الخميس، 27 يوليو 2017

الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة: مهرجان بنكهة نقاد السينما


الناقد عصام زكريا
انتهت فعاليات مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة في دورته التاسعة عشر، وهو المهرجان الأهم على مستوى الشرق الأوسط المتخصص في الأفلام الوثائقية والذي يحظى بالكثير من الاهتمام والتقدير الدولي، وقد تولى رئاسة دورة هذا العام الناقد السينمائي عصام زكريا في تأكيد من وزارة الثقافة المصرية على أن نقاد السينما وصناعها هم الأقدر والأكثر مهارة وفنية في إدارة مهرجانات السينما؛ ومن أجل صناعة دورة سينمائية ناجحة قلما يقوم بها غير المتخصصين في هذا المجال.
تذكرنا دورة هذا العام بالدورة التي أُقيمت عام 1995م وهي الدورة التي تولى رئاسة المهرجان فيها الناقد السينمائي الراحل سمير فريد، والتي كانت من أنجح دورات المهرجان باعتبار أن المسؤول عنها هو من أهم نقاد السينما أيضا، ولعلها تذكرنا كذلك بدورة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي 2014م التي تولى رئاستها الناقد الراحل سمير فريد أيضا، وهي من الدلائل التي تؤكد على أن مهرجانات السينما لابد أن يكون المسؤول عنها من هم ضالعين في صناعة السينما لاسيما نقاد السينما؛ حيث أنهم الأقدر من غيرهم على صناعة مهرجانات حقيقية تُعبر عن السينما الناضجة.
اهتم المهرجان هذا العام بتكريم واحد من أبرز صناع السينما الذي كان له كبير الفضل على هذه الصناعة، لاسيما مهرجان الإسماعيلية، حيث تم تكريم المخرج السينمائي هاشم النحاس وهو من أهم مخرجي الأفلام التسجيلية، فضلا عن كونه من النقاد والباحثين القلائل في مجال السينما التسجيلية، إلا أن الفضل الأول للنحاس على مهرجان الإسماعيلية يعود إلى أنه أول من أسس لهذا المهرجان، واقترح أن يكون مكانه في مدينة الإسماعيلية، وبهذا يكون رائدا لصناعة السينما التسجيلية فضلا عن اهتمامه بوجود مهرجان يهتم بهذا النوع المهم من صناعة السينما.
قدم النحاس الكثير من الأفلام والكتب في مجال السينما التسجيلية منها فيلم "النيل الأزرق" 1972م، و"مبكى بلا حائط" 1974م، و"الناس والبحيرة" 1981م، كما شارك في توثيق حياة العديد من الأعلام في أفلام مهمة منها: "نجيب محفوظ ضمير عصره" 1989م، و"صلاح أبو سيف يتذكر"، و"رموز مصرية: نجيب محفوظ 2003م، وقدم للمكتبة السينمائية العربية العديد من المؤلفات منها: "يوميات المؤسسة" 1967م، و"نجيب محفوظ على الشاشة" 1975م، و"الهوية القومية في السينما العربية" 1986م، و"مستقبل السينما التسجيلية في مصر" 1990م.
بوستر المهرجان
تم إهداء دورة هذا العام لكل من الناقد السينمائي الراحل سمير فريد، والمخرج السينمائي الراحل محمد كامل القليوبي؛ نظرا لجهدهما الكبير في الارتقاء بالسينما المصرية، ودورهما في إيجاد صناعة سينمائية جادة.
لعله من اللافت للنظر أن فيلم الافتتاح هذا العام كان من الأفلام المُختارة بعناية ليمثل مهرجان الإسماعيلية هذا العام؛ حيث اُفتتح المهرجان بالفيلم الإسباني "ما وراء الفلامنكو" J: Beyond Flamenco للمخرج الإسباني كارلوس ساورا، وتعود أهمية عرض هذا الفيلم كفيلم للافتتاح إلى أنه من الأفلام النادرة والمهمة في تاريخ صناعة السينما التي تهتم بتقنيات التصوير السينمائي والاعتماد على المؤثرات البصرية بشكل يجعل المشاهد متأكدا أن المخرج يمارس شكلا من أشكال اللعب الممتع أثناء صناعة فيلمه؛ كما يستخدم المخرج تقنيات "الديسولف"، المزج، بمهارة- قلما ينجح فيها أحد المخرجين- أثناء استعراضه لتاريخ رقصة الفلامنكو ومحاولته لعمل مقارنة بين بداية قصة هذه الرقصة قديما وما آلت إليه فيما بعد. جاء التصوير، والصوت، والمؤثرات البصرية، واستخدام المرايا المنعكسة في التصوير من أهم مميزات الفيلم الذي كان يقدم لنا كادرات أشبه باللوحات التشكيلية النادرة، والتي قلما نشاهدها في الأفلام السينمائية، ولكن بما أن المخرج كان مهتما اهتماما كبيرا باستعراض كل ما يعرفه عن تاريخ رقصة "الخوتا"، وهي نوع من الرقص الإسباني يشبه الفالس، كذلك نتيجة رغبته في استعراض كل أشكال الآلات الموسيقية المستخدمة في هذا الرقص فقد طال الفيلم من المخرج قليلا بشكل قد يبعث على الإملال بالنسبة للمشاهد العادي غير المتمرس على فن مشاهدة الأفلام.
يمثل فيلم المخرج الإسباني كارلوس ساورا دعوة حقيقية لحب الحياة والإقبال عليها والرقص للاستمتاع بها. كما يُعد ساورا من أهم المخرجين في إسبانيا المتأثرين منذ بداياتهم بأسلوب الواقعية الإيطالية، ولم تخل أفلامه من نقد مبطن ومعلن سواء للظواهر الاجتماعية السلبية وعلى رأسها الفقر والكبت الجنسي، أو للسلطة المتمثلة آنذاك في الجنرال فرانكو؛ وهو الأمر الذي جعل من أفلامه ضحية دائمة لتعنت الرقابة منذ فيلمه "الجانحون" 1960م، وهو الفيلم الذي اختارته إدارة مهرجان "كان" لينافس على السعفة الذهبية في نفس العام، ورغم ذلك حذفت منه الرقابة في إسبانيا مدة 10 دقائق عند عرضه في الصالات المحلية.
في مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة كان هناك العديد من الأفلام المهمة المتميزة ولعل فيلم "وحيدا برفقة طالبان" Alone Among The Taliban للمخرج الإيراني محسن إسلمزاد يُعد من الأفلام المهمة التي تستعرض رحلة هذا المخرج في أفغانستان ولقائه بالعديدين من المواطنين الذين يسألهم عن الفارق في حياتهم قبل وبعد طالبان وغيرها من الأسئلة المؤرقة له، وإن كان المخرج لا يكتفي بلقاء المواطنين فقط بل يسعى إلى لقاء أعضاء من جماعة طالبان حيث كان مُحملا بالعديد من الأسئلة التي يبحث عن إجابات حقيقية لها. تعود أهمية الفيلم- رغم خطورة الظروف التي تم التصوير فيها- إلى عرض نمط الحياة هناك حيث يبدو الناس وكأنهم منفصلون تماما عن الحياة والعالم بينما يعيشون معيشة شديدة البدائية والفقر.
الناقد سمير فريد
كما كان الفيلم التسجيلي الطويل "الأشباح تُطارد أوروبا" Spectres Are Haunting Europe للمخرجة اليونانية ماريا كوركوتا من الأفلام المهمة التي تعرضت إلى الهجرة الشرعية وغير الشرعية إلى أوروبا ومحاولات اللجوء السياسي، يتناول الفيلم مجموعة من المشاهد والحياة اليومية من معسكر للاجئين على اختلاف المناطق التي أتى منها هؤلاء اللاجئين منهم سوريين، وأكراد، وباكستانيين، وأفغان وغيرهم حيث ينتظرون الطعام والشاي والطبيب في صفوف طويلة منتظرين عبور الحدود الفاصلة بين اليونان ومقدونيا، ولعل أهمية الفيلم تأتي نتيجة تصوير الحياة القاسية التي يعيشها هؤلاء المهاجرين المنتظرين للدخول إلى الجنة الأوروبية، كما كان الفيلم إنتاجا فرنسيا يونانيا مشتركا.
في قسم مسابقة الأفلام التسجيلية القصيرة تميز الفيلم الفرنسي "لا أحد يموت هنا" No Body Dies Here للمخرج سيمون باناي، وهو الفيلم الذي يتحدث عن مأساة حياة مجموعة من الأفارقة يعيشون على وهم العثور على الذهب؛ ففي منجم من مناجم الذهب الذي يُطلق عليه "بريما" في بينين تدور أحداث الفيلم الذي يُصور حياة عائلات ضخمة تعيش هناك في حالة فقر كاملة على أمل العثور على الذهب؛ الأمر الذي يجعلهم يعيشون سنوات طويلة من العمل بلا كلل ليل نهار للعثور على هذا المعدن الأصفر الساحر بالنسبة لهم من أجل نقلهم إلى مستوى اجتماعي جديد وأكثر رفاهية، ورغم أن الكثيرين جدا منهم قضوا ما يقرب من 25 عاما في البحث عن الذهب ولم يعثروا عليه، إلا أنهم ما زالوا يعيشون على أمل أن الغد سيأتي وقد وجدوا ما يرغبونه، ورغم أن الكثيرين منهم قد ماتوا في البحث عن الذهب داخل المناجم إلا أنهم ما زالوا يصرون على تحقيق حلمهم مؤكدين أنهم يعملون، أما الرزق أو الحصول على هذا المعدن فهو أمر من أمور الله الذي يمتلك الرزق، وهذا ما يجعلهم يعملون من دون ملل طول الوقت ولا يستريحون إلا حينما ينامون فقط ليعودوا مرة أخرى في دائرة لا تنتهي من البحث بعد استيقاظهم؛ فبدت لنا حياتهم وكأنها حياة من السراب الذي لا يمكن له أن يتحقق. يتضح هذا الأمل من خلال أحد شخصيات الفيلم الذي يذكر أنه ترك أسرته منذ عشرات السنوات وأتى إلى هذه المنطقة -التي تسرق سنوات عمره بالكامل- من أجل البحث عن الذهب لكنه لم يعثر عليه حتى الآن وإن كان يصدق في قرارة نفسه أنه سيعثر عليه يوما ما.
المخرج محمد كامل القليوبي
في مسابقة الأفلام الروائية القصيرة تميز الفيلم الأردني "خمسة أولاد وعجلة" Five Boys And Wheel للمخرج الفلسطيني سعيد زاغة، وهو من الأفلام المهمة التي تناقش موقف الإنسان حينما يتورط في موقف يُخالف مبادئه؛ حيث يتحدث الفيلم عن أحد المدرسين الذي يؤمن بأن تربية الأطفال لا يمكن أن تكون بالعنف، بل لابد من النقاش المُقنع، ويؤكد لنا المخرج ذلك حينما نشاهد المدرس يحاول النقاش مع أحد الطلاب الذي كرر الغش في الامتحان بينما يدخل مدرس آخر ليضرب الطالب، وهنا يثور المدرس على فعل زميله فيرد عليه: لا تحاول أن تعلمنا المبادئ وانظر إلى ابنك في فناء المدرسة يضرب الطلاب هناك. يتناقش الأب مع ابنه مؤكدا له أن العنف لا يمكن أن يكون أسلوبا للحياة؛ لأن الإنسان أثناء العنف قد يقتل الآخرين، لكنه ذات صباح تستدعيه إحدى الجارات إلى بيتها وتشتكي له من أن ابنه مع باقي أبناء الجيران قد فككوا "عجلة" ابنها ودمروها تماما، كما تستدعي أب أحد الأبناء الآخرين، وبينما يتناقشون من أجل إيجاد حل يتطاول الرجل الثاني عليه وعلى ابنه؛ الأمر الذي يجعل المدرس يثور ويوجع هذا الرجل ضربا بينما ابنه ينظر إليه مندهشا لمخالفته مبادئه في النقاش مع الناس ولجوئه إلى العنف، وهو ما يؤكد عليه المخرج فيما بعد حينما يقول الابن لأبيه لقد كدت تقتله أثناء انفعالك وضربك له.
لكن الفيلم التونسي "علوش" للمخرج لطفي عاشور يقدم حالة إنسانية مهمة ومأزقا يقع فيه رجل عجوز وحفيده حيث يقومان ببيع الخراف في اليوم السابق على العيد على متن سيارة قديمة ومتهالكة، لكن بينما هما يسيران بسيارتيهما في الصحراء يستوقفهما ضابطا شرطة، ورغم أن أوراقه وأوراق السيارة سليمة إلا أن أحدهما يؤكد له أنه لديه مخالفة وهي أن الضوء الخلفي للسيارة لا ينير؛ ومن ثم فهما لا يمكن لهما أن يسمحا له بالاستمرار في المسير إلا إذا أصلحه. يؤكد لهما العجوز أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك بنفسه وأنه في حاجة إلى ميكانيكي سيارات من أجل ذلك إلا أنهما يعملا على توقيفه، ويدعي أحدهما أنه سيتصل بابن عم له كي يأتي لإصلاح السيارة له، ولكن بعد مرور عدة ساعات لا يأتي الرجل المزعوم ويبدأ الضابط الآخر في مقايضة العجوز وابتزازه من أجل أن يتركه يرحل مؤكدا له أنهما يقضيان اليوم كله هكذا في الطريق تحت الشمس بينما لا يتقاضيان راتبا محترما يعينهما على الحياة الكريمة، ورغم أنهما في ليلة العيد إلا أنهما لا يمتلكان ثمن خروف من أجل ذلك. يفهم العجوز ويفتح لهما شاحنته لاختيار الخروف الذي يبغيانه، لكنه حينما يهم بالرحيل يستوقفانه مرة أخرى ليؤكدا له أنهما لن يستطيعا الذهاب إلى بيتهما بهذا الخروف، وأنهما لا يرغبانه. ثم يسألانه عن ثمنه فيقول لهما: إنه يُباع بحوالي 200 أو 300 دينار، فيرد أحدهم بل خمسمائة دينار، نحن نريد ثمن هذا الخروف. يفهم الرجل ويعطيهما 400 دينار؛ كي يتخلص منهما ويرحل هو وحفيده. صور الفيلم حالة إنسانية فريدة للرجل العجوز المقهور من السلطة التي تحاول السطو عليه وسرقته باسم السلطة المخولة لهما.
الناقد والمخرج هاشم النحاس
في برنامج بانوراما الأفلام الروائية القصيرة يأتي الفيلم الكندي "زيارة" A Visit للمخرجة لاريسا كوريفيو كفيلم متميز يتحدث عن الكاتب جوليان برتراند الذي يعيش حياته في عزلة كاملة عن البشر لا يشاركه في هذه الحياة سوى شقيقته، لكنه في يوم من الأيام تطلب إحدى الفتيات مقابلته، وحينما يوافق على مقابلتها تخبره: إنها قرأت كل ما كتبه تقريبا، كما أن روايته الأخيرة قد قرأتها حوالي ثلاث مرات؛ لأنها ترى حياتها فيها؛ فهو قد كتبها هي، كما أنه غيّر في حياتها كثيرا. تطلب الفتاة توقيعه وتتركه راحلة لتتغير حياته تماما ويبدأ في البحث عن مغزى حياته التي يعيشها.
حرص مهرجان الإسماعيلية هذا العام على طباعة العديد من الكتب المهمة في مجال السينما منها: "البحث عن القليوبي" للكاتب حسين عبد اللطيف، و"نجيب محفوظ.. ضميرنا الباقي" للمخرج والناقد هاشم النحاس، و"هاشم النحاس وأفلامه عن الإنسان" للناقد رامي عبد الرازق، و"مغامرة السينما الوثائقية.. تجارب ودروس" للناقد صلاح هاشم، وقد كان حرص المهرجان على إصدار هذه الكتب دليلا على أهمية الثقافة السينمائية ومحاولة التأصيل للسينما الوثائقية ودورها الفني والاجتماعي والثقافي الذي تلعبه في حياة المشاهد، كما حرص المهرجان على تقديم العديد من الورشات لكتابة السيناريو أثناء هذه الدورة، وهي الورشات التي أدارها العديد من صناع السينما الأجانب.



محمود الغيطاني


مجلة الشارقة الثقافية
عدد يوليو 2017م