التحقيق يُدلي أحمد ووداد بما لديهما من معلومات، وتأتي أحمد فرصة عمل فيلم روائي؛
فيقرر أن يكون العامل المقتول هو قصة فيلمه، لكن المُنتج يضع شروطا تجارية رخيصة؛
حتى يربح الفيلم؛ فيرفض العرض، ويلتقي بعمه الذي ينصحه بأن يقبض على الجناة بنفسه؛
فيتوجه إلى القرية بحثا عن أحد العمال الذين اتهموه بقتل عبد العاطي، لكن العامل
يهرب منه، وتبلغ إدارة المحلج سُلطات التحقيق بأن أحمد هو المسؤول عن قتل عبد
العاطي؛ فيُقبض على أحمد ويوضع في الحجز مع المُجرمين الذين يتحرشون به، ويضربونه
بقسوة، لكنه يُفرج عنه؛ لعدم ثبوت شيء عليه، وكيدية البلاغ. يتأزم أحمد، ويحاول
فسخ خطوبته بوداد، لكنها تتمسك به وترفض تركه، وتدعوه ليكون أكثر إيجابية؛ فيقرر
أن يكون فيلمه التالي عن البلهارسيا المُصاب بها الكثيرون من الشعب المصري وعلى
رأسهم أخوه.فيلم كابوريا
إذن، فبشارة يقدم فيلما واقعيا يتحدث عما آل إليه أبناء جيله بالكامل؛ حيث
يُعبر أحمد الشاذلي عن هذا الجيل الذي يحلم بالكثير من الأمور، لكنه في الحقيقة-
نتيجة الكثير من الإحباطات التي مر بها- غير قادر على فعل أي شيء في الواقع؛ ومن
ثم تحولت شخصياته إلى شخصيات مُهتزة، مُترددة، مُحبطة، غير قادرة على فعل أي شيء؛
فهو يعرف أن عبد العاطي قد قُتل؛ لأنه أخبره بحقيقة ما يدور في المحلج، وأن
الإدارة متواطئة لحرق بقايا القطن في العلن، ويعلنون أن القطن قد حُرق بالفعل من
أجل بيعه لحسابهم، وبدلا من أن يأخذ موقفا إيجابيا تجاه هذا الأمر ويحاول كشف
الحقيقة وفضح ما يحدث في المحلج، يُفضل الانسحاب والتظاهر بأنه لا يعرف أي شيء عن
الموضوع، بل ويطلب من خطيبته وداد نسيان الأمر وعدم السعي وراء الحقيقة فيه، ورغم
أن إدارة المحلج تتهمه هو بالقتل، إلا أنه يظل في موقف المُتردد الخائف، غير
القادر على فعل شيء حيال ما يعرفه، أو ما يدور في الواقع. تبدو علاقات البطل في
هذا الفيلم كلها وكأنها علاقات قاصرة مُتقطعة الأواصر؛ فهو غير قادر على الانتماء
إلى القرية التي أتى منها، أو المدينة، علاقته بأبيه مُتذبذبة- رغم أنه يُمثل
الجانب الإيجابي- بينما علاقته بعمه- السكير في البارات- هي العلاقة الأقوى- رغم
أنه الأضعف في المقدرة على اتخاذ القرار- حتى علاقته بخطيبته مُتذبذبة لا يستطيع
اتخاذ القرار فيها. هو يريد أن يصنع فيلما تسجيليا من أجل كشف الواقع ومساوئه
وسلبياته، ورغم سعيه للحقيقة من خلال السينما، إلا أنه غير قادر على الصمود أمام
هذه الحقيقة في الحياة الحقيقية. لكن البطل لا يظل في هذه المنطقة الرمادية إلى ما
لا نهاية، بل تدفعه خطيبته وداد بكافة الطُرق كي يكون أكثر إيجابية، وهو ما نراه
في نهاية الفيلم بالفعل حينما نراه يُدخل لقطة عبد العاطي في سياق فيلمه أثناء
المُونتاج، ورغم أن المُونتير يعترض؛ لأن هذا ليس في سياق فيلمه، إلا أنه يُصر على
وجود عبد العاطي مع التعليق أثناء الفيلم على أنه قد قُتل، كما يسعى لصناعة فيلم
تسجيلي جديد عن البلهارسيا، أي أنه قد نجح في تجاوز أزمته الذاتية جدا وبدأ يتعاطى
مع هذا الواقع، الذي يدور من حوله، بشكل أكثر إيجابية.فيلم كابوريا
إن فيلم "العوامة رقم 70" من أهم أفلام الواقعية الجديدة اشتباكا مع هذا الواقع، وأكثر التزاما بآليات السينما الواقعية، والأكثر نضجا واكتمالا من الناحية الفنية، وهو فيلم يثبت فيه خيري بشارة مقدرته على تقديم أفلام روائية طويلة قادرة على تغيير وجه السينما المصرية التي غابت كثيرا في سباتها خلال فترة السبعينيات التي انحسرت فيها السينما الجيدة، وهو ما يؤكده السيناريست فايز غالي في حواره السابق مع يعقوب وهبي حينما يسأله وهبي: "رؤيتك في سيناريو العوامة رقم 70؟ فيرد غالي بقوله: إني أضع خبرة ثلاث عشرة سنة في كتابة السيناريو، وثقافتي السينمائية كلها، وعلاقتي بالسينما ذات المستوى الرفيع التي اكتسبتها أيضا من مُشاهدتي للأفلام في جمعيات ونوادي السينما، وكناقد سينمائي كان يبحث ويتطلع للأفضل ويحلم بسينما مصرية لها شأن بمعنى مُستجد في العوامة رقم 70 الخط البوليسي، ولكنه مُجرد خط يحرك الأحداث، لكن العلاقات الأساسية التي يدخل فيها البطل هي بناء الفيلم، وهي تُحدد مفهومه للواقع، كيف يؤثر ويتأثر به، كيف في النهاية تُغيره؛ لتجعله إنسانا مُختلفا، ومن هنا نحن أمام دراما سينمائية تتحرك على عدة مستويات، الأساس الأول والأخير هو الإيقاع بكل ما تشمله هذه الكلمة من معنى[12].
ربما كان تعبير أحمد الشاذلي عن هذا الجيل بالكامل هو ما دفع المُخرج إلى إطلاق اسم "العوامة رقم 70" على هذا الفيلم، فهو فعليا فيلم يُعبر عن جيل السبعينيات بالكامل وما حدث له من انهيار كل آماله وطموحاته وأحلامه؛ ومن ثم بات جيلا مُترددا، مُهتزا غير راغب في الاستقرار لدرجة أن البطل يُفضل السكنى في عوامة، وليس في مكان مُستقر، وهو دليل على عدم استقرار هذا الجيل وفشله في الفعل، أو عدم قدرته في فعل هذا الاستقرار.
عام 1986م يقدم بشارة فيلمه الروائي الثالث "الطوق والإسورة" المأخوذ عن رواية الروائي يحيى الطاهر عبد الله بنفس العنوان، وهو الفيلم الذي يدور في أقصى صعيد مصر حيث التخلف والخرافات تمتزج ببؤس الحياة، وحيث الحياة تبدو جامدة وساكنة تماما وتتكرر بشكل عبثي وكأنها لا يتقدم بها الزمن. تنتظر "حزينة" مع زوجها المشلول عودة ابنها من غربته في السودان، وتعاني هي وابنتها، وحفيدتها من بعدها، من ظلم المُجتمع وتمييزه ضد الإناث، سواء مع "فهيمة" التي تتزوج من رجل عاجز جنسيا، وتذهب بها حزينة إلى المعبد وتحمل، أو "فرحانة" الابنة التي تحمل سفاحا ويغضب عليها خالها.
في فيلم "الطوق والإسورة" يرغب المُخرج في نقاش مفهوم الخصوبة، وليس المقصود هنا بالخصوبة هو المفهوم المُباشر فقط أي الزواج والإنجاب، بل يقصد به أيضا خصوبة الأفكار، والحياة، والتغيير؛ فالحياة التي يصورها في أعماق الصعيد حيث قرية "الكرنك" هي مُجرد حياة دائرية. كل شيء فيها ينتهي حيث يبدأ، ويبدأ حيث ينتهي، لتعود الدائرة مرة أخرى إلى إحكام إغلاقها؛ فالأم، والابنة، والحفيدة مُجرد تجليات مُختلفة لحياة واحدة، وتنتهي بهم الحياة في نهاية المطاف نفس النهاية، بعد أن يكن قد عشن نفس شكل الحياة السابق لكل منهما، وهو ما نراه أيضا مع الأب والابن؛ فالابن المُنتظر عودته تنتهي به الحياة نفس نهاية الأب المشلول الموضوع في "قفة" ينقلونها من الظل إلى الشمس، ومن الشمس إلى الظل. أي أن بشارة يتناول هنا المُجتمع المُغلق الذي يجهل التغيير؛ ومن ثم لا يرغبه، كما أنه يعيش على الخُرافات الدائمة التي تعمل على المزيد من التغذية الأسطورية؛ لتتجه به نحو المزيد من الثبات؛ فرغم أن الابنة قد تزوجت من رجل عاجز جنسيا إلا أن الأم تأخذها إلى الشيخ "هارون" وتعود من عنده حاملا رغم عجز زوجها، أي أن الخرافة هنا تلعب دورا لا يمكن الاستهانة به في تشكيل ثقافة هذا المُجتمع وشكله. هذه الحياة الخرافية، التي تتكرر في شكل دورات لا يمكن لها أن تنتهي- ورغم هذا الدوران- تبدو من الخارج- إذا ما حاولنا الابتعاد عنها بالقدر الكافي من أجل رؤيتها بشكل شامل وكلي- وكأنها حياة استاتيكية لا يمكن لها أن تتحرك، أي أن الفيلم قدم مُجتمعا غريبا ساكنا، أبديا، تتكرر فيه المأساة إلى ما لا نهاية بشكل سيزيفي أسطوري.
هذه الاستاتيكية التي عبر عنها الفيلم يقول عنها خيري بشارة: "ما يشغلني من أول الفيلم تقريبا، وأيضا ما يشغلني في الحياة: لماذا يفتقر المُجتمع المصري إلى أشخاص مُتميزين ومُتوقدين؟ إذا تأملت المواطن المصري فأنت لا تستطيع أن تقول: هذا المواطن عاجز أو خامل، أو فاقد القدرة على التفكير والإبداع في أي تخصص، فلماذا إذن نحن كمُجتمع فقدنا القدرة على الإخصاب، وهو ما له علاقة في النهاية بالتقدم والتخلف، وما أخشاه هو انقراض الفرد المصري والعربي في القرن العشرين، وإحساسي أن ما سينقذنا من الانقراض هو عُمق التنوير، وإحساسي أن هذا ما عبرت عنه في فيلم "الطوق والإسورة" أي لماذا يبقى "الحال دايما هو الحال"، لماذا لا يريد الناس أن يتغيروا، لماذا- وهؤلاء الناس لديهم كل هذه القدرات- يصبحون عاجزين، وغير قادرين على الفعالية والإخصاب، والفيلم في النهاية عن هذه الأطواق والأساور التي تُكبلنا وتمنعنا من أن نكون مُخصبين، ومن التقدم إلى الأمام"[13].
لكن، رغم أهمية هذا الفيلم في تاريخ السينما المصرية، ورغم التفات جميع النقاد- تقريبا- له واحتفائهم به؛ للغته السينمائية وأهمية ما ناقشه، وكيفية تقديمه ذلك يهاجمه المُخرج حسن الإمام في مجلة روز اليوسف: "يقول حسن الإمام تعقيبا على فيلم "الطوق والإسورة" للمُخرج خيري بشارة: يُقاس نجاح الفليم بثلاثة: البكاء، أو التصفيق، أو الضحك، وقد شاهدت "الطوق والإسورة" داخل دار العرض؛ فلم أبك، أو أُصفق، أو أضحك، ونظرت إلى جواري؛ فوجدت الحاضرين لم يزد عددهم على أصابع اليدين، وليست هناك دمعة، أو ضحكة، أو تصفيقة. شيئا فشيئا بدأ يتسرب الجمهور من دار العرض، ولم يصمد حتى النهاية سوى اثنين فقط هما أنا وزوجتي التي لم تشأ- مشكورة- أن تتركني نهبا للوحدة والصقيع في دار العرض، لكنها أخذت عليّ تعهدا بألا أعاقبها مرة أخرى، وأنا، في العادة، لا أملك إلا تنفيذ رغبات "الحكومة""[14]. أي أن المُخرج حسن الإمام حاول الحكم على فيلم بشارة- المُهم- من خلال المقاييس التجارية فقط، وليس من خلال المقاييس الفنية، أو أهمية ما قدمه بشارة في هذا الفيلم الذي يُعد من أهم أفلام السينما المصرية، لكن، رغم هذا الهجوم من الإمام، ورغم هجوم بعض النقاد الآخرين عليه سواء في هذه المرحلة، أو في المرحلة الثانية التي بدأها عام 1990م مع فيلمه "كابوريا". نقول: إن بشارة كان عنيدا لا يمكن له أن يقدم سوى السينما التي يقتنع بها فقط، أي السينما التي يرى أنها تستحق أن يصنعها، ويرى أنها ستُجدد في مسار وتاريخ السينما المصرية.
ربما نلمح هذا الإصرار لديه في حواره مع الناقد اللبناني الراحل سمير نصري
لجريدة النهار اللبنانية حينما يقول له نصري: "لمست جدا تناوب لحظات السرد
القصصي ولحظات التأمل والاسترسال، وأتساءل: هل يلعب الجمهور اللعبة ويتبع اللحظات
التي يشط فيها خيري بشارة؛ ليتأمل؟ أرى بوضوح تيارين. متوازيين أحيانا، ومُتداخلين
أحيانا: دراميا وتسجيليا تأمليا. هل تتبعك الناس في لعبتك؟" هنا يرد عليه
بشارة بقوله: "أتذكر كلمة قاسية قالها لي المُونتير الموهوب عادل مُنير. قال:
أنت تسير في سكة محفوفة بالمخاطر، قد تكون في النهاية ضحيتها. كان يتحدث عن
السينما المُختلفة التي نصبو إليها، ونُصرّ عليها، وفي النهاية هو مُحتاج إليها.
كل أمة يُقاس ثقلها وقيمة حضارتها بما هو مُختلف. في فرصوفيا وباريس وغيرهما لديك
سينما عادية ومسرح تجاري وكتب تجارية، وهذا طبيعي ووارد ومقبول، وهناك ما يصنع ثقل
أمة وحضارة أمة، وهو المُختلف. ولا أرغب في صورة الضحية المُضحية، إنما- وأنا أعرف
مقدرتي وموهبتي وصبري- رافض كذلك أن أكون عاهرة. أحيانا نمر بصراع داخلي أكان أحمد
قاسم، أو داود عبد السيد أم غيرهما، وفي الختام مرة أخرى لسنا عاهرات، لسنا قادرين
أن نكون عاهرات، أحمد قال لي: أفضل أن أُترجم من الفرنسي إلى العربي؛ كي أتمكن أن
أعيش على أن أقبل بصنع أي سينما هي في وسع مئة واحد. المسألة قدرة وموهبة وحدود،
ولكثيرين دورهم في السينما التي نريدها: دور المُثقفين، دور النقاد، دور الجمهور،
لا بد أن يساعدوا هذه السينما"[15].يوم مر يوم حلو
مرة أخرى في عام 1988م يجذب بشارة الجمهور والنقاد؛ ليشيدوا به من خلال مُغامرته الرابعة في فيلم "يوم مُر.. يوم حلو"، وهو الفيلم الذي يبدو من خلاله المُخرج قد وصل إلى ذُرى النضج السينمائي والفني بصناعته لهذا الفيلم الذي ما زال نقاد السينما يعتبرونه مثالا لصناعة سينما جيدة، ومن أهم ما قدمه جيل الواقعية الجديدة في الثمانينيات، ورغم أن الفيلم قد يميل بكفته باتجاه الميلودراما؛ نظرا لأنه يمتلئ بالفواجع التي تمر بها الأم، ولضعف شخصياته في الفيلم أمام القدر، إلا أنه نجح في عدم السقوط داخل دائرة الميلودراما المُغلقة التي تستدر الدموع من المُشاهدين، أي أن مُشاهد هذا الفيلم لن يبكي، بالتأكيد، على الكثير من المآسي التي تمر بها هذه الأسرة، لكنه لا بد له أن يتفاعل معها إيجابيا.
إنه فيلم يتأمل الواقع تأملا مليا بهدوء ووقار، ويتفاعل ويشتبك مع هذا الواقع الرازح بثقله على المُجتمع المصري في الثمانينيات؛ حيث الفقر، والعوز، والحاجة الشديدة، وعدم القدرة على مواجهة الحياة ونكباتها رغم المحاولة الدائمة. يتناول الفيلم قصة الأم "فاتن حمامة" التي مات زوجها وترك لها أربع بنات وابنا واحدا؛ ومن ثم تحاول هذه الأم إنقاذ أسرتها من الانهيار وتعمل على أن تكافح بكل الطرق المُتاحة؛ كي تستمر هذه الأسرة وتبتعد بهم عن الضياع، لكن ظروف الحياة دائمة لا تساعدها؛ فنرى البنت الأولى عاملة في مصنع وتحب جارها النجار الذي سافر إلى الخليج، وعاد إلى نقطة الصفر قبل أن يذهب، والثانية التي يطاردها جارها الميكانيكي لكنها لا تحبه؛ فتهرب وتتزوج من الذي تحبه وتنجب منه، والثالثة التي توقفت عن التعليم وتعلمت حقن المرضى، والرابعة المريضة، لكنها رغم ذلك تواصل التعليم في مراحله الأولى، بينما الابن يدرس بدوره، لكن الفقر يدفع أمه إلى أن تطلب منه التوقف عن التعليم من أجل العمل؛ فيفعل مُضطرا. نحن هنا أمام أسرة مصرية تعاني الكثير من الحاجة والفقر، والمطلوب من الأم الأرملة هنا أن تحافظ عليها؛ لذلك نرى الأم تحاول، بقدر إمكانها، لم ّشمل أسرتها، والإنفاق عليها من خلال الطرق المُتاحة والمشروعة، لكن الحياة كثيرا ما تواجهها بالكثير من النكبات المُفجعة، مثل اعتداء زوج الكبرى التي تزوجت من العامل الذي عاد من الخليج على الابنة الثالثة وهربه؛ الأمر الذي يدفع الأخت الكبرى للانتحار نتيجة شعورها الكبير بالذنب تجاه شقيقتها، أي أن الفيلم كان يحمل داخله بالفعل عوامل الميلودراما التي كان من المُمكن لها أن تجنح به إلى الإغراق فيها، لكن المُخرج خيري بشارة كان من الذكاء والعقلانية ما جعله يمر بفيلمه بعيدا عن ذلك؛ نتيجة تأمله لما يدور داخل العالم الفيلمي، أي أن الفيلم كان عبارة عن نظرة تأملية طويلة للواقع، وما يحدث للعديد من الأسر من دون المُغالاة في عرض هذا الواقع. صحيح أن الفيلم كان ناجحا إلى حد كبير من هذه الناحية، لكنه كان مُغرقا في الحوار من خلال الأمثال الشعبية، وهو ما أضعف حوار الفيلم إلى حد ما؛ بسبب إصرار السيناريست والمُخرج على هذا الحوار المُعتمد على الأمثال الشعبية التي لا مُبرر لها داخل الفيلم.
حول هذه النزعة الميلودرامية التي تطل برأسها داخل الفيلم، رغم عدم سيطرتها عليه، يقول المُخرج في حواره مع محمود الكردوسي حينما سأله: "اعتلى فيلم "الطوق والإسورة صهوة الواقع وحلق في جو من الشاعرية والغموض الجميل، وكان فيلم "يوم مُر.. يوم حلو" شديد الجهامة والميلودرامية. ما رأيك؟ يرد بشارة: أريد، مبدئيا، أن أتحدث عن عملية الإبداع بالنسبة لي ولبعض من أبناء جيلي، نحن لا نعمل بالطريقة التقليدية، أي أن تكون هناك فكرة أو قصة تتم صياغتها بشكل احترافي؛ لتحويلها إلى سيناريو طبقا لمواصفات ثابتة ومُستقرة، ولكن في عملنا- مُخرجين وكتابا- دائما ما يحدث عراك وصراع مع المادة الواقعية، صراع ومُعاناة حقيقية، نحب ونكره ونتأزم؛ لكي نصل إلى صيغة نهائية لسيناريو الفيلم، وهذا الجدل العنيف لا ينطلق من مواصفات مُحددة وثابتة، فنحن بالأساس جيل مُتمرد نحاول أن نصنع ما أسميه "سينما مُختلفة". وبالنسبة لمسألة "الجهامة" فإنني أتساءل: هل يمكن إلقاء اللوم على "ماكبث" أو "هاملت" مثلا بسبب جهامتهما؟ طبعا قد يقول قائل: إن هذه الجهامة هي سمة من سمات العصر الإليزابيثي، ولكن ما قولك في الدراما الحديثة من هنريك أبسن إلى الآن؟ فلأكن جهما؛ لأنني لست الصانع الأوحد للسينما، وقد أشعر فجأة باحتياج شديد لتقديم ملهاة أو عبث، ونحن كجيل لا ننطلق في صناعة الأفلام إلا من هذا الاحتياج. قد نكون مُدانين أمام شعب مُجهد يريد أن يستمتع بحياته وبالسينما التي يراها، ولكن هذا هو احتياجنا الفعلي كمواطنين، وليس فقط كصُناع أفلام. فأنا مُتحفظ على مسألة "الجهامة"، وإلا علينا من باب أولى أن نرفض النسبة الغالبة من الإبداع الدرامي في تاريخ الإنسان. أما اتهام الفيلم بالميلودرامية فهو في رأيي نوع من "الاستسهال" في قراءته والتعامل معه. هناك فرق بين العمل الميلودرامي، وبين أن أستخدم عناصر ميلودرامية؛ لأبني عليها فيلما غير ميلودرامي. هذه نقطة مُهمة تحتاج إلى تأمل حقيقي؛ لأن أفلامنا ليست خارجة من فراغ، ولها علاقة وثيقة بثقافتنا، وليس فقط باحترامنا لمهنة السينما"[16].
إذن، فبشارة يؤكد هنا اشتباكه الحقيقي مع الواقع من أجل تقديم سينما واقعية
صادقة تحاول تأمله وعلاجه، بدلا من تزييف الواقع وتغييب المُشاهد في أفلام لا
علاقة لها بما يدور في الحقيقة؛ لذلك فهذا الاشتباك مع الواقع لا يمكن أن يكون
بعيدا تماما عن بعض العناصر الميلودرامية، لكن الأهم هنا- مع الاستعانة ببعض هذه
العناصر- عدم وقوع الفيلم في النهاية في الميلودراما، ويصبح مُغرقا فيها، غير قادر
على الخلاص منها.يوم مر يوم حلو
نجح بشارة، في فترة الثمانينيات، في تقديم أربعة أفلام روائية مُهمة، كل منها مثل علامة مُتميزة في مسيرة السينما المصرية الجديدة في تعبيرها عن الواقع الذي وصل إليه المُجتمع المصري بمشاكله وهمومه، وآماله، وطموحاته، وإخفاقاته، أو نجاحه، لكن، يبدو أن التمرد لدى المُخرج خيري بشارة لا يمكن الخلاص منه، وهذا التمرد ليس قاصرا على الشكل أو المضمون السينمائي فقط، ولم يقتصر كذلك على التمرد على الواقع، بل وصل إلى التمرد على نفسه أيضا، ورغم أنه كان من أنجح المُخرجين بما قدمه من الأفلام السابقة، إلا أنه رغب في التمرد على هذا الاتجاه، وهذا الشكل من الأفلام التي سبق أن قدمها؛ فبدأ مرحلة سينمائية جديدة تختلف كليا عما سبق أن قدمه سواء من ناحية الشكل أو المضمون، صحيح أنه غيّر الشكل السينمائي تماما، لكنه من ناحية المضمون لم يشتط بحيث يكون بعيدا كل البعد عن نقاش الواقع في أفلامه، بل ظل يناقش مُشكلاته ويشتبك معها، ولكن من خلال تقديم جديد، وتأمل مُختلف لما يدور من حوله.
بدأ خيري بشارة هذا التمرد، وهذا المسار الجديد حينما قدم فيلمه "كابوريا" 1990م الذي كان بمثابة الانقلاب الحاد لمسيرته السينمائية سواء فيما يقدمه- فيما بعد- أو في علاقته مع نقاد السينما الذين انقلبوا عليه انقلابا حادا بدورهم؛ ومن ثم نال من الهجوم الضاري ما لم يكن يتوقعه، أو يُوجه إليه من قبل. إلا أنه أصرّ على تقديم ما يراه هو وما يرغبه من سينما تخصه واستمر في اتجاهه الجديد في مرحلة التسعينيات.
محمود الغيطاني
مجلة نقد 21
عدد أغسطس 2022م
من كتاب "صناعة الصخب: ستون عاما من تاريخ السينما لمصرية 1959- 2019م"
الجزء الثاني من الكتاب
[1] انظر كتاب "خيري بشارة: فيلم طويل عن الحياة" إعداد الناقد أحمد شوقي/ الكتاب ص 13/ من إصدارات المهرجان القومي للسينما المصرية/ 2017م.
[2] انظر مقال الناقد أحمد يوسف "خيري بشارة: العالم من خلف زجاج ملون"/ مجلة الفن السابع/ المجلة ص 19/ العدد الخامس/ إبريل 1998م.
[3] انظر كتاب "خيري بشارة: فيلم طويل عن الحياة" إعداد الناقد أحمد شوقي/ الكتاب ص 13/ 14/ مرجع سبق ذكره.
[4] انظر كتاب "خيري بشارة: فيلم طويل عن الحياة" إعداد الناقد أحمد شوقي/ الكتاب ص 15/ مرجع سبق ذكره.
[5] انظر المرجع السابق ص 15- 16.
[6] انظر المرجع السابق ص 17- 18.
[7] انظر كتاب "خيري بشارة: فيلم طويل عن الحياة" إعداد الناقد أحمد شوقي/ الكتاب ص 19/ مرجع سبق ذكره.
[8] المرجع السابق ص 28.
[9] المرجع السابق ص 29.
[10] انظر المرجع السابق ص 31.
[11] انظر كتاب "خيري بشارة: فيلم طويل عن الحياة"/ الكتاب ص 32/ مرجع سبق ذكره.
[12] انظر المرجع السابق ص 32.
[13] انظر المرجع السابق ص 40.
[14] انظر المرجع السابق ص 43.
[15] انظر المرجع السابق ص 45.
[16] انظر كتاب "خيري بشارة: فيلم طويل عن الحياة" إعداد الناقد أحمد شوقي/ الكتاب ص 47/ من إصدارات المهرجان القومي للسينما المصرية/ 2017م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق