الأحد، 21 يناير 2018

المتطفلة.. المجتمع ضد مفهوم الالتزام الأخلاقي!


قد يبدو لنا الفيلم الإيطالي "المتطفلة" أو L'intrusa حسب العنوان الأصلي للفيلم للمخرج Leonardo Di Costanzo  بمثابة فيلم تربوي، أو مجرد فيلم يتحدث عن عالم المافيا في مدينة نابولي الإيطالية للوهلة الأولى، ولكن النظرة المتأملة للفيلم توضح لنا في النهاية أنه فيلم يتحدث عن مدى قدرة المرء على التمسك بالالتزام الأخلاقي والإنساني تجاه الآخرين في مواجهة مجتمع كامل يرفض هذا الالتزام ويتمسك بالكثير من القسوة اتجاه الأفراد بالحكم عليهم حكما ظاهريا غير راغبين في النظر إلى ما هو أبعد من الشكل الظاهري.
يبدأ الفيلم بمجموعة كبيرة من الأطفال يمارسون العديد من الفنون والحرف اليدوية، لنعرف فيما بعد أن هذا المكان هو عبارة عن مركز اجتماعي خدمي ضخم أنشأته جيوفانا Giovanna التي قامت بدورها ببراعة الممثلة الإيطالية Raffaella Giordono السيدة الكبيرة في العمر من أجل خدمة أبناء الحي الفقير في نابولي وتعليمهم العديد من المهارات والفنون المجانية بعد الانتهاء من يوم دراستهم مثل الحرف اليدوية والبستنة، والرسم على الجداريات، وأعمال النحت، وبناء روبوت عملاق من قطع غيار الدراجات القديمة ثم الاحتفال في نهاية العام بحفل كبير يقدم فيه الأطفال ما قاموا به من أعمال؛ لاسيما أن المدينة تسيطر عليها الجريمة المنظمة، ويسيطر عليها عصابة الغوغاء المحلية "كامورا".
إذن فما قامت به جيوفانا كان بهدف خدمة المجتمع خوفا من انغماس الأطفال في الجريمة المنظمة المحيطة بهم في كل مكان. ولكن يحدث أن تأتي سيدة شابة إلى جيوفانا لتخبرها أنها قد طُردت من عملها، وليس لديها المال الكافي لتدفع إيجار مكان يأويها هي ورضيعها وطفلتها الصغيرة Rita؛ فتسمح لها بالسكن في الكوخ الصغير الموجود في المركز الخدمي، إلا أنه بعد أيام من سكن السيدة الشابة Maria التي قامت بدورها Valentina Vannino تكتشف جيوفانا أن هذه السيدة هي زوجة أميترانو Amitrano أحد أخطر رجال المافيا "كامورا" الذي قام بقتل أحد الأشخاص واختفى عن الأنظار؛ فتهاجم الشرطة المركز الخدمي وتقوم بإلقاء القبض عليه، ولأن جيوفانا معروفة للجميع من أبناء الحي يسألها الشرطي عن السبب في إيواء المجرم؛ فتشرح له أنها قد تمت خديعتها من قبل الزوجة الشابة -حيث استغلت عدم قدرة جيوفانا على رفض تقديم الخدمة لشخص محتاج- بروايتها الكاذبة لها.
تغادر الزوجة الشابة مع طفليها المركز الخدمي بعد اعتقال زوجها وتحرص جيوفانا على الذهاب إلى  Carmelaأرملة الضحية، عامل البناء، الذي قتلته المافيا لتقديم الاعتذار لها وتوضيح أنها قد غُرر بها من قبل الزوجة الشابة بحكايتها المُختلقة، ولعل مشهد اعتذار جيوفانا لزوجة الضحية كان من أهم المشاهد وأقواها في الفيلم؛ حيث يتضح من خلاله مدى أخلاقية جيوفانا ومدى صراعها النفسي والأخلاقي، لاسيما الأداء القوي الصادق الذي أدته الممثلة Raffaella Giordono حيث كانت هي عصب الفيلم الوحيد الذي جعله قويا بأدائها وجعلنا كمشاهدين نستمر في المشاهدة حتى نهاية الفيلم.
إن ذهاب جيوفانا إلى أرملة الضحية فيه الكثير من الدلائل التي تؤكد لنا كمشاهدين أنها تمتلك من الأخلاقيات والالتزامات الأخلاقية ما يجعلها امرأة قوية قادرة على الدفاع عن موقفها مهما كان ضعيفا، ومدى رغبتها في الوقوف إلى جانب الحق دائما، وهو ما سنراه فيما بعد حينما تعود الزوجة الشابة Maria بعد ليلة من اعتقال زوجها إلى الكوخ مرة أخرى مع رضيعها وطفلتها Rita، ولعل مشهد عودة الزوجة ووقوف جيوفانا صامتة مراقبة لها فيه الكثير من القوة والدلائل على مدى صراعها النفسي بين الانسياق خلف المجتمع الرافض لوجود الزوجة وطفليها فيه بسبب ما قام به زوجها، وبين الالتزام بأخلاقياتها التي ترى أنه لا يمكن الحكم على الزوجة بنفس معايير الحكم على الزوج، لاسيما أنها لم يعد لها أي مصدر رزق تستطيع الاستناد إليه، كما أن طفليها في حاجة إلى الكثير من الرعاية؛ ومن ثم فجيوفانا غير قادرة على اتخاذ القرار بطردها وإبعادها عن المركز الخدمي، خاصة أنها تؤكد دائما أن المركز بأكمله رهن لرغبة أي شخص في حاجة إليه ما دام يحتاجه فعليا، كما أن الطفلين لا ذنب لهما فيما قام به الأب.
تتوجه جيوفانا إلى ماريا لتسألها هل ستستمر في الإقامة في الكوخ، إلا أن ماريا تعاملها بعدائية وصلف وتخبرها أنها قد سمحت لها من قبل في الإقامة؛ فتتركها جيوفانا؛ نظرا لحاجتها إلى المأوى، لكنها تحاول التقرب من طفلتها Rita وتجعلها تنخرط مع باقي أطفال الحي داخل المركز الخدمي لتتعلم العديد من المهارات معهم، وبالفعل تبدأ الطفلة في التأقلم، إلا أن أمهات الأطفال بالكامل يبدأن في التذمر ورفض وجود الطفلة والزوجة بين أطفالهم، ويبدأون في تهديد جيوفانا أنها إذا لم تقم بطرد الزوجة وطفليها فإنهم سيمتنعون عن إرسال أطفالهم إلى المركز الخدمي.
تقع جيوفانا في صراع حقيقي بين الانسياق خلف المجتمع الذي يُحاكم الزوجة التي لا عون لها بذنب اقترفه زوجها، وبين التزامها بأخلاقياتها في ألا تتخلى عن امرأة في حاجة حقيقية للمأوى هي وطفليها. ربما ما صعّد الصراع النفسي أكثر لدى جيوفانا ما ذكرته إحدى الجدات التي أتت بحفيدتها التي أُصيبت بصدمة نفسية قوية جعلتها غير قادرة على التكلم، حيث قام أميترانو- رجل المافيا وزوج الزوجة الشابة- بضرب والد الطفلة بمساعدة رجاله أمام الابنة مما أصابها بصدمة قوية أفقدتها النطق منذ ذلك الحين؛ حيث طلب أميترانو من والد الطفلة أن يُخفي له أسلحة داخل بيته، لكنه رفض ذلك وطلب منه ألا يورطه في هذه الأعمال؛ فقام أميترانو ورجاله بالاعتداء عليه، وحينما عادت الزوجة في المساء من عند الزوج في المشفى إلى بيتها كانت أقفال البيت قد تم تغييرها من قبل أميترانو ورجاله، وطلب منها المغادرة لأن البيت لم يعد يخصها، كما طلب منها أن تُغلق فمها ولا تتحدث في هذا الأمر مطلقا، وهنا غادرت الزوجة والزوج للمدينة من أجل الحياة مع أقارب زوجها بينما تركا البنت الصغيرة التي فقدت النطق مع جدتها لإتمام تعليمها في مرحلتها الإبتدائية.
هنا يبدأ الصراع الحقيقي في نفس جيوفانا، فتظل في حيرة حقيقية بين الالتزام بأخلاقياتها، وبين رفض المجتمع لوجود الزوجة والطفلين، لدرجة أن أمهات الأطفال يقمن بالفعل بمنع أطفالهن من الذهاب إلى المركز الخدمي، ويحاول جميع مدرسي الحي مناقشة جيوفانا في الأمر إلا أنها تؤكد التزامها الأخلاقي تجاه الزوجة، وأن الكوخ والمركز من حق أي إنسان في حاجة فعلية إليه، هنا يبدو المركز خاويا تماما من الأطفال ويُلغى الحفل السنوي الذي يقدم فيه الأطفال ما صنعوه من أدوات، وتبدأ جيوفانا ومساعدها في إغلاق المركز فتشعر الطفلة Rita بالوحدة الشديدة والحزن وتجلس أمام باب الكوخ حزينة؛ فتسألها أمها عن السبب في حزنها لتخبرها بأن الأطفال لم يحضروا ولن يحضروا مرة أخرى، فتسألها الأم عن الحفل؛ لتؤكد لها الابنة أن الحفل أيضا تم إلغائه.
في المشهد التالي مباشرة حينما تأتي حماة الزوجة لتأخذها هي وطفليها لا تجد الزوجة في الكوخ الشاغر تماما حتى من كل حاجاتها فنعرف أن الزوجة قد أخذت طفليها وغادرت بعدما شعرت أنها السبب الرئيس في مقاطعة الحي بأكمله لجيوفانا بسبب إيوائها عندها؛ فيعود الأطفال مرة أخرى إلى المركز الخدمي، يقيمون الحفل السنوي لينتهي الفيلم.
نلاحظ من خلال هذا الفيلم الاجتماعي الذي يناقش مدى قدرة المرء على التمسك بأخلاقياته أمام سطوة المجتمع الرافضة أنه لولا الأداء المتميز للممثلة Raffaella Giordono التي أدت دور جيوفانا، ولولا القصة التي يدور حولها الفيلم لما استطاع المشاهد الاستمرار في متابعة الفيلم حتى نهايته؛ حيث يعاني الفيلم من البطء الشديد في الإيقاع نتيجة مونتاجه؛ الأمر الذي يؤدي إلى الملل؛ نظرا لشعور المشاهد بثبات الحدث وكأنه لا يتقدم، كما أن أداء الممثلين جميعا كان مجرد أداء عاديا إن لم يكن افتعاليا أحيانا مثلما رأينا بعض مشاهد الزوجة Maria التي بدت أنها تفتعل الأداء، كما لم يبد هناك أي تميز في التصوير، أي أن الفيلم قام بالأساس على أداء الممثلة Raffaella Giordono التي أقنعتنا كثيرا بالاستمرار من أجل الاستمتاع بهذا الأداء الصادق القوي، كما أن الصراع النفسي- أي القصة- كان عنصرا إضافيا للاستمرار في المشاهدة.
الفيلم الإيطالي "المتطفلة" أو L'intrusa من الأفلام التي تُحاول نقاش قضية مهمة في الحياة الاجتماعية، وإن كان قد افتقد الكثير من العناصر الفنية ليكون فيلما قويا.



محمود الغيطاني

مجلة الشبكة العراقية
عدد 22 يناير 2018م






هناك تعليق واحد:

  1. المجتمع تحكمه غريزة القطيع، إن من يغيرالتاريخ والعالم هم أفراد لاالجماعات،شكراً.

    ردحذف