الاثنين، 1 يناير 2018

النقد وسنينه ومحاربة طواحين الهواء


أن تكون ناقدا في هذه الفترة الحرجة من عمر الثقافة العربية؛ يعني أن تكون رجلا في مواجهة العالم؛ فيُعاديك الجميع، أو يحاولون افتعال العداوات معك. النقد الآن يعني أن تحتمل كل سهام العالم- الطائشة منها وغير الطائشة- لتستقر في صدرك؛ فإما أن تكون على قدر المسؤولية المقدسة لمعنى النقد، أو تنزلق في المستنقع الثقافي الذي يعيش فيه العرب وتضحى مجرد مادح للجميع، مُتكسب مما تكتبه، قادر على تكوين شبكة علاقات اجتماعية شاسعة، وتصبح عضوا في دولة نقاد أكل العيش.
ربما كان هذا الحديث مجرد وصف دقيق للحالة الثقافية والنقدية التي تعيشها الآن المنطقة العربية التي لا ترغب نقدا من الآخرين، ولا كشفا لنقائصها وزيفها، وهوانها، وضعفها، وعلاقاتها المتردية؛ بقدر ما ترغب في التجمل، والمجاملات، والنفاق، والرياء، والزيف؛ ليشعر المنقود في النهاية بالحالة الطاووسية التي يرغبها؛ ويتيه على الجميع باعتباره كاتبا عظيما لا يُشق له غبار؛ ومن ثم يحدث تزييف حقيقي للحالة الثقافية بالكامل يُشارك فيها الناقد في قتل الوعي الاجتماعي والثقافي للقارئ الذي يثق فيه ويأخذ حديثه على محمل الجد؛ فيصدق زيف الكاتب في نهاية الأمر؛ ومن ثم نرى أشباه الكتاب عمالقة مقدسين لا يمكن أن يقربهم أحد، بينما الكتاب الحقيقيين يقعون في المنطقة المظلمة من الثقافة العربية فيكونون طي النسيان.
إذن فعدم التزام الناقد بالمعنى الحقيقي للنقد يؤدي بالضرورة إلى قتل الوعي لدى الغالبية العظمى من المجتمع، أي أنه يشترك في جريمة تفوق في حقيقتها جرائم الحروب والإبادات الجماعية، ولعل هذا ما يجعلني دائما أتذكر ما قاله لي ذات يوم الناقد السينمائي الراحل سمير فريد: "أن تكون ناقدا يعني أن تقطع علاقتك بكل من لهم صلة بالوسط الذي تكتب عنه؛ حتى لا توهنك العلاقات وتعطلك عن أداء دورك المنوط بك"، وهذا بالفعل ما يجب أن يحرص عليه الناقد حينما يريد أن يكون ناقدا له فاعليته ودوره الحقيقي في الوسط الذي يكتب عنه؛ ومن ثم يجب أن تكون علاقاته بهذا الوسط مجرد علاقات سطحية لا عمق حقيقي لها؛ كي يستطيع امتلاك حريته فيما يكتبه من دون تخوف أن يخسر صداقاته وعلاقاته الإنسانية.
هذا الأمر يُذكرني أيضا بحديث دار بيني وبين الروائي الجزائري بشير مفتي، كنت أتحدث معه عن رواية أحد الأصدقاء وأنها من الأعمال الضعيفة التي لا تستحق؛ فقال لي: لكن هذا الحديث لن يعجبه وستخسره كصديق، فكان ردي عليه: هو صديقي، ولكن نصه ليس صديقي.
النقد يعني أن تتجرد من كل شيء، أن تتعامل مع النص فقط من دون أي اعتبارات أخرى، أن تكون قاضيا نزيها لأنك ستطلق حكما قد يؤدي إلى إعدام أحدهم؛ وهنا إما أن تكون على قدر مسؤوليتك، أو تتخلى عنها تماما لتترك هذا المجال الذي لا يحتمل الخطأ، أو الأهواء، أو الذوق؛ فليس معنى أن ذوقك لا يتناسب مع النص الذي بين يديك كناقد أن هذا النص ركيك أو ضعيف؛ لأن الذوق هنا لا علاقة له بآلية النقد من عدمه، كما أن حبك أو كرهك لمن كتب النص لا علاقة له كذلك بالنص الذي أنتجه هذا الشخص. حينما يستعد الناقد للحديث عن نص ما يتعرى تماما من كل علاقاته، ومشاعره، وحبه أو كرهه من عدمه، ومن ثم يصبح النص قيد النقد هو المحور الأساس الذي يتعامل معه الناقد بعيدا عن أي اعتبارات أخرى.
هذا الحديث يحتاج منا إلى تحديد معنى النقد في اللغة؛ كي لا تختلط الأمور مثلما يفعل الكثيرون من المزيفيين في واقعنا الثقافي حينما يرون كتابة نقدية عن نص ركيك فيقولون: "هذا ذوقك أنت"، مما سيعود بنا مرة أخرى إلى دائرة الذوق وعلاقته بالنقد التي هي في حقيقتها علاقة منبتة الصلة. فكل من يحاولون جذب النقد إلى دائرة الذائقة هم في حقيقتهم مجرد مُدلسين يرغبون في تزييف الوعي بجر النقد من عنقه وليّه، وتجريده من آلياته وشواهده، ودلائله التي لا يمكن أن يغفلها مُبصر ليدخلونها في النهاية إلى الدائرة الهشة القاتلة: دائرة التذوق التي لا معنى لها.
النقد والتنقاد في المعجم هو تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها، ويقول الليث: النقد تمييز الدراهم وإعطاؤكها إنسانا، أي أن النقد في نهاية الأمر لغويا يعني التمييز، وإخراج ما هو زائف مما هو صالح، ولعلنا نلاحظ هنا حتى في المعنى اللغوي أن النقد لا علاقة له بالعملية الذوقية التي لها علاقة بالمشاعر بقدر ما له علاقة بالعملية العقلية الإدراكية المتجردة تماما من المشاعر والمصالح والعلاقات.
إذا ما تأملنا العملية النقدية نستطيع أن نعرفها تعريفا بسيطا هو: إطلاق الأحكام المبنية على العديد من الدلائل والشواهد من داخل النص المنقود نفسه، أي أن النص قيد الانتقاد يعمل على توليد آلية نقده من داخله وليس من خارجه، بمعنى أني لا يمكن أن أدخل على النص المُنتقد جاهزا بالآلية النقدية، أو النظرية التي لابد من تطبيقها على النص؛ لأن هذا الفعل سيؤدي بالضرورة إلى ليّ عنق النص وإسقاط ما ليس فيه عليه، بينما الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن كل نص إبداعي يعطي آلياته ومفاتيحه للناقد من داخله؛ ومن ثم يعتمد الناقد على آليات النص التي تمنحه في النهاية آليات العمل النقدي، وهنا تكون الأحكام النقدية المتولدة من داخل النص اعتمادا على شواهده ودلائله الداخلية- من النص نفسه- هي أحكام نقدية قطعية اليقين لا علاقة للمشاعر أو الذوق بها بقدر اعتمادها على العقل المجرد تماما.
هنا لابد من طرح سؤال من الأهمية بمكان ما يجعلنا غير قادرين على إغفاله: ما الذي جرى للثقافة العربية حتى غاب عنها الناقد الجرئ وحل مكانه الناقد المداهن؟
الكارثة الحقيقية أن الثقافة العربية في الآونة الأخيرة انحدرت وتدهور بها الحال إلى أقصى درجة؛ مما جعل المداهنة والنفاق والتسول- أو فلنقل التكسب- بات هو قانون الناقد؛ ليكتسب ود وصداقة ورضى الكاتب وهو ما سيعود عليه بالفائدة في نهاية الأمر، سواء كانت هذه الفائدة مادية متمثلة في دعوات لمؤتمرات ومهرجانات ومناصب قيادية في العديد من الصحف والمجلات، واستكتاب هنا وهناك، وتحكيم في المسابقات الفنية والأدبية، أو معنوية بتشغيل عجلة إنتاج الزيف؛ وبالتالي يصبح هذا الناقد الذي لا قيمة حقيقية له من أهم كتاب المنطقة العربية في نهاية الأمر في حين أنه لا يصلح لأي شيء في حقيقته.
لكن ما زال السؤال مطروحا ولم يجد الإجابة الوافية عنه حتى الآن. إذا ما تأملنا قليلا ما يدور حولنا في المنطقة العربية سنصل إلى حقيقة مفادها أن معظم من يعملون في مجال الكتابة سواء كانوا نقادا، أو كتابا يعيشون في ظروف اقتصادية متردية، أي أن الكتابة في منطقتنا العربية لا يمكن لها أن يتعيش منها كاتبها إلا فيما ندر من الكتاب، وهذا الضغط الاقتصادي يؤدي في النهاية بنسبة غير هينة منهم إلى المداهنة والنفاق للتكسب من الكتابة، وتكوين شبكة علاقات اجتماعية ضخمة تساعده في أن يعيش معيشة رغدة من الكتابة الفاسدة والمُفسدة لكل شيء. هنا يصبح الناقد والكاتب معا فاسدين ومفسدين للمجال الثقافي بالكامل، ثم حدث أن دخلت بعض دول الخليج بأموالها الضخمة التي تحاول ضخها في المجال الثقافي، وصنعت مجموعة كبيرة من الجوائز الضخمة بأموالها وهو ما جعل النقاد قبل الكتاب يسيل لعابهم على هذا السيل من الأموال الذي لا ينتهي؛ فاكتملت شبكة الفساد الثقافي وباتت ضخمة وفولاذية بعدما كانت هشة وإن كانت قاتلة؛ فأموال هذه الدول التي يتم ضخها في المجال الثقافي لم تكن مجانية، أو لوجه الله والثقافة فقط، بل كانت من أجل إنشاء تاريخ عظيم من الوهم الثقافي بأن هذه الدول التي لا تاريخ ثقافي حقيقي لها، ولا تراكم عندها هي دول راعية للثقافة مُحبة لها، راغبة في تقدمها وتطورها بدليل هذا الضخ الذي لا ينتهي من الأموال في مجال الثقافة، وإنشاء الكثير من المجلات، والصحف، والجوائز وغير ذلك، لكننا إذا ما تأملنا هذه الجوائز والصحف لوجدنا أنها من دون طعم أو رائحة، أي أن الصحف جميعها لا ترغب في ثقافة حقيقية، أو اشتباك ثقافي حقيقي، بل هي راغبة في الثقافة التي لا لون لها بدعوى أنهم لا يرغبون الاشتباك مع أحد أو الإساءة إلى أحد- لابد هنا من ملاحظة أن النقد الحقيقي الذي يقول: إن هذا النص فاسد أو ركيك يرونه في نهاية الأمر إساءة، وهو ما يتعارض حتى مع المعنى اللغوي للنقد-، كما أن معظم هذه الجوائز لا تُمنح إلا للنص الباهت الذي لا يتحدث عن موضوع حقيقي، ولا يقرب كثيرا من الدين، أو الجنس، بل هناك بعض الجوائز التي تضع شرطا مهما فيها وهو عدم تعرض النص للدين أو الجنس، أي أن أموال بعض دول الخليج التي يتم ضخها في المجال الثقافي ترغب رغبة حقيقية في تنميط الأدب والفن تبعا لثقافتهم، ورؤيتهم، وتصورهم عن الثقافة وبأموالهم التي يدفعونها.
هنا فسد كل شيء، بل فسد الكاتب قبل الناقد الذي خضع لآليات المجتمع وعجلة الاقتصاد المتحكمة في كل شيء، فرأينا الكاتب الذي يكتب روايته خصيصا من أجل الجائزة الفلانية، وتبعا لشروطها، وآلياتها، ورغباتها؛ فيخرج النص ركيكا مفككا، باهتا، نمطيا تبعا لما ترغبه الجهة المانحة، وبما أن الناقد قد تم اختياره في لجنة من لجان التحكيم الخاصة بهذه الجوائز التي وضعت شروطها، وبما أنه سيأخذ مبلغا ضخما مقابل هذا التحكيم فهو خاضع أيضا لنفس الآليات التي وضعتها الدولة المانحة؛ وبالتالي سيختار النص الأكثر نمطية وركاكة ففسد الناقد والكاتب والحياة الثقافية بالكامل.
هنا لابد من ملاحظة شيء مهم هو: أن الناقد دوره لم يتوقف عند اختيار النص الأسوأ باعتباره الأجود في حين أنه استبعد ما هو جيد لصالح الردئ، بل إن الناقد يبدأ فيما بعد في الكتابة الغثة، المداهنة، المنافقة، الكاذبة، المزيفة عن النص الردئ، والذي يعلم جيدا أنه نص ردئ، لكنه لا بد أن يؤدي دوره بالكامل؛ للمزيد من المكاسب والرضى من قبل الجهات المانحة؛ ومن ثم رأينا الكثير جدا من المقالات النقدية للعديد من الأسماء التي كانت مهمة- وإن أفسدتها العلاقات- لتكيل المدح والإطراء عن العديد من الأعمال التي لا يمكن أن تستحق قيمة الورق الذي طُبعت عليه، وهنا رأينا الكثير من الأسماء التي لا قيمة لها باتت عمالقة في عالم الأدب في حين أنهم يعجزون عجزا حقيقيا في تركيب جملة واحدة صحيحة سواء على مستوى البنية اللغوية أو الأسلوبية فضلا عن ركاكة المبنى الروائي الذي يقدمه هذا الكاتب، بينما بات الكاتب الحقيقي طي النسيان تماما لا يعرفه أحد.
لكن هل كانت الظروف الاقتصادية للكاتب والناقد فقط هي ما أدت إلى مثل هذا الانهيار الثقافي العربي؟
بالتأكيد هناك العديد من الظروف الأخرى فحينما حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الآداب عام 1988م مثلا، بدأ العالم كله ينتبه إليه، وصار هناك سباقا حقيقيا للكتابة عن العربي الوحيد الذي نال نوبل في الآداب، ومن ثم انصب هذا السباق النقدي والأكاديمي بأكمله في مديح الكاتب ونفاقه فقط، ولعلنا ننتبه إلى أن محفوظ قد صدر عنه ما يقارب الألف كتاب حتى اليوم، وهذا جيد، ولكن غير الجيد أن جميع هذه الكتب وكل ما كُتب عن الرجل قد تغاضى عمدا عن المشاكل الحقيقية في كتابة الرجل، أي أن جميع ما كُتب عنه كان مجرد مديح فقط مع إغفال الكثير من المشكلات الكتابية التي وقع فيها الرجل، وهي مشكلات في الكتابة غير خاضعة لقانون زمن كتابة العمل؛ فنحن في المجال النقدي نفهم أننا لا بد أن نتعامل مع النص المكتوب وفقا لفترته التاريخية التي كُتب فيها، وقدر التطور في الشكل الكتابي الذي وصلت إليه الكتابة في هذه الفترة الزمنية، ومن هنا نستطيع التعامل مع النص المكتوب، أي أنه لا يجب إخضاع النص المكتوب في الأربعينيات من القرن الماضي لنفس الآليات النقدية والتطور في الشكل الكتابي الذي وصلنا إليه الآن، وهذا ما يجب فعليا أن يكون.
إلا أن الكارثة الحقيقية أن كل ما صدر عن محفوظ تغاضى بالفعل عن مشاكله التي لم تكن خاضعة لمفهوم التطور الزمني في شكل الكتابة بقدر ما هي خاضعة فعليا لعملية الكتابة في حد ذاتها؛ وبالتالي لم نجد من يشير إلى أن مستوى الحوار مثلا في جميع أعماله الروائية والقصصية هو مستوى واحد من الحوار لم يختلف وكأن المتحدث في جميع الأعمال، بل وجميع الشخصيات هو شخص واحد فقط الذي يتحدث وليس شخصيات وأعمال متعددة، فإذا ما كنا نتفق دائما على أن الشخصية لابد لها أن تتحدث بما يليق بثقافتها ومكانتها في المجتمع؛ فهذا يعني أن البائع لن يتحدث بلغة المثقف أو العكس، لكن محفوظ جعل جميع الشخصيات تتحدث بنفس مستوى الحوار لدرجة أننا نجد في أعماله مفردة مثل "بلى"، أو "كلا" وهو ما لا يمكن أن نهضمه أو يتوافق مع الواقع.
هذا فضلا عن أننا نرى معظم الشخصيات لدى محفوظ تتحدث وفقا للغته هو ككاتب، أي كنجيب محفوظ، ومن ثم تشعر أنه هو الذي يتحدث وليست شخصياته، وقد انعكس هذا بالضرورة على تفكير معظم الشخصيات؛ فتجد شخصية ما بسيطة جدا لا يمكن لها أن تحتمل التفكير الفلسفي أو الحديث المتفلسف لكنه أراد لها أن تكون شخصية متفلسفة؛ ومن ثم يُكسبها من الحكمة والتفلسف ما لا تحتمله الشخصية.
مثل هذه العوائق الحقيقية في الكتابة والمشكلات التي لا يمكن أن يتقبلها النقد تغاضى عنها تقريبا معظم من كتبوا عن محفوظ نتيجة سطوة حصوله على جائزة نوبل؛ فبات الرجل مقدسا لا يمكن أن يمسه أي شخص وإلا لاقى من السخرية، والهجوم العنيف ما لا يمكن احتماله؛ ففسد الكثير من النقاد أيضا.
المشكلة في المأزق النقدي الذي وصلنا إليه لم تنحصر في فساد النقد والنقاد فقط مما أدى إلى تراجعه أو ما يشبه حالة الموات الحقيقي، بل تعدت هذا الأمر إلى سذاجة ما يُكتب اليوم باسم النقد؛ فحينما انحسر دور النقاد في كيل المدح والمداهنة فقط للبعض، ومن ثم أدى ذلك بالضرورة إلى إغفال العديد من الأسماء الروائية المهمة؛ لعدم وجود مصالح من ورائها بدأ العديدون من الكتاب يطلقون صيحة: أنهم لا بد أن يكتبوا عن بعضهم البعض؛ لتعويض الفقر الشديد والحاجة في العملية النقدية، ورغم أن هذا المنطق قد يكون مقبولا إلى درجة ما إلا أنه أدى إلى التجرؤ على العملية النقدية بشكل وقح؛ فرأينا العديد من الكتاب يكتبون ما يطلقون عليه نقدا في حين أنه مجرد عرض للكتاب فقط أو تلخيصا لمحتواه من دون امتلاك أي آلية من آليات النقد أو أدواته، وهنا بدأ مفهوم النقد ينحصر لدى العامة في أنه مجرد تلخيص لمحتوى العمل الأدبي؛ مما أدى إلى المزيد من التجرؤ على العملية النقدية، وبات كل قارئ هو ناقدا بالضرورة؛ فرأينا كل من يقرأ كتابا يكتب كلاما غثا ليقول: نقد، أو ريفيو عن رواية كذا، في حين أنه ليس أكثر من مجرد تلخيص لمحتوى العمل، ومجرد أحكام ذوقية لا تستند إلى أي آلية نقدية، وهو ما جذب المفهوم النقدي بقوة إلى دائرة المفهوم الذوقي فبات كل ما هو نقديا خاضعا خضوعا حقيقيا لما هو ذوقي ففسد النقد والذوق معا.
لعل هذا ما جعل المسؤولين عن الصفحات الثقافية في معظم الصحف العربية- ومعظمهم لا علاقة حقيقية لهم بالثقافة- يتناولون الأعمال الأدبية باعتبار أن ما يكتبونه نقدا لا يشق له غبار رغم عدم فهمهم أو امتلاكهم للأدوات النقدية الحقيقية؛ مما أوصلنا إلى مرحلة ركاكة النقد، أو ما يُطلق عليه نقدا.
هنا بات الناقد الحقيقي غريبا في الوسط الثقافي بعدما ترسخ مفهوم الذوق، ومفهوم المدح والمداهنة باعتبار أنه النقد الحقيقي؛ فأصيح الناقد الذي يكتب نقدا موضوعيا مستندا على أدوات نقدية ودلالات وشواهد من داخل النص نفسه مجرد حاقد، وحاسد، وله مصالح، ويصفي خلافات، وفاشل يرغب في النجاح باستثمار نجاح الآخرين- الذين هم فاشلين في جوهر الأمر-، أي أنك كناقد إذا لم تمتدح، وتداهن؛ فأنت بالضرورة فاشل وحاسد ومن ثم يكون هناك هجوما لا يحتمل على هذا الناقد؛ الأمر الذي يجعل الكثيرين من النقاد إما أن يسيروا مع القطيع الجاهل الفاسد في حقيقة أمره، أو يمسك عن الكتابة النقدية تماما، أو يكتب عن الأعمال التي يراها جيدة فقط حتى لا يتعرض لهذا السيل الهادر من الهجوم وبذلك يكون في مأمن من الآخرين.
لا يمكن إنكار أن هذه المشكلة النقدية تسبب فيها النقاد منذ البداية، لاسيما النقاد الأكاديميين الذين لم يفهموا أن النقد ليس إلا عملية إبداعية موازية للنص المكتوب، ورأوا أن النص لابد أن يكون خاضعا للنظرية النقدية سواء كانت هذه النظرية محلية- وهذا هو النادر- أو مستوردة- وهذا هو الشائع-؛ فرأينا هؤلاء النقاد الأكاديميين يحرصون على إخضاع النص للنظرية وليّ عنقه، أي أنهم يدخلون على النص كي يصبونه في قالب هذه النظرية؛ فإما أن يكون على مقاسها أو يكون ركيكا مبتذلا سيئا، أو يحمّلون النص ما لا يمكن أن يحتمله نقديا أو عقليا، هذا فضلا عن أن الأكاديميين من النقاد ظنوا ظنا خاطئا أنهم كلما تقعروا في الاصطلاحات النقدية الأجنبية، وكلما جاءوا بما هو ليس مفهوم للعامة من القراء باتوا عظاما ولهم هيبة نقدية لا تضاهيها هيبة، وهو ما أدى بالضرورة إلى وجود صدع حقيقي بين القارئ والعملية النقدية، وبالتالي انصرف القارئ تماما عن متابعة المقالات أو الكتب النقدية؛ لأنه في الحقيقة لا يفهم منها شيئا بسبب محاولات تقعر هؤلاء النقاد الذين يتحدثون إليه بما لا يمكن له أن يفهمه.
هنا انبتت العلاقة تماما بين الناقد والقارئ، ونسى القارئ أن هناك ما يمكن أن يسمى نقدا، وهو ما يفك له شفرات النص ويصبح إبداعا موازيا يمتلك من المتعة أثناء القراءة ما يمتلكه النص الأدبي أو الفني نفسه؛ فدخل إلى المجال النقدي كل من لا علاقة له به، وبات ناقدا شكليا تبعا لما يراه القارئ الساذج وانقلب المفهوم النقدي من معناه ومحتواه الحقيقي إلى مجرد تلخيص الأعمال الفنية والأدبية ثم إطلاق حكما ذوقيا في النهاية لا يعتمد على شواهد أو دلالات نصية من داخل النص.
نحن في حاجة فعلية إلى إعادة الجسر والوشائج بين القارئ والناقد أولا؛ ليعود القارئ مرة أخرى إلى قراءة النقد، وهذا لا يمكن له أن يكون إلا بالكتابة النقدية الحقيقية التي لا تمتدح الأعمال السيئة أو تُداهن العديد من الكتاب الذين يعتمدون الركاكة منهجا لهم، فإذا ما عادت الثقة بين القارئ والناقد استطعنا أن ننهض مرة أخرى بثقافتنا العربية المتداعية تماما، ولاستطاع القارئ اكتساب نفس المتعة التي يشعرها مع النص الأدبي حينما يقرأ نقدا حقيقيا.




محمود الغيطاني


مجلة الجديد
عدد يناير 2018م





هناك تعليق واحد:

  1. متفق مع الغيطاني كثيرا في موضوع خلق "نمطا " تافها من الكتابة العربية واعطائه الجوائز ليصبح هو النمط المركزي لعديد من الكتاّب الذين لا يمتلكون موهبة حقيقية او احساس بالمغامرة الإبداعية. بالنسبة لمحفوظ فانا ارى - مثلا - ان شخصية حميدة في زقاق المدق هي شخصية "محفوظية " بامتياز؛ فالبرغم من انها حاولت ان تتمرد على مصيرها وقدرها في " الزقاق " الا انه حول هذا التمرد الى شخصية "عاهرة " ويموت من يحاول انقاذها اي ان انقاذها هو بلا جدوى وكذا شخصية الشقيقة في بداية ونهاية ..التمرد عنده "جنسيا " لكنه يؤدي الى " الموت" وبالتالي فانا ارى ان معظم شخصياته النسائية مكتوب عليها منه بالفشل والانحدار مثل شخصية الانثى في اللص والكلاب يحولها الى خائنة" المباديء " النضالية ويجعل المومس بديلا لها .. والحديث يطول عن شخوص محفوظ وتأطيره لها - رءوف مسعد

    ردحذف