الاثنين، 24 يوليو 2023

أيقظني: التصالح مع هواجسك!

ثمة مخاوف غامضة، والأكثر من الهواجس- تتشيأ لأصحابها- في الفيلم الروائي القصير Wake Me Up أيقظني، للمُخرجة والسيناريست السعودية ريم سمير البيات، هذه المخاوف، التي لا يصرح بها الفيلم بشكل مُباشر، نفهمها من خلال السياق الفيلمي وأحداثه، بل وبيئته الثقافية- المملكة السعودية- التي كانت تُحرم كل شيء- حتى أنها كادت أن تُحرم الحياة على الآخرين!

من هنا ينشأ الخوف من كل شيء، من الحاضر، والمُستقبل المُظلم المجهول، من الذات، من الآخرين، إنه الخوف الذي يتنفسه الجميع متوجسين ممن يحيطون بهم، حتى أن الخوف لا بد له هنا من التشيؤ، أو التأنسن، لنراه مُجسما أمامنا في شكله المُرعب الذي سيصيب بالضرورة صاحبه بالعديد من الهواجس والهلاوس السمعية والبصرية نتيجة الضغط المُجتمعي والنفسي على الأفراد.

حاولت المُخرجة ريم البيات من خلال السيناريو الذي اشتركت في كتابته مع الشاعر والسيناريست السعودي أحمد الملا التعبير عن هذا الخوف الخانق، والذي يحوّل الحياة إلى محض هراء لا معنى لها في النهاية؛ مما يفقدها أي معنى للمُتعة، حتى لكأن الحياة والموت سيان في نهاية الأمر. صحيح أن هذا هو المعنى الذي تقصده المُخرجة من خلال صناعتها لفيلمها، ولكن كيف تم التعبير عن ذلك؟

إن أسلوبية التعبير البصري هي جوهر صناعة السينما، وهي التي تُكسب كل مُخرج مقدرته على التميز عن غيره من المُخرجين؛ لذا فأسلوبية التعبير الإخراجي لا يمكن تجاهلها، لأن المُخرج في النهاية هو رب العمل السينمائي رغم أن صناعة السينما هي عمل جماعي في المقام الأول، لكن نجاح أو فشل أي فيلم إنما يتحمل مسؤوليته في النهاية مُخرجه.

في مشاهد ما قبل التيترات Avant Titre نُشاهد كابوسا، كثيرا ما تراه سلام- قامت بدورها المُمثلة السعودية سمر البيات- فنرى مشهدا موغلا في الرمزية، صحيح أن هذه الرمزية تتناسب كثيرا مع مفهوم الفيلم، إلا أنها تبدو- كمشهد سينمائي- مُنبته الصلة عنه، أو ثقيلة على الإيقاع الفيلمي، وبالتالي بدت لنا كنتوء في الحدث الفيلمي عمل على إثقال الفيلم أكثر من مقدرته على التنامي والتقدم بالحدث للأمام لصالح الرمز الراغب في التعبير عن مضمون الفيلم، لا سيما أنها تتناسب أكثر مع المسرح منها إلى الفيلم السينمائي، حيث نرى على أحد الشواطئ نيران مُشتعلة بينما يدور من حولها مجموعة من المُمثلين الذين يسيرون على أربع في طقس وثني مُثير للخوف، وقد تم تغطية كل منهم بقطعة من القماش، وتقف بينهم سلام راقصة بشكل إيقاعي، بينما ينطلق في خلفية المشهد صوت ينشد أبيات الشعر- وهي تخص الشاعر أحمد الملا- التي لها علاقة عضوية بالموضوع السينمائي بعربية فصحى لا تتناسب كثيرا مع مفهوم صناعة السينما، وإن كانت تتناسب أكثر مع المسرح. تنتقل الكاميرا- من خلال القطع المونتاجي- بين مشهد رقص سلام ورجل غاضب يراقبها وتقف إلى جواره امرأة مُنتقبة مُغطاة بالسواد- الإحالة على الفترة السعودية السابقة- ليقول الرجل الغاضب في نهاية المشهد، بينما الشرر يتطاير من عينيه: اذبحوها.

إن تأمل المشهد السابق من الأهمية بمكان؛ نظرا لأنه يُعد المشهد التأسيسي للفيلم- كما رغبت المُخرجة له أن يكون- وبالتالي فهي تحاول بناء الفيلم من خلاله. إن رغبة المُخرجة في الإيحاء للمُشاهد بأن هذا المشهد السابق هو كابوس كثيرا ما يُطارد سلام التي سنعرف بأنها امرأة متزوجة، وتعمل في مجال تعليم الرقص؛ يجعله مشهدا جوهريا في المقام الأول، لا يمكن تخطيه بسهولة، لكن المشهد كما صنعته المُخرجة لم يكن تلقائيا، مُناسبا لصناعة السينما، بل بدا مصنوعا، وهذا ما قد يجعله عائقا، أو حائط صد أولي بين الفيلم والمُتلقي للوهلة الأولى؛ حيث صنعته المُخرجة وكأنه مُنبثق من الثقافة المسرحية التي تناسبه، صحيح أنها ترغب في تقديمه بشكل رمزي، لكن طريقة التقديم المسرحية، أفقدت المُشاهد قدرته على التعامل مع الفيلم السينمائي مُنذ المشهد الأول، وهو مشهد تأسيسي.


بناء على ما سبق؛ فالبداية السينمائية الحقيقية لفيلم "أيقظني" هي في المشهد التالي للتيترات مُباشرة حينما نرى فيه المرأة العجوز- الهاجس الدائم- بمظهرها المُثير للكثير من الانقباض والخوف- فتلك هي الكابوس الحقيقي والجوهري في الفيلم- ورغم أن مشهد العجوز هنا هو بمثابة مشهد رمزي أيضا، بل وهي شخصية رمزية مُعبرة عن الهواجس والخوف المرضي، إلا أنها تتناسب تماما وصناعة السينما، حيث كانت تتمثل لسلام ظاهرة لها، ومُطاردة لها في كل مكان وزمان تتجه إليه سلام، مُهددة إياها بالكثير من الوعيد بأنها ستدخل النار، وستعذب فيها- بأسلوبية مُخيفة- بسبب مُمارستها، وتعليمها الرقص للأخريات!

ربما نُلاحظ هنا أن مفهوم الرقص يصلح لحمله على الرمز، وبالتالي يكون مُرادفا للحياة، والانطلاق فيها، والاستمتاع بها، بينما العجوز هي الرمز المُقابل للتشدد والانغلاق الديني السابق في المملكة، وهو انغلاق مُجتمعي أيضا يعبر عن ثقافة مُجتمع في فترة من الفترات، يقوي من هذا الرمز صورة المُمثل المُلتحي الذي نراه بينما نستمع لصوت يقول: مثل إنك حي. بينما يضع المُمثل سبابته على رأسه- في إيحاء بأنها مُسدس- ليقع بعدها صريعا باعتبار أنه قد انتحر!


إذن، فثمة أزمة حقيقية- مُجتمعية وسيكولوجية مُترتبة على المُجتمع المُحيط- تعاني منها سلام التي كانت هي المحور الرئيس للفيلم.

لكن، ثمة أزمة أخرى تواجهنا بها المُخرجة من خلال نسيم/ زوج سلام- قام بدوره المُمثل السعودي إبراهيم الحساوي الذي أدى دوره باحترافية وبراعة لافتة في التعبير عن شخصيته الفيلمية- وهي أزمة الصدع التي نُلاحظها بين الزوجين اللذين يتعاملان مع بعضهما البعض وكأنهما غريبان يعيشان تحت سقف واحد، أو ثمة عداء ما، وغامض يضرب بجذوره بينهما، رغم أننا سنفهم من الفيلم أنهما متزوجان مُنذ عشرين عاما كاملة وبينهما أولاد- لن نراهما، وإن كان الفيلم يشير إليهم.

إن تقديم المُخرجة للزوجين في شكل يؤكد على انقطاع العلاقة- حتى الإنسانية بينهما- كان من الأهمية لنقف أمامه قليلا؛ فوجود علاقة فاترة تماما بين زوجين، لا بد أن يكون لها ما يبررها، أو ما يمكن الإشارة إليه من خلال السيناريو، وأحداث الفيلم؛ كي يستطيع المُشاهد الانسجام مع ما تُقدمه المُخرجة والاقتناع بما يدور أمامه على الشاشة، لكننا سنُلاحظ أن كل من الزوجين يمر بأزمة نفسية ما- المُجتمع المُحيط وثقافته هما السبب فيها- لكن الفيلم لن يشير إلى السبب في هذا الفتور الزوجي، أو موت العلاقة بينهما، صحيح أن ريم البيات حاولت في أحد المشاهد إلقاء اللوم في هذا الفتور على الزوج- فهو لا يعرف أن زوجته تتناول القهوة من دون سُكر رغم مرور عشرين عاما على زواجهما- لكن هذا المُبرر يبدو لنا مُتناقضا تماما مع كل الأحداث السابقة على هذا المشهد، والتي سبق لنا أن رأيناها، حيث نرى نسيم زوجا مُهتما بزوجته أيما اهتمام، يسألها عن أحوالها، يحاول التقرب منها، يسألها عن عملها كمُدربة رقص، بل ويشجعها على ما تفعله للمضي فيه قدما- حينما تخبره بأنها ستؤجل إحدى دروس الرقص، يطلب منها أن تهدأ وتفكر أولا- يصنع لها القهوة مُقدما لها إياها، يتودد لها، ينتظرها في البيت قلقا عليها حينما تكون غير موجودة، يستمع إليها!


إذن، فهو زوج مُشارك، مُهتم بشريكته، مراعٍ لها، لا يفعل شيئا من دون إخبارها- يخبرها بتفاصيل ومواعيد عمله، بل يطلب منها مُصاحبته إلى جدة رغم أنه ذاهب في عمل- وبالتالي يكون مشهد اتهام سلام له بأنه غير مُهتم بدليل بأنه لا يعرف بأنها تتناول القهوة من دون سُكر مُتناقضا مع كل ما سبق لنا أن ذكرناه، وذكرته المُخرجة من خلال تفاصيل مشاهدها المُتتالية!

هذا الجفاف الكامل نشاهده حينما يفكر نسيم في العودة إلى البيت بعد عمله، فهو يجلس مُفكرا مُترددا: أرجع البيت، ما أرجع البيت. مُتحدثا لنفسه. أي أن ثمة علاقة طاردة هنا بين الزوجين تجعل الزوج يفكر قبل عودته للبيت. وحينما يعود للبيت نرى سلام تتعامل معه بجفاف مُتناهِ كأنها تتعامل مع شخص غريب، وقد بدت ملامح وجهها جافة تماما، وكأنها غير راغبة في الحديث معه لتقول له: حمد الله على السلامة، تحب العشاء الحين أو بعدين؟ فيرد مُندهشا مُستنكرا بهدوء: إيش فيكي؟! كأن داخل عليكي شبح! لترد: ما أدري، تعبانة وأحتاج أنام. فيتساءل مُندهشا: تنامي؟! توّني داخل البيت.

المُمثل السعودي إبراهيم الحساوي

إن هذا المشهد السابق بين سلام ونسيم يفجر في المُشاهد الكثير من الدهشة، والتوقع- توقع أنه سيشاهد فيما بعد سبب هذا الفتور بين الزوجين، وأن يكون الزوج هو السبب فيه- لكن المشاهد التالية تؤكد لنا بأنه زوج يكاد أن يكون مثاليا؛ وبالتالي ينفتح أمامنا أفق التساؤلات الدائمة عن السبب في كل هذا الفتور، وهي الأسئلة التي لم تُقدم لنا المُخرجة إجابات عنها، ربما لاهتمامها بأثر الثقافة المُحيطة والمُسيطرة على كل من الزوج والزوجة، مُتجاهلة في ذلك السبب في الصدوع بينهما- قد تُساهم الثقافة المُحيطة بقدر ما في اختلال العلاقة بينهما، لكنها لا يمكن لها أن تؤدي إلى مثل هذا الصدع الذي لا يمكن رأبه.

نعرف أن سلام مُخلصة لما تفعله- تعليم الرقص- مُقتنعة به، تمارسه كحياة، أو رغبة في الحياة والحرية؛ لذا نراها تقول لمشاعل/ مُتدربة على الرقص- قامت بدورها المُمثلة السعودية سماح زيدان- بينما نراها ترقص: علمتي جسمك رقصة واحدة وانسجم فيها، المُهم نحاول تعلميه يكون حر، مُكتشف، اتعلمي تسمعيه وتحبيه.

مع ما في قول سلام لمشاعل من رمزية تلقائية باتجاه الحرية والحياة، فهو يؤكد على حب سلام لما تفعله، وتوقها باتجاه الحرية، والاستمتاع بالحياة التي نراها غير مُستمتعة بها؛ نتيجة هواجسها، وخوفها من المُجتمع والثقافة المُحيطة، وهو جوهر المعنى الذي ينطلق منه الفيلم، ويرغب في التأكيد عليه.

هذه الهواجس التي تتحول لدى سلام إلى هواجس مرضية، وشكل من أشكال الهلاوس السمعية والبصرية تحول حياتها إلى شكل كابوسي لا ينتهي؛ فهي دائما ما ترى المرأة العجوز التي تُهددها بالعذاب في النار، طالبة منها التوبة مما تفعله- فعل الرقص وتعليمه- هذه العجوز تُطاردها في كل مكان، في أحلامها، ويقظتها، في البيت، وفي الشارع، وفي السوبر ماركت، وهو ما نراه في مشهد برعت المُخرجة في تقديمه حينما كانت سلام في السوبر ماركت لشراء احتياجاتها، فترى العجوز في نهاية الممر أمامها مما يجعلها تتجه حيثما تقف العجوز بينما كاميرا المصور علي الشافعي المُهتزة، المحمولة تُعبر خير تعبير عن المشهد ومشاعر سلام؛ فاهتزاز الكاميرا واضطرابها أثناء مُتابعتها في ذهابها باتجاه العجوز لا بد أن يُكسب المُشاهد الكثير من التوتر والخوف والقلق والهواجس، وهو ما نجح المصور والمُخرجة في التعبير عنه بصريا إلى أن تصل سلام أمام العجوز فتتماهى معها- مع العجوز- ونرى سلام مُرتدية للنقاب والسواد- رغم أنها واقعيا في الحدث الفيلمي ليست كذلك- لتقوم برفع النقاب عن وجهها، ونُفاجأ بأنها سلام، وهو ما يوحي لنا، كمُشاهدين، بأن العجوز قد تكون هي نفسها سلام، أي أن مخاوفها الدائمة إنما تمثلت لها في صورة هذه العجوز، وبالتالي فذاتها هي التي تُشعرها بالخوف، مُتأنسنة أمامها في صورة امرأة عجوز مُهددة، وليست شبحا، أو شيئا خارجيا، بعيدا عن سيكولوجيتها.

الشاعر والسيناريست السعودي أحمد الملا

إن مُعاناة سلام من المُجتمع المُحيط بها نلحظه أيضا حينما تقوم العجوز بتهديدها بالنار التي ستذهب إليها بعد الموت قائلة مُؤكدة- وكأنها امتلكت الحقيقة المُطلقة: نار حارة. إلا أن سلام التي اعتادت تهديدات العجوز وبدأت في التكيف معها باعتبارها من مُفردات حياتها اليومية، ترد عليها بقولها: آني أعيش فيها، ما تشوفي النار في كل مكان؟! في الأرض، في الجدران، في الكراسي، ما عندي شيء أخسره.

ربما نُلاحظ أن رد سلام الواثق، اللامُكترث من أي شيء هنا هو شكل من أشكال التمرد، ورفض القيود، والهواجس، والمخاوف التي كانت قد سيطرة عليها مُتملكة إياها لفترة ليست بالقصيرة، وبالتالي فلقد اعتادت على التهديدات حتى باتت شيئا عاديا في حياتها؛ فباتت النار التي تُهددها بها العجوز لا شيء أمام النار السيكولوجية التي تعيشها بالفعل على أرض الواقع، أي أن سلام تتوق للحرية ضاربة بعرض الحائط كل ما يدور من حولها.

هذا الاعتياد والتحرر من الخوف نُلاحظه في حديث سلام إلى العجوز بعدم خوف، واعتياد وكأنهما قد باتتا صديقتين: متى آخر مرة رقصتي؟ لترد العجوز- التي لم تعد تخيفها: أنا قلت لك ما رقصت أبدا، ولا آني، ولا حد، ولا بناتي بعد، بس الشباب هذه الأيام. هذا الحوار السابق بين كل من العجوز- المخاوف والهواجس المُؤنسنة- وبين سلام إنما يوحي لنا ببداية تصالح سلام- الخائفة دائما- مع مخاوفها والتحرر منها لتبدأ في حياتها كما ترغبها هي، وليس كما يريدها لها الآخرون.لكن، بالعودة إلى الصدع العميق الذي لاحظناه بين كل من سلام وزوجها نسيم- وهو الصدع الذي ذهبنا إلى أنه غير مُبرر- سنُلاحظ سلام تسأل زوجها: واش فيك صاير حجر؟ إن السؤال في حد ذاته بمُجرد سماعه من سلام لزوجها سيثير فينا نحن كمُشاهدين الكثير من الدهشة؛ لأن الجفاف الحقيقي الذي رأيناه مُنذ بداية الفيلم نابع في الأساس من سلام وليس من الزوج الذي بدا مُهتما بها، كما أن الزوج قد بات مُتعبا على المستوى النفسي، وبالتالي يكون سؤاله مثل هذا السؤال من سلام غير مُبرر لأنه لا بد أن يدفعه جفافها معه إلى أن يكون جافا بدوره حينما يصيبه اليأس من إصلاح العلاقة المبتورة بينهما؛ لذا يرد عليها مُفضيا إليها: أنا تعبان زيك، ويمكن أكثر، صار لي فترة مو قادر أرتاح في مكان، لا في البيت، ولا في العمل، أنا تعبان، مو حجر. لتسأله: بتفكر في شو؟ فيرد بهدوء: بفكر أترك العمل، وأسافر بالسيارة من بلد لبلد- اليأس من كل شيء- لكنها تستمر في السؤال المُقتضب: لوحدك؟ ليقول: إيه، لوحدي، ما قدرت أشوفك معي، آبي أحس بأماكن جديدة، كل لحظة تمر بدون ما حد يعرفني، أو حتى أسمع اسمي، ولا حد يسألني أي سؤال، صار لي فترة أفكر، أبغي أعيش بروحي. لتقول: أنت بروحك من زمان، أنت محبوس برا البيت، وأنا محبوسة داخل البيت، عشرين سنة وما تعرف إني ما أشرب القهوة بسُكر. إن الجملة الأخيرة من سلام تبدو غير منطقية لما سبق أن ذهبنا إليه من قبل.

المُخرجة السعودية ريم البيات

يغادر نسيم بالفعل تاركا البيت لسلام لتحقيق ما سبق أن أفضى إليها به، وتظل سلام وحدها في البيت، لنرى العجوز مُتشيئة أمامها بينما تتحادثان، لتقول العجوز: آني أروح أماكن بعيدة مرات- الهواجس والخوف والنفس- ولا أقدر أتركك يا بنتي، اتعودت عليكي. لترد سلام بتصالح كامل ولا مبالاة، وربما احتياج هذه المرة: ولا أنا أبغاش تروحي، خليش، ولادي سافروا، ونسيم اختفى. أي أنها تصالحت أخيرا مع مخاوفها، وهواجسها، واعتادتها، وبالتالي فهي لا ترغب منها المُغادرة، لكن المُدهش أن المُخرجة أغلقت فيلمها برد العجوز على سلام بسؤالها عمن يكون نسيم!

إن سؤال العجوز لسلام عمن يكون نسيم، مع تجميد الصورة لينتهي الفيلم يوقع المُشاهد في الكثير من التساؤلات والارتباك، فاتحا باب العديد من التأويلات أمامه؛ فمعنى سؤال العجوز عن نسيم يعني في أحد معانيه الرمزية أن نسيم هو من لم يكن له وجود حقيقي على أرض الواقع في حياة سلام، أي أنه هو الهاجس البديل، وليس العجوز، وهنا قد نعيد تأويل الفيلم مرة أخرى بناء على هذه المُعطيات الجديدة، والتأويل الرمزي المُختلف الذي كان سؤال العجوز هو السبب فيه، وهو أيضا ما قد يُبرر لنا الجفاف الكامل والصدع غير المُبرر بين كل من سلام ونسيم بافتراضه هو الهاجس الحقيقي، أو البديل للعجوز.

المُمثلة السعودية سمر البيات

إن الفيلم الروائي القصير للمُخرجة السعودية ريم سمير البيات، من الأفلام المُهمة التي تناقش فكرة اجتماعية وسيكولوجية وثقافية مُهمة، لا سيما فكرة الخوف، وأثر هذه الأمور على حياة الآخرين في المُجتمع السعودي التائق للحرية والحياة المسلوبتين منه سابقا، لكن لجوء المُخرجة إلى الإيغال في الرمزية يجعل الفيلم مُضطربا، ومشوشا أحيانا على المُشاهد، رغم جودة الفيلم، والأداء البارع للمُمثلين الرئيسيين فيه، فضلا عن التصوير والمُوسيقى التصويرية التي ستظل مُترددة داخلنا لفترة بعد انتهاء الفيلم، وتعبيريتها عما ترغب المُخرجة في إيصاله إلينا، لكن يبدو أن المُخرجة لم تنتبه لأداء الآخرين من المُمثلين؛ فرأينا الطبيب النفسي الذي ذهبت إليه سلام للتخلص من الضغط النفسي الذي تعاني منه يؤدي دوره بشكل كبير من الافتعال- المُناسب للمسرح-كما أن نظرته المُباشرة للكاميرا- نحن كمُشاهدين- باعتبار أنه ينظر إلى سلام فيها الكثير من المُباشرة، والمزيد من الافتعال حتى أنه يبدو لنا في مُجمل الأمر وكأنه يتحرش بها من خلال نظرته، وهو ما رأيناه أيضا في نظرة سائق التاكسي المُفتعلة، والتي بدت لنا نظرة مُنحرشة بدورها!

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة.

عدد يوليو 2023م.

الجمعة، 14 يوليو 2023

المُعلم الكبير: مرثية وونج كار واي السينمائية

هذا الفيلم ليس مُجرد لوحات سينمائية تهتم بتقديم فنون الأداء القتالية في الصين وأنواعها المُتعددة، وليس مُجرد فيلم يهتم بتقديم السيرة الذاتية المُهمة لأبو فنون أداء الكونغ فو، يب مان، في مدينة "فوشان" في الجنوب الصيني قبل الغزو الياباني لها، وهو الذي كان من أشهر تلاميذه بروس لي، بل هو مقطوعة فنية تقترب من الموسيقى، ترثي الكثير من القيم في الصين؛ ليتخذ المُخرج من الوقت، والدقة، والتحدي، ومحاولة استرداد الشرف، والإرث، والانتقام من أجل تحقيق العدالة أدوات مُهمة من أجل صناعتها بالشكل الذي خرجت عليه؛ وتضحى من أهم الأفلام السينمائية التي قدمها المُخرج الصيني وونج كار واي رغم اختلافها البيّن عن العوالم التي رأيناها له فيما سبق من أفلام، وإن كان قد حرص هنا على اعتماده على نفس أسلوبيته الجمالية في صناعة السينما.

في فيلم The Grandmaster المُعلم الكبير للمُخرج الصيني Wong Kar- Wai وونج كار واي ثمة العديد من المُلاحظات التي لا يمكن تجاهلها لكل من يعرف نوع السينما التي يقدمها هذا المُخرج؛ فهو يعتمد على نفس أسلوبيته الجمالية في صناعة السينما، بل يكاد أن يعتمد على نفس الفلسفة التي ينطلق منها تجاه هذه الصناعة، ورغم أنه هنا يخوض في غمار عالم جديد عليه فيما يقدمه، وهو عالم الفنون القتالية- الكونغ فو ومدارسه الأدائية المُختلفة- مما قد يجعله فيلما من أفلام الحركة أكثر مما هو فيلم فني، إلا أنه يستطيع من خلال أدواته التي يتقنها جيدا تحويل الفيلم من فيلم حركة إلى مقطوعة سينمائية يرثي من خلالها الفنون القتالية القديمة، وإن كان في المعنى الأبعد من الفيلم يرغب المُخرج في التأكيد على أن الوقت يتقدم دائما إلى الأمام، وأنه في هذا التقدم إنما يقضي على الكثير من الحيوات، والقيم، والفنون؛ ليخلق غيرها الكثير مما هو جديد؛ لتعويض ما اندثر ولم يعد يهتم به أحد.

هو هنا لا يقدم أيضا مُجرد فيلم من أفلام السيرة الذاتية، وهي السيرة التي اهتم بها بمُعلم هذا الفن القتالي، يب مان، بل جنح إلى المزج بين تقديم سيرته الذاتية، ورثاء اندثار هذا الفن المُهم في الصين، فضلا عن تأمله في التاريخ السياسي في الصين، ومحاولات الانفصال بين كل من الجنوب والشمال، إلى أن وقعت الصين فريسة لليابان في الحرب الصينية اليابانية الثانية 1937- 1945م.


لم يكتف المُخرج بذلك؛ فهو لم يكتف بتقديم العديد من المشاهد القتالية التي قد تستهوي جمهور أفلام الحركة، كما لم يكتف بالسيرة التي هو بصددها، ولم يتعرض لتاريخ الصين السياسي في خلفية الأحداث فقط- صحيح أنه تعرض لهذا التاريخ السياسي، لكنه لم يكن هو المُحرك الأساس في الأحداث، بل ظل في الخلفية وكأنه يجثم على أنفاس الجميع- بل مزج كل هذه الأمور بقصة من الرومانسية الدافئة التي كثيرا ما رأيناها لديه في العديد من الأفلام لا سيما ثلاثيته الشهيرة السابقة، وهي الثلاثية التي حملت من المشاعر العميقة والرومانسية ما لا يمكن نسيان أحداثها مهما مر الكثير من الوقت؛ لبراعته فيما قدمه فيها.

يفتتح وونج كار واي فيلمه بمشهد من مشاهده التي يمكن إطلاق عليها مُسمى اللوحات الفنية التشكيلية؛ حيث نرى قطرات الأمطار المُتساقطة مُستخدما أسلوب العرض البطيء Slow Motion- وهو من الأساليب السينمائية الأثيرة في التصوير لدى المُخرج، والتي دائما ما يستخدمها في جميع أفلامه- فتبدو لنا هذه الأمطار وكأنها مُجرد قطرات من اللؤلؤ لفرط تركيز الكاميرا عليها مع العرض البطيء، يتضافر مع هذا الأسلوب الإضاءة الحالمة، أو الحلمية إلى حد كبير، حيث نرى عراكا بين يب مان- قام بدوره المُمثل الصيني Tony Leung Chiu- Wai توني ليونغ تشيو واي- ومجموعة كبيرة باستخدام فنون الكونغ فو، ولعله في أسلوبية تصوير المشهد ما يجعله من أقوى وأهم المشاهد في الفيلم- رغم حركيته المُفرطة- لأثره الجمالي، وقدرته على التأسيس للعالم الفيلمي الذي نحن بصدده، فضلا عن المقدرة البارعة للمُخرج على تأطير مشاهده- وهو ما جعلنا نصفها باعتبارها لوحات فنية.


في هذا المشهد الافتتاحي للعراك نلاحظ تركيز الكاميرا بتأمل على لقطات حركة الأيدي والأقدام؛ وهو ما يكسب المعارك، رغم عدم أهميتها الحيوية لمن لا يحبون فنون القتال، الكثير من الجماليات التصويرية، بل يؤدي تأمل الكاميرا في التفاصيل الدقيقة إلى تحويل المعركة إلى أسلوبية خاصة في التصوير تخص المُخرج وحده.

إذن، فهو حريص هنا منذ المشهد الأول على تقديم يب مان الذي يتناول سيرة حياته، وكأنه يعمل من خلال هذا المشهد التأسيسي على تعريفنا عليه، ومقدرته على القتال بشرف.

ينتقل المُخرج فيما بعد للحديث عن فنون الأداء القتالية سواء في جنوب الصين أو شمالها، حيث تختلف المدارس القتالية ما بين الشمال والجنوب، ولكل جهة منها مدرستها الخاصة، لذلك يأتي جونج يوتان- قام بدوره المُمثل الصيني Wang Qingxiang وانغ تشينغ شيانغ- من الشمال بعدما أقام حفل اعتزاله لفنون القتال رغم أنه صاحب مدرسة مهمة اسمها "الأيدي 64" ولم يبرع فيها سواه، وعلمها للكثير من الأجيال، ولكن لأنه يرى أن الزمن إلى صيرورة مُستمرة للأمام، ولأنه يثق أنه لا بد من اعتزاله كي يترك الفرصة لغيره من الشباب وغيرهم ممن علمهم أسرار هذا الفن؛ فلقد قرر الاعتزال، وبعدما أقام حفل الاعتزال في الشمال، وصل إلى الجنوب؛ بدعوة من مدارس الأداء الأخرى كي يقيم حفل اعتزاله الثاني.


باستخدام أسلوب الحكي التسجيلي الأقرب إلى المونولوج الطويل، نعرف أن يب مان كان قد تدرب على فنون القتال منذ كان في الرابعة من عمره، كما أنه لم يسبق له أن تعرض للهزيمة مرة واحدة في حياته؛ الأمر الذي جعله من أهم مُدرسي ومُدربي فنون القتال في مُقاطعة "فوشان" الجنوبية، كما يذكر كيف علمه أستاذه وينغ شون- قام بدوره المُمثل الصيني Yuen Woo- Ping يوين وو بينغ- الشرف في القتال، وقلده الحزام الأسود منذ صغره؛ لذلك فإن يب مان من أهم مُعلمي هذه الفنون القتالية في الجنوب، وهو ما كان يجعله يقول دائما مُؤكدا: الكونغ فو كلمتان، أفقي، عمودي، ترتكب خطأ أفقيا، ابق واقفا وأنت تفوز.

يلتقي معلمو وتلاميذ هذه الفنون القتالية في حفل الاعتزال الثاني لجونج يوتان في الجنوب، وهو الحفل الذي كان في أحد بيوت الدعارة الفاخرة، والذي لم يكن، في حقيقته، سوى ساحة للقتال الدائم لمُحبي هذه الفنون! وبما أن جونج يوتان قد أورث هذا الفن لأحد أبناء الشمال بعد العديد من الاختبارات والقتالات التي أثبتت كفاءته بأن يكون وريث الأيدي 64 من بعد مُعلمه كي يعلمها لغيره من الأجيال القادمة، فهو يرغب في توريثها أيضا لأحد أبناء الجنوب بعدما يجري العديد من اللقاءات القتالية، ولكن المُقاتل الشمالي ما سان- قام بدوره المُمثل الصيني Zhang Jin تشانغ جين- يظهر فجأة رافضا أن يورث معلمه هذا الفن لغيره من أبناء الجنوب؛ الأمر الذي يجعل المُعلم يغضب طاردا إياه للعودة إلى الشمال مرة أخرى.


يرغب يب مان في أن يكون هو المُختار لوراثة هذا الفن؛ لذلك يمر بالعديد من القتالات المُختلفة في بيت الدعارة ويربحها جميعا، إلى أن يمر باختباره الأخير مع المُعلم جونج يوتان ليربح ويؤكد المُعلم على أحقيته بالوراثة. لا يروق الأمر لجونج إير ابنة جونج يوتان- قامت بدورها المُمثلة الصينية Zhang Ziyi تشانغ زيي- فمن المُفترض ألا يخرج هذ الشرف من عائلتها، كما أنها لا تتصور هزيمة أبيها أمام يب مان؛ لذلك تدعو يب مان إلى قتال بينهما- لا سيما أن أباها قد علمها الأيدي 64 وأسرارها- وتؤكد له أنه إذا ما خسر فليس له الحق في هذا الإرث.

يوافق يب مان على القتال معها في بيت الدعارة أمام الجميع، ويكون شرط الفوز أو الهزيمة هو انكسار أي شيء داخل بيت الدعارة. يقدم المُخرج في هذه المعركة لوحات سينمائية خاصة، ورغم أنها كانت تتميز بالكثير من الشراسة إلا أننا سنلاحظ أنها تميزت بالكثير من الحسية والرغبة بين كل من يب مان وجونج إير، والأكثر من المشاعر ما يغلب على كونها مُجرد معركة في فنون القتال، لا سيما نظراتهما لبعضهما البعض، واقترابهما الحسي الواضح من أكثر من زاوية ولقطة، رغم أنها معركة تحدي حول الدقة باعتبار أن هذه الفنون تغلب عليها الكثير من الدقة.


تنتصر جونج إير بالفعل على يب مان حينما تدفعه من أعلى السلم ليسقط واقفا على الخشبية الأرضية التي تنكسر من أسفله، وبذلك تستعيد إرثها وتحافظ عليه في عائلتها غير راغبة في انتقاله لأحد أبناء الجنوب رغم إعجابها به وحسيتها الواضحة تجاهه.

إن براعة كاميرا المصور الفرنسي Phillipe Le Sourd فيليب لو سورد بتوجيه من المُخرج؛ لالتقاط التفاصيل، والتركيز عليها أدى إلى الانتباه لدقة تفاصيل الأزياء المُستخدمة في الفيلم، وكيفية انتقاء الملابس، فضلا عن دقائق الديكور.

في عام 1936م تبدأ محاولات الانفصال بين الجنوب والشمال، إلى أن تبدأ الحرب اليابانية الصينية، هنا نستمع إلى يب مان يقول: إذا كانت للحياة فصول؛ فسنواتي الأربعين الأولى كانت ربيعا، لكن مع بداية الحرب انتقلت سريعا من الربيع إلى الشتاء.

تركت الحرب بأثرها الضخم والسلبي على الكثيرين لا سيما يب مان؛ حيث فقد ماله، وشعر بالكثير من الفقر، ولعل المشهد الذي عبر به المُخرج عن بداية الحرب كان من المشاهد المُهمة والجمالية التي لا بد من الالتفات إليها.


إن جمالية المشهد التعبيري نشاهدها حينما يطلب يب مان من زوجته التقاط صورة عائلية لهما مع أولادهما؛ فيلجأ المُخرج إلى تثبيت الصورة، ثم لا يلبث أن يعمل على تأطيرها، ليضعها على أحد الجدران، وسرعان ما يحدث انفجار قوي يطيح بالصورة، مُحطما إياها في دلالة تعبيرية على بداية الغزو الياباني للصين، وهو ما دمر حياة يب مان بفقده لطفليه، وضياع أمواله، وسقوطه في الفقر الشديد والحاجة، بل وفقد عمله، وانفضاض جميع الأصدقاء من حوله بعدما تحول الكثيرون منهم إلى متعاونين مع الاحتلال الياباني ضد وطنهم، وهو الأمر الذي رفض يب مان الانصياع له بقوة وإصرار رغم جوعه هو وزوجته زانغ يونغ شينغ- قامت بدورها المُمثلة الكورية الجنوبية Song Hye- Kyo سونغ هاي كيو- لذلك يفكر في ترك الجنوب الصيني والانتقال إلى هونج كونج من أجل محاولة البحث عن فرصة من أجل تعليم الكونغ فو هناك؛ ليكسب عيشه ويرسله إلى زوجته حتى عودته، كما يرفض التعاون مع اليابانيين قائلا: أفضل الجوع على أن أكون متعاونا وآكل الأرز الياباني.

يوافق ما سان- الذي ورث المُعلم جونج يوتان في الأيدي 64- على التعاون مع الاحتلال الياباني، وحينما يذهب إلى مُعلمه ذات مرة بعد تعاونه يغضب منه المُعلم غضبا شديدا، ويرى أنه لم يكن يستحق بأن يكون وريثه في هذا الفن وأسراره الشريفة، لكنه يدخل في عراك مع المُعلم ليقوم بقتله.

حينما تعلم جونج إير بمقتل أبيها على يد ما سان تصر على الانتقام لموته أولا، كما تتخذ قرارها اللامتهاون في استعادة إرث أبيها من ما سان، ورغم أن أباها كانت آخر كلماته هي التحذير من الانتقام، كما كانت أمنيته أن تتزوج ابنته وتدرس الطب، إلا أنها تتخلى عن خاتم زواجها وتعيده إلى خطيبها مرة أخرى؛ نتيجة اختيارها الانتقام واستعادة الإرث؛ فالمرأة التي تتزوج في تقاليد هذه المدارس القتالية غير صالحة لأن تكون مُعلمة لهذه الفنون، ولا يمكنها أن ترثها أيضا، وبما أنها ترغب في استعادة إرثها؛ فيجب عليها الامتناع عن الزواج تماما.


يبدأ يب مان في تعليم أبناء الشمال الفنون القتالية من أجل اكتساب عيشه، كما لا تمل جونج إير في البحث عن ما سان من أجل الانتقام منه واستعادة شرف العائلة المُمثل في فن الأيدي 64، إلى أن تلتقيه ويكون بينهما مشهد عراك مُتقن في محطة القطارات؛ حيث تقوم بالفعل بالانتقام لأبيها بقتل ما سان الذي لم يكن يعرف أسرار هذا الفن سواه معها، ليعود الإرث إليها مرة أخرى وتستقل به. لكن رغم عودة هذا الإرث إلى جونج إير، ومن ثم لم يعد يمتلك أسراره أي شخص آخر غيرها، إلا أنها ترفض تعليمه لأحد، كما رفضت الزواج من قبل، وتعلمت الطب مُبتعدة عن الفنون القتالية وتعليمها.

يتقابل يب مان بعد سنوات مع جونج إير؛ لتعترف له أنها كانت تحبه، ومُهتمة به، ولكن بما أنها لم يكن مسموحا لها بالزواج لاستعادة إرث أبيها فقد ضاع منها حبها من أجل إرثها الأكثر أهمية.

ثمة مُلاحظة مُهمة هنا لن يلاحظها إلا جمهور أفلام وونج كار واي، أو من اعتاد على مُشاهدة ما يقدمه من أفلام هي عبارة عن لوحات سينمائية، ألا وهي فلسفة الوقت لدى المُخرج وقيمته القصوى باعتباره من المُمكن له أن يكون قاتلا في كل ما رأيناه من أفلام قدمها من قبل. فالوقت هنا لم يكن دالا على التغير فقط، ومقدرته على الهدم والزوال مما يتناسب مع مفهوم الفيلم الذي يؤكد على زوال العصر الذهبي للفنون القتالية ورثائها، بل دلل، من ناحية أخرى، على السباق اللاهث من أجل استعادة جونج إير شرف وإرث عائلتها في فنون الكونغ فو لا سيما الأيدي 64.


بعدما تعترف جونج إير ليب مان بحبها له يفترقان، ولعل مشهد الوداع بينهما رغم عشقهما لبعضهما البعض، ورغبتها في الرحيل عن هونج كونج والعودة إلى شمال الصين- وهو العشق الذي لا يتحقق دائما في أفلام وونج كار واي، أي أنه حريص دائما على دفء المشاعر، ولهيبها بين شخصياته، لكنه دائما ما يكون حبا ناقصا لا يتم، بل ينتهي بالفراق- من المشاهد المُهمة التي تُعيد إلى ذاكرتنا البصرية مرة أخرى نفس أجواء فيلم In the Mood for Love في مزاج للحب لنفس المُخرج، وهو الفيلم الذي كان الجزء الثاني من ثلاثيته الشهيرة؛ حيث وداع بطلي الفيلم لبعضهما البعض في هونج كونج أيضا رغم العشق الذي ربط بينهما، ولعلنا سننتبه إلى استخدام المُخرج لنفس الإطارات التصويرية تقريبا في كلا الفيلمين والمشهدين.

لم يلجأ المُخرج إلى استخدام الحكي بالصوت المونولوجي لتقديم فيلمه فقط، بل لجأ إلى العديد من العناوين الشارحة على الشاشة للتقدم أو التأخر بالزمن، أو إعطائنا المزيد من المعلومات مُستعيضا بهذه العناوين على الإفراط في المشاهد التي رأى أنها من المُمكن لها أن تكون من دون قيمة بصرية، أو اعتبرها من قبيل الثرثرة.


لذلك سنعرف من خلال هذه العناوين أن جونج إير قد ماتت بعد عام واحد 1953م من فراقها ليب مان، كما لم يستطع بدوره العودة إلى جنوب الصين حيث ترك زوجته وحيدة بسبب موتها أيضا، وظل وحيدا في هونج كونج محاولا الحفاظ على تدريس الفنون القتالية هناك.

إن فيلم المُعلم الكبير للمُخرج الصيني وونج كار واي من الأفلام المُهمة التي اختلفت كثيرا في موضوعها الرئيس عما يقدمه المُخرج من أفلام، لكنه من خلال مقدرته الفنية، وأسلوبيته الجمالية في صناعة السينما جعله لا يقل أهمية وجمالا عما رأيناه له فيما قبل؛ لا سيما أنه يحرص دائما في كل ما قدمه من أفلام على تأطير الصورة أو اللقطة، جاعلا أحد المُمثلين في زاوية أو ركن من أركان الإطار بينما تصبح باقي المرئيات مُجرد خلفية للاستخدام الجمالي فقط، سواء كانت المرئيات الأخرى مُجرد مُمثلين آخرين، أو مُجرد ضوء، أو حتى جزء من الديكور داخل اللقطة، وهو أسلوب من أهم الأساليب الجمالية التي ابتدعها وونج كار واي واستمر عليها.


كما لا يمكن إنكار مهارة المُخرج في عدم الوقوع داخل أسر تقديم فيلم من أفلام السيرة الذاتية فقط، ولا الانسياق من خلال هذه السيرة لتقديم فيلم من أفلام الحركة، أو الفنون القتالية فقط، بل تتبع تاريخ الصين السياسي أيضا، كما أضفى على الفيلم الكثير من خصوصيته الفنية التي يتميز بها، وغلفه بإطاره الرومانسي؛ مما جعله لا يقل أهمية عن غيرها من أفلامه السابقة.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة الشارقة الثقافية

عدد يوليو 2023م