السبت، 3 يونيو 2017

لعبة السعادة.. إنهم يبتكرون الفساد في الجزائر


لعبة السعادة
ثمة ملاحظة لا يمكن إغفالها أو مرورها من دون التوقف أمامها لمن يطلع على الكتابة في الجزائر، وهي أن السرد هناك لم يخرج حتى اليوم من عباءة الاحتلال الفرنسي الذي ظل جاثما على صدروهم 132 عاما كاملة، وليس معنى أن الأدب هناك لم يخرج من هذه العباءة أنه يُعد نقيصة في هذا السرد المتطور الذي يشهد الكثير من التقدم بشكل دائم، بل يعني أن الاستيطان الفرنسي وما فعله بالمجتمع الجزائري من تغيير لبنية المجتمع بالكامل قد بات جزءً أصيلا من نسيجهم؛ حتى أنهم ما زالوا يدورون في فلكه حتى اليوم بعد مرور خمسة وخمسين عاما على التحرر.
هنا وجدنا جل من يكتب في الجزائر يعمل على اجترار ما كان من ويلات هذا الاستيطان، أو آثاره، أو التغني بحرب التحرير التي راح ضحيتها الملايين، أو الأثر العظيم الذي تركه خلفه الاستعمار من فساد حقيقي على المحاربين أنفسهم بعدما استولوا على السلطة الوطنية واعتبروا أن الوطن ملكهم وحدهم باعتبارهم يحكمون بينما باقي الشعب الجزائري لابد له من الخضوع لحكم الفساد من دون إبداء أي رأي أو مقاومة أو رفض لما يحدث من حوله، هذا الفساد الذي لم يكن يخص أيديولوجية من دون غيرها، بل أصاب اليساريين قبل الإسلاميين الذين حولوا الحياة هناك إلى جحيم حقيقي أثناء سنوات العشرية السوداء.
رأينا هذا في العديد من الأعمال الروائية التي لا يمكن أن تنساها الذاكرة، من رواية "اللاز" للروائي الراحل الطاهر وطار التي تحدث فيها عن مقاومة الاحتلال الفرنسي وكيفية تصفية الإسلاميين للمقاتلين اليساريين، مرورا برواية "معركة الزقاق" للروائي رشيد بوجدرة الذي غاص في قلب التاريخ مع طارق بن زياد في صراعه مع الأمير موسى بن نصير مازجا ذلك بحوادث حرب التحرير ووقائعها المؤلمة، وبطولاتها وخياناتها، وصولا إلى الكتاب الشباب في السرد الروائي الجزائري الحالي مثل سعيد خطيبي في "أربعون عاما في انتظار إيزابيل"، وبشير مفتي في روايته الأخيرة "لعبة السعادة"، وسمير قسيمي في روايته "تسعون" وغيرهم من الروائيين.
قد نستطيع رد كتابة الطاهر وطار وغيره ممن جايلوه من الكتاب إلى أنهم كانوا قريبي العهد بالاستيطان الفرنسي وحديثي عهد بالتحرر من هذا الاستيطان، لكن أن يظل الأمر جاثما على صدور الكتاب الشباب حتى اليوم فهو دليل على أن ما فعلته فرنسا بالجزائر لم يكن بالأمر الهين الذي يمكن أن يتخلصوا منه بسهولة، ودليل أيضا على ثراء هذه التجربة الحياتية التي ما زالت توحي بالكثير من الخيال وتترك بظلالها على الأجيال الحالية التي لا تستطيع الخروج من عباءة هذا التاريخ المثقل بالكثير من القتل والمعاناة؛ حتى أننا لا نراها في السرد الجزائري فقط، بل في السينما الجزائرية أيضا التي لم تستطع حتى اليوم التخلص من ثقل هذا الميراث الاستيطاني؛ ومن ثم نراها ما زالت تدور في فلك هذه التجربة القاسية، متغافلة عما يدور حولها في حياتهم اليومية الآنية.
يتحدث الروائي بشير مفتي في روايته الجديدة "لعبة السعادة" أو "الحياة القصيرة لمراد زاهر" عن أثر هذا الاستيطان الفرنسي الذي أفسد كل شيء في الجزائر، فهو لم يُفسد السياسة فقط، بل استمر أثر هذا الفساد ليصل إلى نفوس المجاهدين الذين عملوا على تحرير الجزائر من الفرنسيين، فما كان منهم إلا أن فسدوا هم أنفسهم وباتوا يتحكمون في مقدرات الجزائر بالكامل من خلال هذا الفساد الذي تشربوه، ومن ثم تحولوا من محاربين من أجل التحرير إلى عصابة من الفاسدين باسم الحكم الوطني؛ ومن ثم فرضوا فسادهم على الجميع، كل من يخالفهم في ذلك أو يحاول الاعتراض عليهم يكون مصيره هو التنكيل به، بالقضاء على مستقبله وحياته سواء على المستوى النفسي أو المستوى المادي بتصفيته تماما.
إذن نحن أمام لعبة حقيقية من الفساد الذي لا ينتهي، وإذا كان مفتي قد أطلق على روايته "لعبة لسعادة" فهي تسمية ساخرة من الواقع الذي حوله لا يعني من ورائها سوى لعبة الفساد والتدمير النفسي الحقيقي الذي ينال كل من يقف في وجه هذه السلطة التي تصر على إفساد كل ما هو جميل في حياة المواطنين الجزائريين. إنها لعبة الفساد الذي يراه الحكام ممن تولوا زمام الحكم باعتباره لعبة السعادة لهم ولمن يدورون في فلكهم، وهي بالفعل سعادة لهم حيث يرون أنفسهم باعتبارهم آلهة فوق الجميع ينظرون إليهم من السماء التي وصلوا إليها، في حين أنها لعبة تدمير الوطن والمواطنين على كل المستويات حتى لو كان هذا التدمير ينال من أقرب الأقرباء إليهم إذا ما حاولوا الاعتراض عليهم أو الوقوف في وجه مصالحهم، وهو ما حدث لمراد زاهر من خاله بن يونس صاحب السطوة في نظام الحكم أيام هواري بومدين.
انتهج مفتي في روايته أسلوبا سرديا يكاد يقرب من أدب السيرة الذاتية، أو أدب اليوميات، وإن لم يصرح بذلك بشكل مباشر، ولكن القارئ للرواية سيشعر أن السرد قد جاء على شكل يوميات أو سيرة يرويها مراد زاهر وإن لم تأخذ الشكل الحقيقي لليوميات أو السيرة الذاتية؛ فنقرأ مراد يُفضى إلينا بحقيقة نفسه وسماته السيكولوجية منذ البداية وكأنه يعترف لنا، أو يتوجه إلينا مباشرة كقراء بالحكي: "الصمت أتقنه جيدا، لكنه صمت خارجي، صمت يتكلم دون أن يسمعه الآخرون، صمت له عينان ترقبان العالم وتفكران في كل صغيرة وكبيرة، صمت له لسان باطني لا يسمع صوته إلا أنا، بينما أترك للآخرين هامشا واسعا للحديث بطلاقة، للرغي دون توقف، والناس عادة تعشق الكلام، تحكي عن كل شيء ولا شيء، هي بحاجة فقط إلى مستمع".
الطاهر وطار
لعل هذا الاعتراف لنا كقراء منذ أول جملة بالسمات الشخصية لمراد زاهر كان من الأهمية التي لا يمكن إغفالها؛ حيث حاول مفتي تعريفنا براويه منذ البداية، بل كان من الذكاء ما دفعه إلى اتباع أسلوب سردي يؤكد لنا ما سبق أن أخبرنا به مراد زاهر منذ البداية؛ فنجده على طول الرواية بالفعل ينصت كثيرا، ولا يتحدث إلا نادرا، صحيح أنه يتحدث كثيرا جدا في داخله، لكنه أمام الآخرين يبدو دائم الصمت كأنه يوافق على كل ما يدور حوله، أو مستسلم تمام الاستسلام لما يحدث له، ولعلنا نلمح ذلك حينما عاقبه خاله بن يونس واعتقله لمدة ليلة واحدة كاملة في حبس انفرادي حينما تجرأ مراد وصفع زوجته نور- ابنة خاله- لخيانتها له، ثم استدعاه بعد ليلة الحبس ليقول له: "أظنك استوعبت الدرس، هذا مجرد إنذار. إن تجاوزت حدودك مع ابنتي سأبعثك إلى القبر من دون تردد. ابنتي هي أغلى شيء في دنياي ولن أسمح لك بأن تضربها مهما كان حجم الجرم الذي فعلته. أخيرا نطق بالحقيقة التي ظل يخفيها عني سنوات، تكلم معي كما يتكلم مع الغير، ذهب القناع. كم كان هذا بالنسبة لي رائعا، لو فعل هذا من البداية لكان من السهل عليّ أن أرفض طريقه، لكنه فعلها بعد أن شعر أني صرت ملكا له، يستطيع التصرف بي كيفما يشاء! تساءلت بحيرة وقلق: ألا يكفيه كل الذين يملكهم ويسجدون له صباح مساء ويثنون على شخصه المعظم؟ ألا يكفيه العبيد الذين صنعهم بالترهيب والخوف؟ ألا يكفيه كل هؤلاء حتى يُضيف إليهم واحدا من أفراد عائلته؟ ما الذي سينفعه أن أُضاف إلى قائمة العبيد الذين يستلذ التجبر عليهم؟ لم يكن بحوزتي جواب حينها إلا أنها الغطرسة والغرور، ونهاية رجل كان يمثل فخرا للتاريخ الوطني وليس لي فقط. إنه الحكم يغير كل شيء، ولكن الآلهة المزيفة لن تقدر أن تعيش طويلا، سمعت هذا من صديقة ناصر الدمشقي المغتال غدرا نصيرة حداد، لكن أين هي الآن نصيرة حداد؟ رغم كل ما كان يدور في داخلي من غضب ورغبة في الانفجار فإن كل ذلك بقى مطويا ومحبوسا في الداخل فقط، وأمامه لم أنبس ببنت شفة، تركته يخطب، وينهي ويأمر، وأنا صامت كالذليل الذي لم يرغب في أن يعطيه فرصة أخرى لإهانته من جديد. الصمت رفض أيضا، الصمت مقاومة كذلك".
من خلال هذا الاقتباس الطويل يتضح لنا أمرين مهمين، أولهما: أن بشير مفتي روائي يدرك جيدا ما يفعله، وأنه لا يكتب سطرا في روايته من دون أن يؤكده روائيا وسرديا؛ فهو منذ أول جملة في روايته قد أكد على أن مراد زاهر صامت دائما وإن كان هذا الصمت يبدو للآخرين ظاهريا فقط بينما يدور داخله بركان من الثرثرة والحديث والرد على من أمامه، لكن هذا البركان من الثرثرة يخصه وحده بينما يبدو للآخرين كثير الصمت، والأمر الثاني هو: الحديث عن تحولات السلطة، أو تحولات الأشخاص حينما يتولون السلطة ويبدأ الفساد ينخر في أعماقهم باعتبار أن السلطة بالنسبة لهم لا تختلف كثيرا عن الألوهية؛ فبن يونس الخال كان يظن نفسه قد تحول إلى إله لا يمكن لأي مخلوق أن يعصي إرادته، ورغم أنه كان من المقاتلين المعروفين في الجزائر بشرفهم في حرب التحرير الجزائرية وبالتالي ينظرون إليه نظرة لا تخلو من الإجلال والشرف، إلا أنه في حقيقة الأمر قد تحول إلى مجرد ديكتاتور يعيث الفساد في الجزائر من وراء ستار ولا يعرف ذلك في حقيقة الأمر إلا كل من يدور في دائرته، ولعلنا نلمح الجملة الدالة: "إنها الغطرسة والغرور، ونهاية رجل كان يمثل فخرا للتاريخ الوطني وليس لي فقط. إنه الحكم يغير كل شيء، ولكن الآلهة المزيفة لن تقدر أن تعيش طويلا"، فمن خلال هذه الجملة يتضح لنا أن هناك الكثيرين ممن كانوا يمثلون فخرا وشرفا للجزائر بالنسبة للعامة هم في حقيقة أمرهم ليسوا إلا مجرد أفاقين وفاسدين ومفسدين للجميع بعد سيل التحولات الذي حدث لهم حينما وجدوا أنفسهم في السلطة ويمتكلون مقدرات كل شيء في الجزائر.
لكن لم كل هذا الصمت الذي يحرص عليه مراد زاهر؟ يقول لنا مراد منذ بداية السرد: "عادة ما أحس بقوة غريبة من الداخل أمام ذلك الشخص الذي لسبب أو لآخر، بوعي أو بدونه، قال لي حقيقته الباطنية، أخبرني بما يضج في أعمق نقطة مبهمة في نفسه. كانت قوتي النفسية تتضاعف ويصبح ذلك الشخص بالنسبة لي مجرد ورقة صفراء هزمها الخريف، ويمكنني نسفها في رمشة عين، والقضاء عليها وقتما أشاء"، فالأمر هنا بالنسبة له ليس أكثر من طريقة سيكولوجية للتعويض النفسي أمام نفسيته المنقادة والسلبية التي بدت لنا منذ بداية السرد، ولأنه يعرف ضعفه النفسي وانقياده لمن هو أقوى منه دائما؛ فقد كان يعمل على تعويض هذه النقيصة التي يعرفها داخله من خلال الصمت أمام من يحدثه والحديث الداخلي مع نفسه فقط، ولعلنا نعرف جميعا أن الشخص الكثير الصمت يكون غامضا بالنسبة للآخرين ومن ثم يكون لديه من القوة النفسية والتأثير على الآخرين الشيء الكثير؛ فنحن نخشى دائما ما نجهله، والصمت يجعلنا مجهولين بالنسبة لمن أمامنا.
رشيد بوجدرة
يتحدث مراد زاهر عن نفسه وعن حياته منذ ولد في قرية صغيرة تدعى "المطمورة" في الشرق الجزائري لأب فلاح مات كل أبنائه حتى أنه يظن أن موت الأبناء هي لعنة أصابته لأنه رضخ ذات مرة لامرأة فرنسية رغبت فيه جنسيا إعجابا بفتوته وعضلاته؛ ولأنه خشى التنكيل به من زوجها الكولون حينما هددته إذا لم يضاجعها فقد اضطر إلى مضاجعتها، وهنا ظن الأب أن أولاده يموتون بسبب هذه الفعلة التي فعلها وظل طول حياته يندم عليها ومن ثم لم يبق له على قيد الحياة سوى مراد؛ الأمر الذي جعل الأب راغبا في أن يتعلم ابنه ولا يكون فلاحا مثله، وهنا حينما ماتت والدته وانتقل إلى المرحلة الثانوية تكفل به الخال بن يونس وأخذه إلى الجزائر العاصمة من أجل الدراسة والاعتناء به، بينما رفض الأب أن يترك القرية والأرض التي عاش فيها، لكنه من خلال سرده لحياته منذ بداية الرواية يتحدث عن معلمه "رضوان" في القرية، هذا الرجل الذي يحب الجزائر ويؤمن بالقيم الثورية ويعشق جمال عبد الناصر وما يدعو إليه من النضال الوطني، فهذا الرجل كان يؤكد له: "يجب أن نكون جديرين بالاستقلال. وكان يطلب منا أن نردد هذه الجملة عدة مرات فحفظناها عن ظهر قلب، ثم يسألك: وماذا يعني أن نكون جديرين بالاستقلال؟ وكنا نخيب ظنه لأننا لم نستوعب فكرته جيدا، فيرد على نفسه: أن نتعلم بحق فنبني بلدنا هذا على أحسن وجه"، ولكن هذا المعلم المؤمن بالقيم الثورية المخلص لبلده قد دفع ثمن هذا الإخلاص لقيمه الثورية وكأن كل من يؤمن بالحق في هذا البلد لا مكان له فيها بعد سيادة الفساد الكامل على كل الأصعدة؛ لذلك نراه يتحدث عن الآمال الوردية لمعظم اليساريين حينما يقول: "كان معلمي ناصريا مؤمنا بعبد الناصر والناصرية، ويعتقد أنه الزعيم المؤهل لقيادة العرب من المحيط إلى الخليج، وبه سيكتمل تحرر الأمة العربية التي طال ليلها الاستعماري، وجاء موعد انبعاثها الحضاري. كان حبه لعبد الناصر يجعله تابعا أمينا للزعيم بن بلة، رغم كل ما سمعه عن هذا الرجل من أقاويل كثيرة أنه يريد التفرد بالحكم، ولكن كان يكفيه أنه صديق عبد الناصر كي يشايعه ويقف معه ضد رجال الثورة الآخرين، الذين كان لهم مواقف متناقضة في طريقة تسيير البلد بعد الاستقلال".
لكن إلام أخذته هذه الأحلام الوردية عن الثورة والتحرر؟ تم اعتقال رضوان لأحلامه الثورية وحبه لبلده الذي يريد أن ينهض به من خلال التعليم؛ لأن ما يحلم به رضوان لم يكن ما يريده بومدين ومن هم في ركابه من رجال السلطة الفاسدين: "لم يدم زمن الفرح الثوري العالمي طويلا، حينما شهدنا كتيبة من جيش التحرير الوطني تدخل القرية في صبيحة يوم أحد من عام 1965م وتعتقل الأوروبيين ومعهما المعلم رضوان. كانت صدمة بالنسبة لي أن يُعتقل هذا الرجل المثقف والطيب، الذي كان يقوم بمهمة تحضيرنا لنكون جديرين بالاستقلال، ولكي نبني وطنا من رماد ودخان كما تركته سنوات الحرب التحريرية، لكن هذا ما حدث وجعلني بشكل كبير أمقت هذا الرئيس الجديد بومدين"، يحاول هنا بشير مفتي بذكاء سردي أن يُقدم لنا بدايات فساد السلطة في الجزائر، إنه الفساد الذي يحرص عليه النظام السياسي هناك من بعد التحرر من الاستيطان الفرنسي، وهو نفس الفساد الذي تحرص عليه جميع الأنظمة السياسية في كل البلدان العربية، وكأنهم لم يتحرروا من الاستعمار الأجبني إلا من أجل أن يعيثوا فسادا في بلدانهم ويحكمونها كيفما رغبوا بالقوة والقهر وليس من أجل النهوض بهذه البلدان التي تأخرت كثيرا بسبب الموجات الاستعمارية المتعددة التي مرت عليها.
هنا بدأت مرحلة الفساد السياسي في الجزائر حيث: "سمعنا في راديو الترانزستور الصغير الذي كان يملكه المعلم السوري عن نبأ تصحيح ثوري حدث في قيادة الحكم، وأنه تم اعتقال الزعيم بن بلة وكل من يشايعه. تعجبنا واحترنا لكن لا أحد رفع صوته محتجا، أو قال في وجه ما حدث: "لا"".
بشير مفتي
لعل هذا الصمت وعدم قول "لا" هو ما سيشكل حياة مراد زاهر فيما بعد، ومن ثم لن يقول "لا" مرة واحدة في حياته، وفي المرة الوحيدة التي سيقولها لخاله وابنة خاله نور ستكون نهاية حياته ويموت سواء على المستوى المادي، أو المستوى النفسي.
يعمل مفتي على فضح معظم المقاتلين من أجل التحرير الذين فسدوا حينما تولوا شؤون الحكم في الجزائر من خلال شخصية الخال بن يونس الذي يقول عنه: "لم أر في خالي بن يونس إلا ما رغبت في رؤيته الجانب الطيب والإنساني، الجانب التاريخي لرجل كافح مع قادة الثورة، وأخذ حقه بعد الاستقلال، نجح في الحصول على مكانة معتبرة مقربة من الجهة العليا في الحكم، أملاكا وامتيازات اعتبرها من حقه، كما فعل عدد كبير من القيادات وحتى صغارهم. كانت تصل آذاننا بعض الحكايات عن النهب الذي حصل والأملاك التي أُخذت حتى من أهلها عنوة. قيل إن بعض العسكريين كانوا يدخلون بيوتا هجرها المعمرون ويأخذون منها كل ما يريدون، وإن أعجبهم البيت أخذوه عنوة من المالك الجزائري. حدثت أشياء كثيرة هكذا بعد الاستقلال مباشرة، لكن الناس الذين عانوا من ويلات حرب تحرير عنيفة وقاسية كانوا فرحين فقط بخروج الاستعمار، وسعداء أنهم ربما سيستطيعون لأول مرة رفع رؤوسهم إلى أعلى بعدما انحنت لزمن طويل، وكان ذلك في حد ذاته كافيا لخلق فخر بانتصارهم وتفوقهم حتى لو تفطنوا بسرعة إلى آلام الاستقلال الجديدة".
هو هنا يعمل على فضح كل رجالات الثورة من خلال الخال وليس فضح الخال فقط؛ فهم جميعا حينما استولوا على الحكم عاثوا فسادا باسم السلطة وتاريخ الثورة والنضال لدرجة الاستيلاء على حقوق الجميع باسم الثورة، وكان نصيب كل من يعارضهم هو السجن أو التصفية الجسدية، وهو نفس المصير الذي سيحدث لمراد زاهر على يد خاله بن يونس رغم أنه رضخ له في كل شيء؛ ففي الحين الذي بدأ فيه مراد زاهر ابن التسعة عشر ربيعا يشتعل جنسيا ويعرف الجنس بسبب ابنة خاله نور ومن ثم انغمس في الجنس مع مليكة الحلاقة التي تحب مضاجعة الشباب الصغير من دون أجر، بدأ يهمل دراسته ويُقبل على احتساء الكثير من الشراب والكثير من المضاجعات الجنسية الأمر الذي جعله يرسب في الثانوية العامة، هنا تدخل خاله بن يونس وجعل نتيجته ناجحا رغم أن النتيجة الفعلية لم ينجح فيها من الطلبة الذكور سوى شاب واحد فقط من منطقة القبائل هو زميله المجتهد نايث بلقاسم، وهنا كان من الطبيعي أن يأخذ الخال حق طالب آخر لابن أخته لأنه يرغب في ذلك من خلال سلطته؛ ومن ثم أرغم مدير المدرسة على تبديل النتيجة ولم يستطع أحد أن يعارض في ذلك؛ فالمعارضة تعني تحطيم حياة من يُعارض في حقيقة الأمر من خلال السلطة الغاشمة التي يمثلها رجالات السلطة الفاسدة: "عندما أبلغني مدير الثانوية أنني نجحت، ومعتذرا عن الخطأ الذي وقع وسبب لي الحزن؛ لأنهم أخطأوا في اسم الناجح فقط، تصورته يبرر فقط تزويره للحقيقة، رغم أنه كان شخصا مثقفا، وذا مستوى تعليمي معتبر، وكان من طلبة جمعية العلماء المسلمين، أو هذا ما سمعته عنه، وكان يحاضر في ملتقيات خاصة بالفكر الإسلامي، فما الذي يجعل شخصا كهذا ينصاع ويكذب؟ لو سألت خالي لرد ببساطة: المنصب لن يُفرط فيه أبدا، وهو مستعد أن يفعل ما نريد لكي يظل في منصبه مديرا للثانوية"، هنا نشاهد على أرض الواقع سلسلة الفساد التي تحدث في حياة الجميع؛ لأن السلطة تريد ذلك، ولم يكتف الخال بذلك فقط بل اكتشف مراد أن الخال قد نقل ملكية الأرض التي يمتلكها بالوراثة بعد وفاة أبيه إليه وبات كل شيء ملكا للخال، ورغم ذلك لم يحاول مراد الاعتراض، كذلك حينما اكتشف الخال أن ابنته نور حاملا من ابن أحد منافسيه في السلطة، حاول الصمت كي يفكر في الانتقام من هذا المنافس له في السلطة، لكنه في نفس الوقت طلب من مراد أن يتزوج نور الحامل في الشهر الخامس من رجل آخر وهنا رضخ مراد ولم يحاول أن يناقشه بدعوى أنه لابد أن يصون شرف العائلة واسمها.
كل شيء زائف في الجزائر، هذا ما يمكن أن نُطلقه على ما فعله رجالات وجنرالات الثورة التحريرية حينما تولوا السلطة هناك، فلقد زيفوا كل شيء، وقاموا بإفساد الجميع من أجل مصالحهم الخاصة من دون أي اعتبار لمصالح الوطن أو مصالح الآخرين، وبات كل شيء خاضعا لهم ولمصالحهم؛ لذلك لم يكن يعني بن يونس أن ابنته حاملا في الشهر الخامس من "ميمي" ابن منافسه في السلطة وفراراه إلى نيويورك، بل كان يعنيه أن يتزوج مراد من نور كي ينسب الطفل له في النهاية فقط، فالخال كرجل سلطة له مبرر لكل شيء، لذلك نراه يقول: "عندما سألت خالي بحذر لماذا لم يتركني أنجح دون أن آخذ مكانة شخص يستحق النجاح؟ رد عليّ حتى دون أن يرفع رأسه عن الجريدة التي كان يُطالع فيها خبر تعيينات جديدة في بعض المناصب المهمة: وصلني تقرير عنه أنه ينتمي إلى حركة متطرفة"، وهذه النزعة التبريرية لكل شيء لدى رجال السلطة نراها مرة أخرى حينما يكتشف مراد أن نور ما زالت على علاقة بميمي وهناك الكثير من المراسلات بينها وبين عشيقها رغم أنها باتت زوجة مراد الذي نسب الطفل إليه، هنا قال له خاله بعدما عاقبه بالحبس لليلة كاملة في المعتقل: "وما المشكلة في أن تجد رسائل لرجل يحبها في بيتك؟"، إذن فكل الأمور تدور على أرض الواقع كيفما ترغب السلطة وليس كما يرغب الآخرون.
إنهم يمتلكون منطقهم الفاسد الذي يكيفون من خلاله كل ما يدور حولهم، فلم يكن بناء الوطن لديهم من خلال التعليم كما قال المعلم رضوان من قبل لمراد، بل كان التعليم في نهاية اهتماماتهم إذا ما تذكروه يوما، ولم يكن يعنيهم سوى مصالحهم وفسادهم الذي يتنامى كل يوم، ولعل هذا يتضح في قول مراد: "انتهى الصيف وجاء الخريف، ورغم أن الدراسة بالنسبة لخالي مجرد شكليات إلا أنه طلب مني مع ذلك أن أسجل في كلية الحقوق، ففعلت دون أن أهتم، وبصدق لم يعد تحصيل العلم ليهمني أو يشكل هاجسا بالنسبة لي، فالسلطة ليست بيد المتعلمين بل بيد أصحاب القوة والمال والنفوذ. وأغلب هؤلاء لا يملكون شهادات علمية، وهم يمنحون لأنفسهم قداسة بفضل الشرعية الثورية حتى لو كان شعارهم أن الشعب كله شارك في الثورة وأنها ملك الشعب، بيد أن الامتيازات لم تكن في يوم من الأيام لصالح الشعب بأكلمه، كانت محصورة في الفئة التي تُسير البلد سواء في الظاهر أو الخفاء"، هذا هو منطقهم الذي يجعلهم يرون كل ما يفكرون فيه هو الصواب بينما الجميع على خطأ؛ وبالتالي فالسلطة هي التي تفهم مصلحة الشعوب أكثر منهم: "كان ذلك منطق الرجل الحاكم قليل المشاعر نحو الآخرين، الذي يعتقد أن ما يفكر فيه هو الأحسن والأصوب، والغير عليهم فقط الطاعة والاستجابة، بل قالها لي مرة وهو ينتقد المثقفين: وماذا يعرفون هم عن السلطة وضغوطاتها حتى يكثروا الحديث نقدا وتشويها لنا؟"، ومن هنا يتضح أن السلطة دائما ما تحتقر المثقفين وتراهم عدوها الأول؛ ومن ثم لابد من القضاء عليهم وتحييدهم واعتقالهم؛ لأنهم الوحيدون القادرون على مجابهة السلطة؛ ومن هنا كانت السلطة دائما ما تنظر للمثقف من عل باعتباره حقيرا لابد من القضاء عليه: "أظن كاتب ياسين كان واحدا من هؤلاء المزعجين. وكثيرا ما كنت أشاهد قصاصات صحف جرائد فرنسية بالخصوص موضوعة في ملف عنه، ما صرح به لجريدة لوموند، خبر تغطية لمسرحيته "غبرة الفهامة".. إلخ. قال لي مرة عنه: هذا الثرثار العنيد سيدفع الثمن يوما. لولا أن الزعيم يحترم دخوله السجن في 1945م لكان لنا موقف آخر في التعامل معه"، إذن فهو منطق السلطة في التعامل مع كل من يعارضهم لاسيما المثقف الذي هو أقوى من السلطة نفسها، ولعل الواقع يثبت لنا في نهاية الأمر أن المثقف لا يناله من السلطة الكثير رغم محاولات تشريده والتنكيل به والقضاء عليه، لكنه في النهاية يظل مرفوع الرأس مُخلدا في التاريخ بينما تذهب السلطات الفاسدة إلى العدم لا يتذكرها أحد.
لم يتوقف الخال بن يونس كرجل سلطة في إفساد حياة مراد زاهر، بل دمرها على كل المستويات، ففي الحين الذي جعله ناجحا في البكالوريا بأخذه لمكان زميله الناجح أدى ذلك إلى أن خسر جميع أصدقائه الذين يعرفون أنه لا يستحق هذا النجاح، وحينما التحق بالجامعة وتعرف على مجموعة من الأصدقاء الجدد الذين كان منهم الشاب الثوري اليساري ناصر الدمشقي الذي قدم من سوريا إلى الجزائر باعتبار أن حلم الثورة الحقيقي لا يمكن تحققه سوى في الجزائر، وبما أنه صدق الأحلام الثورية الاشتراكية في النظام الجزائري فقد كان يجاهر بهذه الأحلام الثورية؛ الأمر الذي جعل الخال بن يونس يصفيه جسديا ليزيد من حجم الدمار الذي يُحدثه في حياة ابن أخته مراد زاهر: "في صباح ديسمبري بارد، سيعثر جاره في حي باب الوادي على جثته مذبوحا، من قتله؟ لا أحد يدري، خفت أنا أن أسأل. وستعتقل نصيرة حداد وحتى صديقتها فطيمة مناصري بتهمة الإعداد لانقلاب على الحكم.. تهمة سخيفة لكن هذا ما حدث".
التصفية الجسدية هي الحل الجاهز لمن يعارض رجال السلطة وهذا ما جعل مراد زاهر يخشى على ناريمان الفتاة الريفية القادمة من الجنوب الجزائري من مدينة بوسعادة والتي تنتمي لقبيلة أبناء نايل، وهي الفتاة التي تعلق بها كثيرا وعشقها ولم يستطع أن يُفاتح خاله في أمر الزواج منها، ورغم ذلك كان يخشى عليها؛ لأنه يدرك جيدا أن خاله يراقبه ويعرف عنه كل شيء، وهو في ذات الوقت لم يستطع مواجهة ناريمان ويخبرها بأمر زواجه من نور ابنه خاله رغما عنه، لكن حينما يقوم خاله باعتقاله لليلة كاملة في المعتقل يخرج منه وهو مُحطم نفسيا تماما ويتجه إلى ناريمان ليقوم بقتلها، أو تقوم بقتله هو في حالة من الوصف السردي الدقيق الذي برع فيه بشير مفتي أيما براعة؛ حتى أن القارئ سيلتبس عليه الأمر في النهاية ولن يعرف من الذي قتل من، هل قتلت ناريمان مراد بالفعل حينما عرفت عنه أنه كان يخونها ويخادعها بعدما أعطته حياتها كلها بينما هو متزوج من ابنة خاله، أم أن مراد هو من قتلها بالفعل ليتخلص منها كي يكون خالصا لخاله وللسلطة وشرها ومبرراتها؟
هنا يحكي بشير مفتي الأمر في شكل أقرب إلى الحلم الكابوسي لتنتهي الرواية، فيلتبث الأمر على القارئ ولا يعرف من الذي قُتل في النهاية، لكن المراد من كل ذلك هو التأكيد على أن السلطة القامعة بفسادها الذي لا ينتهي قد أنهى حياة الاثنين معا، سواء على المستوى المعنوي إذا ما سلمنا بأن مراد هو من قتل ناريمان من أجل أن يكون خالصا لخاله وسطوته، أو على المستوى المادي إذا ما سلمنا بأن ناريمان هي من قتلت مراد انتقاما لكرامتها وحبها كأنثى.
تأتي رواية لعبة السعادة كرواية مهمة في السرد الروائي الجزائري حيث تكشف من خلال أسلوب سردي قوي ومحكم مدى الفساد الذي اختلقه رجال السلطة هناك، وكيف تحول عدد كبير من الشرفاء والمجاهدين من أجل تحرير الوطن إلى حفنة من اللصوص الذين يسلبون كل مقدرات الوطن من أجل مصالحهم الشخصية؛ فيقضون على الجميع باسم السلطة والثورة حتى لو كان من يقضون عليهم هم أقرب الناس إليهم.




محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب
عدد مايو 2017م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق