السبت، 6 أبريل 2019

الحي السفلي.. السلطة كوسيلة للفساد

حينما حدث الانقلاب العسكري المصري على الحكم الملكي عام 1952م، اشتغلت الآلة الإعلامية على التكريس لهذا الانقلاب باعتباره ثورة شعبية قام بها الشعب من أجل التخلص من الحكم الملكي، رغم أنها في حقيقة أمرها- كما يُثبت التاريخ- كانت من تخطيط مجموعة من الضباط في الجيش، ولم يقم بها سوى العسكر من أبناء الجيش المصري.
لكن، هل معنى هذا، أننا من الممكن أن نُقلل من شأن هذا الانقلاب؟
في الحقيقة أن المبادئ التي قام عليها هذا الانقلاب كانت من العمق والأهمية اللذين يجعلان منه أمرا مهما في مصلحة الوطن والمواطن؛ وهو ما دفع الجماهير الشعبية إلى الالتفاف حوله؛ نظرا لأنه لا يبتغي سوى مصلحة المواطن في نهاية الأمر، لكننا سرعان ما وجدنا ما أطلقنا عليه- مجازا- ثورة، تنقلب على ذاتها، وتبدأ مبررات وبذور فسادها تنمو من داخلها؛ ومن ثم رأينا على مر التاريخ الحديث الكثير جدا من الفساد الذي كان يتم على مرأى ومسمع الجميع باسم الوطن، ومصلحة هذا الوطن. إذا ما نظرنا إلى السينما مثلا سنجد أنه قد تم حشد كل الجهود السينمائية والإنتاج من أجل صناعة أفلام تعمل على الترويج للثورة المجيدة، سواء عن حق أو غير وجه حق، كذلك رأينا تاريخا من الاعتقالات بالجملة للمثقفين والمناوئين للسياسة التي اتبعتها السلطة آنذاك، ولعل الكثير من الإعدامات، وقتل المعتقلين الذين لا ذنب لهم داخل المعتقلات خير شاهد على ذلك، مثلما حدث مع شهدي عطية مثلا، ناهيك عن الكثير من الفساد الذي صورته السينما فيما بعد مثل "وراء الشمس" للمخرج محمد راضي 1978م عن رواية للروائي حسن محسب، و"الكرنك" للمخرج على بدرخان 1975م عن قصة لنجيب محفوظ، و"فيلم البرئ" للمخرج عاطف الطيب 1986م، و"المذنبون" للمخرج سعيد مرزوق 1975م عن قصة لنجيب محفوظ، وغيرها من الروايات الأدبية المصرية التي تُدلل على حالة الفساد الذي استشرى في مصر باسم مصلحة الوطن والمواطن، التي كان منها رواية "ثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ، والتي كانت نتاج هذه الثورة التي حدثت من أجل إنهاء فساد العهد الملكي.
ربما كان ما حدث في مصر بعد الثورة، هو تماما ما حدث في الجزائر بعد الحرب التحريرية، وبداية تمكن ممثلي هذه الثورة من السلطة السياسية بعد التحرر من الاستيطان الفرنسي؛ ومن ثم بدأ النظام السياسي الذي كان نقيا في بدايته ينتج آليات فساده، وتكميم وقتل كل من يناوئه ويخرج من دائرته، إما بالاغتيالات، أو بالاعتقال والتعذيب الذي ينتهي إلى الموت في نهاية الأمر، وإن كان الاختلاف الطفيف بين مصر والجزائر في هذه التجربة أن الروائيين الذين تناولوا هذا الفساد وآليات إنتاجه كانوا أقل من نظيرهم في مصر، ولكن لعلنا نتذكر رواية "لعبة السعادة" للروائي الجزائري بشير مفتي التي تصور كيفية إنتاج وابتكار الفساد في الجزائر باسم أبناء ورموز الثورة التحريرية.
فساد السلطة السياسية، هو ما يريد الروائي الجزائري عبد الوهاب بن منصور الحديث عنه في روايته "الحي السفلي"، وإن لم يتوقف عندها فقط، بل تحدث كذلك عن السلطة الدينية الجاهلة التي تُعد مفسدة لا تقل ضراوة عن السياسة، وهو ما سبق أن رأيناه بتركيز أكبر في روايته "قضاة الشرف" التي رأى فيها أن السلطة الدينية من الممكن لها أن تكون مدمرة لحياة الجميع عند استغلالها. هنا يعود بن منصور للحديث عن السلطة الدينية وإن كان يعمل على التركيز على فساد السلطة السياسية التي تنتقم وتعمل على التنكيل وتصفية كل من يختلف معها ولا يسير في ركابها، رغم أن رموز هذه السلطة هم أنفسهم من سبق أن قادوا الثورة التحريرية وكان لهم الكثير من المكانة في نفوس الشعب الجزائري.
ربما كان أهم ما نلحظه عند بن منصور في رواية "الحي السفلي" أن الرواية تسير في خطين متوازيين؛ فتتم روايتها من خلال راو واحد ولكن في زمنين مختلفين- الزمن الماضي، والزمن الآني- إلى أن يلتقي الخطان في النهاية لتكون تتمة الرواية، أي أن الروائي يستفيد كثيرا من تقنيات السينما التي تسير في مجموعة من الخطوط المتوازية إلى أن تلتقي وتتشابك في النهاية عند ختام العمل الفني؛ فهناك الخط الروائي للراوي وهو طفل صغير يرى أمه تموت أمام عينيه بوباء الكوليرا، بينما يتم الحجر عليه هو وجدته وأهل الحي الصفيح بأكملهم في بيوتهم تخوفا من نقل العدوى، بدلا من العمل على إنقاذهم وعلاجهم من قبل الدولة، بينما نرى في الخط الروائي الثاني نفس الراوي وهو شاب وقد تم اعتقاله من قبل "المكتب الثاني"، أي المخابرات بينما يتفننون في تعذيبه؛ بسبب أنه أقدم على الانتحار في نفس يوم التحرر الوطني للجزائر؛ الأمر الذي رأوا فيه إهانة للنظام، وأنه مؤامرة سياسية لابد من معرفة أطرافها، من أجل انتزاع اعترافات كاذبة وملفقة لا يعرف عنها شيئا. هنا تبدو لنا الأزمة الحقيقية في الرواية التي تفضح الكثير من الفساد السياسي، وكيفية اغتيال الكثيرين من المختلفين مع النظام من قبل النظام نفسه، حتى أنهم يقدمون على تصفية أبناء النظام نفسه ممن يحاولون أن يعتزلوا هذا العمل كما فعلوا مع "العربي المونشو" الذي كان ابنا بارا لهذا النظام الفاسد، والذي سبق أن قام بالكثير جدا من عمليات التعذيب حتى الموت للعديد من المواطنين المعتقلين، لكنه حينما رغب في ترك هذا الأمر، ورغم أنه من المجاهدين الوطنيين الذين كان لهم تاريخ؛ فلقد عملت الآلة الإعلامية للنظام على تشويهه باعتباره عميلا ومتعاونا ضد النظام في الوقت الذي كان معتقلا في سجون هذا النظام يتم التفنن في تعذيبه، حتى أنه فقد يده بسبب جرح أثناء التعذيب لم يتم الاهتمام به بينما هو مصاب بالسكر.
إذن فكل من يتماس مع هذا النظام الفاسد سواء من الداخل أو الخارج لابد من تشويهه وتصفيته باعتباره عدو وعميل للوطن، وهذا ما نراه حينما يحكي "العربي المونشو" ابن النظام للراوي أحمد القط: "أوامر عليا جاءت باغتيالي رمزيا بدل اغتيالي جسديا، وهو ما يعني أن مكوثي سيطول، وربما سأُنسى في إحدى الغرف المظلمة، إلى أن يتم تشويه صورتي وامتصاصها من كل عمل للوطن أو حُبه. لقد استكثروا في الموت! الموت محافظا على كل تاريخي! بعد ثلاث سنوات وحين أُطلق سراحي لم أجد نفسي التي أعرف! لقد صرت شخصا آخر! شخصا باع نفسه ووطنه وكل شيء لعدو خارجي! حتى كدت أنا شخصيا أن أصدق ذلك! والمؤلم أني خرجت بيد مقطوعة، بعد أن تعفنت جراء جرح، بدا في الأول بسيطا، لكن في ظل الإهمال الذي عانيته لمرض السكري؛ فقد استأصلوا يدي ليزيدوا من ضعفي وعجزي"، إذن فالشخص يظل وطنيا ما دام داخل المنظومة الفاسدة للنظام، وفي هذه الحالة هو بطل يعمل من أجل مصلحة الوطن حتى لو كان يُعذب مواطنين لا ذنب لهم، أو يعمل على تصفيتهم جسديا، أما إذا ما خرج من هذه المنظومة فهو فاسد ومشوه وعميل لجهات أخرى، ولابد من مسح صورته النقية من أذهان الجميع، ولابد أن يذوق ما سبق أن فعله في غيره من المواطنين: "دام الاستنطاق ثلاثة أيام متواصلة، ثم لجأوا إلى تعذيبي بتلذذ. أعرف التعذيب وطرائقه. ألم أكن فاعلا ومبدعا له! لكني لم أعرف حجم الألم والدمار الذي يسببه للإنسان إلا بعد أن ذقته! لا أنكر أن آلامي كانت تتضاعف كلما تذكرت أولئك الأشخاص، الذين مروا بهذه الزنزانة وأشرفت أو اطلعت على تربيتهم (كما كان يحلو لنا تسمية تعذيبهم). كنت أعلم أن كل هذا سينتهي برصاصة في الرأس، أو جثة هامدة في سيارة بعد حادث مرور مُفتعل". هنا نلاحظ أن حكي "العربي المونشو" للراوي أحمد القط هو بمثابة الاعتراف الخطير على هذا النظام المجرم وطرائق التخلص ممن يعارضونه مهما كانت وطنيتهم، سواء من داخل هذا النظام أو خارجه، وهو ما حدث للراوي نفسه من تعذيب لا يمكن تخيله لمجرد أنه حاول الانتحار في اليوم الوطني للجزائر، كما أنه كان يرفض إزالة الحي الصفيح الذي نشأ فيه، حيث كانت السلطة الفاسدة ترغب في إزالته من أجل مجموعة من رجال المال الفاسدين راغبين في تشريد أهل الحي من دون توفير أماكن جديدة لهم.
تكمن الجريمة المضحكة والمثيرة للسخرية التي تم توجيهها لأحمد القط في أنها مؤامرة على الجزائر نتيجة لمحاولته الانتحار في يوم الاستقلال الوطني: "عند مجيء الليل، وأنا على سريري أفكر محاصرا ذهني في يوم انتحاري. عليّ أن أجد جوابا مقنعا لاختياري ذاك اليوم. كان من الممكن أن يكون الأمر جيدا ومريحا لي، لكنه صار أمرا سيئا. أسوأ مما تخيلت. فقط، لأن محاولتي فشلت. ماذا سيتغير أن نموت أو ننتحر في يوم يصادف تاريخه يوم عيد استقلال الوطن، وقد مر عليه عشرون سنة، أو في غيره؟ لم أعتقد أني الشخص الذي يهتم به الآخرون ليكون يوم انتحاري يوما ذا شأن! أواجه الأمر بسخرية تامة داخلي. السخرية من شيء لم أضعه في الحسبان. السخرية من تبرير ما لا يُبرر تبريرا مقنعا"؛ لذلك فهو لا يعرف ما هي الجريمة التي يرغبون منه الاعتراف بها وإن كان- من أثر التعذيب المستمر- على استعداد للاعترف لهم بما يرغبونه: "لاجئا إلى الصمت، ليس اختيارا إنما مضطرا؛ لأن الحقيقة التي يبحثون عنها، ليست عندي. الحقيقة التي عندي لا تقنعهم. عليّ أن أصمت حتى يتفوهوا بها، يملونها عليّ، حينذاك سأعترف بها. لا يهمني الاعتراف ولو كذبا، بما أن اعترافي قد صدر وتقرر قبل بداية الاستجواب. تقاريرهم مكتوبة لا تنتظر صمتي أو موافقتي. ليس بمقدوري أن أغير من الأمر شيئا، فقط أبحث عن تخفيف ألمي. ولست متأكدا من ذلك؛ لأنهم كلما وصلوا لشيء بحثوا عن آخر. إنها طريقتهم في خلق الأعداء"!
هذه الطريقة البشعة في التخلص ممن يعارضهم يؤكد عليها الروائي حينما يقول أحمد القط: "أدرك أن لا شيء وراءهم غير تلك الحقيقة التي يبحثون عنها. الحقيقة التي تجعلهم أبطالا. الحقيقة التي لا تُنتزع إلا في أقصى عتبات الألم. لذلك فأنا مضطر أن أصمت. فالكلام الآن، في حالتي هذه، وأنا لم أصل بعد إلى أدنى درجات الألم، لا حاجة لهم به. إنهم لا يسمعون إلا ما يرغبون في سماعه. "عليك أن تعرف أنك شخص مريض. مجنون حاول الانتحار، وقمنا بنقله إلى المستشفى للعلاج لكنه هرب، ولا أحد يعرف إلى أين ذهب"، يصمت. يتمشى قليلا. أسمع وقع حوافره. فيباغتني الآخر من خلفي: "إننا نقول لك ذلك لتعرف وتقدر ما أنت فيه"، "هذا يعني أنه بعد أن نُنهك جسدك، سيجدونك في مكان ما ميتا لأنك انتحرت"، يقول الآخر بصوته الصارم دائما كأنه يلقي خطبة. فيضيف الصوت من خلفي هازئا: "بإمكانك أن تقول لنا في أي مكان تحب أن نرمي جثتك. سنعمل على تنفيذ وصيتك"! إذن فحتى التخلص من مناوئي النظام لا يمكن أن يتم إلا بعد التعذيب والتلذذ بذلك؛ لتأتي تصفيته في نهاية الأمر، أي أن التنكيل بالمواطن، وليست الحقائق، هو الهدف.
هذا التلذذ بالتعذيب وكأنه متعة لا يمكن أن تضاهيها متعة تجعلنا نتساءل: لم يفعلون ذلك؟ وهو ما تساءله القط نفسه: "أجدني مضطرا للتفكير بهم. أتخيلهم مكاني. ينتظرون ما أنتظر. لكن سرعان ما يتلاشى التفكير في دوامة السؤال: هل هم بشر مثلي؟ سؤال من السهل الإجابة عليه. وبداخلي أقتنع أنهم كذلك، لكني أفشل في إيجاد تبريرات لما يفعلون. ليس بمقدوري أن أتخيل إنسانا يتلذذ بتعذيب إنسان آخر. يبتهج حين يتألم الآخر، حتى وإن كان ذلك بدافع البحث عن الحقيقة. الحقيقة المهملة بعيدا وخارج آلام الجسد. من تجربتي السابقة معهم، تيقنت أن لا حد للعذاب ولا حد للألم عندهم. لا فرق بين أن أعترف أو لا أعترف. هنا، الاعتراف يفقد كل معنى. إن كل ما يهمهم هو خلق مثال آخر. جديد. إن نظامهم مبني على المثال، وقائم على أجساد المواطنين وآلامهم".
الروائي الجزائري عبد الوهاب بن منصور
لذلك فالنظام الفاسد مثله مثل أي نظام عسكري استبدادي يحاول أن يبتدع فساده بنفس الشكل لغيره من الأنظمة الفاسدة؛ فرغم أن أحمد القط لا تهمة له إلا أنهم يرون أنه أهان الدولة ونظامها لأنه حاول الانتحار في نفس يوم العيد الوطني للاستقلال، أي أنه لو كان قد حاول نفس المحاولة في أي يوم آخر ما كان قد اهتم به أحد، وما كانت قد لُفقت له أي تهمة، لكنهم لا يكتفون بهذه التهمة المثيرة للسخرية فقط، بل يعملون على ابتداع غيرها من التهم الأكثر لاعقلانية: "هل تعرف أن كل هذه الأوراق بها شكاوى ضدك؟ يفتش بين الأوراق. يأخذ ورقة بيده اليمنى. يمرر عينيه عليها بسرعة، ثم يقول: جزاروا المدينة يقولون أن قططك تغزو محلاتهم كل صباح وتستولي على لحومهم. يتطلع إليّ. ثم يضع الورقة، ويأخذ أخرى. يمص شفتيه، ثم يضيف: شرطة المرور تؤكد أن نسبة الحوادث ارتفعت بشكل مذهل؛ بسبب القطط التي صارت تُهاجم السائقين. وأن عدد الوفيات جراء ذلك في تزايد ملحوظ. يضع الورقة. يتأملني للحظات، ثم يأخذ أخرى. يتفحصها جيدا. يهز رأسه: إدارة المستشفى تؤكد اختفاء عدد من المولودين الجدد، وكلهم من الذكور، خلال الأشهر القليلة الماضية فقط، وتؤكد أنهم اختطفوا ليلا من طرف قططك. وهو ما أقرته تحقيقات الأمن والعدالة"!
بالتأكيد حينما نقرأ هذه التهم لابد لأي عاقل أن ينفجر بالضحك؛ فهم يلفقون لهم تهما لا يمكن أن تتماشى مع أي عقل أو منطق، لكن لأنهم هم من ابتدعوها فهم يكسبونها منطقية وجدية تجعلها تهما خطيرة من الممكن أن يموت أو يُشنق بسببها؛ ومن ثم نراهم يتفننون كثيرا في طرق تعذيبه التي لا تنتهي بسبب هذه التهم الموجهة إليه: "يقترب آخر مني. يدخل قطعة من الإسفنج في فمي لتعطيل حركة اللسان. يجلب مرش ماء أخضر لسقي الزهور، ويفرغ ماءه في فمي. الماء يسيل في فمي بطيئا ولا يمكنني رده فلساني معطل الحركة. أحس بالاختناق؛ فأضطر لابتلاعه. أبتلع الماء باحثا عن الهواء. أبتلع وأتنفس الماء. بطني ينتفخ. الآلام حادة في أسفل ووسط البطن. وبصدري حركة الرئتين تتثاقل. الماء يعرقل حركة الرئتين، ويمنع دخول الهواء أو خروجه. ممتلئا بالماء يجرونني من قيودي ثم ينزلونني من فوق المكتب. ممددا على الأرض، تزداد الآلام حدة كلما حاولت أن أتحرك. يلتفون حولي. يتطلعون إلى بعضهم البعض. ثم بأقدامهم يقذفون بطني كما الكرة. ينبعث الماء من داخلي عبر كل فتحات جسمي، من أنفي وفمي وورائي. أختنق. هل هذا ما يسمونه الموت البطيء؟ ألهث باحثا عن الهواء. لا إراديا، أصارع من أجل نفس من الهواء. تزداد حدة آلام البطن، كلما حاولت التنفس. أقذف الماء من كل فتحات جسمي. ترتفع ضحكاتهم، لكني لست مهتما بذلك. تتوالى ضربات الأقدام على بطني؛ فيتسارع خروج الماء الذي يسد قصبتي الهوائية. إنها لحظة الاختناق. لا أعتقد أني سأعود إلى الحياة"، هنا نلاحظ أنهم يتفننون بالفعل في طرق التعذيب التي تؤدي إلى الموت، لكن لعل بن منصور أخفق في التعبير حينما كتب في الفقرة السابقة جملة: "ينبعث الماء من داخلي عبر كل فتحات جسمي، من أنفي وفمي وورائي"؛ فالماء لا يمكن أن ينبعث من ورائه مهما كانت معدته ممتلئة بالماء؛ لأنه لن يخرج مع برازه، كنا نستطيع أن نتقبل الأمر إذا ما خرج الماء من عضوه لأن هذا هو الطبيعي، أما أن يخرج من الخلف فهذا ما لا يمكن له أن يحدث، وبالتالي أخفق في التعبير.
ما نراه من فساد للنظام الذي يتحدث عنه الروائي هو نفس الفساد في معظم الأنظمة العربية التي تتبع نفس الطرق والأساليب من أجل التخلص من مناوئيها، بل إنهم يعملون على اتباع نفس الأساليب في محاولة تجميل وجه النظام، وهو ما يؤكد عليه العربي المونشو- ابن النظام- حينما يقول: "إن أي نظام بائس، إذا طال حكمه، فلا بد أن يفرز شعبا بائسا، لا ترجو منه غير البؤس والطمع. لذلك يتوجب علينا أن لا نسقط في متاهة البؤس والطمع، فالخروج من ذلك ليس أمرا سهلا ويتطلب أزمنة وأجيالا متعاقبة. لقد كنا نحاول أن نتجنب السقوط، فنمنح النظام دواليب التجديد بعمليات، أقل ما يُقال عنها، أنها جاءت دون تفكير عميق، وحتى يؤمن الشعب أن لا شيء ثابت. يرحل رجال ويأتي آخرون لكن الوطن للجميع. لم تكن فكرة سيئة ولا خادعة، لكنها كانت تخفي نواياها. النوايا التي لا نعلمها حتى نراها تتحقق؛ فتنكشف. قد يخالجنا بعض الشك فيها، لكن لا أحد بمقدوره الجزم فيها. فبعد ثلاث سنوات لنظام لم يجد طريقه، بعد استقلاله عن الاستعمار، كان لزاما تجديده. وهو ما حدث فعلا وسقط الزعيم سقوطا حرا لم يفهمه الشعب المتعلق به وبتاريخه. لا أنكر أنه كاد أن يتحول إلى أسطورة أبدية، فكان علينا تقزيمها وتقليص حجمها، فعملنا على استبدالها، كخيار أخير، بأسطورة أخرى، وجاهدنا لتقديمها في صور مكتملة، لأجل استقرار النظام وكسب ثقة الشعب"، أي أن كل ما يدور حولنا مجرد وهم تصطنعه السلطة وآلتها الإعلامية؛ الأمر الذي يجعل المجتمع يعيش في مجموعة من الأوهام المتراكمة والتي لا يعرف حقيقتها إلا من هم بيدهم الأمر.
هذا التغيير في الحقائق وصيرورة الأمور يتم من خلال التنكيل، والتعذيب والترهيب للجميع من دون أي تمييز؛ لذلك سنرى أن إمام المسجد الذي كان يرى ويؤكد أن وباء الكوليرا الذي أصاب الحي الصفيح هو ابتلاء من الله؛ نتيجة عدم طاعته- تبعا لفهمه البسيط- سيغير رأيه فيما بعد لأن النظام السياسي لا يرغبه أن يقول ذلك: "إمام الجامع الكبير اختفى منذ أسبوعين، بعد خطبة مثيرة عن العدوى كعقاب إلهي لمجتمع ابتعد كثيرا عن الدين وشريعته السمحاء، وخالف وعود شهدائه. وكثرت بشأنه الحكايات، حكايات تتداول في السر رهبة من أذن وأعين أعوان "الرخو الفسيان" بالمكتب الثاني، الذي حضر بنفسه إلى الحي الصفيح وأعطى أوامره بالحجر على كل من يُشتبه بإصابته بالمرض دون انتظار تقرير الطبيب"، نقول أن هذا الإمام رغم رأيه الذي يدل على أثر الدين في تضليل المجتمعات حينما يعتبر أن المرض سببه عدم طاعة الله وما يتضمنه هذا من سخرية واستهانة بالعقل وأسباب المرض وانتشاره سيغير رأيه تماما حينما يظهر بعد أسبوعين: "تسأله جدتي مقاطعة: وهل ظهر الإمام؟ "ظهر منذ أيام فقط ليخطب في الناس. لقد أكد أن كل من مات بالوباء، فهو شهيد، بمن فيهم الطبيب الهندي. لا أحد يعلم أين كان كل تلك الأيام. لقد تغير كثيرا". تغير؟ كيف؟ تقول جدتي مستفسرة. "لم يعد ير الوباء عقابا إلهيا، إنما ابتلاء. ابتلاء من الله. ابتلاء على الصبر. وما يحيرني، أنه صار يمدح السلطات والمسؤولين ويشكرهم على كل ما فعلوه لمصلحة الناس.. حتى أنه جعل شكرهم من شكر الله".
هنا تنقلب الحقائق تماما وتتغير حينما تتكاتف سلطة الدولة الفاسدة ببطشها مع سلطة الدين الجاهل بإغراقه في الجهل واتباع الفساد؛ فيتغير كل شيء إما من خلال البطش، أو من خلال الدين المُغيب للعقول نتيجة لأن الجميع سيتبعون من يمثلونه مهما قالوا؛ فالحقيقة أن السلطة لم تفعل أي شيء من أجل إنقاذ أهل الحي الصفيح من الوباء، بل تركتهم من دون علاج وعزلتهم عن الجميع لحين موتهم جميعا والتخلص منهم: "العدوى تنتشر (لكنها لا تخرج عن الحي الصفيح). عدوى لا تفرق بين المواطن والخائن، مثلما لا تفرق بين المؤمن والكافر. إنها تعليمات المكتب الثاني، والحزب الذي يفكر فينا دائما ويدرك مصلحتنا. وبوقه المحمول في سيارة صغيرة بيضاء من نوع رينو 4 لا زال يجوب شوارع المدينة منذ أربعة أسابيع، ينبه الناس إلى هذا الابتلاء الإلهي، يحذرهم من الاقتراب من حي الصفيح، ويعطي تعليماته للإبلاغ عن كل حالة مشبوهة معتبرا ذلك من صميم الوطنية وقوة الإيمان. كل شيء جاهز لمواجهة عدوى الكوليرا عدا الدواء.. إنها إرادة الله. ومن يقف ضد إرادة الله؟" إذن فلقد تركوا أهل الحي الفقراء للوباء يفتك بهم، وكل ما فعلوه أنهم عملوا على محاصرتهم داخل الحي حتى ينتهي أمرهم تماما من دون دواء باعتبار أن هذه هي إرادة الله، ورغم ذلك حينما تم تعذيب إمام الجامع "صار يمدح السلطات والمسؤولين ويشكرهم على كل ما فعلوه لمصلحة الناس.. حتى أنه جعل شكرهم من شكر الله"، أي أنه حين اجتماع السلطتين الفاسدتين- السياسية والدينية- تتم إبادة جميع المواطنين من خلال توحد الفساد الديني والسياسي.
هذا القضاء على الجميع هو ذاته ما فعله الروخو الفسيان مع الطبيب الهندي الذي مات في ظروف غامضة لا علاقة لها بالكوليرا: "سمعت أن الرخو الفسيان أمر أن يظل الوباء سرا، حتى لا تُشوه سمعته عند مسؤوليه المركزيين، وقد استشار الطبيب الهندي في حرق الموتى بدل دفنهم. وكان يتوقع منه أن يقبل ذلك؛ لأن الطبيب من طائفة تحرق موتاها، مثلما يقولون. لكنه رفض ذلك رفضا قاطعا، وقال للروخو، أنه سيكتب لكل المنظمات الصحية والإنسانية العالمية زيادة عن السلطات المركزية. يقولون: إن الروخو رأى في كلام الطبيب تهديدا. "لا أعتقد أن الروخو، ولا أحد يعرفه مثلي، سيسكت عن ذلك" تقاطع جدتي أبي، الذي يرتشف قهوته ويمص شفتيه مطولا، ثم يقول: كل من يعرفه يؤكد هذا الكلام. وقد سمعت أن موت الطبيب لم يكن عاديا أو بسبب الوباء".
في ظل مجتمعات لا تحكمها إلا الغيبيات باسم الدين، ويسيطر عليها الجهل وعدم الأخذ بأسباب العلم أو العقل من السهل جدا أن تتم قيادتها والسيطرة عليها من خلال السلطات السياسية الفاسدة نتيجة جهلها والاعتماد على الغيبيات في كل حياتها، إنه الاعتماد على الغيبيات الذي يجعل المجتمع يرى في الظلم ابتلاء من الله الذي سيأخذ لهم حقوقهم في الآخرة؛ ومن ثم فهم يرضون بالظلم ويخضعون له راضين باعتبار أن هذا جزء من إيمانهم الخرافي. وهذا ما حدث تماما مع أهل الحي الصفيح الغارقين في الجهل والخرافة باسم الدين وغيره من الاعتقادات؛ فحينما يهرب الراوي أحمد القط وهو صغير من أقرانه في المقابر ويدخل الضريح المهجور تُصر جدته على أخذه للفقيه خوفا عليه: "وبعد أربعين يوما، عرضتني على فقيه الحي، خفية عن أعين أبي. قالت له باكية: لقد دخل الضريح المهجور. مندهشا، مص الفقيه شفتيه. ثم هامسا، طلب الستر واللطف. ضاعفت جدتي من بكائها الذي تحول إلى شخير. وقالت: إنه طفل يا سيدي، لم يفكر في العصيان.. أنت تعرف أطفال هذا الزمن. هز رأسه موافقا. وضع كفه على جبيني لحظات، ثم قال: علينا أن نتوسل إلى سيدنا بالصدقات. تهز جدتي رأسها موافقة وهي تقول: كما يريد سيدنا. عادت جدتي للبكاء. لكن الفقيه طمأنها مضيفا: إن شاء الله خيرا.. سأكتب لك حجابا، يضعه تحت إبطه الأيمن ثلاثة أيام، ثم يغتسل بمائه.. وفي اليوم الرابع عودي إليّ وأحضريه معك".
إن جهل المجتمعات وحياتها في الخرافة حينما تتمكن منها تعمل على تسهيل إحكام السلطة السياسية الفاسدة عليها؛ وهذا ما يحدث في معظم مجتمعاتنا العربية التي ترتكن إلى الخرافة باسم الدين فعملت على تسهيل السيطرة عليها؛ لذلك نرى الجدة تأخذ الطفل إلى الفقيه مرة أخرى فيعمل على كيه بالنار بسبب دخوله إلى الضريح معتقدا أنه بهذا الفعل يحميه من اللعنة التي لابد أن تصيبه بالعمى: "ليس بمقدوري أن أبقى عيني مفتوحتين أو أتطلع للفقيه، الذي عاد وقرفص عند رأسي، وقد صُدمت برؤية خنجر محمر. لا أشك أنه كان فوق نار. تصلني حرارته. أحاول أن أستدير متجنبا الحرارة، التي تزداد فوق وجهي. لكن يد الفقيه تمسكني من شعري وتثبت رأسي. أغمض عينيّ ضاغطا بجفنيهما. أحس به ساخنا، حارا يلامس جبيني. أصرخ. أصرخ متألما".
نتيجة هذا الفساد السلطوي الكامل، ونتيجة الخضوع للتعذيب الذي لا يمكن أن يحتمله بشري، وهو التعذيب الذي عانى منه أحمد القط من دون أي جريرة؛ فلقد اعترف لهم بطريقته الخاصة قبل أن يستسلم لموته بين أيديهم. لم يحاول أن يخضع لما يريدونه، ولم يقر الاتهامات الموجهة إليه، بل قال: "حاولت الانتحار في يوم، اعتقدت لسنين أنه اليوم الذي تحرر فيه الإنسان، لكني لم أشعر أني حر أبدا، ولم أكن أرغب غير تحرير نفسي، أقول: عشت مع قطط آلفتني وتآلفت معها بدل الناس، فلم أر غير أصابع الاتهام تشير لشخص يريد مواصلة حياته على غير عادتهم. يزعجونك لأنك مختلف عنهم. أقول: كم أتعبني عقلي! وكم عذبني تفكيري! فلا عمل لهما، خارج مخططات نظام قائم على المؤامرة. نظام يبحث عن استمراريته بخلق الأعداء والخيانات. أقول: ليس هذا هو المكان الذي حلمت به، مثل كل الأحلام الأخرى، لكني سأعيش فيه ببلادة وغباء، مدركا أنها ستكون أعواما طويلة".
إذن فرغم كل ما حدث لم يستسلم أحمد القط لما تريده منه السلطة التي عذبته حتى الموت، بل قال ما يرغبه ولم يقر بما يرغبونه؛ مما قد يدل على بصيص أمل في التخلص من هذا النظام الفاسد الشبيه بمعظم الأنظمة في الدول العربية التي لا تختلف عنه.
رغم أهمية رواية "الحي السفلي" للروائي الجزائري عبد الوهاب بن منصور وفضحها الفساد السياسي للنظام في الجزائر والتنكيل بكل من يعارضه أو يظنون أنه من الممكن أن يشوه صورتهم التي حاولوا إقناع الناس بها، إلا أن ثمة ملاحظة مهمة لا يمكن التغاضي عنها وهي إهمال دور النشر الثلاث المشتركين في النشر للتنضيد والتنسيق الداخلي للرواية؛ فالعمل يسير في خطين متوازيين، وأحيانا ما كنا نعرف أنه خرج من هذا الخط إلى الثاني بوجود الفواصل وفي أحيان أخرى لم يكن هناك ما يدل على أنه انتقل إلى الخط المغاير، أي أن الدور أخذت العمل من المؤلف من دون النظر فيه، وربما كان الدليل الآخر على ذلك كثرة الأخطاء اللغوية داخل العمل الروائي، وهي أخطاء يلام عليها الروائي ويتحمل مسؤوليتها مع دور النشر التي اشتركت في طباعة العمل؛ مما يزيد من جهل القارئ العربي بلغته التي لا يتقنها من يكتب بها.



محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب.
عدد مارس 2019م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق