السبت، 6 أبريل 2019

الحي السفلي.. السلطة كوسيلة للفساد

حينما حدث الانقلاب العسكري المصري على الحكم الملكي عام 1952م، اشتغلت الآلة الإعلامية على التكريس لهذا الانقلاب باعتباره ثورة شعبية قام بها الشعب من أجل التخلص من الحكم الملكي، رغم أنها في حقيقة أمرها- كما يُثبت التاريخ- كانت من تخطيط مجموعة من الضباط في الجيش، ولم يقم بها سوى العسكر من أبناء الجيش المصري.
لكن، هل معنى هذا، أننا من الممكن أن نُقلل من شأن هذا الانقلاب؟
في الحقيقة أن المبادئ التي قام عليها هذا الانقلاب كانت من العمق والأهمية اللذين يجعلان منه أمرا مهما في مصلحة الوطن والمواطن؛ وهو ما دفع الجماهير الشعبية إلى الالتفاف حوله؛ نظرا لأنه لا يبتغي سوى مصلحة المواطن في نهاية الأمر، لكننا سرعان ما وجدنا ما أطلقنا عليه- مجازا- ثورة، تنقلب على ذاتها، وتبدأ مبررات وبذور فسادها تنمو من داخلها؛ ومن ثم رأينا على مر التاريخ الحديث الكثير جدا من الفساد الذي كان يتم على مرأى ومسمع الجميع باسم الوطن، ومصلحة هذا الوطن. إذا ما نظرنا إلى السينما مثلا سنجد أنه قد تم حشد كل الجهود السينمائية والإنتاج من أجل صناعة أفلام تعمل على الترويج للثورة المجيدة، سواء عن حق أو غير وجه حق، كذلك رأينا تاريخا من الاعتقالات بالجملة للمثقفين والمناوئين للسياسة التي اتبعتها السلطة آنذاك، ولعل الكثير من الإعدامات، وقتل المعتقلين الذين لا ذنب لهم داخل المعتقلات خير شاهد على ذلك، مثلما حدث مع شهدي عطية مثلا، ناهيك عن الكثير من الفساد الذي صورته السينما فيما بعد مثل "وراء الشمس" للمخرج محمد راضي 1978م عن رواية للروائي حسن محسب، و"الكرنك" للمخرج على بدرخان 1975م عن قصة لنجيب محفوظ، و"فيلم البرئ" للمخرج عاطف الطيب 1986م، و"المذنبون" للمخرج سعيد مرزوق 1975م عن قصة لنجيب محفوظ، وغيرها من الروايات الأدبية المصرية التي تُدلل على حالة الفساد الذي استشرى في مصر باسم مصلحة الوطن والمواطن، التي كان منها رواية "ثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ، والتي كانت نتاج هذه الثورة التي حدثت من أجل إنهاء فساد العهد الملكي.
ربما كان ما حدث في مصر بعد الثورة، هو تماما ما حدث في الجزائر بعد الحرب التحريرية، وبداية تمكن ممثلي هذه الثورة من السلطة السياسية بعد التحرر من الاستيطان الفرنسي؛ ومن ثم بدأ النظام السياسي الذي كان نقيا في بدايته ينتج آليات فساده، وتكميم وقتل كل من يناوئه ويخرج من دائرته، إما بالاغتيالات، أو بالاعتقال والتعذيب الذي ينتهي إلى الموت في نهاية الأمر، وإن كان الاختلاف الطفيف بين مصر والجزائر في هذه التجربة أن الروائيين الذين تناولوا هذا الفساد وآليات إنتاجه كانوا أقل من نظيرهم في مصر، ولكن لعلنا نتذكر رواية "لعبة السعادة" للروائي الجزائري بشير مفتي التي تصور كيفية إنتاج وابتكار الفساد في الجزائر باسم أبناء ورموز الثورة التحريرية.
فساد السلطة السياسية، هو ما يريد الروائي الجزائري عبد الوهاب بن منصور الحديث عنه في روايته "الحي السفلي"، وإن لم يتوقف عندها فقط، بل تحدث كذلك عن السلطة الدينية الجاهلة التي تُعد مفسدة لا تقل ضراوة عن السياسة، وهو ما سبق أن رأيناه بتركيز أكبر في روايته "قضاة الشرف" التي رأى فيها أن السلطة الدينية من الممكن لها أن تكون مدمرة لحياة الجميع عند استغلالها. هنا يعود بن منصور للحديث عن السلطة الدينية وإن كان يعمل على التركيز على فساد السلطة السياسية التي تنتقم وتعمل على التنكيل وتصفية كل من يختلف معها ولا يسير في ركابها، رغم أن رموز هذه السلطة هم أنفسهم من سبق أن قادوا الثورة التحريرية وكان لهم الكثير من المكانة في نفوس الشعب الجزائري.
ربما كان أهم ما نلحظه عند بن منصور في رواية "الحي السفلي" أن الرواية تسير في خطين متوازيين؛ فتتم روايتها من خلال راو واحد ولكن في زمنين مختلفين- الزمن الماضي، والزمن الآني- إلى أن يلتقي الخطان في النهاية لتكون تتمة الرواية، أي أن الروائي يستفيد كثيرا من تقنيات السينما التي تسير في مجموعة من الخطوط المتوازية إلى أن تلتقي وتتشابك في النهاية عند ختام العمل الفني؛ فهناك الخط الروائي للراوي وهو طفل صغير يرى أمه تموت أمام عينيه بوباء الكوليرا، بينما يتم الحجر عليه هو وجدته وأهل الحي الصفيح بأكملهم في بيوتهم تخوفا من نقل العدوى، بدلا من العمل على إنقاذهم وعلاجهم من قبل الدولة، بينما نرى في الخط الروائي الثاني نفس الراوي وهو شاب وقد تم اعتقاله من قبل "المكتب الثاني"، أي المخابرات بينما يتفننون في تعذيبه؛ بسبب أنه أقدم على الانتحار في نفس يوم التحرر الوطني للجزائر؛ الأمر الذي رأوا فيه إهانة للنظام، وأنه مؤامرة سياسية لابد من معرفة أطرافها، من أجل انتزاع اعترافات كاذبة وملفقة لا يعرف عنها شيئا. هنا تبدو لنا الأزمة الحقيقية في الرواية التي تفضح الكثير من الفساد السياسي، وكيفية اغتيال الكثيرين من المختلفين مع النظام من قبل النظام نفسه، حتى أنهم يقدمون على تصفية أبناء النظام نفسه ممن يحاولون أن يعتزلوا هذا العمل كما فعلوا مع "العربي المونشو" الذي كان ابنا بارا لهذا النظام الفاسد، والذي سبق أن قام بالكثير جدا من عمليات التعذيب حتى الموت للعديد من المواطنين المعتقلين، لكنه حينما رغب في ترك هذا الأمر، ورغم أنه من المجاهدين الوطنيين الذين كان لهم تاريخ؛ فلقد عملت الآلة الإعلامية للنظام على تشويهه باعتباره عميلا ومتعاونا ضد النظام في الوقت الذي كان معتقلا في سجون هذا النظام يتم التفنن في تعذيبه، حتى أنه فقد يده بسبب جرح أثناء التعذيب لم يتم الاهتمام به بينما هو مصاب بالسكر.
إذن فكل من يتماس مع هذا النظام الفاسد سواء من الداخل أو الخارج لابد من تشويهه وتصفيته باعتباره عدو وعميل للوطن، وهذا ما نراه حينما يحكي "العربي المونشو" ابن النظام للراوي أحمد القط: "أوامر عليا جاءت باغتيالي رمزيا بدل اغتيالي جسديا، وهو ما يعني أن مكوثي سيطول، وربما سأُنسى في إحدى الغرف المظلمة، إلى أن يتم تشويه صورتي وامتصاصها من كل عمل للوطن أو حُبه. لقد استكثروا في الموت! الموت محافظا على كل تاريخي! بعد ثلاث سنوات وحين أُطلق سراحي لم أجد نفسي التي أعرف! لقد صرت شخصا آخر! شخصا باع نفسه ووطنه وكل شيء لعدو خارجي! حتى كدت أنا شخصيا أن أصدق ذلك! والمؤلم أني خرجت بيد مقطوعة، بعد أن تعفنت جراء جرح، بدا في الأول بسيطا، لكن في ظل الإهمال الذي عانيته لمرض السكري؛ فقد استأصلوا يدي ليزيدوا من ضعفي وعجزي"، إذن فالشخص يظل وطنيا ما دام داخل المنظومة الفاسدة للنظام، وفي هذه الحالة هو بطل يعمل من أجل مصلحة الوطن حتى لو كان يُعذب مواطنين لا ذنب لهم، أو يعمل على تصفيتهم جسديا، أما إذا ما خرج من هذه المنظومة فهو فاسد ومشوه وعميل لجهات أخرى، ولابد من مسح صورته النقية من أذهان الجميع، ولابد أن يذوق ما سبق أن فعله في غيره من المواطنين: "دام الاستنطاق ثلاثة أيام متواصلة، ثم لجأوا إلى تعذيبي بتلذذ. أعرف التعذيب وطرائقه. ألم أكن فاعلا ومبدعا له! لكني لم أعرف حجم الألم والدمار الذي يسببه للإنسان إلا بعد أن ذقته! لا أنكر أن آلامي كانت تتضاعف كلما تذكرت أولئك الأشخاص، الذين مروا بهذه الزنزانة وأشرفت أو اطلعت على تربيتهم (كما كان يحلو لنا تسمية تعذيبهم). كنت أعلم أن كل هذا سينتهي برصاصة في الرأس، أو جثة هامدة في سيارة بعد حادث مرور مُفتعل". هنا نلاحظ أن حكي "العربي المونشو" للراوي أحمد القط هو بمثابة الاعتراف الخطير على هذا النظام المجرم وطرائق التخلص ممن يعارضونه مهما كانت وطنيتهم، سواء من داخل هذا النظام أو خارجه، وهو ما حدث للراوي نفسه من تعذيب لا يمكن تخيله لمجرد أنه حاول الانتحار في اليوم الوطني للجزائر، كما أنه كان يرفض إزالة الحي الصفيح الذي نشأ فيه، حيث كانت السلطة الفاسدة ترغب في إزالته من أجل مجموعة من رجال المال الفاسدين راغبين في تشريد أهل الحي من دون توفير أماكن جديدة لهم.
تكمن الجريمة المضحكة والمثيرة للسخرية التي تم توجيهها لأحمد القط في أنها مؤامرة على الجزائر نتيجة لمحاولته الانتحار في يوم الاستقلال الوطني: "عند مجيء الليل، وأنا على سريري أفكر محاصرا ذهني في يوم انتحاري. عليّ أن أجد جوابا مقنعا لاختياري ذاك اليوم. كان من الممكن أن يكون الأمر جيدا ومريحا لي، لكنه صار أمرا سيئا. أسوأ مما تخيلت. فقط، لأن محاولتي فشلت. ماذا سيتغير أن نموت أو ننتحر في يوم يصادف تاريخه يوم عيد استقلال الوطن، وقد مر عليه عشرون سنة، أو في غيره؟ لم أعتقد أني الشخص الذي يهتم به الآخرون ليكون يوم انتحاري يوما ذا شأن! أواجه الأمر بسخرية تامة داخلي. السخرية من شيء لم أضعه في الحسبان. السخرية من تبرير ما لا يُبرر تبريرا مقنعا"؛ لذلك فهو لا يعرف ما هي الجريمة التي يرغبون منه الاعتراف بها وإن كان- من أثر التعذيب المستمر- على استعداد للاعترف لهم بما يرغبونه: "لاجئا إلى الصمت، ليس اختيارا إنما مضطرا؛ لأن الحقيقة التي يبحثون عنها، ليست عندي. الحقيقة التي عندي لا تقنعهم. عليّ أن أصمت حتى يتفوهوا بها، يملونها عليّ، حينذاك سأعترف بها. لا يهمني الاعتراف ولو كذبا، بما أن اعترافي قد صدر وتقرر قبل بداية الاستجواب. تقاريرهم مكتوبة لا تنتظر صمتي أو موافقتي. ليس بمقدوري أن أغير من الأمر شيئا، فقط أبحث عن تخفيف ألمي. ولست متأكدا من ذلك؛ لأنهم كلما وصلوا لشيء بحثوا عن آخر. إنها طريقتهم في خلق الأعداء"!
هذه الطريقة البشعة في التخلص ممن يعارضهم يؤكد عليها الروائي حينما يقول أحمد القط: "أدرك أن لا شيء وراءهم غير تلك الحقيقة التي يبحثون عنها. الحقيقة التي تجعلهم أبطالا. الحقيقة التي لا تُنتزع إلا في أقصى عتبات الألم. لذلك فأنا مضطر أن أصمت. فالكلام الآن، في حالتي هذه، وأنا لم أصل بعد إلى أدنى درجات الألم، لا حاجة لهم به. إنهم لا يسمعون إلا ما يرغبون في سماعه. "عليك أن تعرف أنك شخص مريض. مجنون حاول الانتحار، وقمنا بنقله إلى المستشفى للعلاج لكنه هرب، ولا أحد يعرف إلى أين ذهب"، يصمت. يتمشى قليلا. أسمع وقع حوافره. فيباغتني الآخر من خلفي: "إننا نقول لك ذلك لتعرف وتقدر ما أنت فيه"، "هذا يعني أنه بعد أن نُنهك جسدك، سيجدونك في مكان ما ميتا لأنك انتحرت"، يقول الآخر بصوته الصارم دائما كأنه يلقي خطبة. فيضيف الصوت من خلفي هازئا: "بإمكانك أن تقول لنا في أي مكان تحب أن نرمي جثتك. سنعمل على تنفيذ وصيتك"! إذن فحتى التخلص من مناوئي النظام لا يمكن أن يتم إلا بعد التعذيب والتلذذ بذلك؛ لتأتي تصفيته في نهاية الأمر، أي أن التنكيل بالمواطن، وليست الحقائق، هو الهدف.
هذا التلذذ بالتعذيب وكأنه متعة لا يمكن أن تضاهيها متعة تجعلنا نتساءل: لم يفعلون ذلك؟ وهو ما تساءله القط نفسه: "أجدني مضطرا للتفكير بهم. أتخيلهم مكاني. ينتظرون ما أنتظر. لكن سرعان ما يتلاشى التفكير في دوامة السؤال: هل هم بشر مثلي؟ سؤال من السهل الإجابة عليه. وبداخلي أقتنع أنهم كذلك، لكني أفشل في إيجاد تبريرات لما يفعلون. ليس بمقدوري أن أتخيل إنسانا يتلذذ بتعذيب إنسان آخر. يبتهج حين يتألم الآخر، حتى وإن كان ذلك بدافع البحث عن الحقيقة. الحقيقة المهملة بعيدا وخارج آلام الجسد. من تجربتي السابقة معهم، تيقنت أن لا حد للعذاب ولا حد للألم عندهم. لا فرق بين أن أعترف أو لا أعترف. هنا، الاعتراف يفقد كل معنى. إن كل ما يهمهم هو خلق مثال آخر. جديد. إن نظامهم مبني على المثال، وقائم على أجساد المواطنين وآلامهم".
الروائي الجزائري عبد الوهاب بن منصور
لذلك فالنظام الفاسد مثله مثل أي نظام عسكري استبدادي يحاول أن يبتدع فساده بنفس الشكل لغيره من الأنظمة الفاسدة؛ فرغم أن أحمد القط لا تهمة له إلا أنهم يرون أنه أهان الدولة ونظامها لأنه حاول الانتحار في نفس يوم العيد الوطني للاستقلال، أي أنه لو كان قد حاول نفس المحاولة في أي يوم آخر ما كان قد اهتم به أحد، وما كانت قد لُفقت له أي تهمة، لكنهم لا يكتفون بهذه التهمة المثيرة للسخرية فقط، بل يعملون على ابتداع غيرها من التهم الأكثر لاعقلانية: "هل تعرف أن كل هذه الأوراق بها شكاوى ضدك؟ يفتش بين الأوراق. يأخذ ورقة بيده اليمنى. يمرر عينيه عليها بسرعة، ثم يقول: جزاروا المدينة يقولون أن قططك تغزو محلاتهم كل صباح وتستولي على لحومهم. يتطلع إليّ. ثم يضع الورقة، ويأخذ أخرى. يمص شفتيه، ثم يضيف: شرطة المرور تؤكد أن نسبة الحوادث ارتفعت بشكل مذهل؛ بسبب القطط التي صارت تُهاجم السائقين. وأن عدد الوفيات جراء ذلك في تزايد ملحوظ. يضع الورقة. يتأملني للحظات، ثم يأخذ أخرى. يتفحصها جيدا. يهز رأسه: إدارة المستشفى تؤكد اختفاء عدد من المولودين الجدد، وكلهم من الذكور، خلال الأشهر القليلة الماضية فقط، وتؤكد أنهم اختطفوا ليلا من طرف قططك. وهو ما أقرته تحقيقات الأمن والعدالة"!
بالتأكيد حينما نقرأ هذه التهم لابد لأي عاقل أن ينفجر بالضحك؛ فهم يلفقون لهم تهما لا يمكن أن تتماشى مع أي عقل أو منطق، لكن لأنهم هم من ابتدعوها فهم يكسبونها منطقية وجدية تجعلها تهما خطيرة من الممكن أن يموت أو يُشنق بسببها؛ ومن ثم نراهم يتفننون كثيرا في طرق تعذيبه التي لا تنتهي بسبب هذه التهم الموجهة إليه: "يقترب آخر مني. يدخل قطعة من الإسفنج في فمي لتعطيل حركة اللسان. يجلب مرش ماء أخضر لسقي الزهور، ويفرغ ماءه في فمي. الماء يسيل في فمي بطيئا ولا يمكنني رده فلساني معطل الحركة. أحس بالاختناق؛ فأضطر لابتلاعه. أبتلع الماء باحثا عن الهواء. أبتلع وأتنفس الماء. بطني ينتفخ. الآلام حادة في أسفل ووسط البطن. وبصدري حركة الرئتين تتثاقل. الماء يعرقل حركة الرئتين، ويمنع دخول الهواء أو خروجه. ممتلئا بالماء يجرونني من قيودي ثم ينزلونني من فوق المكتب. ممددا على الأرض، تزداد الآلام حدة كلما حاولت أن أتحرك. يلتفون حولي. يتطلعون إلى بعضهم البعض. ثم بأقدامهم يقذفون بطني كما الكرة. ينبعث الماء من داخلي عبر كل فتحات جسمي، من أنفي وفمي وورائي. أختنق. هل هذا ما يسمونه الموت البطيء؟ ألهث باحثا عن الهواء. لا إراديا، أصارع من أجل نفس من الهواء. تزداد حدة آلام البطن، كلما حاولت التنفس. أقذف الماء من كل فتحات جسمي. ترتفع ضحكاتهم، لكني لست مهتما بذلك. تتوالى ضربات الأقدام على بطني؛ فيتسارع خروج الماء الذي يسد قصبتي الهوائية. إنها لحظة الاختناق. لا أعتقد أني سأعود إلى الحياة"، هنا نلاحظ أنهم يتفننون بالفعل في طرق التعذيب التي تؤدي إلى الموت، لكن لعل بن منصور أخفق في التعبير حينما كتب في الفقرة السابقة جملة: "ينبعث الماء من داخلي عبر كل فتحات جسمي، من أنفي وفمي وورائي"؛ فالماء لا يمكن أن ينبعث من ورائه مهما كانت معدته ممتلئة بالماء؛ لأنه لن يخرج مع برازه، كنا نستطيع أن نتقبل الأمر إذا ما خرج الماء من عضوه لأن هذا هو الطبيعي، أما أن يخرج من الخلف فهذا ما لا يمكن له أن يحدث، وبالتالي أخفق في التعبير.
ما نراه من فساد للنظام الذي يتحدث عنه الروائي هو نفس الفساد في معظم الأنظمة العربية التي تتبع نفس الطرق والأساليب من أجل التخلص من مناوئيها، بل إنهم يعملون على اتباع نفس الأساليب في محاولة تجميل وجه النظام، وهو ما يؤكد عليه العربي المونشو- ابن النظام- حينما يقول: "إن أي نظام بائس، إذا طال حكمه، فلا بد أن يفرز شعبا بائسا، لا ترجو منه غير البؤس والطمع. لذلك يتوجب علينا أن لا نسقط في متاهة البؤس والطمع، فالخروج من ذلك ليس أمرا سهلا ويتطلب أزمنة وأجيالا متعاقبة. لقد كنا نحاول أن نتجنب السقوط، فنمنح النظام دواليب التجديد بعمليات، أقل ما يُقال عنها، أنها جاءت دون تفكير عميق، وحتى يؤمن الشعب أن لا شيء ثابت. يرحل رجال ويأتي آخرون لكن الوطن للجميع. لم تكن فكرة سيئة ولا خادعة، لكنها كانت تخفي نواياها. النوايا التي لا نعلمها حتى نراها تتحقق؛ فتنكشف. قد يخالجنا بعض الشك فيها، لكن لا أحد بمقدوره الجزم فيها. فبعد ثلاث سنوات لنظام لم يجد طريقه، بعد استقلاله عن الاستعمار، كان لزاما تجديده. وهو ما حدث فعلا وسقط الزعيم سقوطا حرا لم يفهمه الشعب المتعلق به وبتاريخه. لا أنكر أنه كاد أن يتحول إلى أسطورة أبدية، فكان علينا تقزيمها وتقليص حجمها، فعملنا على استبدالها، كخيار أخير، بأسطورة أخرى، وجاهدنا لتقديمها في صور مكتملة، لأجل استقرار النظام وكسب ثقة الشعب"، أي أن كل ما يدور حولنا مجرد وهم تصطنعه السلطة وآلتها الإعلامية؛ الأمر الذي يجعل المجتمع يعيش في مجموعة من الأوهام المتراكمة والتي لا يعرف حقيقتها إلا من هم بيدهم الأمر.
هذا التغيير في الحقائق وصيرورة الأمور يتم من خلال التنكيل، والتعذيب والترهيب للجميع من دون أي تمييز؛ لذلك سنرى أن إمام المسجد الذي كان يرى ويؤكد أن وباء الكوليرا الذي أصاب الحي الصفيح هو ابتلاء من الله؛ نتيجة عدم طاعته- تبعا لفهمه البسيط- سيغير رأيه فيما بعد لأن النظام السياسي لا يرغبه أن يقول ذلك: "إمام الجامع الكبير اختفى منذ أسبوعين، بعد خطبة مثيرة عن العدوى كعقاب إلهي لمجتمع ابتعد كثيرا عن الدين وشريعته السمحاء، وخالف وعود شهدائه. وكثرت بشأنه الحكايات، حكايات تتداول في السر رهبة من أذن وأعين أعوان "الرخو الفسيان" بالمكتب الثاني، الذي حضر بنفسه إلى الحي الصفيح وأعطى أوامره بالحجر على كل من يُشتبه بإصابته بالمرض دون انتظار تقرير الطبيب"، نقول أن هذا الإمام رغم رأيه الذي يدل على أثر الدين في تضليل المجتمعات حينما يعتبر أن المرض سببه عدم طاعة الله وما يتضمنه هذا من سخرية واستهانة بالعقل وأسباب المرض وانتشاره سيغير رأيه تماما حينما يظهر بعد أسبوعين: "تسأله جدتي مقاطعة: وهل ظهر الإمام؟ "ظهر منذ أيام فقط ليخطب في الناس. لقد أكد أن كل من مات بالوباء، فهو شهيد، بمن فيهم الطبيب الهندي. لا أحد يعلم أين كان كل تلك الأيام. لقد تغير كثيرا". تغير؟ كيف؟ تقول جدتي مستفسرة. "لم يعد ير الوباء عقابا إلهيا، إنما ابتلاء. ابتلاء من الله. ابتلاء على الصبر. وما يحيرني، أنه صار يمدح السلطات والمسؤولين ويشكرهم على كل ما فعلوه لمصلحة الناس.. حتى أنه جعل شكرهم من شكر الله".
هنا تنقلب الحقائق تماما وتتغير حينما تتكاتف سلطة الدولة الفاسدة ببطشها مع سلطة الدين الجاهل بإغراقه في الجهل واتباع الفساد؛ فيتغير كل شيء إما من خلال البطش، أو من خلال الدين المُغيب للعقول نتيجة لأن الجميع سيتبعون من يمثلونه مهما قالوا؛ فالحقيقة أن السلطة لم تفعل أي شيء من أجل إنقاذ أهل الحي الصفيح من الوباء، بل تركتهم من دون علاج وعزلتهم عن الجميع لحين موتهم جميعا والتخلص منهم: "العدوى تنتشر (لكنها لا تخرج عن الحي الصفيح). عدوى لا تفرق بين المواطن والخائن، مثلما لا تفرق بين المؤمن والكافر. إنها تعليمات المكتب الثاني، والحزب الذي يفكر فينا دائما ويدرك مصلحتنا. وبوقه المحمول في سيارة صغيرة بيضاء من نوع رينو 4 لا زال يجوب شوارع المدينة منذ أربعة أسابيع، ينبه الناس إلى هذا الابتلاء الإلهي، يحذرهم من الاقتراب من حي الصفيح، ويعطي تعليماته للإبلاغ عن كل حالة مشبوهة معتبرا ذلك من صميم الوطنية وقوة الإيمان. كل شيء جاهز لمواجهة عدوى الكوليرا عدا الدواء.. إنها إرادة الله. ومن يقف ضد إرادة الله؟" إذن فلقد تركوا أهل الحي الفقراء للوباء يفتك بهم، وكل ما فعلوه أنهم عملوا على محاصرتهم داخل الحي حتى ينتهي أمرهم تماما من دون دواء باعتبار أن هذه هي إرادة الله، ورغم ذلك حينما تم تعذيب إمام الجامع "صار يمدح السلطات والمسؤولين ويشكرهم على كل ما فعلوه لمصلحة الناس.. حتى أنه جعل شكرهم من شكر الله"، أي أنه حين اجتماع السلطتين الفاسدتين- السياسية والدينية- تتم إبادة جميع المواطنين من خلال توحد الفساد الديني والسياسي.
هذا القضاء على الجميع هو ذاته ما فعله الروخو الفسيان مع الطبيب الهندي الذي مات في ظروف غامضة لا علاقة لها بالكوليرا: "سمعت أن الرخو الفسيان أمر أن يظل الوباء سرا، حتى لا تُشوه سمعته عند مسؤوليه المركزيين، وقد استشار الطبيب الهندي في حرق الموتى بدل دفنهم. وكان يتوقع منه أن يقبل ذلك؛ لأن الطبيب من طائفة تحرق موتاها، مثلما يقولون. لكنه رفض ذلك رفضا قاطعا، وقال للروخو، أنه سيكتب لكل المنظمات الصحية والإنسانية العالمية زيادة عن السلطات المركزية. يقولون: إن الروخو رأى في كلام الطبيب تهديدا. "لا أعتقد أن الروخو، ولا أحد يعرفه مثلي، سيسكت عن ذلك" تقاطع جدتي أبي، الذي يرتشف قهوته ويمص شفتيه مطولا، ثم يقول: كل من يعرفه يؤكد هذا الكلام. وقد سمعت أن موت الطبيب لم يكن عاديا أو بسبب الوباء".
في ظل مجتمعات لا تحكمها إلا الغيبيات باسم الدين، ويسيطر عليها الجهل وعدم الأخذ بأسباب العلم أو العقل من السهل جدا أن تتم قيادتها والسيطرة عليها من خلال السلطات السياسية الفاسدة نتيجة جهلها والاعتماد على الغيبيات في كل حياتها، إنه الاعتماد على الغيبيات الذي يجعل المجتمع يرى في الظلم ابتلاء من الله الذي سيأخذ لهم حقوقهم في الآخرة؛ ومن ثم فهم يرضون بالظلم ويخضعون له راضين باعتبار أن هذا جزء من إيمانهم الخرافي. وهذا ما حدث تماما مع أهل الحي الصفيح الغارقين في الجهل والخرافة باسم الدين وغيره من الاعتقادات؛ فحينما يهرب الراوي أحمد القط وهو صغير من أقرانه في المقابر ويدخل الضريح المهجور تُصر جدته على أخذه للفقيه خوفا عليه: "وبعد أربعين يوما، عرضتني على فقيه الحي، خفية عن أعين أبي. قالت له باكية: لقد دخل الضريح المهجور. مندهشا، مص الفقيه شفتيه. ثم هامسا، طلب الستر واللطف. ضاعفت جدتي من بكائها الذي تحول إلى شخير. وقالت: إنه طفل يا سيدي، لم يفكر في العصيان.. أنت تعرف أطفال هذا الزمن. هز رأسه موافقا. وضع كفه على جبيني لحظات، ثم قال: علينا أن نتوسل إلى سيدنا بالصدقات. تهز جدتي رأسها موافقة وهي تقول: كما يريد سيدنا. عادت جدتي للبكاء. لكن الفقيه طمأنها مضيفا: إن شاء الله خيرا.. سأكتب لك حجابا، يضعه تحت إبطه الأيمن ثلاثة أيام، ثم يغتسل بمائه.. وفي اليوم الرابع عودي إليّ وأحضريه معك".
إن جهل المجتمعات وحياتها في الخرافة حينما تتمكن منها تعمل على تسهيل إحكام السلطة السياسية الفاسدة عليها؛ وهذا ما يحدث في معظم مجتمعاتنا العربية التي ترتكن إلى الخرافة باسم الدين فعملت على تسهيل السيطرة عليها؛ لذلك نرى الجدة تأخذ الطفل إلى الفقيه مرة أخرى فيعمل على كيه بالنار بسبب دخوله إلى الضريح معتقدا أنه بهذا الفعل يحميه من اللعنة التي لابد أن تصيبه بالعمى: "ليس بمقدوري أن أبقى عيني مفتوحتين أو أتطلع للفقيه، الذي عاد وقرفص عند رأسي، وقد صُدمت برؤية خنجر محمر. لا أشك أنه كان فوق نار. تصلني حرارته. أحاول أن أستدير متجنبا الحرارة، التي تزداد فوق وجهي. لكن يد الفقيه تمسكني من شعري وتثبت رأسي. أغمض عينيّ ضاغطا بجفنيهما. أحس به ساخنا، حارا يلامس جبيني. أصرخ. أصرخ متألما".
نتيجة هذا الفساد السلطوي الكامل، ونتيجة الخضوع للتعذيب الذي لا يمكن أن يحتمله بشري، وهو التعذيب الذي عانى منه أحمد القط من دون أي جريرة؛ فلقد اعترف لهم بطريقته الخاصة قبل أن يستسلم لموته بين أيديهم. لم يحاول أن يخضع لما يريدونه، ولم يقر الاتهامات الموجهة إليه، بل قال: "حاولت الانتحار في يوم، اعتقدت لسنين أنه اليوم الذي تحرر فيه الإنسان، لكني لم أشعر أني حر أبدا، ولم أكن أرغب غير تحرير نفسي، أقول: عشت مع قطط آلفتني وتآلفت معها بدل الناس، فلم أر غير أصابع الاتهام تشير لشخص يريد مواصلة حياته على غير عادتهم. يزعجونك لأنك مختلف عنهم. أقول: كم أتعبني عقلي! وكم عذبني تفكيري! فلا عمل لهما، خارج مخططات نظام قائم على المؤامرة. نظام يبحث عن استمراريته بخلق الأعداء والخيانات. أقول: ليس هذا هو المكان الذي حلمت به، مثل كل الأحلام الأخرى، لكني سأعيش فيه ببلادة وغباء، مدركا أنها ستكون أعواما طويلة".
إذن فرغم كل ما حدث لم يستسلم أحمد القط لما تريده منه السلطة التي عذبته حتى الموت، بل قال ما يرغبه ولم يقر بما يرغبونه؛ مما قد يدل على بصيص أمل في التخلص من هذا النظام الفاسد الشبيه بمعظم الأنظمة في الدول العربية التي لا تختلف عنه.
رغم أهمية رواية "الحي السفلي" للروائي الجزائري عبد الوهاب بن منصور وفضحها الفساد السياسي للنظام في الجزائر والتنكيل بكل من يعارضه أو يظنون أنه من الممكن أن يشوه صورتهم التي حاولوا إقناع الناس بها، إلا أن ثمة ملاحظة مهمة لا يمكن التغاضي عنها وهي إهمال دور النشر الثلاث المشتركين في النشر للتنضيد والتنسيق الداخلي للرواية؛ فالعمل يسير في خطين متوازيين، وأحيانا ما كنا نعرف أنه خرج من هذا الخط إلى الثاني بوجود الفواصل وفي أحيان أخرى لم يكن هناك ما يدل على أنه انتقل إلى الخط المغاير، أي أن الدور أخذت العمل من المؤلف من دون النظر فيه، وربما كان الدليل الآخر على ذلك كثرة الأخطاء اللغوية داخل العمل الروائي، وهي أخطاء يلام عليها الروائي ويتحمل مسؤوليتها مع دور النشر التي اشتركت في طباعة العمل؛ مما يزيد من جهل القارئ العربي بلغته التي لا يتقنها من يكتب بها.



محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب.
عدد مارس 2019م.

الأربعاء، 3 أبريل 2019

أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة.. التفاصيل كمؤسس للسرد

رغم أن النقد الأدبي غالبا ما يجنح إلى التخلي عن تتبع التفاصيل في الكتابة؛ باعتبار أن التفاصيل الكثيرة في السرد تؤدي إلى إثقال العمل ومن ثم ترهله، وهو ما دفع العديدين من النقاد للحديث عن بلاغة الحذف، إلا أن هناك الكثير من الأعمال التي لا يمكن لها أن تنبني إلا من خلال هذه التفاصيل التي تُعد اللبنة الأساسية لبناء العمل الفني، أي أننا إذا ما تخلينا عن التفاصيل الدقيقة انهار العمل الذي نحن بصدده وفقد الكثير من جمالياته؛ نظرا لأن الفكرة التي يكتب فيها الكاتب لا تحتمل تجاوزها لأهميتها، ومن ثم تبدو هذه الفكرة غير ذات أهمية إذا لم يهتم كاتبها بتلك التفاصيل الدقيقة.
في هذه الحالة الروائية التي تعتمد على التفاصيل كبناء فني للعمل السردي تبدو لنا هذه التفاصيل كفسيفساء دقيقة ومهمة؛ إذا ما حاول القارئ تجاوزها لم يستطع تتبع العمل الروائي، أو فهمه؛ ومن ثم يفقد معناه ويصبح عملا لا داع له.
هذه الفسيفساء التي لا يمكن التخلي عن جمالياتها نلحظها بشكل كثيف في رواية الروائي النمساوي ستيفان زفايغ "أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة"، وهي الرواية التي ما كان له أن يكتبها إلا من خلال الاعتماد الكبير عليها، أي أن الرواية اكتسبت أهميتها وجماليات السرد فيها من خلالها فقط، وليس من خلال الفكرة التي يتحدث عنها.
ربما تتضح لنا أهمية هذه التفاصيل في المقطع الأول من روايته الذي يحاول من خلاله التمهيد للدخول في الموضوع الرئيس وهو اليوم الذي عاشته ذات يوم السيدة "س" الإنجليزية، فنراه منذ بداية السرد يحاول- من خلال الراوي- تتبع تفاصيل الحدث الذي أدى إلى أن تحكي السيدة "س" حكايتها للراوي: "اندلعت في طاولتنا بفندق "الريفييرا" العائلي الصغير، حيث كنت أقيم حينها (قبل الحرب بعشر سنوات)، محادثة عنيفة، محادثة كانت تُنذر بأن تتحول فجأة إلى مشاجرة حامية، حتى أنها وردت مصحوبة بعبارات حاقدة ومهينة. أغلب الناس ليس لهم إلا خيال مُتعب، فما لا يمسهم مباشرة أو يشتت ذهنهم لا يؤثر فيهم البتة، لكن بمجرد أن يحصل حادث –وإن كان قليل الأهمية- أمام أعينهم وفي متناول إدراكهم، حتى تغلي في الحين داخلهم انفعالات مفرطة ويعمدون بشكل ما إلى التعويض عن لا مبالاتهم الاعتيادية عبر سورة غضب في غير محلها ومبالغ فيها. هكذا حدث الأمر في مجموعتنا البرجوازية التي تعودت طاولة الأكل، كما تعودت على مناقشات قصيرة ودعابات صغيرة، لا عمق فيها، مجموعة تتفرق عادة بمجرد الانتهاء من الأكل، فالزوجان الألمانيان يغادران للتنزه والتقاط الصور، ويغادر الدانماركي السمين لممارسة فن الصيد الممل، وتعود المرأة الإنكليزية المميزة إلى كتبها، وينطلق الزوجان الإيطاليان نحو المغامرة في "مونتي كارلو"، أما أنا فأذهب للجلوس متكاسلا على أحد كراسي الحديقة، أو إلى العمل"، هنا يعمل الروائي النمساوي زفايغ على التمهيد للحدث الذي يريده بصبر من خلال سرد التفاصيل التي قد تبدو للبعض مملة وعائقة للسرد، لكن القارئ كلما استمر في القراءة سيتبين له أنه لولا هذه التفاصيل لما استطاع الروائي الدخول في الحدث المهم الذي أدى إلى سرد هذه الرواية بالكامل.
سنعرف فيما بعد أن هناك شاب وسيم قد جاء إلى الفندق، وقد كان أنيقا، مهذبا، حلو المعشر، وبمجرد ظهوره استطاع بسهولة لفت أنظار الجميع، بل نجح في أن يرافق الكل ويتحدث معهم منفردا بكل واحد منهم، بل لعب التنس مع ابنتي صاحب "المصنع الليوني" بينما زوجته الشابة "هنرييت" تراقبه وهو يلاعب ابنتيها. نجح هذا الشاب الغريب في أن يكتسب ثقة الجميع في الفندق بسهولة، لكن لم تمض أربع وعشرون ساعة من وجوده إلا كان قد رحل وقد اختفت معه السيدة "هنرييت" زوجة صاحب مصنع الملابس، وقد تركت ورقة لزوجها البدين الضخم تخبره فيها أنها قد هجرته مع هذا الشاب.
حينما نعرف هذه الحكاية السريعة سنفهم أهمية التفاصيل في هذه الرواية؛ فالراوي الذي ساق هذه الواقعة كان يعتمد على التفاصيل الدقيقة؛ لأنها ستؤدي إلى نقاش أهم بين هذه المجموعة المقيمة في الفندق، وهو النقاش الذي سيحاول فيه الجميع اتهام "هنرييت" باللاأخلاقية وكافة الصفات الذميمة باعتبارها مجبولة على الرذيلة بما أنها استطاعت هجر زوجها وبنتيها من أجل رجل لم يمر على تعارفهما أكثر من أربع وعشرون ساعة، لكن رغم محاولة الجميع اتهامها بالرذيلة واتخاذ الموقف الأخلاقي ضدها كان الراوي هو الوحيد في جلسة النقاش الذي يلتمس لها العذر ولا يرى في فعلها ما يمكن أن يشين: "من جانبي، أعتقد أن امرأة تتبع غريزتها بحرية وشغف أشرف من تلك التي تختار- كما جرت العادة- أن تخون زوجها عبر إغماض عينيها وهي بين أحضانه"، هنا وبسبب هذا الرأي من الراوي كانت أحداث الرواية التي تشكلت بمجرد الإعلان عن رأيه في السيدة "هنرييت".
تدخلت السيدة "س" الإنجليزية التي التزمت الصمت منذ بداية النقاش وبدأت تتناقش مع الراوي في وجهة نظره باهتمام بيّن، وكأن الأمر يخصها هي: "إذن أنت لا ترى أنه من الحقير والمشين أن تتخلى امرأة عن زوجها وأبنائها كي تتبع رجلا- كائنا من كان- وهي لا تعرف بعد إذا ما كان جديرا بحبها؟ هل تستطيع فعلا أن تُبرئ سلوكا بهذه الخطورة وهذا الطيش لدى امرأة لا تُعد من الفتيات الصغيرات، أليس من الضروري لها أن تعمل على احترام نفسها إكراما لأطفالها؟"، ثم لا تلبث أن تسأله: "أما تزال تكن لها التقدير نفسه والاحترام ذاته إلى الآن؟ ألا تفرق بين المرأة الشريفة التي كانت معنا أول أمس، والمرأة الأخرى التي هربت أمس مع رجل غريب عنها كليا؟"، وغير ذلك من الأسئلة الكثيرة الدقيقة التي لابد أن تثير تساؤلات القارئ نفسه عن سبب هذه الأسئلة المهمة والدقيقة.
هذه التفاصيل تُثير في نفس القارئ العديد من التساؤلات والاستنتاجات والتوقعات لاسيما حينما نعرف أن السيدة "س" الستينية العمر ستعمل فيما بعد على لقاء الراوي مساء في غرفتها الخاصة من دون علم الجميع، وستحرص على أن تطلب منه ألا يعلم أحد بلقائهما في غرفتها؛ مما يفتح أفق التوقعات لدى القارئ، ولعل براعة المؤلف في التشويق السردي هنا تكمن في اعتماده على هذه التفاصيل التي تعمل على تعطيل السرد وإيضاحه في نفس الوقت، مما يجعل القارئ مشدودا إلى الحكي للنهاية، فهو لا يعطينا الحقيقة دفعة واحدة؛ مما يجعلنا متشبثين بالسرد دائما.
صحيح أن القارئ غير المتمرس قد يظن لهنيهة أن هذه التفاصيل تدعو إلى الملل، لكنها كانت من الأهمية لوصف الحالة المقبلة على سردها السيدة "س" إلى حد كبير؛ فنحن نتوقع أن ثمة مغامرة جنسية ستخوضها السيدة "س" وهو ما ستسرده فيما بعد، لكن الروائي كان حريصا على عدم التصريح بها بشكل مباشر، بل يعتمد على التفاصيل التي أدت إلى مثل هذه المغامرة؛ مما يجعل القارئ فيما بعد متعاطفا كثيرا معها، معضدا لها فيما ذهبت إليه.
تحكي السيدة "س" للراوي عن شبابها، وكيف أنها كانت من أسرة إنجليزية موسرة، كما تزوجت شابا من طبقتها الاجتماعية ورزقا بطفلين، وكيف كانا يقضيان حياتهما في الكثير من الرحلات السعيدة إلى أن ترملت في الأربعين من عمرها. حينها شعرت أن الحياة قد انتهت تماما، وبما أن ابنيها قد كبرا فلقد أرادت أن تبتعد عنهما لفترة حتى لا تصيبهما بالاكتئاب والحزن الذي تشعر به، ومن ثم سافرت إلى مونت كارلو للانفراد بنفسها رغم أن كل مكان كانت تذهب إليه كان يذكرها بزوجها الراحل، حتى صالات المقامرة التي كان زوجها أحيانا ما يذهب إليها كانت تذكرها به. كانت السيدة "س" قد تعلمت من زوجها مراقبة أيدي اللاعبين في صالات القمار؛ فاليد هي الوحيدة التي تكشف ارتباك الآخرين، وبالفعل كانت تراقب أيدي الجميع باعتبارها شكلا من أشكال اللعب والتسلية. هذا ما دار في ذهنها حينما ذهبت هذه المرة وحدها، وهو ما جعلها تقضي وقتها في مراقبة أيدي اللاعبين. تقول السيدة "س" في وصف تفصيلي: "في ذلك المساء إذن، عند دخولي إلى الكازينو وبعد مروري أمام طاولتين مزدحمتين جدا واقترابي من الثالثة، في اللحظة التي كنت أهيئ فيها ثلاث قطع ذهبية ، سمعت بتعجب، في تلك اللحظة من الصمت المطبق الذي يسوده التوتر، وهو ما يحصل دائما عندما تكون الكرة المستديرة غير مستقرة بعد، وهي تتذبذب بين رقمين فقط، سمعت قبالتي بالضبط ضجيجا متميزا، صريرا وفرقعة، كما لو كانت مفاصل عظمية بصدد التكسر، فنظرت دون شعور إلى جهة الطاولة الأخرى. وهلعت لما رأيته حقا، فقد شاهدت يدين لم يسبق لهما مثيل على الإطلاق، يدا يمنى ويدا يسرى وقد تعالقت الواحدة منهما بالأخرى تعالق حيوانين في صراع محموم بطريقة فيها من الشراسة والتشنج ما يجعل مفاصل أصابع اليد تطقطق بصوت جاف كذلك الصادر عن جوزة عند كسرها. كانتا يدين نادرتي الجمال، طويلتين، ونحيفتين على نحو خارق، ومع ذلك فإنهما متصلبتان يغمرهما بياض شديد، وفي طرفيهما أظفار لؤلؤية رقيقة الاستدارة. وهكذا قضيت كامل السهرة وأنا أنظر إلى هاتين اليدين المتميزتين الفريدتين، أنظر إليهما بتعجب متجدد. لكن ما أذهلني بشكل مرعب هو اضطرابهما، تعبيرهما الهائم بجنون، هذه الطريقة المتشنجة في تعالقهما وتصارعهما، وهنا فهمت في الحال أنه كان رجلا يطفح بالقوة، تلك القوة التي تُكثف كل شعوره في أطراف أصابعه كي لا تُفجّر كيانه بأسره".
هذه التفاصيل الدقيقة التي قد تبدو أنها معطلة للسرد الروائي للوهلة الأولى لا يمكن أن يتخلى الروائي عنها في روايته؛ لأنها من الأهمية بمكان للتأسيس للحدث الروائي الذي يريد الدخول فيه؛ فمن خلال هذه التفاصيل السردية الدقيقة سنعرف السبب في هذه المغامرة التي ستدخلها السيدة "س"، وسنتعاطف معها كثيرا، ونتمنى لها أن تستكمل مغامراتها التي لن تكتمل.
يحرص زفايغ على الحديث عن هذا الشاب وحركات يديه في مقاطع سردية طويلة؛ حيث ستكون هذه المراقبة هي السبب الأساس في الحدث الرئيس من السرد: "دام هذا التناوب، وهذا الانتقال المتلجلج من الخسارة إلى الربح ومن الربح إلى الخسارة، زهاء ساعة بلا توقف، ساعة كاملة أو تكاد، لم تنقطع خلالها نظراتي المفتونة لحظة واحدة عن ذلك الوجه المتحول، الوجه الذي كان يمر في حركة مد وجزر بكل أشكال الانفعال، ولم تفارق عيناي تينك اليدين السحريتين، فكل عضلة منهما تعكس الاندفاع الجامح نزولا وصعودا على طريقة نافورة مياة". ربما كانت هذه المراقبة الدقيقة عن كثب لهاتين اليدين وهذا الشاب بين تقلبات الفوز والخسارة هي أهم ما في السرد؛ لأنه من خلال هذا التأمل ستدرك السيدة "س" بعد خسارة هذا الشاب الذي يكاد يبلغ عمر ابنيها أنه سيتجه بعد خسارته إلى الانتحار بسبب هذه الخسارة؛ وهو ما سيجعلها تندفع خلفه مراقبة حينما يغادر الكازينو في محاولة منها لإنقاذه من ظنها في أنه سيقبل على الانتحار: "أمام هذا المشهد وجدتني متحجرة من فرط الذهول، لأنني فهمت في الحال إلى أين كان يمضي ذلك الرجل: إلى حتفه. شخص ينهض بتلك الطريقة لن يقصد بالتأكيد نزلا أو ملهى ليليا، أو امرأة، أو مقصورة في قطار، ولا أي مظهر من مظاهر الحياة، إنما كان يندفع مباشرة إلى العدم. بل إن أي إنسان عديم الإحساس في تلك القاعة الجهنمية، كان سيعرف بالضرورة أن هذا الكائن لم يعد له أي سند، لا بنك، ولا بيت، ولا عائلة. لقد قامر هنا بكل ما بقى لديه من مال، بل بحياته كلها، ولم يبق له الآن سوى أن يجر خطواته المترنحة بعيدا، إلى أي مكان كان، ولكن بالتأكيد خارج الحياة".
هذا الظن التفصيلي والتوقعات من قبل السيدة "س" هو ما سنراه فعليا فيما بعد؛ مما سيجعلها مراقبة له، لصيقة به، تذهب خلفه أينما ذهب في محاولة منها لإنقاذ شاب في مقتبل العمر وفي عمر ابنيها: "لا يمكن تصور مشهد أكثر مدعاة للرثاء من مظهر شاب لم يتجاوز الأربع والعشرين سنة، وهو يجر نفسه بإعياء عجوز، من المدرج نحو الباحة ويترنح كثمل محطم الأطراف. لقد ترك جسده المثقل يهوي على أحد المقاعد الخشبية مثل كيس، وهذا ما جعلني أرتعد وأحس، ثانية، ببلوغه آخر المطاف. فلا يسقط بهذه الطريقة إلا ميت أو شخص فقد كل عضلاته الحية: كان رأسه يرتخي إلى الوراء على مسند المقعد، ويداه تتدليان إلى الأرض جامدتين".
هنا تراقب السيدة "س" لهذا الشاب خوفا من أن ينتحر، ورغم أن السماء ترعد وتهطل المطر الغزير إلا أنه لا يتحرك من مكانه ويظل في هيئته التي تشبه الميت؛ مما يجعلها تجذبه من ذراعه للاحتماء من المطر وتعطيه مالا كي يقضي ليلته في نزل ما، على أن يقابلها في اليوم التالي وتوصله إلى القطار كي يعود إلى مدينته وأسرته، لكنها حينما تصل به إلى النزل وتدق جرس الباب تُفاجأ به يتشبث بذراعها ويجذبها معه. هنا تحاول السيدة "س" أن تبرر الأسباب وتوضحها للراوي الذي يستمع إليها قائلة: " طيب، أرجو الآن، وقد سردت لك الجزء الأصعب، أن تصدقني حين أؤكد لك مرة أخرى، وأقسم لك بكل مقدس عندي وبشرفي وبحياة أولادي، أن.. أن فكرة إقامة علاقة مع ذلك الغريب لم تخامرني قط إلى حد تلك اللحظة، وإني كنت مسلوبة الإرادة حقا، فوقعت في هذا الموقف دون وعي، كأن فخا نُصب لي وسط طريق حياتي المستقيم".
رغم أن السيدة "س" ستتورط في علاقة جنسية مع هذا الشاب في هذه الليلة، وهو ما ستكتشفه حينما تصحو في اليوم التالي، لكنها ستحاول التماسك للهروب من هذا الموقف اللاأخلاقي بالنسبة لها، وتطلب منه أن يقابلها مساء في محطة القطار كي تقطع له تذكرة توصله إلى مدينته مرة أخرى وتطمئن أنه لن ينتحر وسيعود إلى حياته، كما أنها تقضي معه اليوم في التنزه في وتجعله يقسم في الكنيسة حينما تلمح شيئا من تدينه أنه لن يعود إلى المقامرة مرة أخرى، لكنه حينما ذهب إليها في النزل الخاص بها يعترف لها أنه من عائلة موسرة ونبيلة وأنه يتم إعداده ليكون دبلوماسيا وسفيرا للنمسا لكنه أدمن لعب القمار؛ الأمر الذي جعله ينفق كل أمواله بل ويسرق حليتين ذهبيتين تخصان عمته ويعمل على رهنهما من أجل لعب القمار. هنا تعطيه السيدة "س" مبلغا كبيرا من المال كي يستعيد الحلي الذهبية مرة أخرى، ويسافر من خلال القطار إلى أسرته، وتتفق معه أن تراه في محطة القطار في السابعة قبل أن يرحل لتوديعه فيذهب لإعداد نفسه، هنا تقول السيدة "س" في اهتمام كبير بالتفاصيل: "إن ما آلمني كثيرا، هي الخيبة.. الخيبة.. لأن هذا الرجل رحل طائعا، دون أي محاولة للتشبث بي، أو للبقاء إلى جانبي.. لأنه استجاب بلطف واحترام لأول دعوة مني إلى الانصراف، بدل.. بدل أن يحاول جذبي إليه بعنف.. ولأنه يُجلني فحسب، كقديسة ظهرت في طريقه.. ولأنه.. لأنه لم يشعر بأني امرأة. كانت خيبة بالنسبة إليّ، خيبة لم أعترف بها، لا في ذلك الحين ولا بعده، لكن إحساس المرأة يعلم كل شيء دون كلام، ودون وعي دقيق. لأنني.. الآن، لن أخدع نفسي مجددا، لو تشبث بي ذلك الرجل حينها، لو طلب مني اللحاق به، لذهبت معه إلى أقاصي العالم، ولطخت شرفي وشرف أولادي. ولهربت معه، غير عابئة بأقاويل الناس ولا بضميري، مثلما فعلت تلك السيدة "هنرييت" مع الشاب الفرنسي الذي لم تكن تعرفه قبل يوم من هروبهما. وما كنت لأسأل إلى أين أو إلى متى، ولا لألقي نظرة واحدة خلفي، على حياتي الماضية. ولضحيت من أجل هذا الرجل بمالي، وباسمي، وبثروتي، وبشرفي.. ولتسولت من أجله، ولعلي ما تورعت عن قبول أي دناءة في العالم يجرني إليها. ولكنت لفظت جميع ما يُسمى في المجتمع عفة واحتشاما، لو تقدم نحوي فحسب، وقال كلمة واحدة، لو تقدم خطوة واحدة، لو حاول أن يحضنني، لكنت في تلك اللحظة ضائعة ومرتبطة به إلى الأبد".
الروائي النمساوي ستيفان زيفايغ
هنا تبدأ- ومن خلال التفاصيل الدقيقة أيضا- هذه المغامرة تأخذ منحى آخر تماما لم يكن متوقعا؛ فالسيدة "س" تفكر أن ترحل معه، فهي لن تذهب في السابعة إلى محطة القطارات من أجل توديعه كما اتفقا، بل سترحل معه أينما ذهب وستعيش معه للأبد، وبالفعل تحزم حقائبها للاتجاه إلى محطة القطارات واللحاق به، ولعلنا هنا نلحظ التأثر الكبير من الروائي زفايغ في هذه الفترة المبكرة بالفن السينمائي الذي يعتمد على التشويق الكبير، ومن ثم يتحول السرد إلى سرد لاهث يحمل داخله الكثير من الانتظار والتساؤل عما إذا كانت ستلحقه وتذهب معه أم لا، كما يحدث في السينما تماما، أي أن السرد سيؤدي بالقارئ أيضا وبشكل فعلي إلى لهاث أنفاسه وتلاحقها والتماهي مع السيدة "س" من أجل اللحاق بحبيبها الذي هو على وشك المغادرة.
لعل هذا الانتطار والتشويق اللاهث يسرده زفايغ أيضا من خلال اهتمامه الجم بالتفاصيل السردية حينما نقرأ: "حمل عامل التوصيل حقائبي، وأسرعت إلى مكتب النزل لدفع حسابي. وما إن أعاد المدير لي الباقي، حتى كنت مستعدة للمغادرة، حينها لمستْ يدٌ كتفي برقة، فانتفضتُ، إنها قريبتي وقد قلقت لوعكتي الصحية المزعومة فأتت لتطمئن عليّ. اسودت الدنيا في عيني، ولم أعرف كيف أتصرف معها، فكل ثانية مهدورة تعني تأخيرا قاتلا، لكن الأدب حتم عليّ الاستماع إليها وإجابتها ولو للحظة. "يجب أن تنامي"- قال بإلحاح- "فالأكيد أنك تعانين من الحمى". كان ذلك واردا جدا، فقد كنتُ أحس بصدغيّ ينبضان بعنف شديد، وكانت تلك الأطياف الزرقاء التي تنبئ بإغماء موشك، تظهر أحيانا أمام عيني، لكني اعترضتُ، وأجهدتُ نفسي لأبدو ممتنة، في حين كانت تحرقني كل كلمة، وكنت أود قذف ذلك الاهتمام، الذي جاء في غير أوانه، بركلة من قدمي. لكن القريبة غير المرغوب فيها بقيت، وبقيت، وأطالت البقاء. قدمت لي ماء الكولونيا، وأرادت أن تفرك صدغيّ بنفسها، بينما كنت أعد الدقائق، وكان ذلك الشاب يحتل تفكيري، وقد بحثت عن ذريعة ما لأفلت من هذه العناية المعذبة. وكلما ازداد قلقي كلما تأكدت لديها شبهة مرضي، وأرادت في النهاية أن تجبرني، بشبه غلظة، على الذهاب إلى غرفتي والخلود إلى النوم. وفي غمرة هذه المواعظ، نظرت فجأة، إلى الساعة الحائطية التي تتوسط البهو: كانت تشير إلى السابعة وثمان وعشرين دقيقة بينما ينطلق القطار في السابعة وخمس وثلاثين دقيقة. وفي لمح البصر، وباللامبالاة الفظة لامرأة يائسة، مددت يدي بغتة إلى قريبتي، وقلت دون أن أضيف أي تفسير: وداعا، يجب أن أغادر"، من خلال هذا المقطع التفصيلي يتضح لنا ما ذهبنا إليه في أن الروائي كان ذكيا في أن يجعل الأحداث شديدة التشويق بالنسبة للقارئ، لاهثة كأنفاسه؛ فالقارئ نفسه يرغب في أن تتخلص السيدة "س" من قريبتها من أجل اللحاق بالرجل الذي أحبته، وهذا ما يؤكد البراعة السردية لدى زفايغ.
لكن السيدة "س" لا تستطيع اللحاق بالقطار ومن ثم تعود كاسفة محاولة أن تذهب إلى نفس الأماكن التي رأته فيها لتستعيد اللحظات التي مرت بها في الساعات القليلة الماضية والتي لم تمر عليها أربع وعشرون ساعة بعد، وبالفعل تذهب إلى صالة القمار التي رأته فيها للمرة الأولى محاولة تخيله بينما يجلس إلى منضدة القمار يلعب: "لم يكن ما فعلته بعد ذلك سوى عبث أيضا، كان جنونا، بل حماقة، أكاد أن أخجل من روايتها، لكني وعدتُ نفسي ووعدتك بألا أخفي شيئا: لقد كنت أسعى إلى العثور عليه مجددا.. أقصد أنني حاولت استحضار كل لحظة قضيتها معه.. كنت منجذبة بعنف إلى جميع الأماكن التي كنا فيها البارحة معا، كنت منجذبة إلى المقعد الخشبي للحديقة العمومية حيث جررته، وإلى قاعة القمار حيث رأيته لأول مرة، وحتى إلى ذلك النزل المشبوه، لا لشيء سوى أن أعيش الماضي مرة أخرى. وكنت أريد في اليوم التالي أن أتجول بالعربة في الطريق نفسه، المحاذي "للكورنيش" حتى يتسنى لكل كلمة ولكل حركة، أن تنبعث فيّ من جديد"، لكن رغم هذا الشغف في استعادة كل لحظة قضتها معه إلا أنها تنقلب فجأة إلى كابوس حينما تذهب إلى كازينو القمار فتراه جالسا إلى نفس المنضدة مقامرا بالنقود التي أعطتها له بينما لا يدري بكل ما يدور حوله: "دخلتُ إذن، وعبرتُ الصالة مباشرة، وهناك.. حين التفتُ إلى ذلك الحشد الصاخب.. بعد أن اجتزت الباب، حدث شيء فريد.. هناك في المكان الذي تصورته، هناك، كان جالسا (هلوسات الحمى).. هو ذاته، هو شخصيا.. هو.. هو.. تماما كما رأيته لتوي وأنا أحلم.. تماما مثلما كان بالأمس، العينان مثبتتان على الكويرة، والوجه ممتقع كشبح.. لكنه هو.. هو.. هو بلا ريب. كنت على وشك الصراخ لشدة فزعي. لكني سيطرت على ذعري أمام هذا المشهد غير المعقول وأغمضت عينيّ".
حاولت السيدة "س" استيعاب الصدمة، بل حاولت أن تستعيده من غيبوبة القمار التي يذهب إليها حينما يجلس على منضدته، لكنه يدفعها ويهينها أمام الجميع وكأنه شخص آخر لا تعرفه ويسبها متهما إياها بأنها تنحسه حينما تتواجد وهو يلعب: "اغربي عن وجهي- صرخ بصوت قوي ودون أي احتراس- لست وصية عليّ.. ها هو.. ها هو.. ها هو مالك- ورمى إليّ ببعض الورقات من فئة المائة فرنك- أما الآن فدعيني وشأني. قال ذلك صارخا بقوة، مثل مجنون، دون أن يكترث إلى وجود مئات الأشخاص من حوله، كان كل الناس ينظرون، ويتهامسون، ويلمّحون إلى أشياء ويضحكون، حتى أن فضوليين كُثرا قد التحقوا من الصالة المجاورة. فأحسست كأن ثيابي قد خُلعت عني، وأنني عارية هنا، أمام هؤلاء الفضوليين".
هنا يبرع ستيفان زفايغ في تحويل كل مشاعر الحب التي وصفتها السيدة "س" بشيء غير قليل من التفاصيل إلى مشاعر كراهية حينما تقول: "تعافيتُ، شيئا فشيئا، من الصدمة التي شهدتها، وبعد سنوات، قابلتُ ملحق المفوضية الدبلوماسية للنمسا في اجتماع، وكان شابا بولونيا، ولما طرحت سؤالا عن عائلته، أجابني بأن أحد أبناء عمه تحديدا، قد انتحر قبل عشر سنوات في "مونتي كارلو"، فلم يرجف لي جفن، ولم يؤلمني ذلك تقريبا: ولعل هذا الخبر (لماذا يُنكر المرء أنانيته) أراحني، لأنه أزال بتلك الطريقة كل خطر من فرضية لقائه مرة أخرى. ولم يعد ثمة شاهد ضدي غير ذكرياتي الخاصة. لقد صرتُ أكثر هدوء منذ ذلك الحين. فأن يهرم المرء ليس – في الحقيقة- سوى أن يتوقف عن الخوف من ماضيه".
هكذا يتبين لنا أن ستيفان زفايغ كان بارعا في التفاصيل التي يسردها؛ لأنه لولا التفاصيل الدقيقة والصغيرة لكل شيء لما كان استطاع كتابة هذه الرواية التي تعتمد على حدث صغير جرى لامرأة ذات يوم، لكنه كان حياة كاملة بالنسبة لها، ولعله لولا العراك الأخلاقي في بداية الرواية لما كانت السيدة "س" قد أقدمت على رواية حكايتها للراوي؛ فلقد أقدمت على ذلك حينما رأت أنه لا يتخذ موقفا أخلاقيا من السيدة "هنرييت" التي كانت شبيهة بها إلى حد ما حينما ضحت بحياتها وزوجها، وأولادها من أجل شاب يعد أربع وعشرون ساعة فقط من معرفته.
كما نلاحظ مدى استفادة زفايغ من السينما حينما كان يقطع كثيرا من السرد الذي نكاد أن نراه لماضي السيدة "س" كي تتحدث وتعلق مع الراوي الجالس معها في غرفتها ثم تعاود السرد مرة أخرى بالعودة إلى الماضي من خلال تقنية "الفلاش باك" Flash Back، مما يدلل على أن زفايغ استفاد كثيرا من تقنية السينما في كتابة روايته.



محمود الغيطاني

مجلة الثقافة الجديدة
عدد إبريل 2019م