الأربعاء، 3 أبريل 2019

أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة.. التفاصيل كمؤسس للسرد

رغم أن النقد الأدبي غالبا ما يجنح إلى التخلي عن تتبع التفاصيل في الكتابة؛ باعتبار أن التفاصيل الكثيرة في السرد تؤدي إلى إثقال العمل ومن ثم ترهله، وهو ما دفع العديدين من النقاد للحديث عن بلاغة الحذف، إلا أن هناك الكثير من الأعمال التي لا يمكن لها أن تنبني إلا من خلال هذه التفاصيل التي تُعد اللبنة الأساسية لبناء العمل الفني، أي أننا إذا ما تخلينا عن التفاصيل الدقيقة انهار العمل الذي نحن بصدده وفقد الكثير من جمالياته؛ نظرا لأن الفكرة التي يكتب فيها الكاتب لا تحتمل تجاوزها لأهميتها، ومن ثم تبدو هذه الفكرة غير ذات أهمية إذا لم يهتم كاتبها بتلك التفاصيل الدقيقة.
في هذه الحالة الروائية التي تعتمد على التفاصيل كبناء فني للعمل السردي تبدو لنا هذه التفاصيل كفسيفساء دقيقة ومهمة؛ إذا ما حاول القارئ تجاوزها لم يستطع تتبع العمل الروائي، أو فهمه؛ ومن ثم يفقد معناه ويصبح عملا لا داع له.
هذه الفسيفساء التي لا يمكن التخلي عن جمالياتها نلحظها بشكل كثيف في رواية الروائي النمساوي ستيفان زفايغ "أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة"، وهي الرواية التي ما كان له أن يكتبها إلا من خلال الاعتماد الكبير عليها، أي أن الرواية اكتسبت أهميتها وجماليات السرد فيها من خلالها فقط، وليس من خلال الفكرة التي يتحدث عنها.
ربما تتضح لنا أهمية هذه التفاصيل في المقطع الأول من روايته الذي يحاول من خلاله التمهيد للدخول في الموضوع الرئيس وهو اليوم الذي عاشته ذات يوم السيدة "س" الإنجليزية، فنراه منذ بداية السرد يحاول- من خلال الراوي- تتبع تفاصيل الحدث الذي أدى إلى أن تحكي السيدة "س" حكايتها للراوي: "اندلعت في طاولتنا بفندق "الريفييرا" العائلي الصغير، حيث كنت أقيم حينها (قبل الحرب بعشر سنوات)، محادثة عنيفة، محادثة كانت تُنذر بأن تتحول فجأة إلى مشاجرة حامية، حتى أنها وردت مصحوبة بعبارات حاقدة ومهينة. أغلب الناس ليس لهم إلا خيال مُتعب، فما لا يمسهم مباشرة أو يشتت ذهنهم لا يؤثر فيهم البتة، لكن بمجرد أن يحصل حادث –وإن كان قليل الأهمية- أمام أعينهم وفي متناول إدراكهم، حتى تغلي في الحين داخلهم انفعالات مفرطة ويعمدون بشكل ما إلى التعويض عن لا مبالاتهم الاعتيادية عبر سورة غضب في غير محلها ومبالغ فيها. هكذا حدث الأمر في مجموعتنا البرجوازية التي تعودت طاولة الأكل، كما تعودت على مناقشات قصيرة ودعابات صغيرة، لا عمق فيها، مجموعة تتفرق عادة بمجرد الانتهاء من الأكل، فالزوجان الألمانيان يغادران للتنزه والتقاط الصور، ويغادر الدانماركي السمين لممارسة فن الصيد الممل، وتعود المرأة الإنكليزية المميزة إلى كتبها، وينطلق الزوجان الإيطاليان نحو المغامرة في "مونتي كارلو"، أما أنا فأذهب للجلوس متكاسلا على أحد كراسي الحديقة، أو إلى العمل"، هنا يعمل الروائي النمساوي زفايغ على التمهيد للحدث الذي يريده بصبر من خلال سرد التفاصيل التي قد تبدو للبعض مملة وعائقة للسرد، لكن القارئ كلما استمر في القراءة سيتبين له أنه لولا هذه التفاصيل لما استطاع الروائي الدخول في الحدث المهم الذي أدى إلى سرد هذه الرواية بالكامل.
سنعرف فيما بعد أن هناك شاب وسيم قد جاء إلى الفندق، وقد كان أنيقا، مهذبا، حلو المعشر، وبمجرد ظهوره استطاع بسهولة لفت أنظار الجميع، بل نجح في أن يرافق الكل ويتحدث معهم منفردا بكل واحد منهم، بل لعب التنس مع ابنتي صاحب "المصنع الليوني" بينما زوجته الشابة "هنرييت" تراقبه وهو يلاعب ابنتيها. نجح هذا الشاب الغريب في أن يكتسب ثقة الجميع في الفندق بسهولة، لكن لم تمض أربع وعشرون ساعة من وجوده إلا كان قد رحل وقد اختفت معه السيدة "هنرييت" زوجة صاحب مصنع الملابس، وقد تركت ورقة لزوجها البدين الضخم تخبره فيها أنها قد هجرته مع هذا الشاب.
حينما نعرف هذه الحكاية السريعة سنفهم أهمية التفاصيل في هذه الرواية؛ فالراوي الذي ساق هذه الواقعة كان يعتمد على التفاصيل الدقيقة؛ لأنها ستؤدي إلى نقاش أهم بين هذه المجموعة المقيمة في الفندق، وهو النقاش الذي سيحاول فيه الجميع اتهام "هنرييت" باللاأخلاقية وكافة الصفات الذميمة باعتبارها مجبولة على الرذيلة بما أنها استطاعت هجر زوجها وبنتيها من أجل رجل لم يمر على تعارفهما أكثر من أربع وعشرون ساعة، لكن رغم محاولة الجميع اتهامها بالرذيلة واتخاذ الموقف الأخلاقي ضدها كان الراوي هو الوحيد في جلسة النقاش الذي يلتمس لها العذر ولا يرى في فعلها ما يمكن أن يشين: "من جانبي، أعتقد أن امرأة تتبع غريزتها بحرية وشغف أشرف من تلك التي تختار- كما جرت العادة- أن تخون زوجها عبر إغماض عينيها وهي بين أحضانه"، هنا وبسبب هذا الرأي من الراوي كانت أحداث الرواية التي تشكلت بمجرد الإعلان عن رأيه في السيدة "هنرييت".
تدخلت السيدة "س" الإنجليزية التي التزمت الصمت منذ بداية النقاش وبدأت تتناقش مع الراوي في وجهة نظره باهتمام بيّن، وكأن الأمر يخصها هي: "إذن أنت لا ترى أنه من الحقير والمشين أن تتخلى امرأة عن زوجها وأبنائها كي تتبع رجلا- كائنا من كان- وهي لا تعرف بعد إذا ما كان جديرا بحبها؟ هل تستطيع فعلا أن تُبرئ سلوكا بهذه الخطورة وهذا الطيش لدى امرأة لا تُعد من الفتيات الصغيرات، أليس من الضروري لها أن تعمل على احترام نفسها إكراما لأطفالها؟"، ثم لا تلبث أن تسأله: "أما تزال تكن لها التقدير نفسه والاحترام ذاته إلى الآن؟ ألا تفرق بين المرأة الشريفة التي كانت معنا أول أمس، والمرأة الأخرى التي هربت أمس مع رجل غريب عنها كليا؟"، وغير ذلك من الأسئلة الكثيرة الدقيقة التي لابد أن تثير تساؤلات القارئ نفسه عن سبب هذه الأسئلة المهمة والدقيقة.
هذه التفاصيل تُثير في نفس القارئ العديد من التساؤلات والاستنتاجات والتوقعات لاسيما حينما نعرف أن السيدة "س" الستينية العمر ستعمل فيما بعد على لقاء الراوي مساء في غرفتها الخاصة من دون علم الجميع، وستحرص على أن تطلب منه ألا يعلم أحد بلقائهما في غرفتها؛ مما يفتح أفق التوقعات لدى القارئ، ولعل براعة المؤلف في التشويق السردي هنا تكمن في اعتماده على هذه التفاصيل التي تعمل على تعطيل السرد وإيضاحه في نفس الوقت، مما يجعل القارئ مشدودا إلى الحكي للنهاية، فهو لا يعطينا الحقيقة دفعة واحدة؛ مما يجعلنا متشبثين بالسرد دائما.
صحيح أن القارئ غير المتمرس قد يظن لهنيهة أن هذه التفاصيل تدعو إلى الملل، لكنها كانت من الأهمية لوصف الحالة المقبلة على سردها السيدة "س" إلى حد كبير؛ فنحن نتوقع أن ثمة مغامرة جنسية ستخوضها السيدة "س" وهو ما ستسرده فيما بعد، لكن الروائي كان حريصا على عدم التصريح بها بشكل مباشر، بل يعتمد على التفاصيل التي أدت إلى مثل هذه المغامرة؛ مما يجعل القارئ فيما بعد متعاطفا كثيرا معها، معضدا لها فيما ذهبت إليه.
تحكي السيدة "س" للراوي عن شبابها، وكيف أنها كانت من أسرة إنجليزية موسرة، كما تزوجت شابا من طبقتها الاجتماعية ورزقا بطفلين، وكيف كانا يقضيان حياتهما في الكثير من الرحلات السعيدة إلى أن ترملت في الأربعين من عمرها. حينها شعرت أن الحياة قد انتهت تماما، وبما أن ابنيها قد كبرا فلقد أرادت أن تبتعد عنهما لفترة حتى لا تصيبهما بالاكتئاب والحزن الذي تشعر به، ومن ثم سافرت إلى مونت كارلو للانفراد بنفسها رغم أن كل مكان كانت تذهب إليه كان يذكرها بزوجها الراحل، حتى صالات المقامرة التي كان زوجها أحيانا ما يذهب إليها كانت تذكرها به. كانت السيدة "س" قد تعلمت من زوجها مراقبة أيدي اللاعبين في صالات القمار؛ فاليد هي الوحيدة التي تكشف ارتباك الآخرين، وبالفعل كانت تراقب أيدي الجميع باعتبارها شكلا من أشكال اللعب والتسلية. هذا ما دار في ذهنها حينما ذهبت هذه المرة وحدها، وهو ما جعلها تقضي وقتها في مراقبة أيدي اللاعبين. تقول السيدة "س" في وصف تفصيلي: "في ذلك المساء إذن، عند دخولي إلى الكازينو وبعد مروري أمام طاولتين مزدحمتين جدا واقترابي من الثالثة، في اللحظة التي كنت أهيئ فيها ثلاث قطع ذهبية ، سمعت بتعجب، في تلك اللحظة من الصمت المطبق الذي يسوده التوتر، وهو ما يحصل دائما عندما تكون الكرة المستديرة غير مستقرة بعد، وهي تتذبذب بين رقمين فقط، سمعت قبالتي بالضبط ضجيجا متميزا، صريرا وفرقعة، كما لو كانت مفاصل عظمية بصدد التكسر، فنظرت دون شعور إلى جهة الطاولة الأخرى. وهلعت لما رأيته حقا، فقد شاهدت يدين لم يسبق لهما مثيل على الإطلاق، يدا يمنى ويدا يسرى وقد تعالقت الواحدة منهما بالأخرى تعالق حيوانين في صراع محموم بطريقة فيها من الشراسة والتشنج ما يجعل مفاصل أصابع اليد تطقطق بصوت جاف كذلك الصادر عن جوزة عند كسرها. كانتا يدين نادرتي الجمال، طويلتين، ونحيفتين على نحو خارق، ومع ذلك فإنهما متصلبتان يغمرهما بياض شديد، وفي طرفيهما أظفار لؤلؤية رقيقة الاستدارة. وهكذا قضيت كامل السهرة وأنا أنظر إلى هاتين اليدين المتميزتين الفريدتين، أنظر إليهما بتعجب متجدد. لكن ما أذهلني بشكل مرعب هو اضطرابهما، تعبيرهما الهائم بجنون، هذه الطريقة المتشنجة في تعالقهما وتصارعهما، وهنا فهمت في الحال أنه كان رجلا يطفح بالقوة، تلك القوة التي تُكثف كل شعوره في أطراف أصابعه كي لا تُفجّر كيانه بأسره".
هذه التفاصيل الدقيقة التي قد تبدو أنها معطلة للسرد الروائي للوهلة الأولى لا يمكن أن يتخلى الروائي عنها في روايته؛ لأنها من الأهمية بمكان للتأسيس للحدث الروائي الذي يريد الدخول فيه؛ فمن خلال هذه التفاصيل السردية الدقيقة سنعرف السبب في هذه المغامرة التي ستدخلها السيدة "س"، وسنتعاطف معها كثيرا، ونتمنى لها أن تستكمل مغامراتها التي لن تكتمل.
يحرص زفايغ على الحديث عن هذا الشاب وحركات يديه في مقاطع سردية طويلة؛ حيث ستكون هذه المراقبة هي السبب الأساس في الحدث الرئيس من السرد: "دام هذا التناوب، وهذا الانتقال المتلجلج من الخسارة إلى الربح ومن الربح إلى الخسارة، زهاء ساعة بلا توقف، ساعة كاملة أو تكاد، لم تنقطع خلالها نظراتي المفتونة لحظة واحدة عن ذلك الوجه المتحول، الوجه الذي كان يمر في حركة مد وجزر بكل أشكال الانفعال، ولم تفارق عيناي تينك اليدين السحريتين، فكل عضلة منهما تعكس الاندفاع الجامح نزولا وصعودا على طريقة نافورة مياة". ربما كانت هذه المراقبة الدقيقة عن كثب لهاتين اليدين وهذا الشاب بين تقلبات الفوز والخسارة هي أهم ما في السرد؛ لأنه من خلال هذا التأمل ستدرك السيدة "س" بعد خسارة هذا الشاب الذي يكاد يبلغ عمر ابنيها أنه سيتجه بعد خسارته إلى الانتحار بسبب هذه الخسارة؛ وهو ما سيجعلها تندفع خلفه مراقبة حينما يغادر الكازينو في محاولة منها لإنقاذه من ظنها في أنه سيقبل على الانتحار: "أمام هذا المشهد وجدتني متحجرة من فرط الذهول، لأنني فهمت في الحال إلى أين كان يمضي ذلك الرجل: إلى حتفه. شخص ينهض بتلك الطريقة لن يقصد بالتأكيد نزلا أو ملهى ليليا، أو امرأة، أو مقصورة في قطار، ولا أي مظهر من مظاهر الحياة، إنما كان يندفع مباشرة إلى العدم. بل إن أي إنسان عديم الإحساس في تلك القاعة الجهنمية، كان سيعرف بالضرورة أن هذا الكائن لم يعد له أي سند، لا بنك، ولا بيت، ولا عائلة. لقد قامر هنا بكل ما بقى لديه من مال، بل بحياته كلها، ولم يبق له الآن سوى أن يجر خطواته المترنحة بعيدا، إلى أي مكان كان، ولكن بالتأكيد خارج الحياة".
هذا الظن التفصيلي والتوقعات من قبل السيدة "س" هو ما سنراه فعليا فيما بعد؛ مما سيجعلها مراقبة له، لصيقة به، تذهب خلفه أينما ذهب في محاولة منها لإنقاذ شاب في مقتبل العمر وفي عمر ابنيها: "لا يمكن تصور مشهد أكثر مدعاة للرثاء من مظهر شاب لم يتجاوز الأربع والعشرين سنة، وهو يجر نفسه بإعياء عجوز، من المدرج نحو الباحة ويترنح كثمل محطم الأطراف. لقد ترك جسده المثقل يهوي على أحد المقاعد الخشبية مثل كيس، وهذا ما جعلني أرتعد وأحس، ثانية، ببلوغه آخر المطاف. فلا يسقط بهذه الطريقة إلا ميت أو شخص فقد كل عضلاته الحية: كان رأسه يرتخي إلى الوراء على مسند المقعد، ويداه تتدليان إلى الأرض جامدتين".
هنا تراقب السيدة "س" لهذا الشاب خوفا من أن ينتحر، ورغم أن السماء ترعد وتهطل المطر الغزير إلا أنه لا يتحرك من مكانه ويظل في هيئته التي تشبه الميت؛ مما يجعلها تجذبه من ذراعه للاحتماء من المطر وتعطيه مالا كي يقضي ليلته في نزل ما، على أن يقابلها في اليوم التالي وتوصله إلى القطار كي يعود إلى مدينته وأسرته، لكنها حينما تصل به إلى النزل وتدق جرس الباب تُفاجأ به يتشبث بذراعها ويجذبها معه. هنا تحاول السيدة "س" أن تبرر الأسباب وتوضحها للراوي الذي يستمع إليها قائلة: " طيب، أرجو الآن، وقد سردت لك الجزء الأصعب، أن تصدقني حين أؤكد لك مرة أخرى، وأقسم لك بكل مقدس عندي وبشرفي وبحياة أولادي، أن.. أن فكرة إقامة علاقة مع ذلك الغريب لم تخامرني قط إلى حد تلك اللحظة، وإني كنت مسلوبة الإرادة حقا، فوقعت في هذا الموقف دون وعي، كأن فخا نُصب لي وسط طريق حياتي المستقيم".
رغم أن السيدة "س" ستتورط في علاقة جنسية مع هذا الشاب في هذه الليلة، وهو ما ستكتشفه حينما تصحو في اليوم التالي، لكنها ستحاول التماسك للهروب من هذا الموقف اللاأخلاقي بالنسبة لها، وتطلب منه أن يقابلها مساء في محطة القطار كي تقطع له تذكرة توصله إلى مدينته مرة أخرى وتطمئن أنه لن ينتحر وسيعود إلى حياته، كما أنها تقضي معه اليوم في التنزه في وتجعله يقسم في الكنيسة حينما تلمح شيئا من تدينه أنه لن يعود إلى المقامرة مرة أخرى، لكنه حينما ذهب إليها في النزل الخاص بها يعترف لها أنه من عائلة موسرة ونبيلة وأنه يتم إعداده ليكون دبلوماسيا وسفيرا للنمسا لكنه أدمن لعب القمار؛ الأمر الذي جعله ينفق كل أمواله بل ويسرق حليتين ذهبيتين تخصان عمته ويعمل على رهنهما من أجل لعب القمار. هنا تعطيه السيدة "س" مبلغا كبيرا من المال كي يستعيد الحلي الذهبية مرة أخرى، ويسافر من خلال القطار إلى أسرته، وتتفق معه أن تراه في محطة القطار في السابعة قبل أن يرحل لتوديعه فيذهب لإعداد نفسه، هنا تقول السيدة "س" في اهتمام كبير بالتفاصيل: "إن ما آلمني كثيرا، هي الخيبة.. الخيبة.. لأن هذا الرجل رحل طائعا، دون أي محاولة للتشبث بي، أو للبقاء إلى جانبي.. لأنه استجاب بلطف واحترام لأول دعوة مني إلى الانصراف، بدل.. بدل أن يحاول جذبي إليه بعنف.. ولأنه يُجلني فحسب، كقديسة ظهرت في طريقه.. ولأنه.. لأنه لم يشعر بأني امرأة. كانت خيبة بالنسبة إليّ، خيبة لم أعترف بها، لا في ذلك الحين ولا بعده، لكن إحساس المرأة يعلم كل شيء دون كلام، ودون وعي دقيق. لأنني.. الآن، لن أخدع نفسي مجددا، لو تشبث بي ذلك الرجل حينها، لو طلب مني اللحاق به، لذهبت معه إلى أقاصي العالم، ولطخت شرفي وشرف أولادي. ولهربت معه، غير عابئة بأقاويل الناس ولا بضميري، مثلما فعلت تلك السيدة "هنرييت" مع الشاب الفرنسي الذي لم تكن تعرفه قبل يوم من هروبهما. وما كنت لأسأل إلى أين أو إلى متى، ولا لألقي نظرة واحدة خلفي، على حياتي الماضية. ولضحيت من أجل هذا الرجل بمالي، وباسمي، وبثروتي، وبشرفي.. ولتسولت من أجله، ولعلي ما تورعت عن قبول أي دناءة في العالم يجرني إليها. ولكنت لفظت جميع ما يُسمى في المجتمع عفة واحتشاما، لو تقدم نحوي فحسب، وقال كلمة واحدة، لو تقدم خطوة واحدة، لو حاول أن يحضنني، لكنت في تلك اللحظة ضائعة ومرتبطة به إلى الأبد".
الروائي النمساوي ستيفان زيفايغ
هنا تبدأ- ومن خلال التفاصيل الدقيقة أيضا- هذه المغامرة تأخذ منحى آخر تماما لم يكن متوقعا؛ فالسيدة "س" تفكر أن ترحل معه، فهي لن تذهب في السابعة إلى محطة القطارات من أجل توديعه كما اتفقا، بل سترحل معه أينما ذهب وستعيش معه للأبد، وبالفعل تحزم حقائبها للاتجاه إلى محطة القطارات واللحاق به، ولعلنا هنا نلحظ التأثر الكبير من الروائي زفايغ في هذه الفترة المبكرة بالفن السينمائي الذي يعتمد على التشويق الكبير، ومن ثم يتحول السرد إلى سرد لاهث يحمل داخله الكثير من الانتظار والتساؤل عما إذا كانت ستلحقه وتذهب معه أم لا، كما يحدث في السينما تماما، أي أن السرد سيؤدي بالقارئ أيضا وبشكل فعلي إلى لهاث أنفاسه وتلاحقها والتماهي مع السيدة "س" من أجل اللحاق بحبيبها الذي هو على وشك المغادرة.
لعل هذا الانتطار والتشويق اللاهث يسرده زفايغ أيضا من خلال اهتمامه الجم بالتفاصيل السردية حينما نقرأ: "حمل عامل التوصيل حقائبي، وأسرعت إلى مكتب النزل لدفع حسابي. وما إن أعاد المدير لي الباقي، حتى كنت مستعدة للمغادرة، حينها لمستْ يدٌ كتفي برقة، فانتفضتُ، إنها قريبتي وقد قلقت لوعكتي الصحية المزعومة فأتت لتطمئن عليّ. اسودت الدنيا في عيني، ولم أعرف كيف أتصرف معها، فكل ثانية مهدورة تعني تأخيرا قاتلا، لكن الأدب حتم عليّ الاستماع إليها وإجابتها ولو للحظة. "يجب أن تنامي"- قال بإلحاح- "فالأكيد أنك تعانين من الحمى". كان ذلك واردا جدا، فقد كنتُ أحس بصدغيّ ينبضان بعنف شديد، وكانت تلك الأطياف الزرقاء التي تنبئ بإغماء موشك، تظهر أحيانا أمام عيني، لكني اعترضتُ، وأجهدتُ نفسي لأبدو ممتنة، في حين كانت تحرقني كل كلمة، وكنت أود قذف ذلك الاهتمام، الذي جاء في غير أوانه، بركلة من قدمي. لكن القريبة غير المرغوب فيها بقيت، وبقيت، وأطالت البقاء. قدمت لي ماء الكولونيا، وأرادت أن تفرك صدغيّ بنفسها، بينما كنت أعد الدقائق، وكان ذلك الشاب يحتل تفكيري، وقد بحثت عن ذريعة ما لأفلت من هذه العناية المعذبة. وكلما ازداد قلقي كلما تأكدت لديها شبهة مرضي، وأرادت في النهاية أن تجبرني، بشبه غلظة، على الذهاب إلى غرفتي والخلود إلى النوم. وفي غمرة هذه المواعظ، نظرت فجأة، إلى الساعة الحائطية التي تتوسط البهو: كانت تشير إلى السابعة وثمان وعشرين دقيقة بينما ينطلق القطار في السابعة وخمس وثلاثين دقيقة. وفي لمح البصر، وباللامبالاة الفظة لامرأة يائسة، مددت يدي بغتة إلى قريبتي، وقلت دون أن أضيف أي تفسير: وداعا، يجب أن أغادر"، من خلال هذا المقطع التفصيلي يتضح لنا ما ذهبنا إليه في أن الروائي كان ذكيا في أن يجعل الأحداث شديدة التشويق بالنسبة للقارئ، لاهثة كأنفاسه؛ فالقارئ نفسه يرغب في أن تتخلص السيدة "س" من قريبتها من أجل اللحاق بالرجل الذي أحبته، وهذا ما يؤكد البراعة السردية لدى زفايغ.
لكن السيدة "س" لا تستطيع اللحاق بالقطار ومن ثم تعود كاسفة محاولة أن تذهب إلى نفس الأماكن التي رأته فيها لتستعيد اللحظات التي مرت بها في الساعات القليلة الماضية والتي لم تمر عليها أربع وعشرون ساعة بعد، وبالفعل تذهب إلى صالة القمار التي رأته فيها للمرة الأولى محاولة تخيله بينما يجلس إلى منضدة القمار يلعب: "لم يكن ما فعلته بعد ذلك سوى عبث أيضا، كان جنونا، بل حماقة، أكاد أن أخجل من روايتها، لكني وعدتُ نفسي ووعدتك بألا أخفي شيئا: لقد كنت أسعى إلى العثور عليه مجددا.. أقصد أنني حاولت استحضار كل لحظة قضيتها معه.. كنت منجذبة بعنف إلى جميع الأماكن التي كنا فيها البارحة معا، كنت منجذبة إلى المقعد الخشبي للحديقة العمومية حيث جررته، وإلى قاعة القمار حيث رأيته لأول مرة، وحتى إلى ذلك النزل المشبوه، لا لشيء سوى أن أعيش الماضي مرة أخرى. وكنت أريد في اليوم التالي أن أتجول بالعربة في الطريق نفسه، المحاذي "للكورنيش" حتى يتسنى لكل كلمة ولكل حركة، أن تنبعث فيّ من جديد"، لكن رغم هذا الشغف في استعادة كل لحظة قضتها معه إلا أنها تنقلب فجأة إلى كابوس حينما تذهب إلى كازينو القمار فتراه جالسا إلى نفس المنضدة مقامرا بالنقود التي أعطتها له بينما لا يدري بكل ما يدور حوله: "دخلتُ إذن، وعبرتُ الصالة مباشرة، وهناك.. حين التفتُ إلى ذلك الحشد الصاخب.. بعد أن اجتزت الباب، حدث شيء فريد.. هناك في المكان الذي تصورته، هناك، كان جالسا (هلوسات الحمى).. هو ذاته، هو شخصيا.. هو.. هو.. تماما كما رأيته لتوي وأنا أحلم.. تماما مثلما كان بالأمس، العينان مثبتتان على الكويرة، والوجه ممتقع كشبح.. لكنه هو.. هو.. هو بلا ريب. كنت على وشك الصراخ لشدة فزعي. لكني سيطرت على ذعري أمام هذا المشهد غير المعقول وأغمضت عينيّ".
حاولت السيدة "س" استيعاب الصدمة، بل حاولت أن تستعيده من غيبوبة القمار التي يذهب إليها حينما يجلس على منضدته، لكنه يدفعها ويهينها أمام الجميع وكأنه شخص آخر لا تعرفه ويسبها متهما إياها بأنها تنحسه حينما تتواجد وهو يلعب: "اغربي عن وجهي- صرخ بصوت قوي ودون أي احتراس- لست وصية عليّ.. ها هو.. ها هو.. ها هو مالك- ورمى إليّ ببعض الورقات من فئة المائة فرنك- أما الآن فدعيني وشأني. قال ذلك صارخا بقوة، مثل مجنون، دون أن يكترث إلى وجود مئات الأشخاص من حوله، كان كل الناس ينظرون، ويتهامسون، ويلمّحون إلى أشياء ويضحكون، حتى أن فضوليين كُثرا قد التحقوا من الصالة المجاورة. فأحسست كأن ثيابي قد خُلعت عني، وأنني عارية هنا، أمام هؤلاء الفضوليين".
هنا يبرع ستيفان زفايغ في تحويل كل مشاعر الحب التي وصفتها السيدة "س" بشيء غير قليل من التفاصيل إلى مشاعر كراهية حينما تقول: "تعافيتُ، شيئا فشيئا، من الصدمة التي شهدتها، وبعد سنوات، قابلتُ ملحق المفوضية الدبلوماسية للنمسا في اجتماع، وكان شابا بولونيا، ولما طرحت سؤالا عن عائلته، أجابني بأن أحد أبناء عمه تحديدا، قد انتحر قبل عشر سنوات في "مونتي كارلو"، فلم يرجف لي جفن، ولم يؤلمني ذلك تقريبا: ولعل هذا الخبر (لماذا يُنكر المرء أنانيته) أراحني، لأنه أزال بتلك الطريقة كل خطر من فرضية لقائه مرة أخرى. ولم يعد ثمة شاهد ضدي غير ذكرياتي الخاصة. لقد صرتُ أكثر هدوء منذ ذلك الحين. فأن يهرم المرء ليس – في الحقيقة- سوى أن يتوقف عن الخوف من ماضيه".
هكذا يتبين لنا أن ستيفان زفايغ كان بارعا في التفاصيل التي يسردها؛ لأنه لولا التفاصيل الدقيقة والصغيرة لكل شيء لما كان استطاع كتابة هذه الرواية التي تعتمد على حدث صغير جرى لامرأة ذات يوم، لكنه كان حياة كاملة بالنسبة لها، ولعله لولا العراك الأخلاقي في بداية الرواية لما كانت السيدة "س" قد أقدمت على رواية حكايتها للراوي؛ فلقد أقدمت على ذلك حينما رأت أنه لا يتخذ موقفا أخلاقيا من السيدة "هنرييت" التي كانت شبيهة بها إلى حد ما حينما ضحت بحياتها وزوجها، وأولادها من أجل شاب يعد أربع وعشرون ساعة فقط من معرفته.
كما نلاحظ مدى استفادة زفايغ من السينما حينما كان يقطع كثيرا من السرد الذي نكاد أن نراه لماضي السيدة "س" كي تتحدث وتعلق مع الراوي الجالس معها في غرفتها ثم تعاود السرد مرة أخرى بالعودة إلى الماضي من خلال تقنية "الفلاش باك" Flash Back، مما يدلل على أن زفايغ استفاد كثيرا من تقنية السينما في كتابة روايته.



محمود الغيطاني

مجلة الثقافة الجديدة
عدد إبريل 2019م

هناك تعليق واحد:

  1. قراءة جيدة في الرواية ، لكن كم كنت أود أن تعلق على الترجمة أو عن صاحبها

    ردحذف