الناقد عصام زكريا |
تذكرنا دورة هذا العام
بالدورة التي أُقيمت عام 1995م وهي الدورة التي تولى رئاسة المهرجان فيها الناقد
السينمائي الراحل سمير فريد، والتي كانت من أنجح دورات المهرجان باعتبار أن
المسؤول عنها هو من أهم نقاد السينما أيضا، ولعلها تذكرنا كذلك بدورة مهرجان
القاهرة السينمائي الدولي 2014م التي تولى رئاستها الناقد الراحل سمير فريد أيضا،
وهي من الدلائل التي تؤكد على أن مهرجانات السينما لابد أن يكون المسؤول عنها من
هم ضالعين في صناعة السينما لاسيما نقاد السينما؛ حيث أنهم الأقدر من غيرهم على
صناعة مهرجانات حقيقية تُعبر عن السينما الناضجة.
اهتم المهرجان هذا العام
بتكريم واحد من أبرز صناع السينما الذي كان له كبير الفضل على هذه الصناعة، لاسيما
مهرجان الإسماعيلية، حيث تم تكريم المخرج السينمائي هاشم النحاس وهو من أهم مخرجي
الأفلام التسجيلية، فضلا عن كونه من النقاد والباحثين القلائل في مجال السينما
التسجيلية، إلا أن الفضل الأول للنحاس على مهرجان الإسماعيلية يعود إلى أنه أول من
أسس لهذا المهرجان، واقترح أن يكون مكانه في مدينة الإسماعيلية، وبهذا يكون رائدا
لصناعة السينما التسجيلية فضلا عن اهتمامه بوجود مهرجان يهتم بهذا النوع المهم من
صناعة السينما.
قدم النحاس الكثير من الأفلام
والكتب في مجال السينما التسجيلية منها فيلم "النيل الأزرق" 1972م،
و"مبكى بلا حائط" 1974م، و"الناس والبحيرة" 1981م، كما شارك
في توثيق حياة العديد من الأعلام في أفلام مهمة منها: "نجيب محفوظ ضمير عصره"
1989م، و"صلاح أبو سيف يتذكر"، و"رموز مصرية: نجيب محفوظ 2003م، وقدم
للمكتبة السينمائية العربية العديد من المؤلفات منها: "يوميات المؤسسة"
1967م، و"نجيب محفوظ على الشاشة" 1975م، و"الهوية القومية في
السينما العربية" 1986م، و"مستقبل السينما التسجيلية في مصر"
1990م.
بوستر المهرجان |
لعله من اللافت للنظر أن فيلم
الافتتاح هذا العام كان من الأفلام المُختارة بعناية ليمثل مهرجان الإسماعيلية هذا
العام؛ حيث اُفتتح المهرجان بالفيلم الإسباني "ما وراء الفلامنكو" J: Beyond Flamenco للمخرج الإسباني كارلوس ساورا، وتعود أهمية عرض هذا الفيلم كفيلم
للافتتاح إلى أنه من الأفلام النادرة والمهمة في تاريخ صناعة السينما التي تهتم
بتقنيات التصوير السينمائي والاعتماد على المؤثرات البصرية بشكل يجعل المشاهد
متأكدا أن المخرج يمارس شكلا من أشكال اللعب الممتع أثناء صناعة فيلمه؛ كما يستخدم
المخرج تقنيات "الديسولف"، المزج، بمهارة- قلما ينجح فيها أحد المخرجين-
أثناء استعراضه لتاريخ رقصة الفلامنكو ومحاولته لعمل مقارنة بين بداية قصة هذه
الرقصة قديما وما آلت إليه فيما بعد. جاء التصوير، والصوت، والمؤثرات البصرية، واستخدام
المرايا المنعكسة في التصوير من أهم مميزات الفيلم الذي كان يقدم لنا كادرات أشبه
باللوحات التشكيلية النادرة، والتي قلما نشاهدها في الأفلام السينمائية، ولكن بما
أن المخرج كان مهتما اهتماما كبيرا باستعراض كل ما يعرفه عن تاريخ رقصة
"الخوتا"، وهي نوع من الرقص الإسباني يشبه الفالس، كذلك نتيجة رغبته في
استعراض كل أشكال الآلات الموسيقية المستخدمة في هذا الرقص فقد طال الفيلم من
المخرج قليلا بشكل قد يبعث على الإملال بالنسبة للمشاهد العادي غير المتمرس على فن
مشاهدة الأفلام.
يمثل فيلم المخرج الإسباني كارلوس
ساورا دعوة حقيقية لحب الحياة والإقبال عليها والرقص للاستمتاع بها. كما يُعد
ساورا من أهم المخرجين في إسبانيا المتأثرين منذ بداياتهم بأسلوب الواقعية
الإيطالية، ولم تخل أفلامه من نقد مبطن ومعلن سواء للظواهر الاجتماعية السلبية
وعلى رأسها الفقر والكبت الجنسي، أو للسلطة المتمثلة آنذاك في الجنرال فرانكو؛ وهو
الأمر الذي جعل من أفلامه ضحية دائمة لتعنت الرقابة منذ فيلمه
"الجانحون" 1960م، وهو الفيلم الذي اختارته إدارة مهرجان
"كان" لينافس على السعفة الذهبية في نفس العام، ورغم ذلك حذفت منه
الرقابة في إسبانيا مدة 10 دقائق عند عرضه في الصالات المحلية.
في مسابقة الأفلام التسجيلية
الطويلة كان هناك العديد من الأفلام المهمة المتميزة ولعل فيلم "وحيدا برفقة
طالبان" Alone Among
The Taliban للمخرج
الإيراني محسن إسلمزاد يُعد من الأفلام المهمة التي تستعرض رحلة هذا المخرج في
أفغانستان ولقائه بالعديدين من المواطنين الذين يسألهم عن الفارق في حياتهم قبل
وبعد طالبان وغيرها من الأسئلة المؤرقة له، وإن كان المخرج لا يكتفي بلقاء المواطنين
فقط بل يسعى إلى لقاء أعضاء من جماعة طالبان حيث كان مُحملا بالعديد من الأسئلة التي
يبحث عن إجابات حقيقية لها. تعود أهمية الفيلم- رغم خطورة الظروف التي تم التصوير
فيها- إلى عرض نمط الحياة هناك حيث يبدو الناس وكأنهم منفصلون تماما عن الحياة
والعالم بينما يعيشون معيشة شديدة البدائية والفقر.
الناقد سمير فريد |
في قسم مسابقة الأفلام
التسجيلية القصيرة تميز الفيلم الفرنسي "لا أحد يموت هنا" No Body Dies Here للمخرج سيمون باناي، وهو الفيلم الذي يتحدث عن مأساة حياة مجموعة
من الأفارقة يعيشون على وهم العثور على الذهب؛ ففي منجم من مناجم الذهب الذي يُطلق
عليه "بريما" في بينين تدور أحداث الفيلم الذي يُصور حياة عائلات ضخمة
تعيش هناك في حالة فقر كاملة على أمل العثور على الذهب؛ الأمر الذي يجعلهم يعيشون
سنوات طويلة من العمل بلا كلل ليل نهار للعثور على هذا المعدن الأصفر الساحر
بالنسبة لهم من أجل نقلهم إلى مستوى اجتماعي جديد وأكثر رفاهية، ورغم أن الكثيرين
جدا منهم قضوا ما يقرب من 25 عاما في البحث عن الذهب ولم يعثروا عليه، إلا أنهم ما
زالوا يعيشون على أمل أن الغد سيأتي وقد وجدوا ما يرغبونه، ورغم أن الكثيرين منهم
قد ماتوا في البحث عن الذهب داخل المناجم إلا أنهم ما زالوا يصرون على تحقيق حلمهم
مؤكدين أنهم يعملون، أما الرزق أو الحصول على هذا المعدن فهو أمر من أمور الله
الذي يمتلك الرزق، وهذا ما يجعلهم يعملون من دون ملل طول الوقت ولا يستريحون إلا
حينما ينامون فقط ليعودوا مرة أخرى في دائرة لا تنتهي من البحث بعد استيقاظهم؛
فبدت لنا حياتهم وكأنها حياة من السراب الذي لا يمكن له أن يتحقق. يتضح هذا الأمل
من خلال أحد شخصيات الفيلم الذي يذكر أنه ترك أسرته منذ عشرات السنوات وأتى إلى
هذه المنطقة -التي تسرق سنوات عمره بالكامل- من أجل البحث عن الذهب لكنه لم يعثر
عليه حتى الآن وإن كان يصدق في قرارة نفسه أنه سيعثر عليه يوما ما.
المخرج محمد كامل القليوبي |
لكن الفيلم التونسي
"علوش" للمخرج لطفي عاشور يقدم حالة إنسانية مهمة ومأزقا يقع فيه رجل
عجوز وحفيده حيث يقومان ببيع الخراف في اليوم السابق على العيد على متن سيارة
قديمة ومتهالكة، لكن بينما هما يسيران بسيارتيهما في الصحراء يستوقفهما ضابطا
شرطة، ورغم أن أوراقه وأوراق السيارة سليمة إلا أن أحدهما يؤكد له أنه لديه مخالفة
وهي أن الضوء الخلفي للسيارة لا ينير؛ ومن ثم فهما لا يمكن لهما أن يسمحا له
بالاستمرار في المسير إلا إذا أصلحه. يؤكد لهما العجوز أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك
بنفسه وأنه في حاجة إلى ميكانيكي سيارات من أجل ذلك إلا أنهما يعملا على توقيفه،
ويدعي أحدهما أنه سيتصل بابن عم له كي يأتي لإصلاح السيارة له، ولكن بعد مرور عدة
ساعات لا يأتي الرجل المزعوم ويبدأ الضابط الآخر في مقايضة العجوز وابتزازه من أجل
أن يتركه يرحل مؤكدا له أنهما يقضيان اليوم كله هكذا في الطريق تحت الشمس بينما لا
يتقاضيان راتبا محترما يعينهما على الحياة الكريمة، ورغم أنهما في ليلة العيد إلا
أنهما لا يمتلكان ثمن خروف من أجل ذلك. يفهم العجوز ويفتح لهما شاحنته لاختيار
الخروف الذي يبغيانه، لكنه حينما يهم بالرحيل يستوقفانه مرة أخرى ليؤكدا له أنهما
لن يستطيعا الذهاب إلى بيتهما بهذا الخروف، وأنهما لا يرغبانه. ثم يسألانه عن ثمنه
فيقول لهما: إنه يُباع بحوالي 200 أو 300 دينار، فيرد أحدهم بل خمسمائة دينار، نحن
نريد ثمن هذا الخروف. يفهم الرجل ويعطيهما 400 دينار؛ كي يتخلص منهما ويرحل هو
وحفيده. صور الفيلم حالة إنسانية فريدة للرجل العجوز المقهور من السلطة التي تحاول
السطو عليه وسرقته باسم السلطة المخولة لهما.
الناقد والمخرج هاشم النحاس |
حرص مهرجان الإسماعيلية هذا
العام على طباعة العديد من الكتب المهمة في مجال السينما منها: "البحث عن
القليوبي" للكاتب حسين عبد اللطيف، و"نجيب محفوظ.. ضميرنا الباقي"
للمخرج والناقد هاشم النحاس، و"هاشم النحاس وأفلامه عن الإنسان" للناقد
رامي عبد الرازق، و"مغامرة السينما الوثائقية.. تجارب ودروس" للناقد
صلاح هاشم، وقد كان حرص المهرجان على إصدار هذه الكتب دليلا على أهمية الثقافة
السينمائية ومحاولة التأصيل للسينما الوثائقية ودورها الفني والاجتماعي والثقافي
الذي تلعبه في حياة المشاهد، كما حرص المهرجان على تقديم العديد من الورشات لكتابة
السيناريو أثناء هذه الدورة، وهي الورشات التي أدارها العديد من صناع السينما
الأجانب.
محمود الغيطاني
مجلة الشارقة الثقافية
عدد يوليو 2017م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق