الأربعاء، 31 يناير 2018

البر التاني.. المال لا يغني عن الجهل بصناعة السينما


بوستر الفيلم
ثمة سؤال لابد من سؤاله للمخرج علي إدريس والسيناريست زينب عزيز عند مشاهدة فيلمهما الأخير "البر التاني" وهو: هل سبق لأي منكما مشاهدة الفيلم الجزائري "حرّاقة" 2009م Harragas للمخرج مرزاق علواش؟
ربما كان هذا السؤال من الأهمية بمكان قبل الحديث عن فيلم "البر التاني" ومدى فنيته من عدمها؛ نظرا لارتباط موضوع نفس الفيلمين بل وتطابقهما تماما.
يتحدث فيلم علواش عن مجموعة من الشباب الذين يعرضون أنفسهم للخطر حينما يختارون الهجرة في مركب صغير عبارة عن طوف في مغامرة غير محمودة العواقب، ورغم ذلك يفضلون هذه المغامرة على الحياة التي يحيونها في بلادهم آملين بحياة كريمة تتمثل في فعل الهجرة التي تصبح مرادفا للانتحار، ويحاول هؤلاء الشباب عبور البحر المتوسط من "مستغانم" في الجزائر إلي "الميريا" في إسبانيا، وبالتأكيد يمكن للمرء أن يتنبأ بما ينتظرهم هناك، فإما القبض عليهم لدى وصولهم، أو الحياة كمهاجرين غير شرعيين لو تمكنوا من الفرار من حرس السواحل، وذلك في حالة إذا لم يُعثر علي جثثهم على شاطئٍ ما أو أن يُفقدوا إلي الأبد.
رغم أهمية المخرج الجزائري مرزاق علواش في السينما الجزائرية، ورغم أنه من المخرجين الذين قدموا العديد من الأفلام التي كانت بصمة خالدة في تاريخ هذه السينما، إلا أنه حينما قدم هذا الفيلم أخفق كثيرا في تقديم فيلم جيد، وكان من أسوأ ما قدمه على مدى تاريخه الفني الطويل المتخم بأفلام فنية مهمة منها فيلم "عمر قتلاتو الرجلة" 1976م، و"السطوح" 2013م، و"مدام كوراج" 2015م، وكلمة "حراقة" مستخدمة في المغرب العربي للحديث عن المهاجرين غير الشرعيين الذين يحرقون أوراقهم قبل المغادرة حتى يصبح التعرف على أصولهم وإعادتهم إلى بلادهم أمرا معقدا لدى السلطات الأوروبية.
بوستر الفيلم الجزائري حراقة
يأتي سؤالي للمخرج والسيناريست عن رؤيتهما لهذا الفيلم من عدمها نتيجة الإخفاق والفشل الفني الذي مُني به الفيلم الجزائري الذي تحدث عن نفس الموضوع وبطريقة تتشابه مع نفس طريقة علي إدريس إلى حد بعيد؛ حيث سادت الفيلم الجزائري في نصفه الأولى درجة من الرتابة والملل اللذين لا يمكن احتمالهما، وهما نفس الرتابة والملل اللذين سادا فيلم علي إدريس في فيلمه "البر التاني"، كما أن النصف الثاني من الفيلم الجزائري قد تم تصويره بالكامل في البحر مثلما حدث تماما مع فيلم علي إدريس، وإن كان الفيلمان قد فشلا على المستوى الفني في جذب المشاهد، بل جعلاه راغبا في انتهاء الفيلم إثر كل مشهد من مشاهده؛ نتيجة الإيقاع البطئ، والمشاهد غير الفنية المفتقدة للحيوية، ولسذاجة المبررات الفنية، والتقليدية في التناول الفني التي نبعت من تقليدية القصة، مما يدفعنا للتساؤل: لم أراد علي إدريس تكرار الفشل الذي مُني به علواش لفشل آخر يخصه؟!
كما أن قصة الهجرة غير الشرعية بحرا على طوف أو مركب صيد هي فكرة تناولتها السينما المغربية بشكل كبير حتى أنها قتلتها بحثا، ومنها الفيلم المغربي "الأندلس مونامور" للمخرج محمد نظيف وغيره من المخرجين الذين قدموا العديد من الأفلام عن موضوع الهجرة إلا أن معظم الأفلام التي تحدثت عن هذا الموضوع قد باءت بالفشل الفني؛ لأن معظم هؤلاء المخرجين لم يقدموا أي شكل فني في الموضوع واعتمدوا على الجانب الإرشادي والوعظي والتحذيري للشباب المقبلين على هذه الهجرة، أي أنهم أرادوا أن يقولوا لهم في نهاية الأمر: إذا ما أقبلت على هذا الفعل؛ فمصيرك الذي لا شك فيه هو الموت غرقا.
ربما كان هذا الجانب الوعظي أو الإرشادي، أو التحذيري هو أبعد ما يمكن أن يكون بالنسبة لأي شكل من أشكال الفنون، لاسيما فن السينما الذي يعتمد على الصورة ويبتعد تماما عن الخطاب المباشر من صناع الفيلم للمتفرج، لكن الكارثة الحقيقية أن كل من حاول تناول ظاهرة الهجرة غير الشرعية التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية آثر أن يكون مباشرا وتقليديا وواعظا؛ مما أدى به في النهاية إلى الوقوع في الفشل الفني تماما، ومن ثم مر فيلمه كأنه لم يكن.
يبدأ فيلم "البر التاني" في قرية من القرى التي يبدو على أهلها الفقر الشديد بشخصية "سعيد" محمد علي- فني تكييفات- الذي يعود إلى قريته وأهله بعد سنوات من الغياب، ويتضح لنا فيما بعد أنه قد ترك عمله؛ لأنه قد شعر بالتعب من هذا العمل؛ لأن صاحب العمل يجعله يحمل الكثير من الأجهزة وكأنه حمالا، ومن ثم استدان مبلغا ماليا كبيرا من أجل الهجرة إلى إيطاليا. هنا يبدو لنا الأمر كما قدمه الفيلم غير مريح أو منطقي لكل من يشاهده؛ فمبرر الهجرة غير الشرعية إلى إيطاليا بالنسبة لسعيد لا يمكن أن نقتنع به لاسيما وأنه هو من ترك العمل لشعوره بالتعب فيه، وبهذا المنطق إذا ما شعر كل شخص بالتعب من عمله وتركه للتفكير في الهجرة سيهاجر كل أبناء الوطن العربي، كما أن سعيد حينما عاد إلى عائلته الفقيرة التي تكسب قوتها من "تقميع" البامية أنفق عليهم ببذخ شديد غير منطقي وغير مبرر مع تقاعده من العمل والاستدانة من أصدقائه من أجل الهجرة، فمن أين كان يأتي بهذه الأموال التي ينفقها على أسرته ببذخ قبل سفره؟ هل هي من الأموال التي استدانها؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف سيسافر بينما هو ينفق مما استدانه بمثل هذا الشكل؟ لاسيما وأن هناك مشهدا آخر رأينا فيه أمه تجمع النحاس- الذي كانت تحتفظ به لبناتها من أجل زواجهن- كي تبيعه وتساعد ابنها سعيد من أجل إكمال المبلغ المطلوب للهجرة. هنا بدت الكثير من النقاط غير المنطقية وغير المبررة في السيناريو الذي كتبته زينب عزيز مما جعلنا نتساءل كثيرا أثناء الفيلم، وهو ما يصرف ذهن المتفرج عن المتابعة من أجل التساؤل، ولعل هذا عيبا خطيرا من عيوب السيناريو التي تجعل المشاهد ينصرف عن المتابعة.
من الفيلم الجزائري حراقة
من خلال المونتاج المتوازي Cross Cutting يستكمل الفيلم قصة الشباب الراغبين في الهجرة غير الشرعية وحيواتهم الفقيرة التي تدفعهم إلى مثل هذه الهجرة، وهنا نرى "مجدي" محمد مهران الذي يعمل نجارا، وليس له أخوة؛ لذلك ترتبط به أمه ارتباطا شديدا، لكنه يرغب في الهجرة رغم رفض أمه، وحينما يمرض مرضا غير مبرر وغير مفهوم ويخبرها الطبيب أنه مرض نفسي ومن ثم عليها أن تطيعه فيما يريده نراه يشفى فجأة من المرض حينما توافق الأم على سفره إلى إيطاليا. هنا لم يكن هناك أي مبرر مقبول من أجل الهجرة إلى إيطاليا سوى أن المخرج والسيناريست يرغبان في هجرة مجدي فقط؛ وبما أنه وحيد أمه فمن الأجدى أن يكون بينهما لونا من الارتباط الذي يجعله غير راغب في تركها لحظة واحدة، كما أن التمهيد الذي حاولته السيناريست من أجل مجدي لم يقنع طفلا بأنه لابد له من الهجرة وترك أمه، لكن الفيلم رغب في هجرة مجدي وبالتالي سافر رغما عن أنف الفيلم والمشاهد غير المقتنع بهذا السفر.
أما الشخصية الثالثة فهي "عماد" عمرو القاضي المتزوج حديثا والذي ينتظر طفلا ولا يجد أي شكل من أشكال العمل؛ مما جعله يلزم منزله طول الوقت مع زوجته لعدم وجود مال، ربما كانت هذه الشخصية هي الشخصية الوحيدة التي اقتنعنا بمبرر هجرتها غير الشرعية حيث لا يوجد القليل من المال الذي يجعله يغادر منزله لأي سبب، كما أن انتظاره لطفل جديد يكون مبررا قويا للسفر مع فقره الشديد، وهنا قامت الزوجة ببيع ذهبها الذي تمتلكه، بالإضافة إلى الذهب الذي ورثته عن أمها بالشراكة مع شقيقاتها بعد أن كتب مجدي "وصولات أمانة" للشقيقات وأزواجهن بالمبلغ وسافر.
من الفيلم الجزائري
لعل متابعة الشخصيات الثلاث التي رسمها السيناريو وهي الشخصيات التي ظل المخرج يقدمها لنا في الجزء الأول من الفيلم؛ من أجل تقديم حياتهم ومبررات سفرهم إلى إيطاليا جعلنا نشعر بالكثير من الممل في النصف الأول من الفيلم البالغ 99 دقيقة، لاسيما أن استعراض هذه الشخصيات وحياتها قد استهلك ما يقرب من الخمسين دقيقة في نصف الفيلم الأول، مما دفع الفيلم للوقوع في الرتابة والممل والإيقاع الثابت الذي لا يتحرك، كما أن الفيلم لم يكن يقدم أي جديد من أجل تنامي السيناريو ودفعه إلى الحيوية، بل هناك العديد من القصص المتوازية التي لا تلتقي مع بعضها البعض ولا تتشابك؛ الأمر الذي جعلنا نرغب في انتهاء الفيلم بأي شكل من الأشكال، أو محاولة المخرج تقديم أي جديد من خلال العلاقات بين الشخصيات، أو الانتقال بالشخصيات إلى البحر من أجل أن يكتسب قدرا من الحيوية.
كما أن الفقر الشديد الذي قدمه المخرج في فيلمه وعدم المقدرة على الحصول على أي شكل من أشكال المال بالنسبة للقرية بالكامل كان من الأمور المبالغ فيها كثيرا. صحيح أننا نعلم بوجود عدد ضخم من المصريين يعيشون في حالة فقر مدقع، ولكن ليس بمثل هذه الشكل المبالغ الذي حاول وصفه وتقديمه، أي أننا شعرنا بالمخرج يحاول اللعب على مشاعر الجمهور من أجل استدرار شفقته وتعاطفه مع الأبطال بأي شكل، وهي طريقة لا تنتمي إلى فن السينما؛ لأن التعاطف مع الأبطال لا يكون بمثل هذا الشكل من المبالغة بقدر تقديم عمل فني يستطيع السيناريو المتنامي من خلاله اجتذاب المشاهد والتعاطف الحقيقي مع شخصياته.
من الفيلم الجزائري
ذهب بنا الظن في النصف الثاني من الفيلم أنه سيكون أكثر حيوية ويتغير إيقاعه إلى ما هو أفضل، لكن السيناريو الذي تشوبه الكثير من العيوب أدى إلى فشل هذا الظن، فمركب الصيد الذي تم التصوير فيه في عمق البحر لم يبدُ لنا مركبا من أجل تهريب العمالة بطريق غير شرعي بقدر ما بدا لنا ديكورا مصنوعا في عمل فني؛ فالممثلين والمجاميع جالسة تتسامر مع بعضها البعض من أجل حكي الحكايات بينما تتخلل هذه الحكايات بعض "الفلاشات باكات" Flash Back التي لم يكن هناك أي داع لها إلا إكمال الثغرات في السيناريو التي كانت موجودة في النصف الأول من الفيلم، كما أن السيناريو وقع في العديد من الأخطاء كذلك؛ فقبل ركوب الجميع في المركب طلب منهم المهرب إعطائه كل أوراقهم والأموال المصرية التي معهم بحيث لا يبقى معهم سوى الدولارات فقط حتى إذا ما تم القبض عليهم لا يتم التعرف على هوياتهم، ولكن بمجرد الصعود إلى المركب نجد أحدهم يقف ليخبر الجميع أن من يرغب في الاطمئنان على أهله من خلال الموبايل عليه أن يدفع خمسة جنيهات مقابل المكالمة، فمن أين أتوا بالأموال المصرية وهم على عرض المركب بعد تسليم هذه الأموال المصرية، وكيف يمكن إتمام مكالمة من خلال الهاتف المحمول في عمق البحر؟ وكيف ظل الهاتف المحمول يعمل في حين أن الجميع قد نزل بملابسه بالكامل إلى عرض البحر من أجل الصعود إلى المركب؟ أي أن الهاتف لابد أن يكون قد تلف إذا ما تغاضينا عن أنهم في عمق البحر وبالتالي لا توجد شبكات للاتصال.
كذلك مشهد تسرب المياة إلى عمق المركب من خلال ثقب ما لم يكن مقنعا حينما تحدث قبطان المركب بشكل مفتعل فيه الكثير من الأداء المسرحي ليخبر معاونه أنه ما كان يجب أن يؤجر هذه المركب المتهالكة وكان من الأجدى به أن يؤجر مركبا أخرى أكثر حداثة، هنا بات الأمر وكأن المخرج والسيناريست يريدان إخبارنا بالأمر لكنهما لم تكن لديهما طريقة فنية من خلال الأحداث والصورة لفعل ذلك فلجآ إلى هذا الشكل المفتعل والمباشر من أجل الحديث إلى الجمهور مباشرة وهو من الأخطاء التي تُضعف كثيرا من فنيات الفيلم وتجعله مباشرا، كما أننا نعرف جميعا أن سبب غرق المراكب أثناء رحلات الهجرة غير الشرعية لا يكون بسبب ثقب في المركب، لكنه يكون بسبب المئات من الأشخاص الذين ينحشرون متكدسين على هذه المراكب، أي أن السبب الأساس في الغرق يكون الحمولة الزائدة، ولكن بمثل هذا الشكل الذي قدمه علي إدريس نجد أن الأمر خاضعا للقضاء والقدر، ومن ثم إذا لم يُثقب المركب كان من الممكن أن يصل الجميع إلى البر التاني بسلام، وتوتة توتة خلصت الحدوتة.
حاولنا أثناء مشاهدتنا لفيلم "البر التاني" إيجاد أي شكل من أشكال السينما الممتعة التي يمكن أن نتعاطف معها ومن ثم القول أن هذا الفيلم من الأفلام الجيدة، ولكن السيناريو المهلهل الملئ بالتناقضات الذي كتبته زينب عزيز، والإخراج السيئ نتيجة الانقياد للسيناريو منذ البداية جعلنا غير قادرين على التماس أي عذر لفريق العمل بالكامل، صحيح أن أداء الممثل محمد علي ليس سيئا للغاية وأنه يستطيع أن يكون ممثلا جيدا مع الوقت، ومع أخذ دورة تدريبية في الأداء، لكن بدا لنا الفيلم في النهاية وكأنه فيلم هواة لأول مرة يعملون في مجال السينما بداية من المخرج والسيناريست، انتهاء بالممثلين الذين اشتركوا في هذا العمل، فلا روح سينمائية تستطيع أن تجتذبنا إليها ولا اختلاف في التقديم يتجاوز التقليدية من الممكن أن نندمج معه، مما جعلنا نتيقن أن صناعة السينما لا يمكن لها أن تكون صناعة جيدة بمجرد توافر المال من أجل صناعتها، بل لابد من فهم هذه الصناعة من جانبها الفني أولا قبل الإقبال عليها، ولعل الحسنة الوحيدة التي رأيناها في الفيلم هو التصوير في عمق البحر الذي تميز بتقنيات فنية عالية.






 محمود الغيطاني

مجلة الشارقة الثقافية
عدد يناير 2018م

الأحد، 28 يناير 2018

الأنثى السندباد.. الكتابة كنموذج مُحكم للهراء


أن تمسك القلم للكتابة يعني أن هناك مجموعة ما من الأفكار والشحنات الانفعالية، والخبرات الحياتية، أو الثقافية التي يرغب الكاتب في إخراجها وسردها من أجل تقديمها للقارئ. وأن نقدم شيئا ما للقارئ يعني أننا لابد أن نقول له أمرا مفيدا، سواء كان هذا الشيء ذا قيمة، أي له رسالة، أو لا رسالة حقيقية له وإن كان يقدم لنا مجموعة من اللعب الفنية التي تخص الفن والتي من شأنها أن تُمتع الكاتب والقارئ معا؛ فليس فعل الكتابة مجرد رسالة من شأنها أن تُغير شيئا في المجتمع، بقدر ما هي متعة جمالية وفنية للكاتب والقارئ معا.
أما أن نكتب لمجرد الكتابة فقط فهذا من شأنه أن يقدم لنا مجموعة من الأحاجي والألغاز التي تحتاج إلى فك مغاليقها وربما في النهاية لا يصل القارئ إلى فهم مغاليق هذه التهويمات التي تسبح في الفراغ؛ مما يؤدي إلى ضياع وقت القارئ في كلام مصفوف لا معنى له، تورط فيه القارئ لمجرد أن هناك كاتبا ما رغب في الكتابة؛ ليُطلق عليه وصف كاتب بينما هو لا يقدم لنا شيئا مفيدا اللهم ضياع وقتنا فيما يُطلق عليه كتابة.
ربما كلما عكفت على تناول عمل سردي مكتوب بقلم نسائي ثمة سيل من التساؤلات التي لابد أن تفرض نفسها عليّ؛ حتى إني أكون مندهشا من فيض هذه التساؤلات التي تستدعيها التجربة النسائية في الكتابة: فلم تكتب المرأة؟ وما هو الدافع الحقيقي لكتابتها؟ وإذا كانت معظم التجارب النسائية لا تقدم لنا أكثر من مجرد الثرثرة، أو التهويم في الفراغ، أو الحديث المستغلق الذي لا يمكن لنا أن نفهمه أو نجعله مترابطا مع بعضه البعض، أو أنها تكتب لنا مجموعة من الحكم وكأنها فيلسوفة تتأمل ما يدور من حولها؛ لتقدم لنا في النهاية تجربتها الساذجة التي خرجت بها من هذا التأمل في صورة حكم يقينية لا معنى لها؛ فلم الإقبال إذن على الكتابة؟
هل تعتقد المرأة أن مجرد إمساكها بالقلم لتصف الكثير من الكلمات المهوّمة غير المفهومة، وإطلاق الآخرين عليها وصف كاتبة أو أدبية سيجعلها في مكانة مُرضية لها؟ وهل حيزها الضيق الذي تُفكر فيه منذ بداية الكتابة النسوية، وعالمها الذي لا يتغير من امرأة إلى أخرى، ومشكلاتها الصغيرة التي لا تعني العالم من الممكن أن تضيف شيئا إلى تاريخ الفن السردي؟ وهل الصرخات والتأوهات التي نراها في معظم كتابات المرأة منذ غادة السمان حتى اليوم من الممكن اعتباره كتابة؟
لعلنا إذا ما تأملنا تاريخ الكتابة النسوية منذ وعينا عليها حتى اليوم سنجد أن المرأة لم تخرج من العالم الذي تدور فيه إلى عالم آخر أكثر رحابة، كما أن مفرداتها واحدة لم تختلف من كاتبة إلى أخرى، فتظل الكاتبة منهن تصرخ، وتتأذى، وتدور في عالم محكم من التهويمات التي لا معنى لها، ومن ثم فمن الضروري علينا أن نتقبل هذا الهذيان النسوي ونصفق له، ونرحب به حتى لا يُقال عنا أننا متخلفون وغير تقدميين، وأعداء للمرأة وحقوقها في التحرر وغير ذلك من هذه الأقاويل التي أضرت بالمرأة أكثر مما أفادتها؛ ومن ثم انتقل هذا الضرر إلى الأدب؛ مما جعله سطحيا وركيكا ومفسدا لذوق الكثير من الأجيال التي ترى أن هذه الكتابة من الممكن أن نُطلق عليها أدبا، ومن ثم تتخذ هذه الأجيال الصغيرة من غادة السمان، وأحلام مستغانمي- وغيرهن ممن لا يكتبن شيئا- نموذجا رفيعا للأدب في حين أنه تتفيه وتسطيح للعملية الكتابية ونسفا لها من جذورها.
مثل هذه التساؤلات وغيرها كانت هي ما يدور في ذهني أثناء قراءة المجموعة القصصية "الأنثى السندباد" للكاتبة سمية سليمان؛ فالمشكلة في هذه المجموعة أن القارئ مهما بذل من جهد في قراءتها، ومهما حاول إعادة القراءة المرة بعد الأخرى لن يستطيع أن يفهم إلام تنشد الكاتبة في الوصول من خلال سردها، وما هو المعنى المستبطن في ذهنها الذي تقصده من خلال هذه السرد الذي لا يؤدي سوى إلى الفراغ؛ فالكتابة هنا تبدأ من الفراغ لتنتهي إليه؛ ومن ثم تبدو لنا الكلمات والجمل مجرد رموز لا معنى لها، رغم أن كل مفردة على حدة تستطيع أن تعطيك معناها، لكن تركيب المفردات في جملة واحدة يجعلك تفقد معنى المفردة التي سبق أن فهمتها لتحاول القراءة من جديد ولكن من دون فائدة تُذكر.
تبدأ القاصة مجموعتها القصصية بما أطلقت عليها اسم "مقدمة"، ولعلنا نعرف جيدا أن الأدب لا يمكن تقديمه بأي شكل من الأشكال؛ فالأدب ليس كتابا بحثيا أو نقديا في حاجة إلى تقديم من الكاتب، كما أن الكاتب الذي يظن أنه لابد من كتابة مقدمة لأدبه هو كاتب يعلم بالضرورة أن هناك مشكلة ما تُحيل دون وصول النص بشكل مباشر إلى قارئه؛ ومن ثم فهو يعمل على التقديم كي يشرح للقارئ ما استغلق عليه من الكتابة، وهذا في حد ذاته كفيل بصناعة حائل حقيقي في التلقي بين النص وقارئه؛ مما يجعله معرضا عنه منذ البداية.
لكن إذا ما سلمنا بإمكانية وجود مقدمة للعمل الفني وحاولنا تقبل ذلك سيفاجأ القارئ بأن المقدمة التي اعتمدتها سمية سليمان لم تكن مقدمة بالمعنى المفهوم للمقدمات، بل كانت عبارة عن نص شعري، أو يشبه الشعر. أي أن القاصة تبدأ مجموعتها القصصية التي من المفترض بها أنها فن سردي بنص شعري على طول ثلاث صفحات وقد أطلقت على هذا النص توصيف "مقدمة".
هنا يصبح التساؤل مشروعا: ما علاقة النص الشعري/المقدمة بالنصوص السردية داخل متن المجموعة كي يكون مقدمة لها؟!
تقول سليمان في مقدمتها: كم أتمنى أن أعود يوما إلى بيتي
كم أتمنى أن أرجع يوما إلى وطني
في كل يوم يأتي الصباح، أتحسس النور بداخلي
أصحو مذعورة.. مرعوبة وأتلفت حولي
تسألني نفسي في جزع: أين أنت الآن؟
أفكر مليا.. متأملة جدران غرفتي
فأجد غابات ووديانا وأنهارا وطرقات من حولي
فأتوه في الطرقات وأغيب في الغابات عن وعي
ويمر بي فيل ملون فأنتبه قليلا من ذهولي
يغريني بأن أركبه لعله يرجعني إلى سكني
ويأبى السكن أن يأتي ويرحل الفيل من جنبي
ويمر العمر في عجل.. فلا أحيا ولا أفنى
هكذا تستمر الكاتبة في مقدمتها التي لم أفهم ما المغزى منها، ولِمَ يُعد هذا الكلام مقدمة لمجموعة من السرد القصصي، وما علاقته بما سيأتي فيما بعد، وهل هذه الكلمات بالفعل من الممكن أن نُطلق عليها نصا شعريا، أم قصصيا، أم أنه في حقيقة الأمر مجرد مجموعة من الخواطر والهلوسات اللغوية التي لا تعني شيئا في النهاية؟
هنا نجحت الكاتبة بجدارة في أن تبني حائلا بين القارئ ونصوصها منذ البداية لن يستطيع أن يتخطاه بسهولة؛ فهذا الكلام الذي لا معنى له، والذي تهوّم من خلاله في السرمديات لا يصلح للكتابة أساسا، والكارثة أن الكاتبة عملت على تصديره كمقدمة للمجموعة القصصية.
لكن هل يمكن اعتبار هذه المقدمة شكلا من أشكال التجريب في الكتابة السردية التي تعمل على المزج بين الشعر والسرد؟
نلاحظ من خلال قصص المجموعة أن الكاتبة حريصة على هذا الشكل من المزج في جل القصص تقريبا، وهي القصص التي نراها تبدأ بنص شعري ثم يليه السرد، بل وتعمل على إنهاء بعض قصصها أيضا بنص شعري. فإذا ما تجاوزنا أن هذا الكلام لا يمكن أن يكون شعرا؛ سنجد أنه من دون أي معنى ولا يقدم لنا شيئا في النهاية يفيد المتن السردي الذي جاء معه باعتباره جزء منه، أي أن الكاتبة استهواها أن تبدأ نصها السردي بما يشبه الشعر المنبت الصلة بما سيأتي بعده من سرد لمجرد أنها ترغب ذلك فقط، أو أنها رأت ذلك جميلا بالنسبة لها ففعلته، وليذهب الفن السردي وبنائه وشكله إلى الجحيم ما دامت ترى أن هذا هو الشكل الأجمل أو الأمثل لها؛ ومن ثم فعلى القارئ أن يتقبل منها ما كتبته حتى لو لم يكن من الممكن له أن يكون كذلك. وهذا لا يمكن اعتباره تجريبا بقدر اعتباره تخريبا للسرد القصصي.
في قصة "الفراولة عندما يأتي الربيع" تبدأ القاصة قصتها بقولها: "كانت الفراولة ولم تزل
تنبض بأحلى ألوان الأزل
عند الربيع.. بعد زوال الصقيع
تضحك في الحقول
وهي تُنهي على العقول
وتقول:
قم واقطف حبات القلوب
قلبي أحمر
طعمه أخضر
ينبض أكثر..
نبضا حاميا
نقشه دامٍ
أأنت الجاني؟"
هنا لابد من التوقف هنيهة قبل الدخول إلى السرد القصصي الذي كتبته سليمان لنتساءل: ما معنى هذا الكلام؟ وهل من الممكن تصنيفه تحت أي شكل من أشكال الفنون السردية أو الشعرية؟ وكيف يكون القلب أحمر بينما طعمه أخضر؟ وهل للون الأخضر من طعم لا نعرفه من قبل واكتشفته الساردة هنا؟ وما معنى النبض الحامي الذي يكون "نقشه دامٍ"؟! إننا هنا أمام مجموعة من الكلمات التي تُشكل لغزا لا يمكن فك مغاليقه؛ ومن ثم يكون المعنى المقصود من هذه الكلمات لدى الكاتبة فقط، وهي العاجزة عن إيصال المعنى إلى متلقيها؛ مما يجعله مُعرضا عن استكمال النص غير المفهوم والمكتوب بركاكة فنية منذ البداية.
تقول الكاتبة في نفس النص: "عبلة دوما في مارس، تُشرق ويملؤها الربيع بأماني متجددة، بعد انقشاع الشتاء القارس، فتضحك العيون وتتورد الخدود، ويمتلئ القلب بألوان الربيع الذي يُبهر الفراشات، فتتجول به وتتغزل بزهوره وتُرافق جنونه، ثم تتهادى على شلالات أنهاره، وتهمس في آذان ضرامه، تُغني لكرومه، هذا ما أرومه. وفي جولاتها الفسيحة ومع هبوب النسمات الجريئة تجد ثمرة حمراء في قلب الإغراء. فتقف عليها وتتعجب من شفاهها، لماذا تُجبرها على الأحلام بالالتهام، فتخاف من كونها جمرة! لكن الثمرة حمراء منقوشة تنادي مُحبي الأنوثة، هلّم واجن، أنا محبوسة في قفص قان، سوف تلقاني".
سمية سليمان
إذا ما تأملنا هذا الاقتباس من القصة التي بين أيدينا هل نستطيع أن نفهم منها شيئا؟ صحيح أن هناك مفردات بالعربية مكتوبة أمامنا، لكنها مجرد مفردات يقتصر معنى كل واحدة منها على ذاتها، وكأن المفردات هنا مجرد جزر منعزلة لا علاقة لها ببعضها البعض، أي أنها فقدت السياق حينما وُضعت في جملة واحدة؛ ففقدت معناها وتحولت إلى مجموعة من الهلاوس اللغوية التي لا يمكن لها أن تؤدي إلى شيء مفهوم في النهاية. كما أن الكاتبة جعلت الأمر أكثر صعوبة علينا حينما رأت أن السجع في السرد من الممكن أن يكون مفيدا للنص القصصي فحرصت عليه، ولكن مثل هذا الحرص على السجع بدا لنا مبتذلا وأرغمها على أن تأتي بمفردات لا معنى لها مما زاد الأمر غموضا في النهاية. ولنتأمل قولها: "وتهمس في آذان ضرامه، تغني لكرومه، هذا ما أرومه"؛ ففضلا عن أن الجملة لا تعني شيئا، أي أنها تبدو لنا وكأنها فراغ ينبع من فراغ، إلا أن حرصها أيضا على السجع الذي لا مبرر له جعل الجملة أكثر هراء في النهاية. كذلك ما معنى قولها: "وفي جولاتها الفسيحة ومع هبوب النسمات الجريئة تجد ثمرة حمراء في قلب الإغراء. فتقف عليها وتتعجب من شفاهها، لماذا تُجبرها على الأحلام بالالتهام، فتخاف من كونها جمرة!"؟ وفي النهاية ما معنى هذه الفقرة بالكامل وما علاقتها بالسرد القصصي، وما هي الإضافة التي قدمتها لنا اللهم إلا شعورنا بالغباء أمام النص؛ اعتقادا منا أنها لديها معنى ما نعجز نحن عن فهمه؟
بعد هذا المقطع تتحدث الساردة عن أن هذه الثمرة فقدت جمالها ومذاقها بعد التقنيات الجديدة في الزراعة، ثم تقول: "تنظر عبلة إليها الآن من بعيد وتتذكر كيف كانت وكيف آلت، وتستعيد الجمال الذي يسكن بحر الإحساس في وجود الثمرة التي كانت قمرة تظهر في الربيع وتنشد العيد، إنه عيد الوجود في مارس المفتون. دوما مفتون بكونه يبهر العيون بتغير الألوان وافتراش الأجرام مقامات الأمان. تُنادي عبلة الربيع وتطلب منه ألا يضيع في آلام الأرض وأن يظهر لإنارة الفرد، ويخرج الفراولة من أراضيه الخضراء بطعم ضار يُعيد الدروب إلى أصل القلوب، لتمسك عبلة بالفراولة بيديها وتقربها من شفتيها وتحتار عيناها، أهذه فراولتي الحبيبة أم قلبي بين يدي أتي الحقيقية؟!".
هنا ينتهي السرد الذي لم أفهم ما هو مغزاه وأعتقد أنه لا يوجد على وجه الأرض من سيفهم هذا السرد الذي قد يبدو عميقا لساردته، في حين أنه لا يعني أي شيئ سوى أنه مجرد هلاوس لا معنى لها، وكأن كاتبته قد كتبته بلغة أخرى لا نفهمها نحن، ولعلنا نلاحظ حرصها أيضا على السجع المفسد للمعنى الفاسد منذ البداية، ولكن لأن السرد هنا لا معنى له من الممكن أن يتوصل إليه المتلقي، ولأن الكاتبة في حقيقة الأمر ليس لديها أي معنى أو فكرة من الممكن لها أن تقدمها لنا من خلال هذه الكتابة وقعت في المأزق الذي لابد لها أن تقع فيه، وهو كيف من الممكن لها أن تُنهي هذا الكلام بخاتمة مناسبة ليكون هناك ختاما للسرد؟ هنا لجأت الكاتبة إلى حيلتها التي لابد منها كي تنتهي من هذا الهراء، وهي وضع مقطع شعري لا أدري ما هو مناسبته ليكون هو ختام القصة التي بدأتها أيضا بمقطع يشبه الشعر فتقول: "كان الربيع ولم يزل
ينبض بأحلى ألحان الأزل
ينبض بأحلى همسات الغزل
يهتف بالأغاني لتجول
بكل أخبار الدروب
درب قاري
زلزال داري
أقبل ونوّر نهاري".
بالتأكيد حينما يصل القارئ إلى هذه الكلمة الأخيرة فمن حقه أن يمزق هذه المجموعة التي بين يديه من دون إكمالها؛ لأنها في الحقيقة لا علاقة لها بأي شيء سوى بالفراغ الذي يؤدي إلى المزيد من الفراغ. ولعل هذا الفراغ هو القاسم المشترك بين الكثيرات جدا من الكاتبات اللاتي يهوّمن فيه من دون هدف، بنفس المفردات، ونفس الشكل، وفي نفس العالم من دون اختلاف.
في قصتها "حلم في ليلة صيف" تبدأ الساردة قصتها كالعادة بما يشبه الشعر فتقول: "عندما أقبلتَ
كانت روحي تناجيك
فجاء التقاء عيوننا
يبهر الأحلام
وينوب عن الأفلام
لأجوب العالم
في لحظة
لحظة انشطار الأجرام".
فضلا عن أن هذا الكلام مجرد هلوسات مراهقين لا يعني شيئا، إلا أننا لابد من الانتباه إلى أن أي نص من النصوص الفنية حينما يبدأ بداية ما لابد أن تكون هذه البداية وثيقة الصلة بما سيأتي بعدها، أي أن هذه المقدمة ستكون مرتبطة بالضرورة بالمتن فيما بعد، ولكن الكارثة حينما يكون هذا الكلام السابق منبت الصلة تماما بما أتى من بعده؛ مما يدفعنا للتساؤل: لم أتت به المؤلفة إذن ما دام لا علاقة عضوية أو فنية تربطه بما جاء بعد ذلك اللهم إلا أن المؤلفة ترغب في هذا من دون وجود أي ضرورة فنية له سوى أنها تريد ذلك. نلاحظ بعد هذا المقطع أن القصة تبدأ باتصال تليفوني من حبيب ما يسألها: "أما زال صوتك ساحرا؟ أما زلت تغذينه من فواكهك؟"، وهنا لابد من التوقف للتساؤل: أي فواكه لديها من الممكن أن تغذي بها صوتها ليكون ساحرا، ولكن فلنتجاوز هذه الفقرة لنراها تثرثر ثرثرات لا طائل ولا معنى لها سوى أنها ثرثرات تفتقد المعنى لتقول: "يطول الحديث ويقطع مسافات في الكون، فيسر مسامع الأفلاك، فتنادي كفا هلاكا. فما أشد حب هذا الفتى، فتخرج الكلمات تقاسي الويلات، وميرفت قلبها قد أصابته الآفات، فهي تسمع كلمات حبيبها وكأنها حدوتة قبل النوم تُخدر عقلها، فتذهب في سبات عميق وتهرب من وعد الزواج العريق! يُذكرها بأول لقاء لهما وكيف انسجام الأرواح من أول لمحة، وكم من مرة تهرب منه، فيكرهها ويحب غيرها ولكن بمجرد أن تطلبه في التليفون يستعيد حبها، يحاول إقناع ودها بأن رجوعهما إلى بعض في كل مرة شيء من الإعجاز، رغم وقوفها دون تقديم أي إنجاز لهذا الحب. هي لا تدري لماذا هو من تحتاجه ولا تستطيع أن تحيا دونه ولا تستطيع أن تحيا معه!".
هل نستطيع هنا القول بأن الكاتبة قد كتبت شيئا؟ وهل إذا ما حذفنا هذا الغث من الكتابة وحاولنا إكمال ما تكتبه سيؤثر في السياق المنقطع أساسا؟ وهل هذا هو مفهوم الكتابة الآن لدى المرأة المحلقة في الفضاء لتقول اللاشيء؟ إن الأمر يبدو لنا مجرد تهويمات لا معنى لها، وتستمر الكاتبة على هذا المنوال من السرد حتى تقول لنا في النهاية أن المكالمة كانت مجرد حلم، وأن هذا الحبيب الذي تخيلته: "سافر منذ سنتين إلى أقصى شمال الأرض بعدما ترك فيها نشوة الدرب"!! أي درب هذا الذي تقصده الكاتبة إلا أنها مجرد مفردة أتت بها ليستقيم لها السجع الذي لا أعرف أهميته؟ وماذا كان مضمون القصة أو المكالمة التي تحدثت عنها؛ فكل ما قرأناه في القصة كان كالفقرات السابقة؛ كلام لا معنى له لم يحاول حتى أن يشرح لنا ما هو مضمون المكالمة المتخيلة، وماذا كان يريد منها هذا الحبيب؛ فهي ظلت تهوّم وتسبح في الفضاء من دون أي جاذبية أرضية تُعيدها إلينا مرة أخرى.
لعل مثل هذه الكتابة النسوية تجعلنا نتساءل: لم تعجز المرأة في التعبير عن نفسها أو مشكلاتها، ومشاعرها، أو عما تريد قوله حينما تبدأ في الكتابة؛ ومن ثم تظل شاردة لتقول كلاما مفككا لا معنى ولا قوام حقيقي له؛ وبالتالي نعجز عن إمساكه أو فهمه؛ فهو كالسراب لا معنى له؟!
مثل هذا التساؤل لابد له أن يقوى داخلنا حينما نقرأ قصة "معجزة ما" التي تبدأها بقولها: "نرجس هي فتاة المجلس، تستيقظ كل يوم لتجمع زهرات النرجس، تمتلك قلبا ينبض، لكنها نبضات تخرس.. نبضات المفلس، لا تعلم عندما يأتي كل يوم وتشرق الشمس أهي في قلب العالم أم أنها ما زالت في حلم مفزع. ما أصعب الحياة عندما تتراءى من بعيد ويصعب التفريق بين وجود الرائي في مبعد عن التحقيق ووجوده في عمق التشريق وينادي: آه كم أنا غريق..!"، هل أستطيع أن أضيف لها هنا: "وكم أنا عميق؛ لأني أقرأ هذا الكلام الغميق؟"، إن الكاتبة تأتي بكلمات لا معنى لها لمجرد أن لها جرسا موسيقيا يسببه السجع، ولكن لا معنى للكلام إذا ما نظرنا إليه ككل متكامل، إنه مجرد هراء يستدعي المزيد من الهراء؛ فما معنى قولها: " تمتلك قلبا ينبض، لكنها نبضات تخرس.. نبضات المفلس"؟! وما هي نبضات المفلس؟! وما هي هذه المجموعة بالكامل وكيف نستطيع تصنيفها، وما الذي من الممكن أن نطلقه عليها؟!
لكن إذا ما تخطينا هذا المقطع الذي افتتحت به ما تُطلق عليه وصف القصة سنجدها تكتب: "ثلاثة أسئلة حيرى تتكرر في رأسها كل يوم عندما تحاول فتح جفنيها وهي تستيقظ من دنياها: من أنت؟.. أين أنت؟.. لماذا أنت؟"، إذا ما تأملنا الكلام السابق سنلاحظ قولها: " وهي تستيقظ من دنياها"، كيف لها أن تستيقظ من دنياها؟ إن الاستيقاظ يكون من النوم وليس من الدنيا، كما أن هذه الأسئلة لا معنى لها، وهي الأسئلة الوجودية التي تتشبث بها المرأة في معظم كتاباتها وتظل تلف وتدور حولها من دون معنى.
هنا تظل الكاتبة تصرخ وتتأوة وتبكي محاولة الوصول إلى أجوبة لهذه الأسئلة التي لا تصل إلى جواب عنها لتنتهي في النهاية كما اعتادت دائما بنص شعري لا معنى له ليزيد اللامعنى اكتمالا. تقول: "تحاول نرجس الإجابة عن هذه الأسئلة كل يوم، لكنها تُخفق في الرد، تحتاج إلى وقت هائل حتى تستطيع الرد. نرجس زهرة شابة، عمرها خمسة وعشرون عاما، لا تعلم لماذا هي مفلسة في الإجابة على هذه الأسئلة وقد مر من عمرها كل هذه السنوات، كيف قضتها؟ لماذا في هذا العمر بالأخص ظهرت هذه الأسئلة؟ كل ما تدركه بشدة، هو أنها تقف في محطة القطار ولكنها لا تركب أي قطار، تنظر إليه من بعيد وتستنكر وحشة العيد، ليس لديها أي دليل على أنها هنا أو هناك، فجمود الأشياء من حولها ينبع من جمودها، لن تفقد الأشياء جمودها إلا بعد أن تفقد نرجس ثوابتها المكتسبة من العيون الحبيسة. نرجس مذهولة. كيف بعد هذا العمر، أتاها هاتف بأنها لا تحيا، لا تحيا حياتها هي. هل كل ما عاشته من قبل كان سرابا؟".
أظن أننا، كقراء، من نحيا في السراب مع الكاتبة؛ ومن ثم دخلنا سرابا سرمديا لم نستطع الخروج منه مرة أخرى بإقبالنا على قراءة هذا الكلام. فأين السرد هنا، وأين المعجزة التي تريد إخبارنا بها حينما وضعت لهذا الكلام عنوان "معجزة ما"؟! أعتقد أن المعجزة الوحيدة أننا استطعنا الصبر للقراءة حتى النهاية.
في قصة "تجلي الحبيب" تصل بنا الكاتبة إلى درجة من درجات العبث التي تجعلنا نندم على قراءة كلمة واحدة مما خطته، إنها كالعادة تبدأ النص بما تُطلق عليه شعرا، وهو الكلام المنبت الصلة بما سيأتي بعده، ثم لا تلبث أن تقسم قصتها إلى عدة مشاهد، كل مشهد منه له عنوان يخصه، وفي نهاية كل مشهد سردي تختتمه بنص قرآني لست أدري ما علاقته بالمشهد، حتى لكأن الكاتبة أتت بالقرآن وظلت تبحث فيه عن مجموعة من الآيات كي تبني على كل آية من الآيات مشهدا، أو العكس، بمعنى أنها كانت تكتب المشاهد ثم لا تلبث البحث عن آية من الممكن زجها كنهاية لهذا المشهد، ولست أدري لم الحرص على هذا الشكل؛ فهو لم يكن خادما للنص- الذي ليس بنص في حقيقة الأمر-، كما أن الفن في حقيقته لا علاقة له بأي نص ديني، وكلما حاولنا إقحام النصوص الدينية في نصوصنا الفنية؛ كلما أدى ذلك إلى إفساد النص الفني وابتعاده عن الفن كثيرا ليقع في دائرة الابتذال؛ لانفصام الصلة بين الفن والدين؛ فهذا له مجاله المختلف عن مجال الآخر تماما، ولا يمكن لهما في النهاية أن يمتزجا.
تقول المؤلفة في هذه القصة تحت عنوان "المشهد سنة 2001م (صيدلية العزبي بالقاهرة)": "دخلت إيفا الصيدلية المقابلة للمعمل، طلبت من المديرة أن تتدرب على بيع الأدوية، لم يرق للمديرة الطلب، قالت لها: أمامك الأدوية متراصة على الأرفف، اقرئي النشرة الداخلية وتعلمي بنفسك. كان كثيرون من الشباب حديثي التخرج يعملون بالصيدلية، من بينهم كان هناك آرم. انتبه آرم لوجود إيفا ورغبتها في تعلم علم العقاقير، على الفور قال لها: أأستطيع مساعدتك؟ التقت عيناهما لأول مرة على الأرض!"، ثم تختتم الساردة هذا الكلام بالآية: "وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين".
غادة السمان
أظن أننا لابد أن نتساءل تساؤلا ممطوطا مندهشا مفاداه: ما هذا الابتذال؟! وما علاقة السرد بالآية القرآنية؟ وما علاقة القرآن نفسه في النهاية بالفن؟!
في مشهد آخر بعنوان "المشهد سنة 2002م (نادي مدينة نصر بالقاهرة)" تقول: "هل هذا يعقل، أن نتخاصم كل هذه الشهور؟ قال آرم. ردت إيفا: أنت الذي بدأت، دعنا من الماضي، هل تتذكر أول جلسة لنا في كازينو الميريلاند؟ رد آرم: نعم، لا أنسى أي لحظة جمعتني بك. مشيا على الممشى الطويل بالنادي. اقتربت يده من يدها فتلاقتا في الهواء، ابتسم قلب إيفا وتركت يدها تنام في سلام في كف الفتى المغرور بوجوده. بدأت تحكي له بصمت ماذا فعلت في غيابه طيلة تلك الشهور!"، ثم يلي ذلك الآية القرآنية: "إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى".
لابد هنا من الالتفات إلى النص السردي ثم إلى النص القرآني. أولا يبدو لنا النص هنا وكأنه مترجم وليس نصا عربيا، فالأسماء الأعجمية لم أجد لها مبررا للإتيان بها- ولقد فعلت المؤلفة ذلك في أكثر من قصة-، كما أن طريقة السرد هي نفس الطريقة التي تُكتب بها اللغة الإنجليزية حينما يأتي القول في نهاية الجملة وليس في أولها؛ فنلاحظ هنا: "هل هذا يعقل، أن نتخاصم كل هذه الشهور؟ قال آرم"، فالقول في نهاية الجملة هو من سمات الكتابة بالإنجليزية، ومن ثم فأعجمية الأسماء، ثم تأخير القول يوحي لنا بأن السرد مترجما. ثم كيف لليدين أن تلتقيا في الهواء؟ "اقتربت يده من يدها فتلاقتا في الهواء". وما هي المقدمات والدلائل التي قدمتها لنا الكاتبة كي نقتنع بأن الفتى مغرور؟ "وتركت يدها تنام في سلام في كف الفتى المغرور بوجوده". وكيف لها أن تحكي بصمت؟ إن الحكي يتناقض مع الصمت ومن ثم لا يمكن أن يستقيم المعنى هنا؛ مما يدلل على أن الكاتبة لديها مشكلة في الدلالات. ولنا أن نتساءل في النهاية: ما علاقة كل هذا السرد السابق بالآية القرآنية التي ختمت بها المشهد؟!
تظن الكاتبة أن ما قدمته لنا هو سردا قصصيا بينما هو في حقيقة الأمر لا يعدو أكثر من هراء. كما بدا لنا الأمر وكأنها تُرغم نفسها إرغاما على إمساك القلم من أجل الكتابة في الوقت الذي لا يوجد لديها أي فكرة أو موضوع من الممكن أن تتحدث عنهما؛ ومن ثم تخرج لنا مثل هذه التهاويم والهلاوس اللغوية التي لا تعني شيئا؛ مما يؤدي بنا إلى المزيد من التسطيح والتتفيه للعملية الكتابية التي باتت مسطحة ويتجرأ عليها من لا علاقة له بالكتابة كثيرا في الآونة الأخيرة.
لعل الاحتفاء بمثل هذا الشكل من الكتابة واعتباره كتابة أدبية هو بمثابة الجريمة الحقيقة التي لا يمكن لها أن تُغتفر، والكارثة أن هذا بالفعل شكل كتابة الأغلبية من النساء اللاتي لا يقدمن لنا شيئا له معنى أو قوام، ثم يصرخن فيما بعد بأن من يرفض هذا الهراء هو بالضرورة عدو للمرأة ومتخلف لابد من إخراسه، لكن الخطأ هنا لا يقع على عاتق المرأة وحدها العاجزة عن تقديم شيء، بل يقع على عاتق الكثيرين من النقاد الذين يجاملون العديدات ويوهموهن بأن هذه كتابة من الممكن الاعتراف بها، وإن كانت الجريمة الكبرى في نهاية الأمر تقع على عاتق الناشرين الذين ينشرون مثل هذا الهراء.






محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب
عدد نوفمبر 2017م