الاثنين، 15 مايو 2017

أربعون عاما في انتظار إيزابيل.. وقائع تاريخ الهزيمة


بعدما تسلم الشاذلي بن جديد السلطة في الجزائر كرئيس لها عام 1979م حاول قدر جهده النهوض بالاقتصاد المتعثر للجزائر غير مرة، وربما كان انخفاض أسعار النفط في هذه الفترة- لاسيما في منتصف الثمانينيات 1986م- من ثلاثين دولارا للبرميل إلى عشرة دولارات فقط؛ ما ترك بأثره على الاقتصاد الجزائري الذي ظل يتجه نحو المزيد من التدهور؛ فازدادت نسبة البطالة، واختفت الكثير من السلع الأساسية رغم رغبة بن جديد في تأسيس اقتصاد حر يستطيع أن يثب بالجزائر وثبة اقتصادية هائلة.
تركت الكثير من المشاكل الاقتصادية التي عجزت الحكومات عن حلها بشكل جذري؛ والتي أدت بالضرورة إلى العديد من المشكلات الاجتماعية أثرها في ظهور تيار آخر يتخذ من الدين ستارا له في تفسير كل شيء، بل ويعمل على فرض فهمه للدين على الجميع بالإرغام؛ ومن ثم قام هذ التيار بتفسير التخلف والتردي على المستويين الاقتصادي والاجتماعي وردهما إلى ابتعاد المسلمين عن التطبيق الصحيح لنصوص الشريعة الإسلامية وتأثر الحكومة الجزائرية بحكومات الغرب الممثلة في فرنسا.
هنا بدأ هذا التيار يكتسب شيئا فشيئا عددا كبيرا من الموالين له؛ لاسيما أنه يعزف على وتر الدين الذي قليلا ما يناقشه أحد وبالتالي يضحى الجميع منساقين خلف تفسيراته مغمضي العيون، مُعطلي العقول مهما كانت هذه التفسيرات لا علاقة لها بالمنطق أو العقل السليم؛ ومن ثم بدأ هذا التيار في النشاط تدريجيا، وأصبح له قواما واضحا في المجتمع الجزائري؛ فبدأوا يستهدفون محال المشروبات الروحية، والضغط على السيدات بارتداء الحجاب، إلى أن طالب هذا التيار في عام 1982م بتشكيل حكومة إسلامية في الجزائر.
في عام 1988م كانت أحداث "أكتوبر الأسود"، أو "انتفاضة أكتوبر"، حينما تصاعد الغضب في قطاعات كبيرة جدا في الشارع الجزائري؛ الأمر الذي أدى إلى سلسلة من الإضرابات الطلابية والعمالية العنيفة التي أدت إلى الكثير من أعمال التخريب للممتلكات الحكومية في كل من عنابة والبليدة؛ مما أدى إلى إعلان الحكومة الجزائرية حالة الطوارئ واستخدام العنف المضاد؛ فكانت النتيجة مقتل حوالي 500 مواطن، واعتقال ما يزيد عن 3500 آخرين. هنا سيطرت بعض الجماعات التي تنتهج الإسلام السياسي على بعض المناطق في الجزائر كما طالبت العديد من منظمات المجتمع المدني بن جديد بإجراء تعديلات وإصلاحات؛ فقام الشاذلي بن جديد ببعض الإجراءات التي شجعت على حرية الصحافة والرأي والتعبير؛ الأمر الذي أدى إلى إنشاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ في مارس 1989م على يد كل من عباس مدني، وعلي بلحاج بعد التعديلات الدستورية وإدخال التعددية الحزبية، ولعلنا لا ننسى أن عباس مدني كان أستاذا جامعيا كما شارك في حرب التحرير الجزائرية، أي أنه له مكانة في المجتمع الجزائري، كما كان يُمثل التيار الديني المعتدل، لكن علي بلحاج كان أكثر عنفا وتطرفا في حركته الدينية حيث كان يرى أن المصدر الوحيد للحكم هو القرآن، وإذا كان اختيار الشعب منافيا للشريعة الإسلامية فهذا كفر وإلحاد حتى إذا كان هذا الاختيار قد تم ضمن انتخابات شعبية.
لا يمكن إنكار أن التعديل الدستوري وإعطاء فرصة للتعددية الحزبية في الجزائر كان من أفدح الأخطاء التي فعلها الرئيس الشاذلي بن جديد التي أدت للإطاحة به؛ لأنه من خلال هذه الحريات والحقوق بدأت الجماعات الإسلامية تنفذ في المجتمع والسياسة الجزائريين، ومن ثم تحاول الصعود إلى السلطة والحكم، وفي انتخابات 1990م تغلبت الجبهة الإسلامية بسهولة على الحزب الحاكم "جبهة التحرير الوطني"، المنافس الرئيس في الانتخابات؛ الأمر الذي دفع الحكومة إلى إجراء تعديلات في قوانين الانتخابات لصالح الحزب الحاكم؛ فدعت الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى إضراب عام كرد فعل على ما فعله الحزب الحاكم؛ مما أدى إلى إعلان الأحكام العرفية في 5 يونيو 1991م واعتقال كل من عباس مدني وعلي بلحاج، ولكن في ديسمبر 1991م حصلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ على أغلبية المقاعد في الدور الأول من الانتخابات بما يساوى 188 مقعدا من أصل 232 وفي محاولة يائسة من النظام للهروب من هذه النتيجة الانتخابية تم تأسيس المجلس الأعلى للدولة الذي تكون من خمسة أعضاء هم الجنرال خالد نزار "وزير الدفاع"، وعلى كافي، وعلى هارون، والتيجاني هدام، ومحمد بوضياف؛ فقاموا بحكم الجزائر وإجبار الشاذلي بن جديد على الاستقالة من الرئاسة وألغوا نتائج الانتخابات السابقة، وكان رئيس المجلس هو بوضياف الذي اغتيل في ظروف غامضة من أحد حراسه وهو بومعرافي لمبارك في 29 يونيو 1992م ليحل مكانه على كافي إلى أن تم استبداله باليمين زروال في 31 يناير 1994.
ربما نلاحظ هنا أن الجيش لم تعجبه نتائج الانتخابات التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالنتيجة الساحقة؛ ومن ثم كان من الممكن أن تتولى زمام الحكم في الجزائر بسهولة؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى تحويل الجزائر إلى دولة إسلامية؛ فقام الجيش بتوجيه الشاذلي بن جديد من أجل إلغاء هذه النتيجة، لكنه رفض ذلك بعد أن وعد شعبه بأن تكون النتائج من اختيار الشعب؛ الأمر الذي أدى إلى إجباره على الاستقالة من الرئاسة في 11 يناير 1992م وهنا بدأت سنوات العشرية السوداء التي كان من نتيجة الصراع المسلح فيها حوالي 200000 قتيل.
على هذه الخلفية السياسية وبداية صعود المد الإسلامي للجبهة الوطنية للإنقاذ لتندلع حركة الصراع المسلح باسم الدين فيما أُطلق عليه العشرية السوداء في الجزائر تدور أحداث رواية سعيد خطيبي "أربعون عاما في انتظار إيزابيل". صحيح أن خطيبي لم يذكر أي شكل من أشكال تفاصيل هذا الصراع، ولم يحاول الخوض في أي حديث مباشر عنه، إلا أن الرواية كانت متخمة بأجوائه لاسيما أنه يتحدث عن الفترة الأولى من بدايته وفوز الجبهة الوطنية للإنقاذ في الانتخابات في مرحلتها الأولى وبداية الاحتقان على المستوى السياسي في الجزائر، وبداية ظهور التيار الديني وما يتبعه من سلوك عدواني تجاه الجميع باعتبارهم ليسوا على نفس شاكلة الإسلاميين.
لعل أهم ما يميز رواية خطيبي هو اللغة والاقتصاد في الحديث عن الأحداث السياسية والاجتماعية، ومن خلال لغته السردية المتميزة نلمح براعة في الخيال والتصوير السردي حينما يقول: "أتصور الأرض وهي تدور الآن، تُسرع في دورانها، وتطرح الزوائد من البشر، الذين يثقلون حركتها مثلي، خارجها، تتركهم يسبحون في الفضاء اللامنتهي، بلا وجهة، كجثث بلا هوية، تتحرر من الأوزان الإضافية، التي لا فائدة منها، ببصق من يُضايقها وجودهم، في درب التبانة الواسع، وتكمل دورانها برشاقة أكبر"، ورغم أننا ندرك جيدا أن الأرض لا يمكن لها الخلاص ممن يعيشون عليها بمثل هذا الشكل الذي ذكره خطيبي إلا أنه شكل من أشكال السرد الفني المتناسب تماما مع الخيال؛ الأمر الذي نراه يعمل على إثراء السرد الروائي.
في رواية "أربعون عاما في انتظار إيزابيل" نعرف حكاية جوزيف رينشار الذي يقوم بدور الراوي في الرواية، وهو مقاتل فرنسي قديم خدم في فرنسا، ثم انضم فيما بعد لصفوف المقاتلين الجزائريين للنضال الجزائري ضد فرنسا، ولم يلبث أن اختار الحياة في مدينة بوسعادة جنوب الجزائر مع صديقه سليمان الذي شاركه في الخدمة في فرنسا.
إذن فهو شخصية فضلت الحياة في جغرافيا غير جغرافيتها، واختار دين غير دينه حيث أعلن إسلامه هناك، وتاريخ غير تاريخه مؤمنا أن هذا هو الأفضل له، ورغم أنه انتقل إلى جنوب الجزائر تاركا حياته في فرنسا منذ عام 1951م إلا أنه يعيش مأساة إمكانية عودته إليها مرة أخرى بعد أربعين عاما كاملة قضاها في الجزائر، وانقطعت كل علاقاته وحياته بفرنسا؛ فبعد كل هذه المدة بدأ الناس من حوله يتغيرون في طريقة معاملتهم له، بل وبدأ الجميع يتغيرون باتجاه الجهامة والتنكر لكل من هو غريب أو غير مسلم ويتجنبونه؛ نتيجة فوز الإسلاميين في الانتخابات ووجود إمكانية حكمهم للبلد.
إيزابيل إيبرهارت
هنا نلاحظ أن الروائي من خلال راويه- جوزيف- كان حريصا على بث الكثير من هذه المظاهر المتشددة في سياق سرده الروائي بشكل عفوي لا شبهة تعمد فيه- وهذه من أهم تقنيات الكتابة السردية الروائية- أي العفوية رغم قصديته لسوق هذه المظاهر والأحداث، ومن خلال هذه العفوية يكون السرد الروائي الصادق، فهو حينما يتحدث عن مليكة ابنة الأربعة عشر ربيعا متأملا إياها يقول: "أتمنى لها حياة أفضل، أن تجد رجلا وسيما وجادا يُناسبها ويحبها، وأن لا تبقى طويلا في هذا الحي البائس، بين حيطان بناياته الكولونيالية، بين مسجد ومقبرة للشهداء وأعين شرسة تترصد كل أنثى، كي لا يتحرش بها المعتوه عبد الكريم طيطي، فقد سمعت أنه صار يتحرش، أمام الناس، بالفتيات اللواتي يرتدين تنانير قصيرة، ويرمي الحمض الحارق على سيقانهن، وقد توعد لو أبصر واحدة منهن في خلوة، بصحبة رجل غير محرم لها، أن يفقأ عينها"، إذن فالوضع الاجتماعي هنا لا يبشر بالخير، ولا يختلف كثيرا عن الثقافة الوهابية في السعودية التي عملت على تصدير ثقافتها لمعظم بلدان المنطقة تقريبا، لذلك فعبد الكريم طيطي: "قام أولا بالتشاجر مع شباب في العشرينيات، في مثل سنه، تغلب عليهم واحدا تلو الآخر، وأعلن نفسه بعدها سيدا مطاعا، يُلزم أحيانا أصحابه من غير المصلين، على الوضوء والصلاة في المسجد، وينظم حملات لمنع السكارى من الدخول إلى بيوتهم ليلا، يُجبرهم على النوم في الشارع عقابا لهم".
يلاحظ جوزيف الذي بلغ من العمر أرذله ولم يعد له من مكان ولا أناس سوى مدينة بوسعادة التي شكلت تاريخه خلال أربعين عاما كاملة، أن كل شيء يحدث حوله يهدده بالرحيل، أو يهدد حياته إذا لم يرضخ لهذا الرحيل؛ فهو يمضي حياته في الأيام الأخيرة كلها مجرد متأمل لما يدور حوله من تقلبات اجتماعية وسياسية واقتصادية لا تبشر بالخير على الجزائر كلها وليس المدينة التي يُقيم فيها فقط، فبعدما نجحت جبهة الإنقاذ في المرحلة الأولى من الانتخابات؛ أعلنت أنها سوف تؤمم ممتلكات الأجانب جميعا، أي أن جوزيف سوف يطاله الأمر أيضا رغم أنه كثيرا ما أعطى الجميع من ماله ومن عمره إما بالمساعدات المالية للجميع، أو بالحرب مع المجاهدين ضد فرنسا وطنه الأصلي فيقول: "لاحظت في الأيام الماضية، أن الناس صاروا يتجنبون السير على الرصيف الموازي للكنيسة، يفضلون السير والازدحام على الرصيف المقابل، كي لا يُخطئ ربما أحد ما الظن بهم، صاروا يتوجسون من مبنى عتيق، بُني في أوساط القرن التاسع عشر، أُزيلت من واجهته كل الإشارات التي تدل على هويته، لا صليب يعلوه ولا كلمة تُعبر عنه، لا يدق أجراسه، بعدما منعت البلدية قرع الأجراس منذ سنوات، ربما يرون فيه مبنى مُعاد لهم، ولتقاليدهم"، وهو ما يعود في التأكيد عليه حينما يتحدث عن ساحة أول نوفمبر حيث يقول: "حيطانها صارت تكتظ بملصقات، وقوائم طويلة بأسماء مرشحين للانتخابات، من أصحاب الوجوه الأربعينية والخمسينية والستينية، وجوه مربعة الشكل وأخرى مستطيلة، غالبيتها تظهر بلحى خفيفة، والبعض منها بلحى كثة، أما النسوة المترشحات فقد اختفين خلف خمار، أبيض أو بالألوان، وقبالتهم صور مرشحين آخرين، منافسين لهم، بربطات عنق وشوارب طويلة"، إذن فالجو السياسي العام والاجتماعي أيضا لا يطمئنان بأي وجه من الوجوه، وبات المشهد شديد القتامة ويفرض على الجميع الخوف مما هو قادم نتيجة هذا الشكل الديني المتشدد الذي يرغب في السيطرة على مقدرات الأمر في الجزائر كلها.
بات خوف جوزيف من كل ما حوله يسيطر على تفكيره؛ مما دفعه لاجترار الكثير من الذكريات منذ أن كان في فرنسا مع والدته وإخوته، إلى أن هاجر منها وأصر على الحياة الدائمة في الجزائر، ولعل هذا الخوف لا يمكن لومه عليه فهو يقول: "فُجعت من الخطبة الأخيرة لإمام المسجد، في صلاة الجمعة، صار الرجل فجأة أكثر شراسة من ذي قبل، يتحدث بلهجة واثقة، وبكلمات جارحة دون أن يُلقي لها بالا، فبعدما أتم الخطبة المحشوة بآيات رعب وأحاديث تهويل وتحريض على الاكتفاء بالذات، وقبل أن يُقيم الصلاة ويوقف حفلة تجييش نفوس الحاضرين كرها وحقدا ضد غير المسلمين، طلب من الجميع، من المصلين المقرفصين أمامه، والمصليات، اللواتي يقبعن صاغرات داخل حجرتهن الخلفية الضيقة، أن يرفعوا أيديهم بالدعاء، وراح يدعو بصوت مبحوح: اللهم انصر دولة الإسلام، واجعل بلدك هذا بلدا مسلما وآمنا، وأعزه برئيس يُطبق شريعة الإسلام وكتاب الله وسيرة نبيك.. اللهم دمر الكفار تدميرا، وهدّم بيوت من لم يتبع هدى محمد.. اللهم عليك باليهود والنصارى أذلهم واجعلهم للمسلمين عبيدا، والمصلون يرددون من ورائه بصوت عال: آمين"، هنا من خلال هذا المقطع يؤكد لنا جوزيف أن الحياة في الجزائر لم تعد ممكنة وبات المشهد فيها عبثيا تماما، فهاهم يمارسون لونا من ألوان العنف الذي لا يمكن احتماله في مساجدهم من خلال القول فقط، بل ويحقدون حقدا لا يمكن تخيله تجاه غيرهم من الديانات ويرغبون في استعبادهم باسم الدين، وبما أن جوزيف غريبا عن الجزائر باعتبار أصله الفرنسي، ورغم أنه أعلن إسلامه في الجزائر والجميع يعلمون ذلك، بل وذهب إلى السعودية من أجل الحج، إلا أنهم مازالوا ينظرون إليه باعتباره ليس مسلما حقيقيا، كما أنهم يرونه غريبا رغم حصوله على جواز سفر جزائري؛ وبالتالي صارت حياته مهددة مع هذا الجو السياسي والاجتماعي الجديد المشحون بالكره والمقت الديني لكل من هو غير مسلم، وغير جزائري.
هنا يحاول جوزيف إتمام ما عقد العزم عليه في رسم اللوحتين الباقيتين من يوميات إيزابيل إيبرهارت التي سبق أن عثر عليها لدى أحدهم منذ ما يقرب من الأربعين عاما، وساومه على امتلاكها مقابل مروحة كهربائية، ومنذ ذلك الوقت وهو حبيس هذه اليوميات؛ مما جعله يتخيل حياة إيزابيل ليل نهار، ويتساءل الكثير من التساؤلات في العديد من المواقف حول نظرة أو موقف إيزابيل تجاهه حينما تراه يفعل كذا أو كذا، لدرجة أنه وقع في عشقها تماما، ويكاد أن يعترف بذلك بينه وبين نفسه، ولعل هذا العشق من طرفه لإيزابيل الميتة هو ما جعله يتخيلها في كل المواقف، بل يحاول المقارنة بين حياته وحياتها فكأنه هو الوجه الآخر المذكر لإيزابيل، والحقيقة أننا نلمح من خلال الرواية الكثير من المواقف السردية التي تؤكد أن جوزيف هو الوجه المذكر لإيزابيل، بينما هي وجهه المؤنث الراحل، حتى أنهما يكادان أن يكونا شخص واحد فقط. نلاحظ ذلك من قوله: "كانت انعكاسا لي، كانت أنثى ببحة ذكر، كما لو أننا انتحلنا شخصيتين غير شخصيتينا الحقيقيتين، أو ربما خُلقنا لنعيش حياة غير تلك التي نريدها لأنفسنا، فأنا لم أفكر يوما في الحرب، لكني وجدت نفسي متورطا فيها، قتلت أناسا لا أعرفهم، في فرنسا وفي الجزائر، بالسكين وبالمسدس وبالرشاش "المات 49" الذي كنت أتداول عليه أنا وسليمان، سنوات ثورة الجزائر وكدت أُقتل في كمين نصبه الألمان، تماما مثلما حصل مع إيزابيل التي قتلت رجالا بهجرانها لهم، وكادت تُقتل بطعنة سيف، وهي شابة في الرابعة والعشرين، بسبب حماقة رجل كان يغار من وجهها وعلمها وزهدها".
هذه الرغبة في تمثل إيزابيل في كل دقائق حياته تدفعه إلى تفسير تاريخه وفقا لتاريخ وحياة إيزابيل، فهو يرغب في رد كل حدث، وكل سلوك سلكه إلى التشابه بينه وبينها وكأنه يتمثلها تماما فيقول: "في صغري، لم أفكر في الترحال، ووجدتني مثلها أغادر صقيع مدينتي الشمالية، وألجأ إلى هذه البقعة المتكاسلة والصادمة، فلا شيء كان يُنبيء بأني سأبقى فيها أكثر من بضعة أسابيع، لكنني فعلت"، كذلك هو يعمل على رد سلوكه إلى سلوكها وكأنهما يتميزان بنفس الميزات السلوكية: "كنت عنيفا مع نفسي أكثر مما ينبغي، وفظا مع الآخرين، وتافها، ولكن لم أكن أسوأ من إيزابيل، التي كانت أكثر تطرفا مني في علاقاتها مع عائلتها، ومع أمها تحديدا، لقد صدمت من أحبوها وصدمتني أيضا يوم قرأت قصة حياتها المرقعة بغدر وخيبات من المقربين، لكن معاركها الداخلية، ونفورها من بعض أهلها، لم يمنعها في النهاية من أن تعيش حياتها كما يحلو لها، وتتقلب في الدنيا الفسيحة بين المرارات وانتهاك المحرمات، وتجعل خصوما لها يحبونها، أكثر فأكثر يوم رحيلها"، كل هذا الحب الذي يكنه لإيزابيل التي لم يعرفها إلا من خلال يومياتها التي كتبتها في حياتها يجعله راغبا في التماهي الكامل معها وكأنهما واحد فيقول: "إيزابيل كانت أسوأ حالا مني في علاقاتها بمدينيها، كانت تتهرب منهم، هي وزوجها سليمان أهني، وتخفي وجهها عن أعينهم كي لا تدفع ما عليها من ديون، لكن إيزابيل كانت فعلا في وضع مادي صعب، كانت فعلا بحاجة للمال لتعيش ولتأكل خبزا وتُدفئ جسدها النحيف، كانت تتسول ولكن بطريقة محترمة"، أي أنه يحاول أن يكونها في كل وضع من الأوضاع لدرجة أنه تمنى أن يُدفن معها في مقبرتها حين موته عله يلتقيها تحت التراب.
الشاذلي بن جديد
تبدو لنا رواية سعيد خطيبي باعتبارها مجموعة من الذكريات والحكايات التي يحكيها رجل بلغ خريف العمر يجلس متأملا مع ذكرياته وتاريخه وما يدور حوله من تغيرات، وكلما لاحظ هذا التغير الخطير في البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية في المجتمع المحيط، كلما رده هذا التأمل إلى تذكر العديد من الحكايات التي عاشها هو وصديقه سليمان الذي عاش في الجزائر من أجل أن يكون معه، ولكن الملاحظ أن هذه الحكايات تتوالد منها حكايات أخرى، أي أن السرد هنا يستطيع أن يستمر إلى مالا نهاية ولا ينتهي الأمر، ولكن الروائي كان من الذكاء والتقشف والإحكام ما جعله لا ينساق إلى سحر الحكايات التي تأتي ببساطة فنرى الحكاية تخرج من رحم سابقتها، بل كان مسيطرا على الحكي مقتصدا تماما فيما يرويه، ولعله إذا ما كان قد انساق خلف سحر توالد الحكايات لكان عدد صفحات الرواية قد بات ضخما مع الحفاظ على تماسكها من دون أن تضحى مترهلة، لكن خطيبي كان يريد أن يصف الأجواء التي وصلت إليها الجزائر في بداية سنوات العشرية الأولى والاشتباك المسلح بين الإسلاميين والنظام السياسي، وأثر هذه الأجواء على الجميع من تغيرات حقيقية حدثت في بنية المجتمع الجزائري وثقافته، ولعل حكاية جونيفياف وعبد الحميد كانت من الحكايات التي تُدلل على توالد الحكايات من بعضها البعض بسهولة، ورغم أن هذه الحكاية لا علاقة لها بالقصة الأساسية، لكنها لم تبد كنتوء في السرد الروائي، بل بدت مكملا له في نهاية الأمر لاكتمال المشهد البانورامي الذي يصفه؛ حيث اعتمد خطيبي على الحكايات المتشظية المختلفة التي تأتي من هنا وهناك كأساس في بناء روايته باعتبار أن من يرويها شخص كبير في العمر يتذكر الكثير من ماضيه.
هذه التغيرات الكبيرة التي طرأت على المجتمع الجزائري انعكست بدورها على الجميع فبدا الأمر وكأنما يحكي لنا جوزيف تاريخ الهزيمة الحقيقية التي حدثت في الجزائر، فرغم أن الجزائر قد استطاعت بعد سنوات طويلة في التخلص من الاستعمار الفرنسي، إلا أنها ظلت تعيش في هزائم متكررة بعد تحررها من هذا الاستعمار، هذه الهزائم كانت في حقيقتها هزائم فكرية وحضارية واجتماعية لم تستطع التخلص منها بسهولة، فبعدما كان المجتمع الجزائري قادرا على تقبل الآخر المختلف عنه في ثقافته ودينه جاءت فترة الإسلام السياسي التي جعلته يرتد ردة حضارية ضخمة ويرفض كل من يختلف عنه، وهذا أدى إلى رفضهم لجوزيف الذي يعيش بينهم منذ أربعين عاما، وحارب معهم في حربهم التحريرية، لكنهم بثقافتهم الدينية الوهابية الجديدة باتوا يرونه غريبا غير صالح للحياة بينهم، كما رأوا أن إسلامه غير مكتمل بل هو إسلام ناقص.
لعل من أهم ما فعله خطيبي من خلال سرده الروائي أنه جعل جوزيف يروي عن عادات المناطق العربية التي تتشابه في كل البلدان العربية، فالجميع يثرثرون ليل نهار، ويحاولون دائما أن يدسوا أنوفهم فيما لا يعنيهم، فنراهم مثلا يتهمون إيزابيل بالجاسوسية لمجرد أنها كانت مختلفة عنهم: "هي كانت تشك في نفسها، في صدق علاقتها بالسماء، ولكن لا أحد شك في انتمائها للإسلام، ولم يجد خصومها من شيء للطعن في شخصها سوى اتهامها بالعمالة، اتهامها مرة بالعمالة للإنجليز ومرة أخرى بالعمالة للفرنسيين، ومرة ثالثة بالعمالة للألمان، ومن دون أن تنتبه، كانت الألسنة تنقلها من بلد إلى آخر، تنسبها في الصباح لمخابرات بلد معين، ثم في المساء تنقلها لمخابرات بلد آخر، كانت بعض النسوة الغيورات منها يوشوشن في آذان رجالهن بأنها جاسوسة"، وحينما يأتي بخادمة إلى البيت لتنظيفه نجد أن سليمان صديقه في المنزل يخشى كلام الآخرين لوجود الخادمة لديهم: "تعرفت على زوينة عن طريق جارتنا الحاجة خيرة، التي تعلّمت أصول توليد النساء عن أمها، وصارت قابلة بالوراثة في المستشفى، لما طلبت منها النصح لإيجاد امرأة شريفة وجيدة، لمساعدتي أنا وسليمان في التكفل بأشغال البيت، أشارت علي بزوينة، التي تعمل أيضا في غسل الصحون في مطبخ المستشفى. في البدء، سليمان وجد الفكرة غريبة، وانا لم أخبره التفاصيل إلا بعدما اتفقت مع زوينة، على العمل يوما واحدا في الأسبوع، مقابل 250 دينارا في الشهر، قبلت العرض وارتاب سليمان من ردة فعل الجيران: واش يقولوا علينا الناس؟ تساءل بنرفزة. ما فيها عيب. المرأة حابة تخدم على شرها. راح يتمتم كلمات لم أفهمها، معبرا عن عدم رضاه، وأضاف: أنت تحب تجيب العيب وكلام الجيران"، لعل هذه الثرثرة والتدخل الدائم في شؤون الغير هما من سمات جميع المجمعات العربية تقريبا، وهو ما ساقه الروائي في متن روايته بذكاء وعفوية مما زادها ثراءً.
لعل هذ التدخل في شؤون الغير هو ما يؤكد عليه جوزيف الفرنسي الأصل حينما يقول: "تذكرت أنني عشت بذهن متصلب ومزاج حاد ومتقلب، وبقينا نواظب معا على الواجب الديني من صلاة في البيت وفي المسجد، مقابل أن يتغاضى عن نزواتي الشخصية، لكن لم يحصل أن تجاوزت حدي وثملت، احتراما للجيران، أعرف أن الجدران تلتقط دبيب النملة، وحكاياتي في البيت قد تبلغ بسهولة بيوتا مجاورة، هذه خاصية عربية تعلمتها ولم أغفل عنها، الناس لا يتنازلون عن حقهم في التلصص على عادات الجيران السرية، معتبرين الفعلة شيئا طبيعيا، فمن منظورهم، من غير اللائق أن تعيش في حي دونما أن تكون على اطلاع بما يحصل خلف حيطانه".
تبدأ الرواية بجوزيف الذي يتحدث عن رغبته في رسم آخر لوحتين ليوميات إيزابيل إيبرهارت قبل وفاته أو هجرته وعودته مرة أخرى إلى فرنسا بعدما تغير كل شيء من حوله، ويظل جوزيف طول الرواية يحكي لنا حياته التي عاشها بينه وبين نفسه متمثلا إيزابيل عاشقا لها محاولا أن يرسم حياتها في لوحات فنية ثم يدفنها في حديقته من دون أن يريها لأحد، ومن خلال هذا السرد يحكي لنا حياته وحياة كل من أحاطوه في في مدينة بوسعادة المدينة التي يعشقها الجميع وهي لا تعشق أحدا بقدر ما تقسو على الجميع، ويروي لنا التغيرات التي حدثت في المجتمع وكيف بات طاردا ومهددا للجميع وهو في أول هذه القائمة، ومن خلال هزائمه الاجتماعية والنفسية الكثيرة، ومن خلال الهزائم المتتالية التي باتت تهدد المجتمع الجزائري والتي اتضحت لنا من الحكايات الكثيرة المتوالدة والمتعددة يرسم لنا جوزيف مشهدا بانوراميا مكتملا لما دار في الجزائر من هزائم كثيرة ومتتالية لم تتخلص منها بسهولة في نهاية الأمر؛ مما يجعله يشعر بالاغتراب الكامل: "كل شيء ينهار أمام عيني، كقلعة من رمل؛ جسدي وذاكرتي، وبنايات هذه المدينة المنطوية على نفسها، صرت أشعر بغربة لما أمشي في شوارعها الضيقة، لم يعد الضوء الذي ألفته فيها يملأ بصري، ولم تعد الحيطان سخية بظلها كما عرفتها. بيوت قديمة، كان يسكنها رفاق لي، غيّرت من شكلها، قسّمت إلى شقق صغيرة وسكنها أناس لا أعرفهم ولا يعرفون شيئا عن الماضي، وعمارات شُوهت واجهاتها بألوان غريبة، وهُدّمت منحوتات الرؤوس البشرية التي كان تزّين مداخلها"، إذن فكل ما يدور حوله بات يشعره بأنه ليس من هذا المكان وبات المكان ومن يسكنه يشعران تجاه بعضهما البعض بالغربة الكاملة.
سعيد خطيبي
يحاول خطيبي إنهاء نصه الروائي بشكل فيه من الحبكة والتمكن والذكاء الفني ما يجعلها رواية محكمة بالفعل؛ فلقد بدأت أحداث الرواية في الجزائر بقول جوزيف: "سأرسم لوحتين أخيرتين ليوميات إيزابيل إيبرهارت، أردمهما في حديقة البيت، بين الكرمة وشجرة الليمون، وسأفعل الشيء نفسه مع اللوحات الثلاثة عشرة الأخرى، وأبتلع، كالعادة كلمات سليمان الصاخبة ولعناته"، وحينما يحاول أن يُنهي الرواية بعدما هاجر وهو وسليمان مرغمين إلى فرنسا نراه يجلس مع سليمان ليسأله سليمان عما يكتب، فيرد عليه بأنه يكتب عن حياته وحياة سليمان معه وعن أناس مروا به في حياته، هنا يطلب سليمان من جوزيف أن يقرأ عليه ما كتبه فيبدأ في القراءة بفرنسية قائلا: "سأرسم لوحتين أخيرتين ليوميان إيزابيل إيبرهارت، أردمهما في حديقة البيت، بين الكرمة وشجرة الليمون، وسأفعل الشيء نفسه مع اللوحات الثلاثة عشرة الأخرى، وأبتلع، كالعادة كلمات سليمان الصاخبة ولعناته"، أي أن الرواية تعود مرة أخرى من بدايتها مع خاتمتها في شكل من أشكال السرد الدائري المغلق على ذاته.
القارئ لرواية "أربعون عاما في انتظار إيزابيل" لن يقرأ رواية عن إيزابيل إيبرهارت التي تركت وطنها في سويسرا لتستوطن الجزائر فقط، بل سيقرأ الكثير من تاريخ الجزائر الذي لم يعرضه خطيبي بشكل مباشر بقدر حرصه على عرضه بشكل سردي روائي محكم من خلال لغة سردية محكمة وجميلة مما يؤكد أن السرد الروائي الجزائري ينهض نهضة ضخمة ليكون منافسا ومتميزا في السرد الروائي العربي.



محمود الغيطاني
 


جريدة القاهرة
عدد 15 مايو 2017م

الخميس، 4 مايو 2017

إشارة مرور.. حكاية الانكسارات اليومية الدائمة


المخرج خيري بشارة
لعل فيلم "إشارة مرور" 1996م، يكاد يكون من أهم الأفلام التي قدمها المخرج خيري بشارة على طول تاريخه السينمائي، كما أننا من الممكن أن نعتبره آخر فيلم روائي طويل قدمه هذا المخرج المتميز صاحب العالم السينمائي الذي يخصه وحده، والذي لم يحاول مخرج مصري آخر الدخول إلى هذا العالم الخاص جدا، والمتميز. ورغم أن بشارة قدم بعد هذا الفيلم، وبعد فترة انقطاع طويلة عن الإخراج، فيلما روائيا آخر هو فيلم "ليلة في القمر" المستوحى من حياة الأميرة الإنجليزية الراحلة "ديانا" الذي تم إنتاجه في 2003م، في حين أنه لم يُعرض في دور العرض السينمائية إلا في عام 2008م، وهو الفيلم الذي مر من دون أن يلتفت إليه أحد، وربما لم يسمع عنه عدد غفير من جمهور السينما، أو جمهور سينما خيري بشارة، والذي قام بتصويره بتقنية سينما الديجيتال، إلا أن هذا الفيلم دائما ما يُسقط من التاريخ السينمائي للمخرج خيري بشارة، ليتوقف معظم المؤرخون لسينماه مع فيلمه "إشارة مرور" باعتباره آخر الأفلام الروائية الطويلة التي قدمها.
ربما كان "إشارة مرور" هو واسطة العقد في أعمال المخرج المتميز خيري بشارة، وبالتالي نشعر من خلال مشاهدتنا لهذا الفيلم أن بشارة هنا تستهويه فكرة "اللعب السينمائي، أو الإخراجي" إذا جاز لنا التعبير، فالمخرج هنا ليس مجرد مخرج يؤدي عمله، بقدر ما هو شخص يستمتع باللعبة الإخراجية على اتساع مداها، وبالتالي فهو يؤديها بشكل ينقل إلى المشاهد قدر غير قليل من المتعة البصرية، والإخراجية، وكأنه يريد أن يقول لنا: "أنا مخرج متميز، يمتلك كل أدوات الإخراج السينمائي؛ وبالتالي فأنا هنا ألعب، وأستمتع؛ كي أنقل لك هذه المتعة راغبا في مشاركتك إياي في هذه المتعة"، وهو بالفعل ما رأيناه في هذا الفيلم المتميز الذي ساعده فيه السيناريو الجيد، المتماسك، الحرفي الذي كتبه السيناريست مدحت العدل، وصاحبه فيه الموسيقى المتميزة للموسيقي القدير راجح داود، والذي كانت موسيقاه التي قدمها للفيلم جزءً لا يمكن أن يتجزأ بأي حال من الأحوال عن الفيلم، وبالتالي إذا ما عزلنا هذه الموسيقى عن أحداث الفيلم، أدى ذلك إلى فقد عنصر مهم، وجزء كبير من تأثير المشاهد السينمائية على المتلقي الذي سيشعر بوجود شيء ما مُفتقد في سير أحداث هذا الفيلم، وهذا يدلل على أهمية الموسيقى التصويرية التي قدمها راجح داود، وكيف كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا في إيصال الأثر البصري للكثير جدا من مشاهد الفيلم، ومن ثم تعميق أثرها في نفسية المشاهد لها.
يتناول خيري بشارة في فيلمه حدث بسيط قد لا يدعو أي إنسان للتأمل، أو التوقف أمامه لمجرد دقيقة واحدة، وهي تعطل إشارة مرور في ميدان طلعت حرب؛ مما أدى إلى تكدس عظيم للسيارات لمدة عدة ساعات، ولعل مثل هذا الحدث اليومي في مدينة كبيرة، ومكتظة مثل مدينة القاهرة هو من الأحداث التي لا تدعو للتوقف أمامها؛ لأنها تحدث يوميا بشكل لا يدعو لالتفات أحد إليه، ولكن خيري بشارة ربط هذه الإشارة، وهذا الحدث بأمر آخر وهو أن هذا الميدان هو الطريق الفرعي، والمؤقت لسير موكب أحد الشخصيات المهمة إذا ما تعطل الطريق الأساس، وهنا كانت الكارثة بالنسبة لجميع القيادات ورجال المرور، والشرطة المسؤولة عن تأمين هذا الموكب، ولكن هل لو توقف الأمر هنا على الموكب فقط، هل سيكون من الأهمية بمكان التي قد تدعو مخرجا مثل بشارة لأن يلتفت إليها ومن ثم يصنع فيلما سينمائيا؟
لم يهتم بشارة بتوقف إشارة المرور هنا بقدر اهتمامه بالعديد من الحالات الإنسانية، أو الحيوات الاجتماعية التي حرص على تجميعها كلها في هذا الإطار المكاني الذي اتخذه مسرحا لأحداث الفيلم، ولعل ما فعله بشارة بحرص وتيقظ تامين في هذا الإطار إنما يدل على أن المخرج رغب أن يعطي البطولة الأولى والأخيرة للمكان فقط، وكأنه يقول لنا: "المكان هنا هو صاحب السطوة الأولى والأخيرة على كل مقدرات البشر، والمكان هو الذي يُشكل الأحداث كيفما شاء، وهو الباقي في النهاية بينما البشر إلى زوال"، وهو هنا يؤكد على خلود المكان الذي يتواتر عليه الآلاف والملايين من البشر كل يوم، لكنهم يذهبون بينما يظل المكان باقيا شامخا في وجه الزمن؛ ليحكي لنا حكايات من مروا عليه عبر السنوات المختلفة.
فيلم إشارة مرور
حرص بشارة من خلال المكان/ ميدان طلعت حرب على أن يجمع لنا العديد من الحيوات الاجتماعية المختلفة، التي تداخلت وتقاطعت من خلال اجتماعها معا في هذا الإطار المكاني، فهو يقدم لنا "نبيل" (عماد رشاد) العازف الفنان، والمثقف الذي يعيش في البناية التي تحوي "جروبي" والتي تطل على الميدان، وعلاقته بحبيبته، ويضعه منذ بداية الفيلم في أزمة نفسية لا يمكن له أن يتجاوزها حينما يصفعه أحدهم على قفاه، وسرعان ما يذوب في الزحام من دون أي سابق معرفة، وهي الأزمة التي حرص المخرج خيري بشارة على تعميقها في نفس المُشاهد، بتكرار مشهد الصفعة ثلاث مرات متتالية وسريعة، وكأنه يعمق من أثرها داخلنا؛ لدرجة أنه لم يلتفت خلفه مرة أخرى وكأنه لم يوجه إلى "نبيل" أي صفعة، أو إهانة، وهو الأمر الذي جعل "نبيل" في أزمة نفسية كبيرة شعر من خلالها أن كل ثقافته، وكل ما تعلمه، وحياته نفسها، وشخصيته قد تعرضت لإهانة لا يمكن لها أن تُغتفر، وبالتالي فقد أشعرته هذه الإهانة بدونيته، وكأنه لا شيء؛ مما جعله يستغيث بحبيبته كي تساعده على تجاوز هذه الأزمة العميقة التي يعيش فيها.
وهناك "ظاظا" (عزت أبو عوف) رجل الأعمال الثري المرتبط بعلاقة عاطفية مع سكرتيرته، ورغم أن زوجته على علم بهذه العلاقة إلا أنها حريصة على الاحتفاظ بزوجها والقتال من أجله مهما حدث، ولقد كان في طريقه إلى المطار من أجل عقد صفقة مهمة خارج مصر، إلا أن الإشارة قد توقفت به، ومن ثم ظل عالقا بها غير قادر على الحركة.
"زكريا" "سمير العصفوري" مدرس التاريخ الذي أنفق حياته بالكامل في التدريس للكثير من الأجيال، ورغم ذلك لا يتذكره أحد بالزيارة أو السؤال عليه من الأجيال العريضة التي نشأت وتعلمت على يديه؛ مما يجعله في وحدة قاسية ودائمة هو وزوجته (إنعام سالوسة) التي لم تنجب له طوال الأربعين عاما التي قضياها مع بعضهما البعض، وفجأة باتت حاملا في نهايات عمرها، ولتعميق المأساة فهي على موعد مع الولادة في هذه الليلة التي تعطلت فيها إشارة المرور بهما وهما في طريقهما إلى المشفى من أجل الوضع؛ مما وضعه في حالة نفسية أقرب إلى الجنون، لدرجة أنه قرر الانتحار في وسط الميدان ساكبا على نفسه البنزين.
هناك أيضا الشاب الصغير الذي مازال في مرحلة التعليم والمهووس حبا بإحدى الفتيات التي تعمل بائعة في أحد محلات وسط البلد، والذي يطاردها معظم الوقت، وحينما تسأله عن سبب مطاردته لها يؤكد لها حبه الشديد، وأنه لا يرغب سوى في أن يمسك يدها فقط، وهي الرغبة المجنونة التي تنتابه تجاهها، ويود أن تحققها له.
"ريعو" (محمد فؤاد) الشاب القروي الذي جاء من قريته لعشقه لكرة القدم ورغبته في أن يكون محترفا، لكنه لا يستطيع تحقيق حلمه؛ الأمر الذي يجعله يعمل كعامل بناء، كي يستطيع الحياة، وفي هذه الليلة كانت هناك مباراة مهمة للمنتخب ولابد أن يذهب لمشاهدتها، كما كان هناك موعدا بينه وبين الصول "رجب" (أحمد عقل) أمين الشرطة الذي يقف في وسط ميدان طلعت حرب لتنظيم المرور، والذي انتهت ورديته ويرغب في ترك مكانه؛ كي يذهب لمقابلة خطيب ابنته "ريعو"، ولكن توقف الإشارة، وعدم وجود من يستلم ورديته مكانه جعله يظل وسط الميدان المتوقف.
كذلك المرأة المتسولة التي ذهب عنها جمالها، والتي تبحث في صناديق القمامة عما يمكن أن يسد جوعها، ورغم ذلك فهي حريصة دائما على وضع طلاء الشفاه والتجمل الدائم، حتى أنها تطلب من "ظاظا" عشرة جنيهات كي تشتري بها طلاء شفاه، بدلا من أن تشتري بها شيئا تأكله.
محمد فؤاد وليلى علوي
أيضا (محمد لطفي) بائع الآيس كريم الذي استغلته إحدى الجماعات الإرهابية من أجل تفجير قنبلة في الموكب الذي سيمر من وسط البلد، ولعلنا لا ننسى السيدة العجوز اليونانية التي قدمها لنا المخرج في بداية الفيلم وقد شعرت بالغربة والوحدة القاسية، حتى أنها لا ترغب في الجلوس داخل جروبي لأن وجوه الناس قد تغيرت تماما، ولم تعد تتعرف على أحد، وكان همها الوحيد أن يكون هناك من يؤنسها في هذه الوحدة حتى لو لمجرد أن يسير معها مجرد القليل من الخطوات حول الميدان؛ ومن ثم تطلب ذلك من "نبيل" (عماد رشاد) جارها في نفس البناية.
كذلك "فهمي" (سامي العدل) ضابط الشرطة المسؤول عن تأمين الميدان والموكب بأكمله، والذي يعتذر لزوجته عن نزهتهما معا؛ بسبب تعطل الميدان وتوقفه التام، وهو الضابط الذي لا يمتلك سيارة، ويحب كتابة الشعر، ويود لو تفرغ لكتابته.
كل هذه الشخصيات والحيوات الاجتماعية المختلفة، حرص المخرج خيري بشارة على تجميعها معا في حيز مكاني واحد، وفي لحظة واحدة داخل إشارة مرور ميدان طلعت حرب، هذه الإشارة التي أُصيبت بالشلل التام، حتى أن الجميع قد علق بها غير قادر على الخروج منها، وكأنها الجحيم الحقيقي، ولكن جميع هذه الشخصيات كانت قادرة على التعامل والتقاطع مع بعضها البعض مما أدى إلى تطور هذه الحيوات، وتغيير مجرى بعضها تماما عما كان مخططا لها.
لعل الرابط الوحيد الذي جمع هذه الحيوات جميعا كان هو الوحدة القاسية، والشعور العميق بالغربة في المكان رغم أنه ليس بالمكان الغريب عليهم جميعا، ولكن إحساس المهانة، والافتقاد، واللاجدوى، كان هو الإحساس المُسيطر على الجميع، ولقد استطاع المخرج خيري بشارة أن ينقل لنا هذا الإحساس ببساطة متناهية، وبمتعة لم يقدمها لنا من قبل بمثل هذا الشكل الذي رأيناه، وكأنه يحاول التأكيد لنا على ما سبق أن ذهبنا إليه، وهو أنه يلعب لعبة سينمائية يستمتع بها أيما استمتاع، ولذلك حينما طلب الشاب الذي يحب البائعة في أحد محلات وسط البلد أن يقبلها، أكدت له أن ذلك لا يمكن أن يكون إلا بعد زواجهما، فجعلهما المخرج يذهبان للزواج بكل بساطة، وحينما لم يجد الشاب في جيبه سوى ستة عشر جنيها فقط؛ اشترى كمية ضخمة من الجرائد واتجه بها إلى سطح إحدى البنايات في وسط الميدان؛ من أجل ممارسة حبهما على سطح البناية، حيث أنها المكان الوحيد المتاح لهما في هذه اللحظة، وحينما يحاول "زكريا" مدرس التاريخ الانتحار بإشعال النيران في نفسه يحاول "ريعو" (محمد فؤاد) إنقاذه وتعريض حياته للخطر من أجل منعه من هذا الانتحار، وهو الأمر الذي جعل "ريعو" بطلا مهما وانصبت عليه الأنظار والاهتمام من قبل الجميع بعد أن كان الكل يتجاهله ويتعامل معه من دون اهتمام، وهو الأمر الذي جعل الفتاة الجميلة "سمية" (ليلى علوي) تنتبه إليه وتُعجب به بعد أن كانت لا تعيره أي اهتمام؛ مما أدى إلى تطور علاقتهما وطلب الزواج منها، وقبولها ذلك رغم أن علاقتهما لم تتعد ساعات قليلة.
كما تلد زوجة مدرس التاريخ (إنعام سالوسة) وسط الميدان على يد "سمية"، وتأتي سكرتيرة "ظاظا" إليه بعد أن عرفت بعدم سفره، وهو الأمر الذي أدى إلى مقابلتها مع زوجته وحدوث مشاجرة بينهما حاولت فيه الزوجة الاحتفاظ بزوجها لها وحدها، كما أن طول الانتظار في الإشارة أدى إلى اقتراب موعد انفجار القنبلة التي انفجرت في يد طفلة صغيرة وجدتها، كما وقع (محمد لطفي) الذي كان يحمل القنبلة في إحدى بلاعات المجاري ولم ينتبه إليه أحد؛ فأُغلقت عليه البلاعة من دون التفات أحد له.
كل هذه التطورات التي حدثت في حياة هؤلاء البشر جميعا، وهذه الشخصيات كانت نتاج ساعات قليلة توقفت فيها الإشارة توقفا تاما، لكنها صنعت حياة جديدة من جميع هذه الشخصيات، بانسيابية وبساطة فنية لم يكن من الممكن أن يقدمها أحد بمثل هذه البساطة سوى مخرج متمكن من أدواته مثل المخرج خيري بشارة، الذي ساعده في ذلك المونتاج الرشيق، الحيوي، للمونتير رحمة منتصر، هذا المونتاج الذي جعلنا نشاهد الفيلم في ساعة ونصف تقريبا وكأننا لم يمر علينا سوى خمس دقائق فقط من عمر هذا الفيلم.
لكن لعل المشاهد التي حرص عليها خيري بشارة بين "ريعو" (محمد فؤاد) أثناء مكالمته الهاتفية مع الوزير كانت من أسوأ ما قدمه المخرج في هذا الفيلم؛ فالفيلم لم يكن يحتمل مثل هذا المشهد والحوار الكوميدي، الساخر الذي دار بين الوزير و"ريعو"، ويبدو أن بشارة قد استمرأ هذا الأمر؛ وهو ما دفعه إلى الإطالة والمط فيه على حساب أحداث الفيلم؛ مما جعله مجرد نتوء لا حاجة للفيلم إليه داخل بناء سينمائي متماسك وقوي، لم يؤد إلا إلى إضعاف الفيلم على المستوى الفني.
صورة من الفيلم
نجح خيري بشارة في هذا الفيلم على توضيح وجهة نظره الفنية التي يؤمن بها، والتي يرغب تقديمها من خلال هذا الفيلم، ولعل أفضل ما قدمه بشارة هنا من أجل إيصال هذه النظرة الفنية، هو المشهد الذي بدأ به فيلمه، كي يعود وينتهي به الفيلم مرة أخرى، حينما رأينا شخصين في ثياب تنكرية، ووجهيهما ملطخان بالكثير من الألوان وكأنهما مهرجان، وهو المشهد الذي أوحى لنا بازدواجية معايير كل شيء في هذه الحياة، فهما يعيشان ويظهران للناس بوجه مزيف، غير حقيقي، في حين أن حقيقتهما ليست كما يبدوان عليها من سعادة، وهذا هو المعنى الرئيس الذي رغب خيري بشارة أن يقوله من خلال فيلمه؛ فليس معنى أن الشخص الذي أمامك يقف متماسكا، مبتسما أنه يعيش حياة سعيدة ورغدة، بل إذا ما تعمقت داخل حياته ستجد الكثير من الشروخ، والوحدة، والألم الذي لا يبدو على السطح بقدر ما هو يتوطن داخل النفس، ولعل هذا ما رأيناه داخل جميع الشخصيات داخل الفيلم، سواء عند المثقف المأزوم المهان بسبب الصفعة، أو ضابط المرور الذي لا يشعر بالسعادة والراحة، والذي لا يكتسب أهميته إلا من خلال بدلته الميري، أو المدرس الذي تسكنه الوحدة الدائمة، أو غيرهم من الشخصيات التي صدق عليها جميعا هذه النظرة التي أراد بشارة تقديمها، ودلل عليها بهاتين الشخصيتين اللتين افتتح بهما فيلمه كي ينهيه بهما.
لعل مشهد وسط القاهرة في نهاية الفيلم بعد انتهاء الأزمة تماما، وذهاب الجميع دليل قوي على أمر آخر يرغب المخرج في التأكيد عليه، وهو أن المكان هو البطل دائما، وأنه الذي يحكي لنا حيوات جميع من يمرون عليه، حيث يتحول البشر هنا إلى متتالية عددية لا قيمة لها بجوار سطوة، وأهمية المكان الذي يظل باقيا بشكل أبدي.
نجح المخرج خيري بشارة في فيلمه إشارة مرور في تقديم رؤية سينمائية فريدة عن الانكسارات اليومية التي يمر بها المواطن المصري من خلال حيز مكاني محدود هو ميدان طلعت حرب حينما توقفت الإشارة وأصابها الشلل، وقد ساعده في ذلك مجموعة من الفواصل الغنائية التي قام بها المطرب محمد فؤاد، وهي الفواصل التي تكاد تكون ميزة مهمة يتميز بها بشارة دائما في معظم أفلامه، حيث تساعده هذه الفواصل الغنائية في إيصال رؤيته السينمائية التي يرغب في تقديمها، ولعل الأغنية الأخيرة التي قدمها محمد فؤاد في نهاية الفيلم التي قالت كلماتها: "يا عيني علينا، منك يا مدينة، مجنونة ورزينة، وفيكي البدع" من أفضل الأغنيات التي جمعت رؤيته داخل هذا الفيلم.

 مجلة الثقافة الجديدة 
عدد مايو 2017م





م