الأحد، 17 يوليو 2022

أصابع امرأة نيئة.. الحياة كاستعارة فنية!

هل من المُمكن للمرء استعارة حياة غيره من الآخرين؛ فيتماهى معها، ويتمثلها- باعتبارها حياته الشخصية- من أجل التعبير عن حياته، وما دار فيها من أحداث قد تتشابه إلى حد بعيد مع الشخصيات التي يحاول التماهي معهم، أو الحديث عنهم؟ وهل من المُمكن أن تتشابه حيوات الآخرين مع بعضهم البعض بالشكل الذي قد يقترب بها من التطابق- مع الوضع في الاعتبار اختلاف الفترات الزمنية، والأمكنة، والظروف الاجتماعية، والمُميزات الشخصية لكل فرد على حدة، واختلاف سيكولوجية كل شخص عن الآخر؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب، ألا يستدعي ذلك سؤالا جديدا لا بد من طرحه: أليس كل إنسان وتجربته الحياتية مُجرد وحدة مُستقلة بذاتها أشبه بالجزر المُنعزلة التي تجعل حيواتنا مُختلفة بحيث لا يمكن لها التطابق بسبب اختلاف ظروف كل منا؟

ربما تختلف حيواتنا، وتجاربنا مع الآخرين عن بعضها البعض- وهذا أمر مفروغ منه- لكن قد تبدو بعض هذه الحيوات فيها من التشابه ما يجعل أحدنا يؤكد على أن حياة فلان أقرب إلى حياته الشخصية وتجربته، لا سيما إذا ما كانت هذه الشخصيات التي نحاول التماهي معها من الشخصيات المعروفة، أو المشهورة التي نحاول البحث في حيواتهم، نابشين إياها بسبب الفضول في اقتحام حيوات المشاهير، مما يجعلنا دائمي التلصص عليهم لمعرفة تفاصيل تجاربهم، وهو الأمر الذي يجعل من حيوات المشاهير مشاعا للجميع يعبثون فيها كيفما شاءوا؛ الأمر الذي قد يجعل البعض منا يرى في حياة أحدهم شبها كبيرا من تجربته الحياتية فيبدأ في التماهي معه.

لكن، هل تصلح مثل هذه المُقارنات/ التماهي كموضوع روائي قادر على نسج عمل روائي؛ فيبدأ الروائي بناء عمله بالاعتماد على حيوات مُختلفة تتشابه إلى حد بعيد مع بعضها البعض من جهة، ومع حياة الراوي داخل العمل من جهة أخرى؟

مثل هذه التساؤلات الكثيرة لا بد من إثارتها عند قراءة رواية "أصابع امرأة نيئة" للروائية التونسية هدى حواس التي جعلت من حياة راويتها داخل الرواية/ غنوة بمثابة استعارة فنية لحيوات العديد من الشخصيات الأدبية الواقعية التي نعرفها جيدا لا سيما الشاعرة والروائية الأمريكية سيلفيا بلاث، والشاعرة الأمريكية آن سكستون، والكاتبة الفلسطينية مي زيادة، فضلا عن شخصية شاهدة/ صديقة الراوية داخل الرواية، بالإضافة إلى حياة الراوية نفسها.

أي أن الروائية هدى حواس دخلت عالمها الروائي للتعبير عن حياة بطلتها غنوة ومُعاناتها من خلال أربع شخصيات أخرى، حتى لكأن العالم الروائي لديها قد انقسم إلى خمسة أوجه للحياة/ المُعاناة تكاد أن تتشابه، وتتداخل إلى حد بعيد في التجربة الحياتية، بسبب عامل مُشترك بينهن؛ مما أدى إلى التداخل بين هذه العوالم والحيوات في نسيج روائي لا يمكن له فصل أي شخصية منهن عن الأخرى، بل لا بد من هذا التداخل من أجل اكتمال العالم الروائي.

تتناول هدى حواس في روايتها حياة غنوة الفتاة الرقيقة التي لم تنضج بعد على المستوى السيكولوجي رغم نضوجها العمري، وزواجها من كمال، الكاتب الصحفي الناجح، وعملها بدورها في مجال الصحافة، فضلا عن كتابتها للرواية، أي أن غنوة تمتلك من مُسببات النضوج السيكولوجي ما يجعلها ناضجة بالقدر الكافي، لكنها تعترف بأنها ما زالت الطفلة الصغيرة النيئة كما كان يحلو لأمها أن تصفها: "ما زلت تلك المرأة النيئة التي طالما أوقعها غباؤها في مطبات الحياة الكثيرة، لم أنضج كثيرا عن الطفلة التي أعرف مُنذ أكثر من ثلاثين سنة، حين كنت أتعثر وأسقط في كل مرة أحاول المشي في ساحة الحوش الكبير، وحين كنت أُسقط ما أحمله من يدي من أطبق صغيرة أو لعب، أو حتى قطع البسكويت التي كانت تعدها لنا جدتي. وكأني في ذلك الزمن البعيد جدا أسمع كلمات أمي وهي تهزأ مني وتوبخني بشدة مُرددة نفس تلك الكلمة "نيّة، وقتاش باش تكبر وتكبس روحك، نيّة كيما عاهدتك". كأني نفس تلك الطفلة الحمقاء التي يسخر منها الجميع، حتى ردة فعلي لم تتغير كثيرا حينما كنت أرى شيئا يبدو غريبا؛ فأتسمر في مكاني مُحملقة بعينيّ، كاتمة لأنفاسي".

في هذا الاقتباس السابق الذي افتتحت به الروائية عالمها الروائي يتبين لنا أنها تتحدث عن امرأة طفلة لم تنضج على المستوى النفسي رغم نضوجها العمري، وهو الأمر الذي يجعل قول أمها السابق، حينما كانت صغيرة، ما زال يصدق عليها حتى الآن، أي أن الروائية حريصة مُنذ السطر الأول من روايتها على رسم شخصية راويتها/ غنوة كشكل من التمهيد والتأسيس للعالم الروائي الذي نحن بصدد دخوله، ومن ثم تُهيئنا لقبول الخلل النفسي الذي تُعاني منه غنوة التي تدور أحداث الرواية على لسانها بضمير المُتكلم.

هذا الخلل السلوكي/ عدم النضج تؤكد عليه الروائية غير مرة حينما نقرأ: "هل أنا مجنونة فعلا؟ لماذا، إذن، أستلذ بطعم الوجع، وأستميت في استدراجه؟ لماذا أفكر في كل شيء، وفي الوقت نفسه أترك العالم يتداعى بأسره أمام عينيّ؟ هل أنا مجنونة لأني أعتقد في حقيقة تُخالف حقيقتهم؟ أم لأن روحي مُعلقة بشيء غير أشيائهم، أم لأن وجعي مُتعالٍ عن وجعهم؟ لا أدري حقا. لا أدري لماذا أستسلم إلى تلك النوبات التي تصيبني مرة بعد مرة؟".

ألا نُلاحظ هنا عدم النضج حتى في رؤيتها للعالم والتعاطي معه؟ إنها غير قادرة على إدراك وفهم ما يدور من حولها، ورغم أنها ترى نفسها مُجرد شخصية مُختلفة عمن حولها، إلا أنها غير قادرة على إدراكهم، أو تفهمهم؛ ومن ثم تستسلم لفكرة جنونها التي يبثها لها من هم حولها لا سيما كمال زوجها!

نعرف فيما بعد أن غنوة مُصابة بشكل من أشكال الاكتئاب الذي كثيرا ما يفضي بها إلى رؤية العديد من الشخصيات التي تتمثل لها؛ فتجالسهم، وتثرثر معهم في همومها وهمومهم المُشتركة، فضلا عن وقوعها في نوبات هستيرية تؤدي بها في النهاية إلى الإغماء والغياب عن العالم، لكنها رغم ذلك ليست مجنونة، فهي مُدركة لحالتها جيدا، ومُوقنة بأنها ترى العالم من خلال رؤية خاصة تخصها وحدها وتختلف فيها عن غيرها ممن يحيط بها، لكنها تستسلم رغم ذلك لوصف الآخرين لها بالجنون في بعض الأحيان، كما أنها تعمل على روايتها التي تضع فيها شخصيتها وحياتها، ومُعاناتها، بشكل يتداخل مع حيوات العديدات من الشخصيات الواقعية التي نعرفها في عالم الأدب، حتى لكأنهن الأوجه المُتعددة لحياتها، أو النسخ الأخرى منها التي تُدركها جيدا بعيدا عن عالمها الواقعي، وهي الشخصيات التي تتمثل لها كلما انفردت بذاتها لتبدأ في الحديث إليهن، والنقاش معهن!

رغم محاولة الكاتبة عدم الإفضاء بعالمها الروائي وتفاصيله المُتشابكة دفعة واحدة- فهي تبث التفاصيل على طول أحداث السرد المُتفرقة- وهو من الأمور التي تؤكد على مقدرة الروائية على الإمساك بتلابيب العالم الذي تخوضه مُتحكمة في السرد الروائي، إلا أننا سنُلاحظ بعض الإشارات التي تُدلل لنا على وجود أزمة ما ستفضي بها إلينا فيما بعد؛ الأمر الذي يفتح الباب لتساؤل القارئ الدائم، ورغبته في إكمال القراءة حتى النهاية. هي على سبيل المثال تتحدث عن زوجها/ كمال في الصفحات الأولى من الرواية- حينما يعرض عليها في إحدى الليالي أن يقرأ لها بعض الصفحات من كتاب "الروض العاطر"- قائلة: "ابتسمتُ وقلت في نبرة ساخرة: فياجرا الكلمات، قد تصلح لأوقات قبل النوم. قال: لست حيوانا غنوة. أنا أحبك، وشغفي بجسدك ليس إلا شغف عاشق. لم أعلق على كلامه، كنت مُستغربة تماما؛ فهو نادرا ما يعبّر عن حبه وشغفه. لكني شعرت بحنان حقيقي يغمر قلبي، وبموجات من الدفء تتسلل إلى جسدي، وبشيء غريب يُبعث فيّ فجأة. ربما اكتشفت حينها أنني أحبه. تركت رأسي يترنح على كتفه، وقلت: اقرأ، سنتسلى أكيد هذه الليلة بالروض العاطر".

الروائية التونسية هدى حواس

ألا نُلاحظ هنا أن الزوجة مُعرضة عن زوجها، ساخرة من رغباته ومُغازلاته لها؟ رغم إدراكنا لهذا الصد عن الزوج إلا أننا سنتساءل: ما السبب في هذه المُعاملة الجافة من الزوجة تجاهه رغم حبه لها، ورغبته فيها؟ بل ما الداعي لهذا الجفاف رغم أنها تؤكد أنها قد تزوجت منه بسبب الحُب؟

إن الكاتبة هنا حريصة على عدم كشف عالمها الروائي دفعة واحدة، بل تبثه في ثنايا سطورها دفقة تلو الأخرى لتظل مُمتلكة لذهن المُتلقي، مُسيطرة عليه حتى آخر سطور روايتها، أي أنها حريصة على التساؤل الدائم الذي يجعل من المُتلقي أسيرا للعالم الروائي حتى انتهائه.

هذا الإعراض نُلاحظه مرة أخرى في: "تركته يحدثني وأغمضت عينيّ، كان هو لا يتوقف عن الكلام كأنه في حالة هذيان: أوجاع الرأس مُدمرة، أنت لا تعلمين شيئا عنها. أنت طفلة مُدللة لا تدركين شيئا عن عالم الوجع، الوجع الذي نما في ذاكرتي مُنذ الطفولة وكبر معي، كم أكره العقاب، المُعلمون يتفانون في العقوبات بدعوى أنهم يربوننا. أكره المُعلمين، المُعلمون يكسرون في الطفل كبرياءه، ويعلمونه الإذلال مُنذ الصغر. أمي أيضا كانت تُتقن العقوبات. وكان يحلو لها أن تضربنا على رؤوسنا. هذا الرأس كم عوقب من مرة! ويبدو أن بعض الأفكار تعفنت فيه من شدة الضربات. أوجاع الرأس مُدمرة يا غنوة. أنت لا تعلمين ماذا أعاني، حاولت أن أتخلص من كل عقدي، لكني لم أفلح، مُنذ متى أحاول أن أتخلص من بذرة الطفل القديم فيّ؟ ولكني لا أستطيع. ما نتربى عليه صغارا يقبع بداخلنا، وكلما حاولنا أن نتجاوزه يُخرج لنا مخالبه، ويُحاربنا بشدة. وبقايا الضربات العفوية أو الجاهلة تُعاقبنا مرة أخرى حين نحاول التمرد عليها. حتى الحُب لم يستطع أن يحميني من أوجاع الرأس. ربما لم أكن عاشقا جيدا، ولكني وقعت أكثر من مرة في الحُب".

إن الزوج، هنا، راغب في مُشاركة زوجته فيما يشعر به، وما يفكر فيه، لكنها رغم ذلك تُعرض عنه، غير مُهتمة بما يفضي به إليها، غير راغبة في المُشاركة؛ لذا فلقد تركته يتحدث وأغمضت عينيها غير مُهتمة بما يقوله لها، وهو الأمر الذي يجعلنا نتساءل: لم تتعامل الزوجة مع زوجها بمثل هذا الإعراض، والصد الدائم، واللامبالاة رغم محاولاته الدائمة في التواصل معها والقرب منها؟

إذا ما حرصنا كمُتلقين على مواصلة القراءة سنعرف أن عدم نضجها، وزواجها منه- رغم حبها له- واكتشافها لخيانته لها ذات مرة كانوا السبب فيما وصلت إليه مع كمال: "كنت مُضطرة إلى السفر بمُفردي إلى مدينتي بسبب مرض أختي. وكان المفروض أن أقضي الليلة هناك، غير أن تعكر صحتها اضطرنا إلى العودة إلى العاصمة. ففي مدينتي الصغيرة لا يوجد غير مُستشفى لعلاج الحالات البسيطة، ولا تتوفر فيه كل المُعدات الطبية اللازمة. وكان من المُستحسن نقلها إلى مصحة بالعاصمة. فرافقتها صحبة زوجها، وبعد أن اطمأننت عليها عدت إلى بيتي. عدت لأشتم رائحة الخيانة وهي تنتهك كل خصوصياتي. غرفة نومي، وبيت استحمامي، وثوبي، ومنشفتي المُطرزة، وسائل استحمامي المُفضل. كانت رائحة البنفسج تعبق في جناحي. وبقايا الرغوة في قاع المغطس. وثوبي المُبلل بمائها يتدلى من المشجب البلوري. وشعراتها الشقراء ما تزال عالقة بمنشفتي. يبدو أنها أنهت مهمتها للتو وغادرت قبيل قدومي بقليل، وتركت آثارها تعج في بيتي. لم أتصور خيانته لي، ولم أشك فيه مُطلقا. ورغم ذلك لم أتفاجأ كثيرا، وتصرفت مع الأمر ببرود استغربته من نفسي. جمعت كل أغراضي التي استعملتها هذه الزائرة الغريبة ورميت بها في سلة المهملات. وتركت له الجناح، وانتقلت إلى غرفة الضيوف. كان هو يراقبني من مكتبه وينتظر ردة فعلي، لكن النوبة الهستيرية التي أصابتني أنقذته من المواجهة"!

إن رد فعل غنوة على الخيانة لا يمكن أن يكون ردا طبيعيا، أو رد فعل زوجة مُحبة لزوجها، أو حتى مُهتمة به، بل هو رد فعل امرأة لا يعنيها الرجل الذي يعيش معها بقدر ما يعنيها الشعور بإهانة كرامتها فقط، وهو ما يؤكد أنها لا تشعر تجاهه بأي شعور حقيقي، أي أنها تخونه بادعائها الحُب تجاهه- باعتبارها زوجة له- مثلما يخونها هو مع غيرها من النساء، ولكن رغم اختلاف مفهوم الخيانتين هنا- إحداهما معنوية، والأخرى مادية- إلا أنهما تتساويان تماما ما بين الزوج والزوجة، ولا خلاف بينهما!

لكن، إذا ما كانت غنوة تعاني من اكتئاب حاد، وإذا ما كانت تتمثل لها العديد من النساء في غرفتها ليتجسدن لها وتبدأ في مُحادثتهن، وإذا ما كانت تدخل في العديد من النوبات الهيستيرية التي تُغيبها عن العالم؛ فمن المُمكن لنا الذهاب إلى أن كمال لم يخنها فعليا، وأنها تتخيل الأمر- ربما من أجل الشعور بالاتساق مع مشاعرها الجافة تجاهه، وإعراضها عنه- أي أن اعتقادها بخيانته هنا يصبح بمثابة حيلة نفسية دفاعية من أجل الشعور بالتوازن النفسي، والهروب من الشعور بالذنب تجاه الزوج الذي يحاول التقرب منها رغم جفاف مشاعرها، لا سيما أنه لا يوجد على طول الرواية أي دليل مادي ملموس على خياناته لها اللهم ما ذكرته في الاقتباس السابق.

قد يكون كمال خائنا، وقد تكون خيانته مُجرد هلاوس في ذهن غنوة، لا سيما أنه سبق له أن حكى لها عن حبه القديم ببساطة ولم يخف عنها أي شيء في الوقت الذي أخفت هي فيه علاقتها وحبها السابق ليوسف، وهو الشخص الذي ما زالت تفكر فيه، وتشعر بالاشتياق إلى الأوقات التي سبق لهما أن قضياها مع بعضهما البعض! أي أننا نستطيع القول: إن غنوة هي التي تخون الزوج على المستوى العاطفي/ المعنوي، وتحاول التخفيف من وطأة الشعور بالذنب من خلال هذا التخيل الذي قد لا يكون له وجود فعلي إلا في ذهنها فقط!

نعرف أن غنوة كانت علاقتها بأمها علاقة سيئة، صحيح أنها لم تكن تكرهها، لكنها لم تكن تشعر تجاهها بأي عاطفة طبيعية بين فتاة وأمها، بينما كانت تعشق الأب كثيرا؛ فهو يُدللها، ولا يعاقبها دائما مثلما تفعل الأم؛ لذلك حينما مات الأب كانت صدمة كبيرة لها في حياتها، كما كانت في علاقة عشق مع زميلها في الجامعة/ يوسف، وهو الشخص الذي تخلى عنها فجأة؛ لأنها لم تكن بارعة في التعبير عن مشاعرها تجاهه، حتى أنها لم تقل له يوما ما كلمة أحبك رغم طول المُدة التي قضياها معا؛ وهو الأمر الذي شكّل لها أزمة نفسية ثانية، ثم كان انتحار شاهدة، أقرب صديقاتها لها؛ لتكون الطامة الكبرى التي أصابتها بلوثة سيكولوجية، أدت إلى حالتها النفسية التي تحياها الآن.

لكن، رغم ذلك فغنوة ترد كل المآسي في حياتها، ومُعاناتها إلى الحُب؛ فالحُب لديها هو السبب الأساس في كل العذاب السيكولوجي لدى العديد من النساء، وهو ما يؤدي بهن إلى حالتهن المزاجية الكئيبة التي تفضي بهن في النهاية إلى الانتحار، أي أن العاطفة والرجال، وخياناتهم هي السبب في لوثات مُعظم النساء وانتحارهن- كما ترى غنوة!

لذلك فهي تتمثل العديد من الحالات التي تتماهى مع حالتها وتستحضرهن لتبدأ في الحديث معهن، وعن مُعاناتهن مع رجالهن، بل وتكتب عنهن في روايتها التي تعمل عليها أيضا.

إن استحضار الشخصيات النسائية الشبيهة بحالتها- كما تراها هي- يتبدى لنا مع الصفحات الأولى من الرواية، أي أن الروائية حريصة مُنذ البداية على اقتحام العالم الروائي بما تعانيه بطلتها، ثم تُفصل لنا الأمور فيما بعد، وهو ما نقرأه في: "انحلت عقدة الدهشة المُفاجئة بعد وقت ليس بالقليل عندما سمعت شاهدة تقول لي: يبدو أنك تفاجأت بحضورنا. ألم تستدع أرواحنا كل ليلة في تخوم كلماتك؟ ألم تهدمي الجدار القائم بين عالمين نائيين، وخرقت كل طقوس الكتابة لتستدعي أرواحنا شاهدة على وجعك؟ نطقت بصعوبة كأني أقتلع كلماتي من طين الصمت: روحي خربت لوحدتي، وأنتن عشتن عطش الحُب، وصُلبتن على خشبة العشق، أنتن إيقاعات الجنون، وكان عصيا عليّ أن أعيش وجعي دون اصطبار وأنا وريثة الخبل، حتى أتخطى هاجس انتحاري"!

سيليفيا بلاث

إذن، فنحن مُنذ البداية أمام شخصية اكتئابية لا يشغل تفكيرها سوى الرغبة في الانتحار، وهو الأمر الذي يجعلها تتمثل العديد من الشخصيات النسائية اللاتي سبق لهن أن انتحرن بسبب علاقاتهن مع الرجال، ومُعاناتهن في هذه العلاقة التي أدت بهن إلى شكل اكتئابي أدى بهن في النهاية إلى الانتحار للتخلص من آلامهن النفسية. إن هدى حواس هنا عملت على تحديد أبعاد عالمها الروائي والنفسي بحصره في شخصيات نسائية اكتئابية، سعين للانتحار بسبب عشقهن للرجال الذين كانوا في حياتهن، ورغم أنها عملت بهذا الشكل على تضييق العالم- مع ما تتضمنه هذه الرؤية من إلقاء اللوم على العلاقات بين الرجل والمرأة بسحق مشاعر المرأة، وإنهاء حياتها- إلا أن تحديدها للعالم الروائي يتوافق تماما مع الشخصيات التي اختارتها، والأحداث التي مررن بها، أي أن ثمة مُناسبة فنية بارعة بين الشكل والمضمون الروائي نجحت الكاتبة في الوصول إليه لنسج العالم الروائي الذي أدخلتنا إليه.

إن استحضار الشخصيات التي لا وجود لها نراه كثيرا على طول الرواية، وهو ما نُلاحظه في: "في تلك اللحظة الملحمية الكاشفة والمخفية اشتهيت أن أحضنهن واحدة واحدة. فكرت أني مجنونة فعلا، وأني أختلق عالما من الأشباح كما أفعل في رواياتي. داهمتني أفكار غريبة أن أكون في عالم أسطوري، وأني من سُلالة أخرى. من سلالة تستعذب العناكب أن تعيش تحت جلدي، وتتغلغل في الحروف والمشاعر، وتقودني إلى عالم مائل تضيع فيه الأزمنة، وينحرف فيه العقل. غرفتي الآن تفوح منها روائح عطرهن المُعتق الخارج من توابيتهن. وجودهن الآن أصبح أمرا واقعا، وحياتي مُفعمة بالتوقعات اللامُنتظرة، والأحداث المُستعصية عن الفهم. ومهما يكن الأمر لم يعد يعنيني ما الحقيقة وما الخيال. انهدم الفاصل بينهما". أي أن غنوة قد وصلت إلى درجة مرضية تجعلها في حالة من الهلاوس السمعية والبصرية التي تستحضر من خلالها أشخاصا لا وجود لهم، وتُدرك جيدا أنهم قد رحلوا عن الحياة، لكنهم يتمثلون لها كالأحياء ويجالسونها، ويحادثونها أيضا!

رغم عدم حقيقية وجود هذه الشخصيات، وإدراكها لانتفاء وجودهم الواقعي نراها تتعايش مع الأمر وكأنه حقيقة في عالم يخصها وحدها فقط، وتصدقه: "الساعة مُنتصف الليل، ما زلت أحاول النوم ولا أستطيع رغم تعبي. تحرك الرف ببطء شديد، رأيتها تخرج من دفتي الكتاب الموضوع في طرف المكتبة، أغمضت عينيّ بشدة كأني أهرب منها ومن شبح وجودها معي في غرفتي. لم أصدق في البداية وجودها، حتى نطت من ذلك الركن، لم تقل شيئا، ولكني رأيت دمعة عالقة بطرف رموشها الكثيفة. جلست إلى جواري في الأريكة العريضة، ووضعت أصابعها البيضاء الرقيقة على كتفي في حركة طبطبة خفيفة. كان الصمت مُطبقا على المكان، لا أسمع غير صوت تنفسنا وتكتكات الساعة الخشبية المُعلقة على الحائط المُقابل. مُنذ رحيل شاهدة أعيش وحيدة. ليس لي من أحدثه، ولا من يستمع إليّ بعمق روحه، وتمرد عقله كما كانت تفعل".

إن الروائية هدى حواس إنما تعبر لنا عن مجموعة من النسوة التي لم تنضج مشاعرهن بالقدر الكافي؛ وهو الأمر الذي يؤدي بهن إلى أزماتهن النفسية مع الرجال المُرتبطات بهم، فليس الحُب هو السبب الرئيس- كما ترى غنوة- في حالاتهن السيكولوجية الاكتئابية، وليست خيانات الرجال هي السبب؛ لأنهن مُتقلبات بطبعهن بسبب عدم النضج، وهو ما نراه في حديثها عن سيليفيا بلاث الشاعرة والروائية الأمريكية التي انتحرت بسبب خيانة زوجها لها، وإن كنا نرى أن حالتها المزاجية الاكتئابية كانت هي السبب الأول في الانتحار، وليست خيانة الزوج لها: "كتبت لتيد: إن حدث لك مكروه سأقتل نفسي. وتذكرت ما قلته ليوسف: سأجن إن ابتعدت عني. الكلمات التي نكتبها بوعي شديد أو دون وعي هي حقيقتنا التي نعيشها، والتي تتحكم فينا. سيلفيا لم تقتل نفسها لأن مكروها أصاب تيد، وإنما قتلت نفسها حين أصابها هو بمكروه! عاقبت نفسها بالموت انتحارا لأنها لم تتحمل خيانة تيد، كما عاقبتُ نفسي بالجنون لأني لم أتحمل فراق يوسف. كلانا ضحية خياراتنا الحمقاء، وكلانا اخترنا الوجع لأجل من نُحب. وربما لأنها امرأة نيئة مثلي كما كانت تنعتني أمي؛ فلم تتحمل هذا الوجع. ها هي الطفلة النيئة كبرت يا أمي، ولم تنضج وأصبحت فقط امرأة نيئة، لم يكن لدي إدراك بذلك حتى ماتت شاهدة، كلماتها ما زالت تشهد على أننا لم نكن نُتقن لعبة الضحية، وإنما استسلمنا لهزائم الحُب. لم أتفطن إلى نبرة صوتها الصادقة وهي تُعلن لي عن موعد موت قريب. كنت أسخر منها، ولم أكن أعلم أنني كنت أسخر من نفسي ومن غبائي أيضا. هل كانت هي أيضا امرأة نيئة؟".

إن الاقتباس السابق يؤكد لنا أن أزمات تلك النسوة النفسية سببها الجوهري هو عدم نُضجهن، وحماقاتهن في التعامل مع الأشياء والحياة، والعلاقات، وليس الحُب، وخيانات الرجال لهن، وحتى إذا ما كانت ثمة خيانة؛ فالخيانة نابعة من عدم نضج النساء، وكأنهن هن من دفعن رفقائهن للخيانة بسبب عدم اكتمالهن نفسيا/ عدم نضجهن، بالإضافة إلى أننا لا بد لنا من الانتباه إلى قول غنوة: "كما عاقبت نفسي بالجنون لأني لم أتحمل فراق يوسف". إن هذه الجملة الجوهرية تؤكد لنا أنها لم تكن مُخلصة لزوجها كمال، وأنها قد جُنت، أو أصابتها حالتها النفسية بسبب فقدها ليوسف، أو تخليه عنها؛ الأمر الذي يضعها في دائرة الخيانة لكمال، وليس العكس، بل يجعلنا نمد الخيط حتى مداه الأقصى، ونذهب إلى أنه حتى إذا ما كانت ثمة خيانة من كمال لغنوة؛ فهي التي دفعته إلى هذه الخيانة بسبب حالتها النفسية التي وضعت نفسها فيها بعد هجر يوسف لها، ثم قبولها الزواج من كمال مُدعية حبها له رغم أنها ما زالت تعيش بمشاعرها مع يوسف الذي تركها، ولعلنا نُلاحظ أيضا عدم نضجها النفسي من خلال قولها: "وربما لأنها امرأة نيئة مثلي كما كانت تنعتني أمي؛ فلم تتحمل هذا الوجع. ها هي الطفلة النيئة كبرت يا أمي، ولم تنضج وأصبحت فقط امرأة نيئة"، وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه من أنهن مجموعة من النسوة غير الناضجات على المستوى النفسي، وهو ما أدى به إلى أزماتهن النفسية.

إن عدم اكتمال المشاعر، أو الوصول إلى حالة من النضج والإدراك الكامل، هو ما يدفع المرأة إلى الاعتقاد بمجموعة من الأوهام التي لا يمكن التسليم بصحتها، فهي فقط من ترى صحة ما تفكر فيه، لكننا إذا ما أخضعنا الأمر للعقل لاتضح لنا عدم استقامته مع التفكير العقلي؛ لذلك نقرأ: "ذكرني كلامها عن الحُب بكلام شاهدة آخر حياتها وهي تقول: المرأة حين تعشق تسقط، ولن تتخلص من هذا العشق إلا بالجنون أو الموت. تطلعت إلى صورتها الموضوعة على الكوميدينو بالقرب من السرير. رأيتها تنظر إليّ كأنها تُعاتبني. ربما لأني استهزأت بمشاعرها حين كانت تتحدث عن حُبها لحمزة بشغف". إن عدم نضجها هو ما يجعلها ترى أن العشق لا بد أن يؤدي بصاحبته إما إلى الموت أو الجنون، أي أننا أمام مجموعة من النسوة غير الناضجات في مشاعرهن؛ ومن ثم يصلن إلى حالة من حالات التعلق التي لا يمكن أن تستقيم معها الحياة ببساطة؛ لأن الحُب لديهن يتحول إلى إدمان عاطفي مرضي غير خاضع للمنطق، أو العقل، ومن ثم يقعن في الاكتئاب والحالات العصابية التي لا بد بها أن تؤدي بهن إلى الانتحار للتخلص من الحياة!

هذه الرغبة في التخلص من الحياة هي ما يُسيطر سيطرة كاملة على غنوة، رغم عدم وجود سبب منطقي وضروري لهذه الرغبة الانتحارية؛ فهي متزوجة من رجل يحبها ويحاول التقرب منها- ومع افتراض خيانته لها فهو يحاول دائما إصلاح الأمر ورأبه- كما تعمل في مهنة مُستقرة، وتكتب الرواية، وتتوافر لها كل أسباب الحياة، لكنها تعيش مع ذاكرتها القديمة مع حبيبها السابق، وتستمرئ جنونها ورغبتها الانتحارية من أجله: "كانت تتوارد عليّ الأسئلة لأفهم ما الذي حوّل سيليفيا من عالم العبقرية والإبداع إلى عالم الجنون؟ ومن حوّل رغبتها في الحياة إلى الموت؟ من أرادت أن تغيظ بموتها؟ الكلمة، تيد، الله؟ من الذي يستحق أن تُتقن من أجله حرفة الموت، ومن هي عدوتها الحقيقية، المرأة أم الرجل؟"، صحيح أن تيد زوج سيلفيا بلاث كان يخونها بالفعل مع حبيبته آسيا، وربما كان هذا هو السبب الحقيقي لانتحارها، لكن غنوة هنا تحاول تمثل مجموعة من الحالات التي لا علاقة لهن بها؛ لأنها في جوهر الأمر تخون كمال على المستوى المعنوي بحياتها داخل ذاكرتها مع يوسف حتى من قبل أن تتزوج به، وما زالت على هذه الحالة حتى بعدما تزوجت منه، أي أنها راغبة في الشعور بشعور الضحية، أو تلجأ إلى حيلة نفسية من أجل إقناع نفسها بأنها بالفعل ضحية، لمنع تسرب الشعور بالذنب إلى نفسها.

إن محاولة التماهي مع شعور الضحية يجعلها تُغرق في تفاصيل سيليفيا بلاث لتؤكد لنفسها أن العلاقات مع الرجال تؤدي إلى الانهيارات النفسية والرغبة الانتحارية في النهاية: "آسيا المرأة التي هزمتها، أخذت منها حبيبها وزوجها تيد الذي انبهرت بجسده الرياضي ووسامته، وبكتاباته، ورسوماته. كم كانت شغوفة به وبكل تفاصيل حياته! تيد الرجل الثاني في حياتها الذي أحبته وتزوجته، وهو أيضا الرجل الثاني المتورط في جنونها وموتها. أحبته مُنذ لقائها الأول به في الفولبرايت في إنجلترا أين كانت تدرس الكتابة الإبداعية. ولعل الرجل الأول أيضا كان سببا غير مُباشر في جنونها. كان مرض أبيها وموته مُؤثرا في حياتها، وكانت قصائدها عبارة عن تداعيات لهواجسها وللتعبير عن خواء روحها وشعورها بالفقدان. لم يتحمل تيد مرضها الذي شخصه الأطباء بالقطب المزاجي وبعد دخولها لمصحة نفسية تركها وذهب ليعيش مع عشيقته آسيا".

ألا نُلاحظ هنا أن تيد لم يكن هو السبب الأساس في حالتها الاكتئابية، والرغبات الانتحارية؟ فلم يكن هو ولا آسيا/ عشيقته السبب في انتحارها؛ لأنها تمتلك الرغبة الانتحارية مُنذ البداية مع فقدان الأب- لاحظ قولها لعل الرجل الأول أيضا كان سببا غير مُباشر في جنونها. كان مرض أبيها وموته مُؤثرا في حياتها- أي أن عدم احتمال تيد لمرضها كان عاملا مُساعدا لرغبتها الانتحارية، بينما كانت هي في الأساس لديها الاستعداد النفسي والفطري لما حدث.

إنها حالات من عدم النضج في المشاعر لدى العديد من النماذج النسائية التي اختارتها غنوة للتماهي معها ظنا منها أن الحُب وخيانات الرجال هما السبب فيما وصلن إليه، وهي معهن رغم انتفاء ذلك وعدم استقامته مع العقل، والواقع.

هذه الحالة نراها أيضا مع آن سكستون الشاعرة الأمريكية التي انتحرت بسبب خيانة زوجها ألفريد لها- كما ترى هي أو غنوة- لكن إذا ما تأملنا حياة آن سيتأكد لنا أنها هي التي كانت تخونه مع العديد من الرجال، ورغم ذلك فلقد ألقت اللوم عليه هو واتجهت للانتحار في نهاية الأمر! وإذا ما كانت سيليفيا بلاث تعاني من الاكتئاب بسبب فقد الأب، مما أدى بها إلى نهايتها، وإذا ما كانت غنوة تخون كمال على المستوى المعنوي بحياتها في ذاكرتها مع يوسف؛ مما أدى إلى حالتها، فضلا عن فقدانها للأب أيضا، فآن سكستون قد خانت ألفريد على المستوى المادي مع الكثيرين من الرجال، أي أننا لا يمكن لنا التعاطف معها، أو الذهاب إلى أن خيانة الزوج لها كان هو الدافع لانتحارها واكتئابها، بل هي التي كان لديها الاستعداد للحالة الاكتئابية، وكانت عابثة في علاقتها الزوجية مع ألفريد، وحينما خانها ألقت اللوم عليه بدلا من لوم نفسها!

"كانت تحبه بجنون، تزوجته وعاشت معه حياة لطيفة. وكانت عاطفة الحُب تكبر فيها، لكنه كان غير قادر أن يفهم جنون عشقها. كانت مليئة برسائل لم تُرسلها إليه. وحتى إن أرسلتها فلن يتغير شيء. هو زوج برجوازي لطيف، عاقل بما يكفي ليحافظ على روتين حياته. رغم محاولاتها أن تؤثر فيه بكلماتها، بكل ما تكتبه إلا أنها أدركت بعد فوات الأوان أنها حمقاء؛ لاعتقادها أن الكلمات قد تؤثر فيه، ومع ذلك كانت تحاول ولا تيأس؛ فهي تعلم أن من يحب لا يستطيع أن يتراجع. في الحُب لا قرارات نتخذها أو نتراجع عنها. في الحُب فقط دهشة واحدة تستمر إلى الأبد، كانت دائما تردد: لا أبالي، أحبك كيفما كنت، فات الأوان على طردك من قلبي، فأنت تعيش داخلي. لكنها هذه المرة أحست أنه يدفعها إلى الجنون بحماقاته. رأته شخصا غريبا، شريرا، وتمنت لو أنها تخلصت منه. فما الفائدة من وجوده في حياتها وهو لا يفهمها، ولا يفهم لغتها، ولا يملك عقلا يستوعبها؟ عندما لا نجد شخصا عاقلا بما يكفي للتحدث إليه؛ فسنضطر إلى أن نكون مجانين"!

إذا كانت هذه هي حالة آن سكستون مع زوجها؛ فهي تُدلل على امرأة لم تنضج بعد، امرأة حمقاء اختارت الرجل الذي لا يتناسب معها، أو مع تفكيرها، أو مشاعرها، وترغب في أن تغيره إلى شكل آخر ترغبه في ذهنها، رغم أنها كان عليها ألا تختار الحياة معه مُنذ البداية لأنه في الواقع لا يتوافق مع تفكيرها، أو الشكل النموذجي الذي ترغب شريكها العاطفي عليه. إن الرجل لا علاقة له بلغة الكلمات التي ترغبها، وهذه طبيعته التي تعرفها عنه، لكنها تريد منه أن يتغير من أجلها ليصبح على الشكل الذي تريده هي، وهذا من الأمور المُستحيلة؛ لأن كل إنسان يظل على ما هو عليه، ولا يمكن له التغير من أجل الآخرين، وإلا يكون قد انتحر على المستوى المعنوي بتحوله إلى شخص لا يتوافق مع نفسه، إلا أننا نراها رغم ذلك تلقي باللوم عليه، بدلا من إلقاء اللوم على مشاعرها غير الناضجة وخيارها الخاطئ مُنذ البداية، وبدلا من تقبل زوجها الذي اختارته بملء إرادتها ألقت اللوم عليه وبدأت في خيانته: "الحُب المخلوط ببهارات الأفكار المارقة عن المألوف له نكهة خاصة، لذلك لم تقاوم آن وتركت روحها وجسدها لهذا الأخرس رغم قرعات الضمير الذي يذكرها أنها زوجة لألفريد الذي كانت تحبه يوما ما. وأن كل ما تفعله هو نوع من الخيانة. لكن، أية خيانة هذه التي تغدق عليها كل هذه السعادة؟! حين يكون شعورنا صادقا ترتبك المفاهيم التي يطرزها المُجتمع بخيوطه العقيمة. الخيانة تكون أشد في المشاعر. كم امرأة متزوجة لا تخون جسدها، ولكنها تعيش حياتها كاملة تخون مشاعرها؟ كم جثة تنام في فراش الزوجية بكل وفاء الميتين؟".

مي زيادة

إذن، فآن سكستون أيضا لم تنضج بعد، بل وتبرر لنفسها خيانة زوجها بأن خيانة المشاعر هي الأكثر جرحا وجرما، أي أن آن هي الانعكاس الآخر لغنوة، فإذا ما كانت خيانة غنوة هنا خيانة معنوية/ المشاعر، فآن خيانتها جسدية للزوج، وهو ما يعني أن غنوة المُرتبكة على المستوى السيكولوجي، ومستوى المشاعر، تحاول تمثل مجموعة من النسوة المُرتبكات مثلها تماما، واللاتي لم يصلن إلى النضج الكافي؛ وبالتالي يلقين باللوم على رجالهن الذين خانوهن ربما بسبب عدم النضج الكافي لديهن كزوجات.

إنه نفس الأمر الذي سنلمحه مع صديقتها شاهدة التي كانت مُتعددة العلاقات مع الكثير من الرجال، ورغم أنها كانت عقلانية، وتؤمن بالفلسفة وحرية المرء في خياراته الحياتية إلا أنها ستقع في حب حمزة- المُتدين بشكل راديكالي، والذي يرى أنه قادر على إصلاح المُجتمع وإعادته بالقوة إلى الشكل الديني والأيديولوجي الذي يراه هو، أي أنه يرغب من الجميع أن يعيشوا حياته، وتبعا للفكرة التي يؤمن بها هو؛ لذلك سيفجر نفسه في عملية انتحارية- إن حمزة سيعمل على تغيير أفكارها باسم الحب، بل وسترتدي الحجاب، وتصبح تابعة له في أفكاره؛ لذلك حينما يفجر نفسه في عملية انتحارية؛ تقوم بدورها بالانتحار بتفجير نفسها بالمُتفجرات بدعوى أنها ستذهب إلى حبيبها في عالم آخر لا بد أن تلتقي فيه معه، لأنها لم تعد صالحة للحياة معنا بعدما ذهب بعيدا عنها.

إنهن مجموعة من النسوة غير الناضجات، اللاتي ينتحرن باسم الحُب والمشاعر رغم خياراتهن الخاطئة، أي أننا أمام مجموعة من الحمقاوات اللاتي لا يمكن لنا التعاطف معهن باسم الحُب!

تستمرئ غنوة التماهي مع الشخصيات النسائية المُعذبة- بهتانا- باسم الخيانات والمشاعر؛ فتستدعي تجربة مي زيادة وجنونها بسبب خيانة جبران لها مع ماري هاسكل، رغم أننا لا يمكن لنا الذهاب معها لذلك أيضا، أو إلقاء اللوم على جبران؛ فمن خلال ما نعرفه عن حياة مي زيادة يتضح لنا أنها كانت مُجرد امرأة مُتلاعبة بالعديدين من الرجال المُعجبين بها، والواقعين في عشقها ومنهم عباس محمود العقاد، أي أن المرأة لم تكن سوى امرأة لاهية، عابثة، شاعرة بالكثير من التيه نتيجة وقوع الرجال في عشقها، لكنها كانت تتلاعب بهم جميعا؛ ومن ثم يكون طلب جبران الزواج من ماري هاسكل، لا سيما أنها من عاضدته وساندته، ووقفت إلى جواره في المهجر طبيعيا، كما أنه لن يعيش على حب عذري مع مي البعيدة عنها آلاف الكيلو مترات، إلا أن غنوة رأت أن جنون مي كان سببه خيانة جبران لها بطلبه الزواج من ماري التي رفضت الزواج به، رغم حبها له، كي لا تأخذه من عالمه الفني وتشغله عنه. أي أن مي بدروها كانت وجها من الأوجه النسائية غير الناضجة على المستوى النفسي والشعوري مما أدى إلى أزمتها النفسية.

"ترتعش أناملها وهي تكتب دون توقف. تذكرت لحظة اكتشافها لعلاقة جبران بماري هاسكل، وردة فعلها حين علمت بقرار زواجه منها. لم تكتب له أي كلمة. كان الصمت يطبق على أنفاسها ويمنع أناملها من الصراخ ببعض الحروف التي يمكن أن تطفئ نار الغيرة المُلتهبة بداخلها. كانت تشعر بيد الموت تقبض على أنفاسها وهي تتخيل جبران بين أحضان امرأة غيرها. يحدثها عن أسراره. ويهمس إليها بكلماته الملائكية الجانحة إلى كونه السماوي. أمسكت رأسها بكلتا يديها وهي تصرخ: هل أخذها معه إلى عالمه؟ هل كانت أقرب مني إلى روحه؟ وماذا عني؟ وهبتك العمر بأكمله، جمالي، عقلي، روحي، أناملي، كل ما أملك كان لك وحدك دون سواك. حتى جنوني هو لك دون سواك. هل كلمتها بتلك اللغة؟ لغتنا أنا وأنت؟ لغتنا التي تُشبه تغاريد الطير العاشقة؟ ألم تقل لي أنها لغتنا الخاصة بنا؟ ها إنك تهبها بعض تغاريدنا. بعضا من أنغامنا، فرحتنا وشجننا. ها إنك تهبها بعض نجومنا التي رسمناها في سمائنا، وأضأنا بها عتمة الليل، ورتقنا بها مزقات الطريق. ماذا فعلت بي جبران؟ حطمت القلب الذي أحييته ذات مساء. وشردت أحلامي التي بنيتها من ظلال الفكرة ومن أجنحة الكلمات. علمتني أن أحلق معك عاليا. علمتني أن أصير كوكبا في سماء خُلقت لنا فقط. لا أحد سوانا يسير بين الغمام يسترق النظر إلى كل الأجرام، ويسمع حديثها، ويتتبع خطواتها. ثم فجأة رميتني هنا بين كومة من الحجارة المُتكلسة التي لا تصلح لغير بناء البيوت الفانية. من قال لك إني أريد العودة إلى هذه الأرض؟ من يتعود على العيش فوق المُرتفعات لا تستهويه السهول. ماذا وهبتها أيضا؟ بعض قلبك؟ هل يمكن لقلب العاشق أن ينشطر نصفين؟! واهم أنت يا محبوبي. فقد ضللت الطريق. ها إنها ترفض طلبك وتمنحك قلبا آخر للحياة. قلبا مُتكملا لا تتناصف فيه الأشياء. كانت أكثر منك تسلقا للمشاعر الحقيقية. ها إنك تفوز مرتين بجنون مي، وتضحيات ماري. كم أنت محظوظ بنا، وكم نحن محظوظتان بهذا العشق الذي قاد إحدانا إلى ذرف الدموع، والأخرى إلى الجنون".

هل من المُمكن هنا الانسياق خلف شعور مي زيادة في خيانة جبران لها؛ ومن ثم التأكيد على أنه كان السبب في أزمتها النفسية التي عانتها؟

بالتأكيد لا؛ فمي كانت مُجرد امرأة عابثة راغبة في امتلاك كل شيء من حولها، وآملة في التفاف الرجال جميعهم من حولها كعاشقين من أجل تعذيبهم واللهو بهم، بينما هي مشاعرها مع جبران الذي كان من المنطقي له التخلي عنها بسبب بُعد المسافة بينهما، فضلا عن أن ماري هاسكل كانت هي الأقرب إليه على أرض الواقع، وهي من عاضدته في كل شيء.

إذن، فغنوة الواقعة في عشق يوسف، حتى قبل زواجها من كمال، بتخيلها لهذه النماذج من النساء إنما تُخادع نفسها من أجل خلق مُبرر لحالتها النفسية ورغبتها في الانتحار، إنها تبحث عن العامل المُساعد من خلال هذه النسوة وتمثلهن كي تقضي على صوت ضميرها بسبب خيانتها لكمال، وهي الخيانة التي تنكرها في حين أننا نقرأ: "اعتقدت قبل ذلك أن الغياب يساوي النسيان. لكني كنت واهمة، ها هو الغياب يزيدني تعلقا به، وها هي المسافة لا تنقص شيئا من حبي له. لكن الحُب إذا زاد على حده صار وباء لا بد من القضاء عليه. وحُب يوسف لم يعد مُجرد حُب، إنه ورم يكبر في داخلي ويمتد كل يوم ويسيطر على أعضاء الجسد، على الشرايين، على الكبد، على القلب، على العقل، حتى على المعدة، فها أنا أصبحت آكل بنهم غريب لم أعتده قبل ذلك. أما هذه الأصابع فقد استولى عليها بكليتها، تينع حروفها من أجل أن تقول شيئا عن حبي له. ثم تنكفئ على نفسها في حزن غريب حين تعجز عن قول ما تريد"، أي أن غنوة واقعة في عشق يوسف رغم زواجها من كمال، وهو ما لا يمكن اغتفاره لها، وهي نفسها تُدرك ذلك، وواثقة من خيانتها لزوجها؛ لذا تتمثل هذه الحكايات لغيرها من النساء للتخلص من الشعور بالذنب، وإلقاء اللوم على كمال بدلا من لوم ذاتها!

ربما بسبب شعورها هذا؛ فهي ترغب في الانتقام من يوسف حتى بعد رحيلها بالانتحار الذي تفكر فيه: "قررت كتابة مُذكراتي ليعلم حين أرحل أي حب كنت أحمله له في قلبي، وأي وجع تركه فيه. فكرة جيدة لأعاقبه بقية الحياة. سيقرأها وسيشعر بالذنب، ستسجنه كلماتي إلى الأبد، ستسلبه كل مشاعره ولن يبقى له مجال ليحب مرة ثانية. لكن، هل ليوسف قلب يشعر به ويندم؟ ولكني لا أتخيل يوسف يحب امرأة غيري. مُجرد التفكير في ذلك يقتلني. ولكن ما همني ساعتها وقد ودعت هذه الحياة؟ أبدا لن ينعم بلحظة سعادة واحدة بعد رحيلي. سيظل طيفي وطيف كلماتي يحوم حول رأسه، حول قلبه، ويمضي ما تبقى من حياته يتجرع طعم الندم والحسرة. لن أرحل دون أن أفسد حياته. لن يكون الحُب وباء في حياتي وحدي، سينهش ذاكرته أيضا، وسيقبض على روحه. سوف لن يحتمل الحياة بعدي، وربما يقرر الالتحاق بي. هكذا سيجمعنا الحُب في عالم آخر". إن تفكير غنوة هنا شديد السذاجة والسطحية، وعدم اكتمال النضج، إنها امرأة تتصرف بطفولية ساذجة، وتظن أنها من المُمكن لها بكتابة مُذكراتها قبل انتحارها أن تقضي على حياة يوسف ظنا منها أنه سيتعذب بها، بل هي تتميز بالكثير من الأنانية التي نلحظها في "لا أتخيل يوسف يحب امرأة غيري، مُجرد التفكير في ذلك يقتلني"، فهي لا ترغبه أن يكون لغيرها، في حين أنها تحيا حياتها مع رجل آخر؛ مما يُدلل على عدم الاكتمال، والاضطراب النفسي.

تحاول غنوة الطلاق من كمال، وحينما يرفض طلاقها تهرب منه بعيدا عنه، لكن الروائية هدى حواس تتخلص من عالمها الروائي بشكل فيه الكثير من الفنية والحرفية، وهو ما يمكن لنا أ نُطلق عليه حُسن التخلص؛ فالروائية وجدت أن عالمها لا يمكن له أن ينتهي بسهولة بعدما أوغلت في هذه المشاعر المُتناقضة غير السوية، ومن ثم كان الفصل الأخير فيه من الفنية والذكاء ما جعل الرواية مُكتملة على مستوى البناء، حينما قرأنا في الفصل الأخير: "هذا الفصل لم تكتبه الساردة، بل كتبته أنا سليم الحريري، رئيس مجمع الترجمات، وصاحب دار نشر أنامل"، ثم يحدثنا عن لقائه بغنوة في أحد المطارات، ومحاولته فتح الحديث معها بعدما جلست إلى جواره تقرأ في مجموعة من الأوراق، فعرفها بنفسه كناشر إلا أنها ردت عليه بجفاء، وحينما صعدا إلى الطائرة أرسلت له مخطوط روايتها مع المُضيفة، ولم تلبث أن أصابتها حالة هيستيرية من حالاتها التي استدعت نقلها إلى المشفى، وهو ما جعل المُضيفة تسلمه حقائبها ظنا منها أنه يعرفها بما أنها كانت قد أرسلت إليه مخطوط روايتها، وهنا يضطر سليم الحريري إلى التقليب في محتويات حقيبتها للتواصل مع أي شخص يستطيع أن يسلمه مُتعلقاتها، وبالفعل يفعل ذلك إلا أنه يحتفظ بالرواية التي قرأها عدة مرات وقام في النهاية بنشرها.

إن رواية "أصابع امرأة نيئة" للروائية التونسية هدى حواس من الأعمال الروائية المُهمة في تأمل حالات العديد من النساء اللاتي لم ينضجن على مستوى المشاعر؛ ومن ثم فهن يلقين دائما باللوم على الرجال باعتبار أن شركائهم هم السبب الرئيس في إصابتهن بالعديد من الحالات النفسية السيئة التي قد تفضي بهن إلى الجنون، أو الانتحار، ولعل الروائية قد نجحت إلى حد بعيد في تحليل هذه الحالات غير المُكتملة النضج، وقامت بتشريحها على المستوى النفسي ببراعة فنية، ورغم أن الرواية قد تبدو للوهلة الأولى نسوية مدينة للرجل بشكل عام، إلا أنها في حقيقتها تدين المرأة بسبب عدم نضجها، مما يجعلها شديدة الحماقة في خياراتها وأحكامها، لذلك نراها تؤكد على أن المرأة نفسها تكاد أن تكون ذكورية في تفكيرها في أي مكان من العالم حينما نقرأ قول أم سيلفيا بلاث لها: "تذكرت حديثها عن أمها، حافظي على عذريتك، الشرف يكمن هناك بين فخذيك، المرأة الشريفة هي من تهدي عذريتها لزوجها، الرجل يحترم المرأة التي تهبه جسدها طاهرا، عليك أن تظلي عذراء حتى يأتي زوجك ويظفر بهديته، كوني بيضاء ناصعة كثلجة لتكوني زوجة صالحة، وبجرات قلم طويلة ومُرتعشة كنت أسجل على أوراقي ما نقلته إليّ من حواراتها مع أمها"!

ربما نُلاحظ هنا أن الروائية إنما تدين المرأة ذاتها، وهي المرأة التي تفكر بعقلية ذكورية تماما، وترى في نفسها مُجرد شيء، لا يمكن له أن يتميز بالنقاء، أو الطهارة إلا بتحولها إلى راهبة لم يمسها رجل من قبل، وإذا ما حدث ومسها رجل قبل زواجها؛ فهي تتحول إلى مُجرد شيء مُدنس- لاحظ قولها: الرجل يحترم المرأة التي تهبه جسدها طاهرا- أي أن أي علاقة لها قبل الزواج يُعد تدنيسا لها وكأنها باتت شيئا لا قيمة له لا بد من إلقائه في سلة المهملات!

تعد رواية "أصابع امرأة نيئة" من الروايات القليلة التي تتأمل في عالم المرأة محاولة تشريح سيكولوجيتها غير المُكتملة، وما يؤدي إليه عدم الاكتمال إلى قلب الحقائق، وتزييفها؛ لعدم قدرتها على إدراك الواقع وما يدور فيه؛ ومن ثم تستمرئ دور الضحية للجميع، رغم أنها هي الجانية على كل من حولها!

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة

عدد يوليو 2022م

 

الثلاثاء، 5 يوليو 2022

سينما المقاولات

عام 1987م قدم المُخرج أحمد السبعاوي مشهدا في فيلمه "المواجهة" يكاد أن يُمثل أكثر مشاهد السينما في العالم أجمع استهانة بالجمهور، وإسفافا واستخفافا بصناعة السينما؛ حينما رأينا المُمثل فريد شوقي الذي انتحر بطلقة في رأسه، لكنه يظل طوال المشهد يترنح محاولا الكلام متطوحا، رغم أن المعروف لدى الجميع أن من يتلقى طلقة في رأسه لا بد له أن يموت مُباشرة، وفي نفس اللحظة، ومن دون إبداء أي بادرة حركة بعد هذه الطلقة، إلا أن مُخرجنا الذي يستخف بعقول الجميع من خلال تقديم سينما مُسِفة لا يعنيها أي منطق أو فن بقدر ما تعنيها التعبئة في شرائط فيديو من أجل التصدير لدول الخليج، رأى أنه من المُمكن جعل من يُصاب بطلقة مُباشرة في الرأس يترنح محاولا الحديث لعدة لحظات!

بالتأكيد ستزداد الدهشة حينما نعرف أن كاتب السيناريو هو السيناريست عبد الحي أديب- الذي ساهم بقدر لا يُستهان به في صناعة السينما الرديئة التي ستُعرف فيما بعد باسم سينما المقاولات، رغم أنه كاتب سيناريو فيلم "باب الحديد" 1958م للمُخرج يوسف شاهين- وقد كان الفيلم من إنتاج رياض العقاد أحد مُؤسسي شركة "جيبكو تاكفور أنطونيان وشركاه".

إن ما قدمه المُخرج أحمد السبعاوي في فيلمه يُعد مثالا صارخا على المستوى السينمائي الذي قدم من خلاله مُخرجو هذه الموجة- سينما المقاولات- أفلامهم، وهي الموجة الأكثر انعطافا وقسوة وانحطاطا فنيا في تاريخ السينما المصرية؛ حيث بدأت في مُنتصف الثمانينيات- مُنافِسة في ذلك اتجاه سينما الواقعية الجديدة، وكانت مُنافسا شرسا وغير شريف للسينما الجيدة التي بدأت تطل برأسها مع بداية هذه الحقبة؛ نتيجة للانخفاض الشديد للميزانية التي يتم من خلالها إنتاج الفيلم، وعدم اعتمادهم على أي تقنيات سينمائية جيدة سواء من ناحية الصورة أو السيناريو أو الإخراج، أو حتى المُمثلين.

في عام 1984م "ارتفع عدد الأفلام المعروضة بشكل مُفاجئ إلى 63 فيلما، فيما يُشكل بداية موجة أفلام المقاولات، وهي أفلام تُعد بميزانيات ضئيلة، ومستوى فني متواضع؛ لتعبئة شرائط الفيديو لدول الخليج والسعودية"[1]. في هذه الإشارة السابقة من الناقد السينمائي علي أبو شادي ما يشير إلى أن بداية ما أُطلق عليه توصيف سينما المقاولات قد بدأ عام 1984م، وهو ما يؤكد على أن البداية المُبكرة لهذه السينما- بالنسبة لنشأة سينما الواقعية الجديدة- كانت تُمثل خطرا فادحا وعبئا مُضافا أمام رواد الواقعية الجديدة؛ حيث ظهر أمامهم- بعد القليل جدا من سنوات البدء- مُنافس كان يمتلك من القدرة، والجماهيرية، والميزانيات المُنخفضة تماما؛ ما يجعل المُنتجين والجمهور معا يهربان إليهم لافظين اتجاه السينما الجادة والمُهمة التي يقدمها مُخرجو الجانب الآخر ويؤمنون بها.

المخرج أحمد السبعاوي

الظهور المُفاجئ لهذا اللون من ألوان السينما الرديئة التي لا تقدم أي شيء سوى تعبئة شريط الفيديو فقط- حيث لم يكن يعنيها في المقام الأول العروض السينمائية الجماهيرية بقدر ما كان يعنيها التعبئة في شرائط فيديو بمُجرد الانتهاء منها- كاد أن يكتسح صناعة السينما في حقبة الثمانينيات؛ لدرجة أن مُعظم الإنتاج في هذه الفترة كان لمُمثلي سينما المقاولات من مُخرجين ومُنتجين. في هذا يقول الناقد علي أبو شادي: "في عام 1985م بلغ عدد الأفلام المعروضة 76 فيلما، وهو رقم غير مسبوق حتى الآن، وما تزال أفلام المقاولات الصغيرة والمُتهافتة في تزايد مُستمر؛ لسد حاجة سوق الفيديو العربي، وندرة الأفلام المُتميزة خلال هذا العام، وقد شهد العام ظهور 12 مُخرجا جديدا، وهم صلاح سري، ونادية سالم، وعادل الأعصر، وعدلي يوسف، وعبد الفتاح مدبولي، ومحمد البشير، وفايق إسماعيل، ومحمد الشامي، وعبد اللطيف زكي، وعبد الهادي طه، وإيناس الدغيدي، وتحول المُؤلف السينمائي بشير الديك إلى الإخراج وقدم فيلم "الطوفان" أول أفلامه، كما حصل المُخرج داود عبد السيد على فرصته الأولى كمُخرج روائي بعد سبعة عشر عاما من تخرجه عام 1967م، وقدم فيلم "الصعاليك" أحد الأفلام المُهمة التي ناقشت بوعي سياسة الانفتاح الاقتصادي وأثرها على الواقع، وظهور الشرائح الطفيلية على وجه المُجتمع المصري في الثمانينيات"[2].

إذا ما تأملنا ما ذكره الناقد في الاقتباس السابق؛ سنُلاحظ أسماء مجموعة من المُخرجين الذين بدأوا الإخراج السينمائي من خلال العديد من الأفلام المُتهافتة؛ وهو ما جعل هؤلاء المُخرجين لا يتركون أي أثر يُذكر في تاريخ السينما المصرية، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يتذكرهم، أو حتى يتذكر ما قدموه من أفلام؛ فصلاح سري مثلا قدم "التريلا" 1985م، و"الفحامين" 1987م، و"الشرابية" في نفس العام، و"نصيب الأسد" 1992م، و"بلطية بنت بحري" 1995م، وهي الأفلام التي لا يذكرها مُشاهدو السينما المصرية؛ ومن ثم لا يمكن تذكر اسمه، نفسه، كمُخرج مرّ من هنا ذات يوم! وهو الأمر الذي سنُلاحظه مع مُعظم هؤلاء المُخرجين المذكورين في الاقتباس السابق مثل عدلي يوسف الذي قدم "أيام التحدي" 1985م، و"مقص عم قنديل" في نفس العام، و"فيش وتشبيه" 1986م لتنتهي حياته السينمائية تماما بعد فيلمه الثالث، وهي الحياة التي لم تبدأ؛ لأن مثل هذه الأفلام تكاد أن تكون لا وجود لها في تاريخ السينما المصرية، ومحمد البشير لم يقدم سوى فيلمٍ واحدٍ فقط هو "موت سميرة" 1985م، ولم يلجأ لصناعة أفلام سينمائية مرة أخرى! كذلك محمد الشامي الذي رأينا له فيلم "الثعبان" 1985م، ثم فيلم "شقاوة في السبعين" 1988م ليتوقف بعده عن صناعة السينما التي لم يكن بدأها بعد، أي أن مُعظم هؤلاء المُخرجين لم يقدموا للسينما المصرية ما يمكن له أن يعمل على تخليد تاريخهم، سواء من ناحية الصناعة والانطلاق بها إلى آفاق جمالية أرحب، أو من ناحية الكم والتراكم الذي قد يجعلنا نذكرهم فيما بعد.

إذن، فدخول هؤلاء المُخرجين، الذين لا علاقة لهم بصناعة السينما، إلى المجال السينمائي وتقديمهم الكثير جدا من الأفلام، التي لا علاقة لها أيضا بصناعة السينما، قد أدى إلى الاستيلاء على فُرص الكثيرين من المُخرجين الجادين الذين انتظروا طويلا كي يجدوا الفرصة؛ لتقديم تجاربهم السينمائية المُهمة مثل داود عبد السيد، على سبيل المثال، أي أنه من المُمكن لنا اعتبار أن هذه الموجة الكاسحة من الرداءة التي كادت أن تُدمر السينما المصرية في الثمانينيات وتعود بها إلى شكل أكثر ضعفا وتهافتا من السبعينيات، قد سرقت الكثير من الفُرص من المُخرجين الجادين الراغبين في صناعة سينما مصرية جيدة تعمل على النهوض بها من عثرتها في الحقبة السابقة، وتشتبك مع الواقع؛ محاولة مُعالجته، أو إيجاد حلول جذرية له، إلا أن السينما الشرسة- المقاولات- الآتية من عقليات لا علاقة لها بالسينما كادت أن تقضي على هذه السينما الجادة من خلال التهافت والتغييب واللاصناعة التي يقدمونها باسم السينما.

الناقد علي أبو شادي
 

إن مُتابعة الأفلام السينمائية المُنتجة في هذه الفترة يجعلنا نتأكد من خطورة هذه الموجة في عمر السينما المصرية، صحيح أنها عملت على ارتفاع الإنتاج السينمائي المصري إلى أرقام غير مسبوقة في تاريخها من قبل، لكنه كان مُجرد إنتاج لمسخ مشوه يطلقون عليه في نهاية الأمر فيلما سينمائيا، وربما لم يكن هناك أي فائدة تُذكر لارتفاع هذا العدد غير المسبوق سوى تشغيل المئات ممن يعملون في صناعة السينما خلف الكاميرا من فنيين ومصورين ومُونتيرين وغيرهم ممن لا يوجد عليهم الكثير من الطلب أو العمل الدائم، ولنتأمل عام 1986م حيث "بلغ عدد الأفلام التي تم عرضها 95 فيلما، وهو أعلى رقم وصلت إليه السينما المصرية في تاريخها، ويمثل ذروة الخط البياني لتزايد سينما المقاولات، كما ظهر عشرة مُخرجين جُدد هم حسن سيف الدين، وكمال عيد، وعثمان شكري سليم، ويوسف أبو سيف، وشريف حمودة، ومحمد أباظة، وهاني يان، ومحمد أبو سيف، وأحمد الخطيب، وناجي أنجلو، وعبد العليم زكي، وقدموا جميعا مجموعة من أفلام المقاولات المتواضعة"[3].

نُلاحظ في الاقتباس السابق أن الناقد علي أبو شادي يذكر أن هؤلاء المُخرجين الذين ظهروا في هذا العام قدموا مجموعة من أفلام المقاولات المتواضعة، وذكر من بين هؤلاء المُخرجين المُخرج محمد أبو سيف باعتباره ممن ساهموا في هذه السينما 1986م بتقديمه فيلم "التفاحة والجمجمة"، وهو فيلم، في حقيقة الأمر، لم يكن له أي علاقة بما يُطلق عليه سينما المقاولات، بل كان من الأفلام الجادة. كما نلاحظ أن مُعظم هؤلاء المُخرجين لم يتركوا أي أثر يُذكر في تاريخ السينما المصرية؛ ومن ثم فلا يوجد من يتذكر أسماءهم أيضا؛ بسبب ما قدموه من أفلام لا قيمة فنية لها؛ ومن هنا رأينا مثلا المُخرج محمد أباظة الذي قدم فيلمه الأول "احترس عصابة النساء"، الذي كان مُساهما ضليعا من خلاله في أفلام المقاولات ورداءتها، كما قدم "المزيكاتي" 1988م، و"أرباب سوابق" في نفس العام، و"الطائر الجريح" 1990، و"استوب" 1992م، ثم اختفى تماما من مسار السينما المصرية إلى غير رجعة، وهو ما رأيناه مع المُخرج عثمان شكري سليم الذي قدم فيلمه "الفريسة" 1986م، ثم فيلم "الملعوب" 1987م، وتوقف تماما عن صناعة السينما بعد هذين الفيلمين، وهذا ما سنُلاحظه في مُعظم الأسماء التي ذكرها أبو شادي في الاقتباس السابق.

حينما بدأت موجة الأفلام التي أطلق عليها نقاد السينما توصيف "سينما المقاولات" عام 1984م لاحظنا أن هذه السينما كانت نتاجا طبيعيا للفترة السياسية والاقتصادية السابقة التي مرت بها مصر؛ وهو ما انعكس بدوره على الحياة الاجتماعية التي انقلبت انقلابات معيارية خطيرة أدت إلى صعود الطبقات الطفيلية إلى قمة المُجتمع المصري من التجار، والحرفيين الذين استغلوا الانفتاح الساداتي؛ ومن ثم بات أرباب المهن اليدوية على قمة المُجتمع، وبات الجميع يفضلونهم- لأنهم من يمتلكون المال- على غيرهم من المُتعلمين الذين أصبح وجودهم في المُجتمع المصري يكاد أن يكون عالة وعبئا، ولا قيمة اجتماعية أو ثقافية لهم. هنا بدأت الطبقة الوسطى تزداد مُعاناتها، بل والدفع بها نحو التهميش الكامل في المُجتمع لدرجة أنها لم تعد تعرف كيفية السبيل إلى الخروج من هذه الأزمة الخانقة. هذه التغيرات الجذرية في المُجتمع- سواء من خلال المفاهيم أو القيم أو الأطر- أدى إلى ثقافة جديدة تعمل على الإعلاء من شأن المهن والحرف اليدوية؛ وبالتالي لم يجد أبناء الطبقة الوسطى أمامهم سوى طريقين للخروج من هذه الأزمة الخانقة: إما الهجرة المُؤقتة إلى الدول النفطية في الخليج- حيث إمكانية تكوين شيء من الثروة، ثم العودة مرة أخرى- أو الهروب من هذا المُجتمع العبثي الذي شكلته سياسة السادات الانفتاحية، ولم يكن ثمة طريق لهذا الهروب إلا من خلال الهجرة الدائمة إلى أمريكا وكندا وغيرها من الدول- وهو الطريق الذي اختاره عدد كبير من المُتعلمين من أصحاب الكفاءات العقلية- أو الهروب الانهزامي داخل المُجتمع المصري والحياة على هامشه وكأن أصحابه لا وجود لهم، أي أن هذه السياسات أدت إلى تفتيت المُجتمع الذي كان يتغنى بقيم الأسرة والحفاظ عليها؛ ومن ثم بدأت الأسرة المصرية في الانهيار الكامل والتفكك؛ بسبب هجرة أرباب هذه الأسر من أجل محاولة الحصول على المال، أو بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها مُعظم الأسر بالنسبة لمن فضلوا البقاء وعدم الهجرة.

المخرج أحمد رشوان

مع ازدياد تفتيت المُجتمع، لا سيما الأسرة المصرية، بدأت تطفو على السطح الكثير من المشاكل التي لم يكن المُجتمع يعاني منها من قبل، من هذه المشاكل التي ظهرت، على سبيل المثال، اتجاه عدد كبير من المصريين للتجارة في المُخدرات وتعاطيها، كما أن الأزمة الاقتصادية التي يمر بها الجميع أدت إلى الكثير من العُنف وجرائم القتل، والنصب، وهي جرائم جديدة على مُجتمع مُسالم زراعي مُنذ نشأته الأولى، كما ظهرت على السطح أزمات الإسكان التي باتت من أهم ما يميز هذه الفترة التاريخية، وبات الحصول على شقة من الأمور المُستحيلة؛ لعدم وجود المال الكافي لذلك، بل ورأينا أزمات المواصلات العامة وغيرها من المشاكل التي بدأ يعاني منها المواطن المصري.

هنا، ومع صعود ثقافة الحرفيين- أغلبهم غير مُتعلمين، أو حاصلين على تعليم متوسط- الذين تكتل رأس المال في أيديهم بدأت مجموعة منهم تنظر إلى السينما باعتبارها الدجاجة التي ستبيض لهم ذهبا؛ وهو الأمر الذي دفعهم- وهم لا يعرفون شيئا عن صناعة السينما سوى المزيد من تدوير رؤوس الأموال- إلى الدخول في مجال الصناعة من خلال ثقافتهم المتواضعة التي تخصهم؛ فكان هناك البقال، والجزار، والبناء، وغيرهم من أصحاب الحرف ممن يمتلكون قدرا غير هين من رأس المال الذين باتوا فجأة مُنتجين لصناعة السينما، وهم لم يكن يعنيهم النهوض بالصناعة، أو محاولة الإضافة إليها، أو الارتقاء بها بقدر ما كان يعنيهم في المقام الأول استرداد الأموال التي أنفقوها مُضافا إليها الكثير من الأرباح بعد تعبئتهم لما يصنعونه في شرائط فيديو من أجل تصديرها للخليج، أي أنهم لم يهتموا أيضا بالعروض السينمائية لما يصنعونه من صناعة شائهة، بل كانوا يعلبونها سريعا من أجل التصدير وإضافة الكثير من الإعلانات داخل شريط الفيديو، وهي الإعلانات المدفوعة الأجر من أجل تكديس المزيد من الأموال.

لكن، لِمَ كان هؤلاء المُنتجون الجُدد يحرصون على تعبئة شرائط الفيديو وتصديرها للخليج من دون الاهتمام بعرض ما يصنعونه في دور العرض؟

المخرج إبراهيم البطوط

ثمة سببان رئيسيان جعل هؤلاء الدخلاء إلى عالم صناعة السينما يضعون نصب أعينهم تصدير أفلامهم إلى الخليج في شرائط فيديو، وهما: دخول بعض الموزعين من دول الخليج إلى صناعة السينما المصرية، وبما أن دول الخليج كانت تعاني من ندرة دور العرض؛ فلقد كانت هذه الأفلام- مع انتشار الفيديو كاسيت في هذه الفترة- بمثابة البوابة التي تُتيح لهم رؤية أفلام سينمائية تتوافق مع ثقافتهم البدوية فقط- الأمر الذي جعل هذه الأفلام لا تهتم بأي شكل من أشكال القضايا الجادة بقدر ما كانت تهتم بالمُطاردات، وتجارة المُخدرات، والراقصات، وغيرها من الأمور التي تُمثل هذا العالم الجديد على صناعة السينما المصرية، وهي الشروط التي كان يفرضها الموزع الخليجي.

السبب الثاني هو هجرة عدد كبير من المصريين إلى دول الخليج كهجرة مُؤقتة من أجل تكوين الثروة ثم العودة مرة أخرى، ومُعظم هؤلاء المُهاجرين كانوا من أصحاب الحرف اليدوية- لاحظ أن المُثقفين والمُتعلمين وغيرهم من هذه الفئات قد فضلوا الهجرة الدائمة إلى أمريكا، وكندا- وهم يتميزون بقدر مُنخفض من التعليم، أو انعدام التعليم تماما، وهؤلاء كان لهم ثقافتهم التي تخصهم، وهي الثقافة التي لعب عليها صُناع السينما الجُدد من أصحاب أفلام المقاولات، أي أنهم كانوا يصنعون لهم ما يتوافق مع ثقافتهم الخاصة؛ كي يستمتع العامل من هؤلاء في نهاية اليوم الشاق من العمل بفيلم مسلٍ فيه من المُطاردات والراقصات والمعارك والقتل ما يجعله يشاهده، ثم يذهب إلى النوم من دون الاهتمام بأي قضية قد تُشغل باله للتفكير فيها.

تُعرف أفلام المقاولات بأنها الأفلام ذات الميزانية المُنخفضة، أو الضئيلة التي يحاول صانعها إنفاق أقل قدر من الأموال عليها من دون الاهتمام بالصورة، أو الجودة، أو الصوت، أو ما يقدمه من قصة، بل وعدم الاهتمام بتقديم مُمثل جيد أو معروف، أي أن هذه الأفلام كان جل من يعملون فيها لا علاقة لهم بالسينما من مُمثلين أو فنيين- لكننا لا ننكر أنها أتاحت الفُرصة للبعض للعمل في السينما بدلا من التعطل- ومن خلال هذه الميزانية الضئيلة أو المُنخفضة كان يتم تعليب الأفلام وتصديرها.

لكن، لا يمكن إنكار أن هذه الفئة من الأفلام التي أطلق عليها نقاد السينما توصيف المقاولات- ربما نسبة إلى مقاولي البناء الذين دخل منهم الكثيرون إلى هذه الصناعة- هي شكل من أشكال السينما الموجودة في كل سينمات العالم، أي أنها لم تكن قاصرة على مصر فقط، بل ما زالت هذه الفئة من الأفلام يتم تقديمها حتى اليوم في كل السينمات المعروفة في العالم. صحيح أننا نعرف أن ثمة سينما جادة تهدف إلى الارتقاء بالصناعة والدفع بها إلى الأمام وتجويدها، أي الصناعة التي تهتم بالسينما كفن في المقام الأول، لكن في المُقابل هناك السينما التجارية التي تضع نصب عينيها شباك التذاكر وما يمكن أن يدره لصُناع الفيلم من أرباح، وهذه السينما التجارية لا يعنيها الفن في المقام الأول بقدر ما تعنيها الأموال التي سيدرها هذا الفيلم في النهاية، إلا أن سينما المقاولات لا يمكن إدراجها في إطار السينما الأخيرة- التجارية- بأي شكل من الأشكال؛ لأن السينما التجارية كانت تحاول الحفاظ- إلى حد ما- على قدر قليل من الفن في صناعتها، لكن ما عرفناه بسينما المقاولات لم يكن يعنيها أي شكل من أشكال الفن، بل لم يكن مُنتجوها يهتمون بعرضها في السينمات عروضا جماهيرية؛ فالفيلم ينتهي تصويره خلال أسبوع أو أسبوعين على الأكثر، وسُرعان ما يتم تصديره؛ ليبدأ مُنتجه في صناعة فيلم جديد غيره!

المخرج محمد أبو سيف

هذه السينما ذات الإنتاج المُنخفض Low Budge تُعرف في العالم كله باسم B-Movies، وهي أفلام عادة ما تكون أقل جودة، وأقل فنية، أو أردأ من الأفلام ذات الكلفة المُرتفعة التي يُطلق عليها اسم أفلام الفئة الأولى، وقد تفرع من تلك الأفلام تصنيفات أخرى هي C-Movies، وZ-movies مثل فيلم Plan 9 From The Outer Space للمُخرج الأمريكي إد وود Ed Wood 1959م الذي صنفه نقاد السينما باعتباره أسوأ فيلم في التاريخ، ويتحدث الفيلم عن أشخاص خارجيين يسعون إلى منع البشرية من صُنع سلاح يوم القيامة الذي يمكن له أن يدمر الكون. يقوم الأجانب بتنفيذ الخطة 9، وهي خطة لإحياء موتى الأرض المُشار إليهم باسم "الغول"، ومن خلال التسبب في الفوضى يأمل الأجانب في أن تُجبِر الأزمة البشرية في الاستماع إليهم، وإلا فإنهم سيقومون بتدمير البشرية بجيوش من "أوندد". تم تصوير الفيلم في البداية بعنوان Grave, Robbers From Outer Space لكن تم تغيير الاسم في النهاية إلى "الخطة تسعة من الفضاء الخارجي".

لكن، ماذا يعني هذا التصنيف الذي ذكرناه لصناعة الأفلام السينمائية في العالم؟

B Movies: هو الفيلم السينمائي المُنخفض التكلفة، وقد تم تعريف المُصطلح بدقة أكثر للأفلام المُعدة للتوزيع على أنها النصف السفلي في السينما الأقل انتشارا، ولكن رغم هذا الانخفاض وعدم الاهتمام بالصناعة السينمائية في المقام الأول من خلال هذه الأفلام، فإننا نُلاحظ أن العديد من أفلام B تعرض درجة عالية من الحرفية والإبداع الجمالي، وقد كانت أفلام الخيال العلمي، والرعب المُنخفضة الميزانية، أو الجريمة تُمثل الفئة B، وغالبا ما كانت الأفلام B المُبكرة جزءا من سلسلة لعبت فيها النجمة، أو النجم نفس الشخصية مرارا وتكرارا، كما تتميز هذه الفئة من الأفلام بأنها أقصر تقريبا من الأفلام الروائية الطويلة، حيث كانت تصل المدة الزمنية للعديد منها إلى 70 دقيقة، أو أقل، كما يشير المُصطلح إلى تصور عام مفاده أن هذه الأفلام كانت أقل شأنا من الأفلام الرئيسية الأكبر في الميزانية، وغالبا ما يتم تجاهل هذه الفئة من الأفلام من قبل النقاد.

C Movies: هي أفلام مصنوعة من ميزانية مُنخفضة ومحتوى رخيص، وتتم صناعتها، في الأغلب، من دون افتعال أي مُؤامرات أو حوارات كبيرة، أو ادعاءات بصناعة السينما الجيدة، كما أن عروضها كثيرة التواضع وأحيانا ما تعمل على اختبار درجة صبر المُشاهد؛ نظرا لرداءتها، وهي أقل من حيث الجودة من التصنيف السابق B أي أنها الأكثر استهانة بالسينما.

Z Movies: هي الأفلام الأقل ميزانية في تصنيف الأفلام، وهي أيضا الأقل من حيث المستوى الفني، أو حتى الاهتمام بالسينما من حيث كونها صناعة، أو فن، وهو وصف لبعض الأفلام التي تعتمد على الصور المُنخفضة تماما بمعايير الجودة التي تقل بكثير عن مُعظم أفلام B، أو حتى ما يُسمى أفلام C.

تميل هذه الاختصارات الاقتصادية للأفلام إلى أن تكون واضحة طوال الوقت، وهذا يعني أن الأفلام التي تُطبق عليها العلامة C هي عموما من إنتاج كيانات إنتاجية مُستقرة نسبيا في صناعة الأفلام التجارية؛ ومن ثم لا تزال تلتزم- إلى حد ما- بمعايير إنتاج مُعينة، لكن في المُقابل تتم صناعة مُعظم الأفلام المُشار إليها باسم Z مُقابل القليل جدا من المال على هامش الأفلام المُنظمة والمعروفة في الصناعة، أو خارج المنظومة السينمائية تماما، وغالبا ما تكون قصص هذه الأفلام مكتوبة بشكل رديء، وتستمر هذه الرداءة في التصوير، والصوت، والمُونتاج، والإخراج، والتمثيل كما أنها نوعية من الأفلام التي تعتمد على المُمثلين غير المُحترفين.


إذن، فمن خلال هذا التصنيف لصناعة الأفلام في السينما العالمية يتضح لنا أن A Movies هي الأفلام التي تهتم بالصناعة، وتطويرها، والدفع بها نحو ما هو أجود، وهي الأفلام التي تنفق الملايين من الدولارات على الصناعة من أجل الحفاظ على المستوى الأجود في صناعة السينما، كما نُلاحظ أنه كلما اختلف التصنيف أدى ذلك إلى التقليل من الميزانية، والتقليل، بالضرورة، من المستوى الفني للفيلم، من حيث الصناعة، حتى نصل إلى التصنيف Z الذي يُمثل أسوأ أشكال الصناعة، والذي يُطلق عليه- تجاوزا- اسم فيلم سينمائي؛ فهو لا ينتمي إلى الصناعة بأي شكل من الأشكال.

إذا ما تأملنا التصنيفات السابقة سنعرف أن السينما التجارية في صناعة السينما المصرية هي ما يمكن أن نُطلق عليه تصنيفات B، أو C، أي أنها الأفلام الأقل جودة وإن كانت تحاول الحفاظ، إلى حد ما، على مقومات الصناعة، كما قد يظهر فيها بعض المقومات الجيدة في الصناعة سواء على مستوى الصورة، أو الصوت، أو غيرها من مُفردات الصناعة السينمائية، وإن كانت لا تهتم بها من حيث الجودة على المستوى العام؛ حيث تهتم بمدى الجذب الجماهيري، كما تضع عينيها على شباك التذاكر ومدى ما يمكن أن يدره الفيلم من أرباح. أما ما أُطلق عليه توصيف سينما المقاولات في صناعة السينما المصرية فهي الأفلام التي تقابل التصنيف Z، أي أنها الأفلام التي لا علاقة لها بصناعة السينما، ولا تعنيها الصناعة في أي شيء، بقدر ما يعنيها صناعة مسخ يُطلقون عليه فيلما سينمائيا، ولا يهتمون بعرضه الجماهيري في دور العرض- رغم أن السينما تتم صناعتها في المقام الأول من أجل العرض في دور السينما؛ حيث السينما في أهم خصائصها وسيط لا يمكن له اكتساب مشروعيته من دون العرض على الجمهور- بل يهتمون بالسرعة في إنجاز الفيلم من أجل حشره بالكثير من الإعلانات وتعليبه في شرائط فيديو كاسيت، وتصديره إلى دول الخليج التي تدفع مُقابله من أجل إعادة تدوير الأموال في المزيد من الرداءة باسم الصناعة السينمائية.

لكن، لا بد من الانتباه هنا إلى خصيصة من أهم خصائص هذه السينما- سواء كانت تجارية، أو مقاولات- فنحن حينما حاولنا تعريف السينما التجارية، أو سينما المقاولات أكدنا على أنها الأفلام ذات الميزانية المُنخفضة Low Budge، أي الأفلام التي يحرص مُنتجوها على أقل مبلغ من المال من المُمكن إنفاقه على الفيلم حتى لحظة انتهائه، وهذا يعني، في شكله العام، أن الأفلام ذات الميزانية المُنخفضة؛ هي بالضرورة أفلام سيئة لا تهتم كثيرا بصناعة السينما كفن، أو الدفع بها نحو الأمام أو التجويد. لكن مثل هذا التصور ليس صحيحا بشكله المُطلق؛ لأنه ثمة أفلام أخرى تكون ميزانياتها المالية شديدة الانخفاض، ويحرص صانعوها على تخفيض الميزانية بكافة الطرق، لكن المُنتج النهائي لهذه الأفلام هو أفلام جيدة جدا تتساوى مع أفلام الفئة A في صناعة السينما، أي أنها تتساوى وتنافس الأفلام التي تهتم بالصناعة من حيث هي صناعة مُهمة، وفن.

مثل هذه الأفلام رأيناها في صناعة السينما المصرية فيما تم توصيفه "بالسينما المُستقلة" التي تحاول صناعة سينما ذات جماليات تخص صانعيها- سواء من ناحية الموضوع أو الصورة- ولا تجد من يتحمس للإنفاق عليها؛ ومن ثم لجأ صُناعها إلى تحديد الإنفاق فيها.

"نشأت حركة السينما المُستقلة في الولايات المُتحدة الأمريكية في أوائل السبعينيات؛ لتتمرد على سُلطان نظام الاستوديوهات الأمريكي بما يمثله من قواعد وتقاليد فنية وفكرية سائدة لا تسمح بتقديم المُختلف؛ لتقدم أعمالا فنية خارجة عن السائد، مُتمردة سواء على العلاقات الإنتاجية، أو الظروف الاقتصادية لإنتاج الفن السينمائي، كما تتمرد على الأفكار والتقاليد الفنية والجمالية السائدة أيضا؛ في سبيل تحقيق جماليات مُغايرة، وتجارب فنية خاصة ومُختلفة، سواء كانت تتميز هذه التجارب بالتجديد والتميز على مستوى الشكل والجماليات الخاصة بالوسيط السينمائي، أو على مستوى الرؤية والأفكار، ورؤية العالم وعلاقة الإنسان بهذا العالم وبالآخرين، ولكن ما لبث أن التبس هذا المُصطلح التباسا شديدا بعد الجهود التي بذلتها الشركات الهوليودية العملاقة؛ لاحتواء هؤلاء الفنانين المُستقلين تحت لوائها، هذه الجهود التي نجحت أغلبها"[4].

السبكي

إذن، فصناعة الفيلم المُستقل- حسبما نشأ في أمريكا- كان من أجل الهروب من سطوة الشركات الإنتاجية العملاقة التي لا توافق على كل ما يُقدم لها من سيناريوهات سينمائية حتى لو كانت جيدة؛ ومن ثم لجأ أصحاب هذه التجارب إلى هذه الاستقلالية بعيدا عن سطوة رأس المال، وهو الأمر الذي دفع الشركات الإنتاجية العملاقة إلى محاولة احتواء هذا الاتجاه في صناعة السينما، وضمه إليها تحت مظلتهم مرة أخرى، بل وتمويل أفلامهم وتوزيعها؛ الأمر الذي أدى فيما بعد إلى التباس مفهوم السينما المُستقلة التي عادت مرة أخرى لتعمل تحت مظلة الشركات الإنتاجية الكبرى. "يتضح هذا بشدة في مُناقشات وتعريفات النقاد وصُناع الأفلام والمُعلقين حول السينما المُستقلة في الولايات المُتحدة الأمريكية؛ فيذكر الناقد إيمانويل ليفي في كتابه "سينما المُهمشين: صعود الفيلم الأمريكي المُستقل" Cinema Of Outsiders: Amerian Independent Film: "إن السياق المُحيط بالأفلام المُستقلة تنازعه الإشكاليات والتناقضات التي تعكس اختلاف الأمزجة واستراتيجيات صناعة الأفلام"، ويعود ليفي ليلقي مزيدا من الضوء على الاختلافات العميقة حول معنى الفيلم المُستقل في الولايات المُتحدة حينما يقول: في الماضي كان يُطلق مُصطلح المُستقل على الأفلام المُنخفضة الميزانية، والتي يتم عرضها عادة لمدة أسبوع في قاعات الفن المحلية، في إشارة لتلك الأفلام مُنخفضة الميزانية التي تُصنع خارج حدود الاستديوهات، والتي كانت توزعها شركة مافريك. كان للمُصطلح معنى واضحٌ. في التسعينيات تغيرت الأحوال؛ فشركات مثل ديزني، ووارنر، ويونيفرسال قد أنتجت ووزعت الأفلام المُستقلة مثلها مثل شركات ميراماكس، ونيولاين، وأكتوبر، كما ارتفعت ميزانيات الأفلام لتبلغ في بعض الأفلام حوالي خمسين مليون دولار. إن الخلاف حول معنى المُستقل هو خلاف عميق، وربما هذا ما دفع واحدا من أهم صُناع الأفلام المُستقلة، وهو جيم جارموش أن يصرح في إحدى المرات: إنه، حقيقة، لم يعد يعرف ماذا تعني السينما المُستقلة. ويبدو أن هنالك تصورين أساسيين ومُختلفين حول مفهوم الفيلم المُستقل داخل الولايات المُتحدة الأمريكية يتعلق الأول بكيفية تمويل الفيلم المُستقل، والثاني يركز على روح الاستقلال، أو الرؤية الخاصة والمُستقلة لصانع الفيلم. طبقا للتصور الأول؛ أي فيلم قد تم تمويله، أو إنتاجه خارج هوليوود هو فيلم مُستقل، أما التصور الثاني فهو يقترح أن العوامل المُحددة لما نستطيع أن نعتبره فيلما مُستقلا من عدمه هي المنظور الخاص، أو الرؤية الجديدة الطازجة، وأن يحمل الفيلم روحا ابتكارية تنتصر للتجديد، وإدراج الرؤية الشخصية لصانع الفيلم"[5].

من خلال الاقتباس السابق يتضح أن الفيلم المُستقل هو فيلم يحرص تماما على إنتاجية مُنخفضة كما كانت تحرص عليها أفلام المقاولات المصرية في الثمانينيات، ولكن ليس معنى حرص صُناع الأفلام المُستقلة على هذه الميزانية المُنخفضة أنهم يقدمون ما هو ردئ في عالم صناعة السينما؛ الأمر الذي يعمل على تدمير الصناعة، بل هم حريصون- رغم انخفاض الميزانيات- على صناعة سينما جيدة ربما تكون أكثر جودة- من الناحية الفنية- من الأفلام التي تعتمد على ميزانيات ضخمة، لكنهم حاولوا الخروج من المنظومة الإنتاجية المُسيطرة؛ لرغبتهم في تقديم ما هو جديد وغير مُعتاد في صناعة السينما التقليدية، وهو الأمر الذي يرفضه المُنتجون المُسيطرون على عالم الصناعة، وبالتالي لم يكن أمام أصحاب هذه التجارب سوى الاستقلال في صناعة أفلامهم التي يحبونها، ويقتنعون بتقديمها؛ من أجل المزيد من الدفع بالسينما نحو الأمام والتجريب فيها بتقديم تجارب جديدة غير تقليدية.

هنا، لا بد من الوقوف على تعريف واضح للسينما المُستقلة إذن، وهو ما يؤكده "إيمانويل ليفي في كتابه "سينما المُهمشين: صعود الفيلم الأمريكي المُستقل"، والذي يُعد واحدا من أهم المراجع التي كُتبت عن السينما المُستقلة في أمريكا: يعني مُصطلح المُستقل، هذه الأفلام التي تحمل رؤى مُخرجين طموحين يعملون بنقود قليلة، وميول غير تجارية. الفيلم المُستقل هو فيلم طازج مُنخفض التكاليف، له أسلوبه الفني الخاص، وموضوعاته التي لا تهتم بالنجاح الجماهيري بقدر ما تهتم بالتعبير عن الرؤية الخاصة بصانع الفيلم"[6].

من خلال التعريفات السابقة لمفهوم الأفلام المُستقلة، والخلاف حول المفهوم يتأكد لنا أنه ليس كل فيلم مُنخفض التكاليف أو مُنخفض الميزانية هو فيلم تجاري، أو فيلم مقاولات؛ لأن السينما التي أرادت الاختلاف عما هو سائد في الصناعة السينمائية، بتقديمها ما هو تجريبي وجديد، قد اعتمدت على الميزانيات المُنخفضة أيضا؛ من أجل محاولة النجاح في تقديم السينما التي يؤمنون بها، أي أن انخفاض التكاليف ليس شرطا من أجل وضع الفيلم في إطار المقاولات أو الأفلام الرديئة، ولعلنا رأينا مثل هذه التجارب مع فيلم "إيثاكي" للمُخرج إبراهيم البطوط 2005م الذي صنعه بميزانية لم تتجاوز الأربعين ألف جنيها مصريا، كما قدم أيضا فيلمه "عين شمس" 2009م، ثم فيلم "حاوي" 2010م، وهي السينما التي كان من رواد صناعتها في مصر المُخرج أكرم فريد في فيلمه "حبة سكر" 1998م، والمُخرج أحمد رشوان في فيلمه "بصرة" الذي كان من إنتاج 2008م، وعُرض أول عرض له في مهرجان فالنسيا في إسبانيا، وكان عرضه الجماهيري الأول في مصر 2010م، والمُخرج أحمد عبد الله في فيلم "ميكروفون" 2011م، والمُخرجة هالة لطفي في فيلمها "الخروج للنهار" 2014م، والمُخرجة نادين خان في فيلمها "هرج ومرج" 2013م، والمُخرجة ماجي مُرجان في فيلمها "عشم" 2013م، كما خاض التجربة المُخرج محمد خان في فيلمه "كليفتي" 2004م[7].

إن أفلام المقاولات التي ظهرت في مُنتصف ثمانينيات القرن الماضي كانت قادرة على أن تضم إليها نجومها الذين يخصونها، بل تعدت ذلك في اختيار نجوم ومُمثلين لا علاقة لهم بالسينما ولا يعرفهم أحد من الجمهور إلى مُمثلين معروفين ويعرفهم الجمهور جيدا مثل سعيد صالح، ويونس شلبي، وسمير غانم، وإسعاد يونس وغيرهم؛ الأمر الذي جعل لهذه السينما- رغم رداءتها وتهافتها- جمهورا يُقبل عليها؛ نظرا لإيمانه بهذه الأسماء من المُمثلين الموهوبين مثل سعيد صالح على سبيل المثال. كما لا يفوتنا أيضا أن المُمثلة نادية الجندي مثلا كانت من نجوم السينما التجارية- B Movies- في الثمانينيات من القرن الماضي، أي أن هذه السينما- سواء التجارية منها أو المقاولات- قد نجحت في استقطاب العديد من المُمثلين المعروفين في الصف الأول؛ الأمر الذي أكسبها شكلا من أشكال الجماهيرية، وساعد على انتشارها.

سعيد صالح

كما كان لها مُخرجوها الذين لم يقدموا سواها في صناعة السينما، وهم المُخرجين الذين تناساهم تاريخ صناعة السينما وكأنهم لم يمروا فيها من قبل؛ نظرا لعدم أهمية، ورداءة ما قدموه من أفلام مثل صلاح سري، وناصر حسين الذي قدم أفلاما مثل "اللي ضحك على الشياطين" 1981م، و"سطوحي فوق الشجرة" 1983م، و"السوق"، و"عودة الماضي"، و"ابتسامة في عيون حزينة"، و"طبول في الليل"، و"النصيب مكتوب" 1987م، أي خمسة أفلام في عام واحد، وغيرها الكثير من الأفلام التي بلغت 32 فيلما في خمسة عشر عاما فقط، أي بمُعدل فيلمين كل عام، ورغم ذلك لم يترك فيلما واحدا من المُمكن أن يتذكره التاريخ السينمائي، وسيد سيف الذي قدم "كلاب الحراسة" 1984م، و"الحلال والحرام" 1985م، و"عذراء و3 رجال" 1986م، و"رغبة وحقد وانتقام" في نفس العام، و"باب النصر" 1988م، و"خميس يغزو القاهرة" 1990م، و"تعالب.. أرانب" 1994م لتنتهي هنا حياته الفنية بعد هذه الأفلام، وإسماعيل حسن الذي قدم "الكومندان" 1986م، و"عريس في اليانصيب" 1989م، و"صاحبك من بختك" 1990م، وغيرها من الأفلام التي بلغت ستة عشر فيلما كان آخرها "لا مؤاخذة يا دعبس" عام 2000م، وإبراهيم عفيفي الذي كان الأسوأ بامتياز، واختصر فيما يقدمه من كوارث سينمائية التصنيف من A إلى Z بسرعة البرق حيث قدم أفلاما مثل "الفرن" 1984م، و"السيد قشطة" 1985م، و"عزبة الصفيح" 1987م، و"العجوز والبلطجي" 1989م، و"قبضة الهلالي" 1991م، وغيرها من الأفلام، وهشام أبو النصر الذي يثير الكثير من الدهشة؛ لانخراطه في صناعة هذه الفئة من الأفلام؛ فهو حاصل على درجة الدكتوراه في الدراسات السينمائية عام 1974م من جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، كما كان أستاذا لمادة الإخراج والتذوق السينمائي في المعهد العالي للسينما، لكن رغم ذلك نراه يخرج فيلم "البنات والمجهول" 1986م، و"العصابة" 1987م، وغيرها من الأفلام، وإبراهيم عزقلاني الذي قدم فيلم "المزيكاتي" 1988م وهو الفيلم الذي اشترك فيه المُمثل سعيد صالح، وسيد زيان، والمُمثلة صابرين، كما كانت هذه السينما لها نجومها من المُنتجين الحريصين على عدم إنتاج أي أفلام سواها مثل المُنتج فؤاد الألفي الذي أنتج "أرباب سوابق" 1988م للمُخرج محمد أباظة، و"عبقري على ورقة دمغة" 1987م للمُخرج أحمد ثروت وهو الفيلم الذي اشترك فيه سمير غانم، ووحيد سيف، وسوسن بدر، و"رجب الوحش" 1985م للمُخرج كمال صلاح الدين، و"شيطان من عسل" 1985م للمُخرج حسن الصيفي، و"من يطفئ النار" 1982م للمُخرج اللبناني محمد سلمان، لكن المُثير للدهشة هنا أن هذا المُنتج كان هو مُدير الإنتاج لفيلم "الأقدار الدامية 1982م للمُخرج خيري بشارة.

إذا ما تأملنا الكثير من أفلام المقاولات التي قُدمت في الثمانينيات من القرن الماضي؛ للاحظنا أنها قد نجحت إلى حد ما في استقطاب عدد كبير من مُمثلي مصر الذين ينتمون إلى الصف الأول، وليس هذا بالأمر الغريب؛ فالسينما لا يمكن لها أن تقوم، في المقام الأول، من دون المُمثل، ولقد كان هناك العديدون من المُمثلين الذين يقبلون العمل في أي شكل من الأفلام السينمائية من دون تمييز بين الجيد والردئ منها؛ فالأمر بالنسبة لهم لم يكن أكثر من عمل يُدر عليهم المزيد من الأموال، وقد ساهم المُمثل سمير غانم، على سبيل المثال، في حوالي خمسين فيلما من أفلام المقاولات في فترتي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي تحت دعوى أنه كان يقبل الظهور في هذه الأفلام من أجل المُساهمة في علاج شقيقه "سيد" الذي كان يعاني من الفشل الكلوي، ويرغب في إجراء جراحة زرع كلى له، وفعل مثله في المُساهمة لبقاء هذه السينما على قيد الحياة لفترة أطول المُمثل يونس شلبي الذي كان يبحث عن البطولة في هذه الأفلام الرديئة، وهي الأفلام التي أعطته الفرصة الفعلية ليكون بطلا سينمائيا؛ بعدما كان مُمثلا ثانيا في كل الأفلام الجيدة الصناعة؛ فقدم أفلاما مثل "عليش دخل الجيش" 1989م للمُخرج يوسف إبراهيم وهو الفيلم السينمائي الوحيد الذي قدمه المُخرج، و"الشاويش حسن" 1988م للمُخرج إسماعيل حسن، و"العسكري شبراوي" 1982م للمُخرج هنري بركات، و"سفاح كرموز" 1987م للمُخرج حسين عمارة. كذلك المُمثل سعيد صالح الذي قدم "خمسة كارت" 1990م للمُخرج ناصر حسين، و"قسمة ونصيب" 1990م للمُخرج حسن الصيفي، و"سلم على سوسو" 1990م للمُخرج ناصر حسين، كذلك المُمثلة سميرة صدقي التي كانت بطلة أفلام المقاولات في التسعينيات، وأحمد بدير الذي قدم الكثير من هذه الأفلام، والمُمثلة إسعاد يونس التي اشتركت في عدد لا يُستهان به من أفلام المقاولات مثل "مغاوري في الكلية" 1985م للمُخرج حسن الصيفي، و"فتوة درب العسال" 1985م للمُخرج أحمد ثروت، و"مسعود سعيد ليه" 1983م للمُخرج أحمد ثروت أيضا، وغيرها الكثير من الأفلام.

يونس شلبي

إن هذه الظاهرة التي ظهرت في ثمانينيات القرن الماضي حتى مُنتصف التسعينيات كانت بمثابة مُنعطف خطير في حياة السينما المصرية، وكان من المُمكن لها لو استمرت عدة سنوات أخرى أن تقضي على السينما المصرية تماما، وتعلن موتها الحقيقي لولا وجود موجة الواقعية الجديدة ومن جاءوا بعدها باعتبارهم امتدادا لها؛ فهذه الموجات كانت بمثابة حائط الصد الحقيقي والقوي في مواجهة هذه السينما التي لا معنى لها، والتي لم يكن يعنيها صناعة السينما في أي شيء، بقدر ما كان يعنيها صناعة مسخ يتم تعليبه في شرائط الفيديو- في الوقت الذي كان جهاز الفيديو كاسيت مُنتشرا فيه- لكن مع التقدم التكنولوجي واندثار الفيديو بدأت هذه الموجة في الاختفاء تماما في مُنتصف التسعينيات، وبدأت السينما المصرية في ذلك الوقت تسترد عافيتها مرة أخرى وتقدم العديد من الأفلام التي تُمثل السينما الجادة.

لكن، هل معنى اختفاء هذه الظاهرة في مُنتصف التسعينيات أنها قد توارت تماما؟

لا يمكن الجزم باختفاء ظاهرة أفلام المقاولات التي ظهرت كنتيجة طبيعية وحتمية للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي مر بها المُجتمع المصري؛ فبعد الهزيمة الكبرى، وبعد سياسة الانفتاح الساداتية كانت كل الدلائل والمُؤشرات تشير إلى مثل هذا الانهيار الذي حدث على كل المستويات، وليس السينما فقط، أي أننا كنا أمام مُجتمع ينهار تماما، تتفسخ علاقاته الاجتماعية وتنقلب، تتشكل علائق إنتاج جديدة، ومُثُل وقيم جديدة، تتبادل الطبقات الاجتماعية أماكنها وينقلب الهرم الاجتماعي، تندثر قيم ثقافية وتنشأ ثقافة جديدة، ينزوي مجموعة من الوطنيين والمُثقفين في الظل؛ ليظهر غيرهم من أنصاف المُتعلمين، أو مُنعدمي التعليم، أي أننا كنا أمام مُجتمع يُعاد تشكيله- سواء بالسلب أم بالإيجاب- في ظل هذه الفترات التاريخية لا بد أن يحدث انهيار لكل شيء، سواء كانت السينما، أو الثقافة، أو السياسة، أو الاقتصاد؛ فكل شيء يُعاد تشكيله من خلال نُظم وأُطر جديدة إلى أن يستقر المُجتمع على شكله الجديد، وهذا يعني أن ظهور موجة سينما المقاولات في الثمانينيات كان له ما يبرره، وكان له جذوره التي تؤكد أن ما حدث لا بد أن يكون النتيجة الحتمية لما سبق من سياسات أدت إلى تدمير المُجتمع المصري.

لكن، مع استقرار الأوضاع انزوت هذه الموجة من السينما التي أطلقنا عليها سينما المقاولات مع انزواء واختفاء مُسبباتها، إلى أن عادت للظهور مرة أخرى في الألفية الجديدة بشكل أكثر وضوحا لا سيما بعد ثورة يناير 2011م. هنا بدأت رائحة سينما المقاولات تظهر مرة أخرى، وبشكل أكثر رداءة وفجاجة، وجهل بالسينما، بل وأكثر انحطاطا فنيا وأخلاقيا، أي أننا إذا ما حاولنا تأمل الأمور بشكل أكثر روية وهدوءا سيتأكد لنا أن هذا اللون من السينما لا يظهر ويقوى وتزداد كثافته إلا في أوقات الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكبرى، وهي الأوقات التي يفقد فيها المُجتمع الثقة في كل شيء، ويبدأ في التشكل بشكل جديد ومُختلف عما كان عليه.

إذا ما نظرنا إلى الماضي للاحظنا أن هذه السينما ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية مع ظهور أثرياء وتجار الحرب، ثم اختفت لتعود إلى الظهور بعد سياسة الانفتاح الساداتي التي دمرت المُجتمع المصري، لتعود مرة ثالثة بعد ثورة يناير 2011م، أي أن تشكل المُجتمعات وانهيارها على كافة المستويات لا بد أن يعطي الفرصة لهذا الشكل من السينما للظهور؛ بسبب عدم اتزان المُجتمع الذي يتأرجح من دون معرفة كيفية استقراره على شكل له قوام، فإذا ما استقر المُجتمع على شكل ثابت تختفي مرة أخرى، كما أننا لا ننكر أن هذه السينما لا بد لها من مقومات أخرى مُساعدة لها كي تظهر، من هذه المقومات ظهور الفيديو في الثمانينيات مثلا الذي كان الأداة الأولى المُساعدة لها من أجل الاستهلاك السريع، ومع اختفاء وسيط الفيديو بدأت هذه الأفلام تختفي، لكن مع بداية ظهورها مرة أخرى في الألفية الجديدة كان هناك وسيطٌ أكثر شراسة وضراوة من الفيديو، وهو القنوات الفضائية، التي لا تُعد ولا تُحصى، المُتخصصة في عرض الأفلام. هذه القنوات الفضائية تبث على مدار الساعة ولا يمكن لها أن تتوقف، أي أنها مُجرد آلة لا بد لها من الاستهلاك طوال الوقت وإلا أدى توقفها إلى الكثير من الخسائر؛ وهنا بدأت الموجة الثالثة لأفلام المقاولات تظهر مرة أخرى؛ لأنها لديها الوسيط الذي سيستهلك هذه الأفلام بشكل دائم، بل ويطلب المزيد من هذه الصناعة الرديئة. كما أدى انتشار هذه الفضائيات إلى دخول بعض مُلاكها إلى مجال الإنتاج السينمائي من أجل صناعة أفلام لا معنى لها، وبثها فيما بعد من خلال قنواتهم، أو بيعها لغيرهم من القنوات الفضائية، أو استغلال أغنية ما في الفيلم لتُدر عليه الكثير من المال ببيعها إلى القنوات الأخرى.

محمد حسن رمزي

معنى ذلك أن الظرف التاريخي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي قد توفر لظهور هذه الموجة مرة جديدة، كما توفر لها الوسيط المُستهلك لها، وهو وسيط أكثر شراسة وضراوة من أجهزة الفيديو في السابق؛ مما يدل على أن هذه الموجة الجديدة قد تستمر فترة أطول، وربما تكون أشرس من الموجة التي سبقتها إلى أن يستقر المُجتمع المصري مرة أخرى على شكل له قوام ثابت؛ فيعمل على اختفائها.

ثمة أسباب أخرى بالضرورة أدت إلى ظهور هذه الموجة من الأفلام مرة أخرى ومنها خوف المُنتجين من الدخول في مُغامرة الإنتاج؛ بسبب عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمُجتمع المصري بعد ثورة 2011م؛ وهو الأمر الذي جعل من يُقبل على الإنتاج مُجرد مُغامر؛ الأمر الذي أدى إلى توقف العديد من المُنتجين عن العمل والاتجاه نحو التوزيع الذي يرونه أكثر ضمانا من خسارتهم في حال إنتاجهم للأفلام، كما أن قرصنة الأفلام في الآونة الأخيرة كانت سببا جديدا في توقف عجلة الإنتاج؛ بسبب تكبيد المُنتج الكثير من الخسائر بعد القرصنة، وهو الأمر الذي جعل البعض ممن لا علاقة لهم بصناعة السينما يدخلون إلى عالم الصناعة والإنتاج برؤوس أموال ضعيفة جدا قد لا تتعدى المليون أو المليونين من الجنيهات؛ لأنه في هذه الحالة إذا ما خسر ستكون خسارته بسيطة جدا، ويستطيع استردادها بمُجرد بيع الفيلم للفضائيات، وفي هذا الشأن يقول المُنتج والموزع السينمائي محمد حسن رمزي: "إن السينما حاليا تشهد عددا كبيرا من الأفلام التي تحتوي على مضمون شعبي وتكلفة قليلة، ودا اللي شغال حاليا، على حد وصفه، مُؤكدا أن المُنتج حاليا يلجأ إلى الفيلم قليل التكلفة؛ حتى يستطيع أن يحصل على ثمن الفيلم مرة أخرى؛ بسبب سرقة الأفلام، سواء الكبيرة أو الصغيرة منها، ولجوء المُنتج إلى الفيلم قليل التكلفة؛ لأن أفلام "عز والسقا وحلمي"، وغيرهم من النجوم تحتاج إلى ميزانيات ضخمة، ورغم حب الجمهور الذهاب إلى السينما من أجلهم، لكن المُنتج لا يستطيع أن يكسب منها؛ لأنه يتعرض لخسارة بمُجرد سرقة الفيلم، وأضاف: ربنا أنقذ الأفلام التي تواجدت في العيد ومنها أفلام السبكي، لكن بعدها لم تنجح الأفلام الأخرى، وأشار: نشكر من يُغامر بإنتاج فيلم حتى ولو كانت تكلفته صغيرة؛ لأنه يحاول أن يُعيد إلى السينما نشاطها، ولا يظل مكتوف الأيدي، وإذا خسر تكون خسارته صغيرة؛ لأنه يستطيع أن يُحقق تكلفة الفيلم بمُجرد بيعه للقنوات"[8].

بالتأكيد لا يمكن الاتفاق مع المُنتج والموزع محمد حسن رمزي في قوله: "نشكر من يغامر بإنتاج فيلم حتى ولو كانت تكلفته صغيرة؛ لأنه يحاول أن يُعيد إلى السينما نشاطها، ولا يظل مكتوف الأيدي، وإذا خسر تكون خسارته صغيرة؛ لأنه يستطيع أن يُحقق تكلفة الفيلم بمُجرد بيعه للقنوات"؛ لأن أخذ هذا الحديث على إطلاقه؛ سيؤدي بالضرورة إلى موجة جديدة وكاسحة لأفلام المقاولات التي ستغرق السينما المصرية، وتنتهي بسببها الصناعة الجادة تماما، بل وسيحجم المزيد من المُنتجين عن الإنتاج ويقفوا موقف المُتفرج على ما يحدث في انتظار تغير الظروف التي قد لا تتغير وتسود هذه الموجة من السينما الرديئة. صحيح أن الأفلام القليلة التكلفة ليست كلها بالضرورة رديئة ومنها ما هو جيد جدا كما رأينا مع السينما المُستقلة، لكن، المُلاحظ أن موجة الأفلام القليلة التكلفة التي ظهرت مرة أخرى في السينما المصرية تتشابه تماما مع أفلام المقاولات في الثمانينيات، بل هي أكثر منها رداءة وفجاجة وإسفافا وتدميرا لمقومات صناعة السينما التي قد تنتهي إذا ما استمرت هذه الموجة الشرسة، كما أن مُنتجي هذه الأفلام يفلسفون الأمور ويحاولون التقعيد والتكريس لها باعتبار أن هذا ما يجب أن يكون، وهذا ما نُلاحظه في حديث المُنتج وسام حسن- أحد مُنتجي الأفلام قليلة التكلفة والشعبية الرديئة- حينما يقول: "إن ذوق الجمهور غيّر كثيرا من الأفلام المطروحة بدور العرض السينمائي، وأن من يتواجد لمُشاهدة فيلم، حاليا، هي الطبقة العاملة في المُجتمع التي تكسب قوتها يوما بيوم؛ لأن الطبقة العالية حاليا مُنشغلة بالوضع السياسي في البلد، وانتشرت الأفلام قليلة التكلفة؛ لأنها تحتوي على المضمون الشعبي الذي أصبح يهم جميع طوائف الشعب المصري، وأضاف: نتجه لإنتاج أفلام بتكلفة قليلة؛ لأنني إذا خسرت لا تكون الخسارة كبيرة، وأستطيع أن أعوض هذه الأموال من خلال عرض الفيلم في القنوات، أما عندما تكون تكلفة الفيلم كبيرة لا أستطيع أن أعوض هذه التكلفة، والمُنتج يغامر حاليا في المضمون في وجود الظروف الصعبة التي يعيشها المُجتمع، ورغم ذلك فهناك أفلام تكلفتها قليلة وتُحقق إيرادات عالية ويكون بها أيضا رسالة مُهمة مثلما حدث في فيلم "عبده موتة"، وأشار إلى أنه ينتج حاليا فيلم "هيصة" بتكلفة لا تتجاوز 3 ملايين، ويقدم فيه رسائل مُهمة، يتوقع له إيرادات عالية"![9].

من فيلم "واحد بيسوق واتنين في الصندوق"

ربما نُلاحظ من حديث المُنتج وسام حسن، المُهتم بصناعة سينما قليلة التكلفة، رديئة المضمون، أنه يعمل- عن اقتناع- على التأسيس والتكريس لهذا الشكل من أشكال السينما، ويرى أنها السينما التي لا بد لها أن تكون موجودة اعتمادا على أن جمهور السينما الآن هو الطبقة العاملة- المُنخفضة التعليم- أي أنه يريد القول: إننا نُقدم ما يتناسب مع تعليم الجمهور وذوقه مهما كان مُنخفضا، وكأنما السينما لا تعدو أكثر من صناعة تحت الطلب، تُقدم ما يرغبه جمهورها مهما كان مُسفا ولا قيمة له، وهذا خطأ كبير؛ لأنه بهذا المنطق لا يقوم بصناعة سينما تحتوي على أي شكل من أشكال الفن، بقدر ما هي صناعة "على المقاس" لمن يرغب في ذلك- تماما كما حدث في ثمانينيات القرن الماضي؛ حيث كان الموزع الخليجي يسيطر على سوق صناعة السينما في مصر بفرض شروطه على المُنتج قبل أن يهم بصناعة أي فيلم، كما كانت السينما حينها تتم صناعتها لغير المُتعلمين والحرفيين ممن هاجروا هجرة مُؤقتة إلى الخليج- وفي ذلك، بالتأكيد، تدمير لصناعة السينما، كما أنه يتحدث، بشكل فيه قدر غير هيّن من اليقين- بأن فيلم "عبده موتة" للمُخرج إسماعيل فاروق 2012م- وهو الفيلم الذي أدى إلى انتشار موجة كاسحة من الإيمان بجدوى العنف واللاقيمة في المُجتمع المصري، وتقنين لقيم البلطجة- يحمل رسالة مُهمة! وهذا ما لا يمكن تصوره أو تصديقه؛ فأي رسالة مُهمة تحملها هذه الأفلام حينما لا يخرج عالمها عن البلطجة وتجارة الُمخدرات، والاستخدام المُفرط للقوة، وفرض الإتاوات بعيدا عن سياق المُجتمع والقانون في مُجتمعات صغيرة ومُنغلقة على ذاتها، وتكاد الدولة لا تعرف عنها شيئا، أو تحاول مُطاردة أبنائها طول الوقت؟!

هنا لا بد من التوقف والتأمل: أين الرسالة التي تقدمها هذه الأفلام كما يدعي من يقومون بصناعتها؟!

إن تزوير الحقائق، أو محاولة الإيمان بما هو غير موجود، بالفعل، من أجل مُغازلة جمهور مُنخفض التعليم، ولا يفهم شيئا في الفن هو من الخطورة بمكان ما قد يؤدي إلى التدمير الحقيقي لصناعة السينما وانتهائها كفن، أو على الأقل تراجع السينما المصرية إلى أدنى مستوى لها مرت به في تاريخها السينمائي.

إذن، فلقد ظهرت موجة سينما المقاولات تبعا للعديد من الظروف التي كان لا بد لها أن تُنتج هذا الشكل المُسف من السينما، ولكن مع زوال هذه الأسباب زال وجود هذا الشكل من أشكال السينما في مُنتصف التسعينيات؛ لتستمر السينما الجيدة والجادة- كسينما الواقعية الجديدة وامتداداتها- في تشكيل مسيرة السينما المصرية باعتبارها فنا في المقام الأول؛ الأمر الذي جعل صُناع المقاولات يتوارون تماما من المشهد السينمائي، وتسقط أفلام هذه الفترة من ذاكرة السينما المصرية بالكامل، ومن ذاكرة جمهورها أيضا؛ الأمر الذي يُدلل ويؤكد على أن الجمهور لم يكن يرغب في ذلك مثلما يدعي صُناع هذه السينما، وإلا لكانت هذه الأفلام ما زالت مُستمرة في ذاكرتهم حتى اليوم على الأقل، لكن معنى اندثار هذه الأفلام من ذاكرة المجموع الجمعي- المُشاهد الأساس للسينما- هو دليل دامغ على أن هذه الأفلام مرت من هنا ذات فترة، لكنها باتت كأنها لم تكن.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21"

عدد يوليو 2022م

من كتاب "صناعة الصخب: ستون عاما من تاريخ السينما المصرية 1959- 2019م"

الجزء الثاني من الكتاب للمُؤلف.



[1] انظر كتاب "وقائع السينما المصرية 1895- 2002م" للناقد علي أبو شادي/ الكتاب ص 254/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 2004م.

[2] انظر المرجع السابق ص 256.

[3] انظر المرجع السابق ص 263.

[4] انظر كتاب "صعود السينما المُستقلة في مصر" للناقد محمد ممدوح/ الكتاب ص 28/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 2017م.

[5] أنظر المرجع السابق ص 29- 30.

[6] انظر المرجع السابق ص 33.

[7] اعتمدنا في التأريخ لهذه الأفلام على تاريخ العرض الجماهيري الأول، وليس تاريخ الإنتاج الفعلي.

[8] انظر تقرير "سينما النهضة: العودة إلى أفلام المقاولات" للصحفي أحمد حسن/ جريدة الصباح/ 22 إبريل 2013م.

[9] انظر المرجع السابق.