الثلاثاء، 5 يوليو 2022

سينما المقاولات

عام 1987م قدم المُخرج أحمد السبعاوي مشهدا في فيلمه "المواجهة" يكاد أن يُمثل أكثر مشاهد السينما في العالم أجمع استهانة بالجمهور، وإسفافا واستخفافا بصناعة السينما؛ حينما رأينا المُمثل فريد شوقي الذي انتحر بطلقة في رأسه، لكنه يظل طوال المشهد يترنح محاولا الكلام متطوحا، رغم أن المعروف لدى الجميع أن من يتلقى طلقة في رأسه لا بد له أن يموت مُباشرة، وفي نفس اللحظة، ومن دون إبداء أي بادرة حركة بعد هذه الطلقة، إلا أن مُخرجنا الذي يستخف بعقول الجميع من خلال تقديم سينما مُسِفة لا يعنيها أي منطق أو فن بقدر ما تعنيها التعبئة في شرائط فيديو من أجل التصدير لدول الخليج، رأى أنه من المُمكن جعل من يُصاب بطلقة مُباشرة في الرأس يترنح محاولا الحديث لعدة لحظات!

بالتأكيد ستزداد الدهشة حينما نعرف أن كاتب السيناريو هو السيناريست عبد الحي أديب- الذي ساهم بقدر لا يُستهان به في صناعة السينما الرديئة التي ستُعرف فيما بعد باسم سينما المقاولات، رغم أنه كاتب سيناريو فيلم "باب الحديد" 1958م للمُخرج يوسف شاهين- وقد كان الفيلم من إنتاج رياض العقاد أحد مُؤسسي شركة "جيبكو تاكفور أنطونيان وشركاه".

إن ما قدمه المُخرج أحمد السبعاوي في فيلمه يُعد مثالا صارخا على المستوى السينمائي الذي قدم من خلاله مُخرجو هذه الموجة- سينما المقاولات- أفلامهم، وهي الموجة الأكثر انعطافا وقسوة وانحطاطا فنيا في تاريخ السينما المصرية؛ حيث بدأت في مُنتصف الثمانينيات- مُنافِسة في ذلك اتجاه سينما الواقعية الجديدة، وكانت مُنافسا شرسا وغير شريف للسينما الجيدة التي بدأت تطل برأسها مع بداية هذه الحقبة؛ نتيجة للانخفاض الشديد للميزانية التي يتم من خلالها إنتاج الفيلم، وعدم اعتمادهم على أي تقنيات سينمائية جيدة سواء من ناحية الصورة أو السيناريو أو الإخراج، أو حتى المُمثلين.

في عام 1984م "ارتفع عدد الأفلام المعروضة بشكل مُفاجئ إلى 63 فيلما، فيما يُشكل بداية موجة أفلام المقاولات، وهي أفلام تُعد بميزانيات ضئيلة، ومستوى فني متواضع؛ لتعبئة شرائط الفيديو لدول الخليج والسعودية"[1]. في هذه الإشارة السابقة من الناقد السينمائي علي أبو شادي ما يشير إلى أن بداية ما أُطلق عليه توصيف سينما المقاولات قد بدأ عام 1984م، وهو ما يؤكد على أن البداية المُبكرة لهذه السينما- بالنسبة لنشأة سينما الواقعية الجديدة- كانت تُمثل خطرا فادحا وعبئا مُضافا أمام رواد الواقعية الجديدة؛ حيث ظهر أمامهم- بعد القليل جدا من سنوات البدء- مُنافس كان يمتلك من القدرة، والجماهيرية، والميزانيات المُنخفضة تماما؛ ما يجعل المُنتجين والجمهور معا يهربان إليهم لافظين اتجاه السينما الجادة والمُهمة التي يقدمها مُخرجو الجانب الآخر ويؤمنون بها.

المخرج أحمد السبعاوي

الظهور المُفاجئ لهذا اللون من ألوان السينما الرديئة التي لا تقدم أي شيء سوى تعبئة شريط الفيديو فقط- حيث لم يكن يعنيها في المقام الأول العروض السينمائية الجماهيرية بقدر ما كان يعنيها التعبئة في شرائط فيديو بمُجرد الانتهاء منها- كاد أن يكتسح صناعة السينما في حقبة الثمانينيات؛ لدرجة أن مُعظم الإنتاج في هذه الفترة كان لمُمثلي سينما المقاولات من مُخرجين ومُنتجين. في هذا يقول الناقد علي أبو شادي: "في عام 1985م بلغ عدد الأفلام المعروضة 76 فيلما، وهو رقم غير مسبوق حتى الآن، وما تزال أفلام المقاولات الصغيرة والمُتهافتة في تزايد مُستمر؛ لسد حاجة سوق الفيديو العربي، وندرة الأفلام المُتميزة خلال هذا العام، وقد شهد العام ظهور 12 مُخرجا جديدا، وهم صلاح سري، ونادية سالم، وعادل الأعصر، وعدلي يوسف، وعبد الفتاح مدبولي، ومحمد البشير، وفايق إسماعيل، ومحمد الشامي، وعبد اللطيف زكي، وعبد الهادي طه، وإيناس الدغيدي، وتحول المُؤلف السينمائي بشير الديك إلى الإخراج وقدم فيلم "الطوفان" أول أفلامه، كما حصل المُخرج داود عبد السيد على فرصته الأولى كمُخرج روائي بعد سبعة عشر عاما من تخرجه عام 1967م، وقدم فيلم "الصعاليك" أحد الأفلام المُهمة التي ناقشت بوعي سياسة الانفتاح الاقتصادي وأثرها على الواقع، وظهور الشرائح الطفيلية على وجه المُجتمع المصري في الثمانينيات"[2].

إذا ما تأملنا ما ذكره الناقد في الاقتباس السابق؛ سنُلاحظ أسماء مجموعة من المُخرجين الذين بدأوا الإخراج السينمائي من خلال العديد من الأفلام المُتهافتة؛ وهو ما جعل هؤلاء المُخرجين لا يتركون أي أثر يُذكر في تاريخ السينما المصرية، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يتذكرهم، أو حتى يتذكر ما قدموه من أفلام؛ فصلاح سري مثلا قدم "التريلا" 1985م، و"الفحامين" 1987م، و"الشرابية" في نفس العام، و"نصيب الأسد" 1992م، و"بلطية بنت بحري" 1995م، وهي الأفلام التي لا يذكرها مُشاهدو السينما المصرية؛ ومن ثم لا يمكن تذكر اسمه، نفسه، كمُخرج مرّ من هنا ذات يوم! وهو الأمر الذي سنُلاحظه مع مُعظم هؤلاء المُخرجين المذكورين في الاقتباس السابق مثل عدلي يوسف الذي قدم "أيام التحدي" 1985م، و"مقص عم قنديل" في نفس العام، و"فيش وتشبيه" 1986م لتنتهي حياته السينمائية تماما بعد فيلمه الثالث، وهي الحياة التي لم تبدأ؛ لأن مثل هذه الأفلام تكاد أن تكون لا وجود لها في تاريخ السينما المصرية، ومحمد البشير لم يقدم سوى فيلمٍ واحدٍ فقط هو "موت سميرة" 1985م، ولم يلجأ لصناعة أفلام سينمائية مرة أخرى! كذلك محمد الشامي الذي رأينا له فيلم "الثعبان" 1985م، ثم فيلم "شقاوة في السبعين" 1988م ليتوقف بعده عن صناعة السينما التي لم يكن بدأها بعد، أي أن مُعظم هؤلاء المُخرجين لم يقدموا للسينما المصرية ما يمكن له أن يعمل على تخليد تاريخهم، سواء من ناحية الصناعة والانطلاق بها إلى آفاق جمالية أرحب، أو من ناحية الكم والتراكم الذي قد يجعلنا نذكرهم فيما بعد.

إذن، فدخول هؤلاء المُخرجين، الذين لا علاقة لهم بصناعة السينما، إلى المجال السينمائي وتقديمهم الكثير جدا من الأفلام، التي لا علاقة لها أيضا بصناعة السينما، قد أدى إلى الاستيلاء على فُرص الكثيرين من المُخرجين الجادين الذين انتظروا طويلا كي يجدوا الفرصة؛ لتقديم تجاربهم السينمائية المُهمة مثل داود عبد السيد، على سبيل المثال، أي أنه من المُمكن لنا اعتبار أن هذه الموجة الكاسحة من الرداءة التي كادت أن تُدمر السينما المصرية في الثمانينيات وتعود بها إلى شكل أكثر ضعفا وتهافتا من السبعينيات، قد سرقت الكثير من الفُرص من المُخرجين الجادين الراغبين في صناعة سينما مصرية جيدة تعمل على النهوض بها من عثرتها في الحقبة السابقة، وتشتبك مع الواقع؛ محاولة مُعالجته، أو إيجاد حلول جذرية له، إلا أن السينما الشرسة- المقاولات- الآتية من عقليات لا علاقة لها بالسينما كادت أن تقضي على هذه السينما الجادة من خلال التهافت والتغييب واللاصناعة التي يقدمونها باسم السينما.

الناقد علي أبو شادي
 

إن مُتابعة الأفلام السينمائية المُنتجة في هذه الفترة يجعلنا نتأكد من خطورة هذه الموجة في عمر السينما المصرية، صحيح أنها عملت على ارتفاع الإنتاج السينمائي المصري إلى أرقام غير مسبوقة في تاريخها من قبل، لكنه كان مُجرد إنتاج لمسخ مشوه يطلقون عليه في نهاية الأمر فيلما سينمائيا، وربما لم يكن هناك أي فائدة تُذكر لارتفاع هذا العدد غير المسبوق سوى تشغيل المئات ممن يعملون في صناعة السينما خلف الكاميرا من فنيين ومصورين ومُونتيرين وغيرهم ممن لا يوجد عليهم الكثير من الطلب أو العمل الدائم، ولنتأمل عام 1986م حيث "بلغ عدد الأفلام التي تم عرضها 95 فيلما، وهو أعلى رقم وصلت إليه السينما المصرية في تاريخها، ويمثل ذروة الخط البياني لتزايد سينما المقاولات، كما ظهر عشرة مُخرجين جُدد هم حسن سيف الدين، وكمال عيد، وعثمان شكري سليم، ويوسف أبو سيف، وشريف حمودة، ومحمد أباظة، وهاني يان، ومحمد أبو سيف، وأحمد الخطيب، وناجي أنجلو، وعبد العليم زكي، وقدموا جميعا مجموعة من أفلام المقاولات المتواضعة"[3].

نُلاحظ في الاقتباس السابق أن الناقد علي أبو شادي يذكر أن هؤلاء المُخرجين الذين ظهروا في هذا العام قدموا مجموعة من أفلام المقاولات المتواضعة، وذكر من بين هؤلاء المُخرجين المُخرج محمد أبو سيف باعتباره ممن ساهموا في هذه السينما 1986م بتقديمه فيلم "التفاحة والجمجمة"، وهو فيلم، في حقيقة الأمر، لم يكن له أي علاقة بما يُطلق عليه سينما المقاولات، بل كان من الأفلام الجادة. كما نلاحظ أن مُعظم هؤلاء المُخرجين لم يتركوا أي أثر يُذكر في تاريخ السينما المصرية؛ ومن ثم فلا يوجد من يتذكر أسماءهم أيضا؛ بسبب ما قدموه من أفلام لا قيمة فنية لها؛ ومن هنا رأينا مثلا المُخرج محمد أباظة الذي قدم فيلمه الأول "احترس عصابة النساء"، الذي كان مُساهما ضليعا من خلاله في أفلام المقاولات ورداءتها، كما قدم "المزيكاتي" 1988م، و"أرباب سوابق" في نفس العام، و"الطائر الجريح" 1990، و"استوب" 1992م، ثم اختفى تماما من مسار السينما المصرية إلى غير رجعة، وهو ما رأيناه مع المُخرج عثمان شكري سليم الذي قدم فيلمه "الفريسة" 1986م، ثم فيلم "الملعوب" 1987م، وتوقف تماما عن صناعة السينما بعد هذين الفيلمين، وهذا ما سنُلاحظه في مُعظم الأسماء التي ذكرها أبو شادي في الاقتباس السابق.

حينما بدأت موجة الأفلام التي أطلق عليها نقاد السينما توصيف "سينما المقاولات" عام 1984م لاحظنا أن هذه السينما كانت نتاجا طبيعيا للفترة السياسية والاقتصادية السابقة التي مرت بها مصر؛ وهو ما انعكس بدوره على الحياة الاجتماعية التي انقلبت انقلابات معيارية خطيرة أدت إلى صعود الطبقات الطفيلية إلى قمة المُجتمع المصري من التجار، والحرفيين الذين استغلوا الانفتاح الساداتي؛ ومن ثم بات أرباب المهن اليدوية على قمة المُجتمع، وبات الجميع يفضلونهم- لأنهم من يمتلكون المال- على غيرهم من المُتعلمين الذين أصبح وجودهم في المُجتمع المصري يكاد أن يكون عالة وعبئا، ولا قيمة اجتماعية أو ثقافية لهم. هنا بدأت الطبقة الوسطى تزداد مُعاناتها، بل والدفع بها نحو التهميش الكامل في المُجتمع لدرجة أنها لم تعد تعرف كيفية السبيل إلى الخروج من هذه الأزمة الخانقة. هذه التغيرات الجذرية في المُجتمع- سواء من خلال المفاهيم أو القيم أو الأطر- أدى إلى ثقافة جديدة تعمل على الإعلاء من شأن المهن والحرف اليدوية؛ وبالتالي لم يجد أبناء الطبقة الوسطى أمامهم سوى طريقين للخروج من هذه الأزمة الخانقة: إما الهجرة المُؤقتة إلى الدول النفطية في الخليج- حيث إمكانية تكوين شيء من الثروة، ثم العودة مرة أخرى- أو الهروب من هذا المُجتمع العبثي الذي شكلته سياسة السادات الانفتاحية، ولم يكن ثمة طريق لهذا الهروب إلا من خلال الهجرة الدائمة إلى أمريكا وكندا وغيرها من الدول- وهو الطريق الذي اختاره عدد كبير من المُتعلمين من أصحاب الكفاءات العقلية- أو الهروب الانهزامي داخل المُجتمع المصري والحياة على هامشه وكأن أصحابه لا وجود لهم، أي أن هذه السياسات أدت إلى تفتيت المُجتمع الذي كان يتغنى بقيم الأسرة والحفاظ عليها؛ ومن ثم بدأت الأسرة المصرية في الانهيار الكامل والتفكك؛ بسبب هجرة أرباب هذه الأسر من أجل محاولة الحصول على المال، أو بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها مُعظم الأسر بالنسبة لمن فضلوا البقاء وعدم الهجرة.

المخرج أحمد رشوان

مع ازدياد تفتيت المُجتمع، لا سيما الأسرة المصرية، بدأت تطفو على السطح الكثير من المشاكل التي لم يكن المُجتمع يعاني منها من قبل، من هذه المشاكل التي ظهرت، على سبيل المثال، اتجاه عدد كبير من المصريين للتجارة في المُخدرات وتعاطيها، كما أن الأزمة الاقتصادية التي يمر بها الجميع أدت إلى الكثير من العُنف وجرائم القتل، والنصب، وهي جرائم جديدة على مُجتمع مُسالم زراعي مُنذ نشأته الأولى، كما ظهرت على السطح أزمات الإسكان التي باتت من أهم ما يميز هذه الفترة التاريخية، وبات الحصول على شقة من الأمور المُستحيلة؛ لعدم وجود المال الكافي لذلك، بل ورأينا أزمات المواصلات العامة وغيرها من المشاكل التي بدأ يعاني منها المواطن المصري.

هنا، ومع صعود ثقافة الحرفيين- أغلبهم غير مُتعلمين، أو حاصلين على تعليم متوسط- الذين تكتل رأس المال في أيديهم بدأت مجموعة منهم تنظر إلى السينما باعتبارها الدجاجة التي ستبيض لهم ذهبا؛ وهو الأمر الذي دفعهم- وهم لا يعرفون شيئا عن صناعة السينما سوى المزيد من تدوير رؤوس الأموال- إلى الدخول في مجال الصناعة من خلال ثقافتهم المتواضعة التي تخصهم؛ فكان هناك البقال، والجزار، والبناء، وغيرهم من أصحاب الحرف ممن يمتلكون قدرا غير هين من رأس المال الذين باتوا فجأة مُنتجين لصناعة السينما، وهم لم يكن يعنيهم النهوض بالصناعة، أو محاولة الإضافة إليها، أو الارتقاء بها بقدر ما كان يعنيهم في المقام الأول استرداد الأموال التي أنفقوها مُضافا إليها الكثير من الأرباح بعد تعبئتهم لما يصنعونه في شرائط فيديو من أجل تصديرها للخليج، أي أنهم لم يهتموا أيضا بالعروض السينمائية لما يصنعونه من صناعة شائهة، بل كانوا يعلبونها سريعا من أجل التصدير وإضافة الكثير من الإعلانات داخل شريط الفيديو، وهي الإعلانات المدفوعة الأجر من أجل تكديس المزيد من الأموال.

لكن، لِمَ كان هؤلاء المُنتجون الجُدد يحرصون على تعبئة شرائط الفيديو وتصديرها للخليج من دون الاهتمام بعرض ما يصنعونه في دور العرض؟

المخرج إبراهيم البطوط

ثمة سببان رئيسيان جعل هؤلاء الدخلاء إلى عالم صناعة السينما يضعون نصب أعينهم تصدير أفلامهم إلى الخليج في شرائط فيديو، وهما: دخول بعض الموزعين من دول الخليج إلى صناعة السينما المصرية، وبما أن دول الخليج كانت تعاني من ندرة دور العرض؛ فلقد كانت هذه الأفلام- مع انتشار الفيديو كاسيت في هذه الفترة- بمثابة البوابة التي تُتيح لهم رؤية أفلام سينمائية تتوافق مع ثقافتهم البدوية فقط- الأمر الذي جعل هذه الأفلام لا تهتم بأي شكل من أشكال القضايا الجادة بقدر ما كانت تهتم بالمُطاردات، وتجارة المُخدرات، والراقصات، وغيرها من الأمور التي تُمثل هذا العالم الجديد على صناعة السينما المصرية، وهي الشروط التي كان يفرضها الموزع الخليجي.

السبب الثاني هو هجرة عدد كبير من المصريين إلى دول الخليج كهجرة مُؤقتة من أجل تكوين الثروة ثم العودة مرة أخرى، ومُعظم هؤلاء المُهاجرين كانوا من أصحاب الحرف اليدوية- لاحظ أن المُثقفين والمُتعلمين وغيرهم من هذه الفئات قد فضلوا الهجرة الدائمة إلى أمريكا، وكندا- وهم يتميزون بقدر مُنخفض من التعليم، أو انعدام التعليم تماما، وهؤلاء كان لهم ثقافتهم التي تخصهم، وهي الثقافة التي لعب عليها صُناع السينما الجُدد من أصحاب أفلام المقاولات، أي أنهم كانوا يصنعون لهم ما يتوافق مع ثقافتهم الخاصة؛ كي يستمتع العامل من هؤلاء في نهاية اليوم الشاق من العمل بفيلم مسلٍ فيه من المُطاردات والراقصات والمعارك والقتل ما يجعله يشاهده، ثم يذهب إلى النوم من دون الاهتمام بأي قضية قد تُشغل باله للتفكير فيها.

تُعرف أفلام المقاولات بأنها الأفلام ذات الميزانية المُنخفضة، أو الضئيلة التي يحاول صانعها إنفاق أقل قدر من الأموال عليها من دون الاهتمام بالصورة، أو الجودة، أو الصوت، أو ما يقدمه من قصة، بل وعدم الاهتمام بتقديم مُمثل جيد أو معروف، أي أن هذه الأفلام كان جل من يعملون فيها لا علاقة لهم بالسينما من مُمثلين أو فنيين- لكننا لا ننكر أنها أتاحت الفُرصة للبعض للعمل في السينما بدلا من التعطل- ومن خلال هذه الميزانية الضئيلة أو المُنخفضة كان يتم تعليب الأفلام وتصديرها.

لكن، لا يمكن إنكار أن هذه الفئة من الأفلام التي أطلق عليها نقاد السينما توصيف المقاولات- ربما نسبة إلى مقاولي البناء الذين دخل منهم الكثيرون إلى هذه الصناعة- هي شكل من أشكال السينما الموجودة في كل سينمات العالم، أي أنها لم تكن قاصرة على مصر فقط، بل ما زالت هذه الفئة من الأفلام يتم تقديمها حتى اليوم في كل السينمات المعروفة في العالم. صحيح أننا نعرف أن ثمة سينما جادة تهدف إلى الارتقاء بالصناعة والدفع بها إلى الأمام وتجويدها، أي الصناعة التي تهتم بالسينما كفن في المقام الأول، لكن في المُقابل هناك السينما التجارية التي تضع نصب عينيها شباك التذاكر وما يمكن أن يدره لصُناع الفيلم من أرباح، وهذه السينما التجارية لا يعنيها الفن في المقام الأول بقدر ما تعنيها الأموال التي سيدرها هذا الفيلم في النهاية، إلا أن سينما المقاولات لا يمكن إدراجها في إطار السينما الأخيرة- التجارية- بأي شكل من الأشكال؛ لأن السينما التجارية كانت تحاول الحفاظ- إلى حد ما- على قدر قليل من الفن في صناعتها، لكن ما عرفناه بسينما المقاولات لم يكن يعنيها أي شكل من أشكال الفن، بل لم يكن مُنتجوها يهتمون بعرضها في السينمات عروضا جماهيرية؛ فالفيلم ينتهي تصويره خلال أسبوع أو أسبوعين على الأكثر، وسُرعان ما يتم تصديره؛ ليبدأ مُنتجه في صناعة فيلم جديد غيره!

المخرج محمد أبو سيف

هذه السينما ذات الإنتاج المُنخفض Low Budge تُعرف في العالم كله باسم B-Movies، وهي أفلام عادة ما تكون أقل جودة، وأقل فنية، أو أردأ من الأفلام ذات الكلفة المُرتفعة التي يُطلق عليها اسم أفلام الفئة الأولى، وقد تفرع من تلك الأفلام تصنيفات أخرى هي C-Movies، وZ-movies مثل فيلم Plan 9 From The Outer Space للمُخرج الأمريكي إد وود Ed Wood 1959م الذي صنفه نقاد السينما باعتباره أسوأ فيلم في التاريخ، ويتحدث الفيلم عن أشخاص خارجيين يسعون إلى منع البشرية من صُنع سلاح يوم القيامة الذي يمكن له أن يدمر الكون. يقوم الأجانب بتنفيذ الخطة 9، وهي خطة لإحياء موتى الأرض المُشار إليهم باسم "الغول"، ومن خلال التسبب في الفوضى يأمل الأجانب في أن تُجبِر الأزمة البشرية في الاستماع إليهم، وإلا فإنهم سيقومون بتدمير البشرية بجيوش من "أوندد". تم تصوير الفيلم في البداية بعنوان Grave, Robbers From Outer Space لكن تم تغيير الاسم في النهاية إلى "الخطة تسعة من الفضاء الخارجي".

لكن، ماذا يعني هذا التصنيف الذي ذكرناه لصناعة الأفلام السينمائية في العالم؟

B Movies: هو الفيلم السينمائي المُنخفض التكلفة، وقد تم تعريف المُصطلح بدقة أكثر للأفلام المُعدة للتوزيع على أنها النصف السفلي في السينما الأقل انتشارا، ولكن رغم هذا الانخفاض وعدم الاهتمام بالصناعة السينمائية في المقام الأول من خلال هذه الأفلام، فإننا نُلاحظ أن العديد من أفلام B تعرض درجة عالية من الحرفية والإبداع الجمالي، وقد كانت أفلام الخيال العلمي، والرعب المُنخفضة الميزانية، أو الجريمة تُمثل الفئة B، وغالبا ما كانت الأفلام B المُبكرة جزءا من سلسلة لعبت فيها النجمة، أو النجم نفس الشخصية مرارا وتكرارا، كما تتميز هذه الفئة من الأفلام بأنها أقصر تقريبا من الأفلام الروائية الطويلة، حيث كانت تصل المدة الزمنية للعديد منها إلى 70 دقيقة، أو أقل، كما يشير المُصطلح إلى تصور عام مفاده أن هذه الأفلام كانت أقل شأنا من الأفلام الرئيسية الأكبر في الميزانية، وغالبا ما يتم تجاهل هذه الفئة من الأفلام من قبل النقاد.

C Movies: هي أفلام مصنوعة من ميزانية مُنخفضة ومحتوى رخيص، وتتم صناعتها، في الأغلب، من دون افتعال أي مُؤامرات أو حوارات كبيرة، أو ادعاءات بصناعة السينما الجيدة، كما أن عروضها كثيرة التواضع وأحيانا ما تعمل على اختبار درجة صبر المُشاهد؛ نظرا لرداءتها، وهي أقل من حيث الجودة من التصنيف السابق B أي أنها الأكثر استهانة بالسينما.

Z Movies: هي الأفلام الأقل ميزانية في تصنيف الأفلام، وهي أيضا الأقل من حيث المستوى الفني، أو حتى الاهتمام بالسينما من حيث كونها صناعة، أو فن، وهو وصف لبعض الأفلام التي تعتمد على الصور المُنخفضة تماما بمعايير الجودة التي تقل بكثير عن مُعظم أفلام B، أو حتى ما يُسمى أفلام C.

تميل هذه الاختصارات الاقتصادية للأفلام إلى أن تكون واضحة طوال الوقت، وهذا يعني أن الأفلام التي تُطبق عليها العلامة C هي عموما من إنتاج كيانات إنتاجية مُستقرة نسبيا في صناعة الأفلام التجارية؛ ومن ثم لا تزال تلتزم- إلى حد ما- بمعايير إنتاج مُعينة، لكن في المُقابل تتم صناعة مُعظم الأفلام المُشار إليها باسم Z مُقابل القليل جدا من المال على هامش الأفلام المُنظمة والمعروفة في الصناعة، أو خارج المنظومة السينمائية تماما، وغالبا ما تكون قصص هذه الأفلام مكتوبة بشكل رديء، وتستمر هذه الرداءة في التصوير، والصوت، والمُونتاج، والإخراج، والتمثيل كما أنها نوعية من الأفلام التي تعتمد على المُمثلين غير المُحترفين.


إذن، فمن خلال هذا التصنيف لصناعة الأفلام في السينما العالمية يتضح لنا أن A Movies هي الأفلام التي تهتم بالصناعة، وتطويرها، والدفع بها نحو ما هو أجود، وهي الأفلام التي تنفق الملايين من الدولارات على الصناعة من أجل الحفاظ على المستوى الأجود في صناعة السينما، كما نُلاحظ أنه كلما اختلف التصنيف أدى ذلك إلى التقليل من الميزانية، والتقليل، بالضرورة، من المستوى الفني للفيلم، من حيث الصناعة، حتى نصل إلى التصنيف Z الذي يُمثل أسوأ أشكال الصناعة، والذي يُطلق عليه- تجاوزا- اسم فيلم سينمائي؛ فهو لا ينتمي إلى الصناعة بأي شكل من الأشكال.

إذا ما تأملنا التصنيفات السابقة سنعرف أن السينما التجارية في صناعة السينما المصرية هي ما يمكن أن نُطلق عليه تصنيفات B، أو C، أي أنها الأفلام الأقل جودة وإن كانت تحاول الحفاظ، إلى حد ما، على مقومات الصناعة، كما قد يظهر فيها بعض المقومات الجيدة في الصناعة سواء على مستوى الصورة، أو الصوت، أو غيرها من مُفردات الصناعة السينمائية، وإن كانت لا تهتم بها من حيث الجودة على المستوى العام؛ حيث تهتم بمدى الجذب الجماهيري، كما تضع عينيها على شباك التذاكر ومدى ما يمكن أن يدره الفيلم من أرباح. أما ما أُطلق عليه توصيف سينما المقاولات في صناعة السينما المصرية فهي الأفلام التي تقابل التصنيف Z، أي أنها الأفلام التي لا علاقة لها بصناعة السينما، ولا تعنيها الصناعة في أي شيء، بقدر ما يعنيها صناعة مسخ يُطلقون عليه فيلما سينمائيا، ولا يهتمون بعرضه الجماهيري في دور العرض- رغم أن السينما تتم صناعتها في المقام الأول من أجل العرض في دور السينما؛ حيث السينما في أهم خصائصها وسيط لا يمكن له اكتساب مشروعيته من دون العرض على الجمهور- بل يهتمون بالسرعة في إنجاز الفيلم من أجل حشره بالكثير من الإعلانات وتعليبه في شرائط فيديو كاسيت، وتصديره إلى دول الخليج التي تدفع مُقابله من أجل إعادة تدوير الأموال في المزيد من الرداءة باسم الصناعة السينمائية.

لكن، لا بد من الانتباه هنا إلى خصيصة من أهم خصائص هذه السينما- سواء كانت تجارية، أو مقاولات- فنحن حينما حاولنا تعريف السينما التجارية، أو سينما المقاولات أكدنا على أنها الأفلام ذات الميزانية المُنخفضة Low Budge، أي الأفلام التي يحرص مُنتجوها على أقل مبلغ من المال من المُمكن إنفاقه على الفيلم حتى لحظة انتهائه، وهذا يعني، في شكله العام، أن الأفلام ذات الميزانية المُنخفضة؛ هي بالضرورة أفلام سيئة لا تهتم كثيرا بصناعة السينما كفن، أو الدفع بها نحو الأمام أو التجويد. لكن مثل هذا التصور ليس صحيحا بشكله المُطلق؛ لأنه ثمة أفلام أخرى تكون ميزانياتها المالية شديدة الانخفاض، ويحرص صانعوها على تخفيض الميزانية بكافة الطرق، لكن المُنتج النهائي لهذه الأفلام هو أفلام جيدة جدا تتساوى مع أفلام الفئة A في صناعة السينما، أي أنها تتساوى وتنافس الأفلام التي تهتم بالصناعة من حيث هي صناعة مُهمة، وفن.

مثل هذه الأفلام رأيناها في صناعة السينما المصرية فيما تم توصيفه "بالسينما المُستقلة" التي تحاول صناعة سينما ذات جماليات تخص صانعيها- سواء من ناحية الموضوع أو الصورة- ولا تجد من يتحمس للإنفاق عليها؛ ومن ثم لجأ صُناعها إلى تحديد الإنفاق فيها.

"نشأت حركة السينما المُستقلة في الولايات المُتحدة الأمريكية في أوائل السبعينيات؛ لتتمرد على سُلطان نظام الاستوديوهات الأمريكي بما يمثله من قواعد وتقاليد فنية وفكرية سائدة لا تسمح بتقديم المُختلف؛ لتقدم أعمالا فنية خارجة عن السائد، مُتمردة سواء على العلاقات الإنتاجية، أو الظروف الاقتصادية لإنتاج الفن السينمائي، كما تتمرد على الأفكار والتقاليد الفنية والجمالية السائدة أيضا؛ في سبيل تحقيق جماليات مُغايرة، وتجارب فنية خاصة ومُختلفة، سواء كانت تتميز هذه التجارب بالتجديد والتميز على مستوى الشكل والجماليات الخاصة بالوسيط السينمائي، أو على مستوى الرؤية والأفكار، ورؤية العالم وعلاقة الإنسان بهذا العالم وبالآخرين، ولكن ما لبث أن التبس هذا المُصطلح التباسا شديدا بعد الجهود التي بذلتها الشركات الهوليودية العملاقة؛ لاحتواء هؤلاء الفنانين المُستقلين تحت لوائها، هذه الجهود التي نجحت أغلبها"[4].

السبكي

إذن، فصناعة الفيلم المُستقل- حسبما نشأ في أمريكا- كان من أجل الهروب من سطوة الشركات الإنتاجية العملاقة التي لا توافق على كل ما يُقدم لها من سيناريوهات سينمائية حتى لو كانت جيدة؛ ومن ثم لجأ أصحاب هذه التجارب إلى هذه الاستقلالية بعيدا عن سطوة رأس المال، وهو الأمر الذي دفع الشركات الإنتاجية العملاقة إلى محاولة احتواء هذا الاتجاه في صناعة السينما، وضمه إليها تحت مظلتهم مرة أخرى، بل وتمويل أفلامهم وتوزيعها؛ الأمر الذي أدى فيما بعد إلى التباس مفهوم السينما المُستقلة التي عادت مرة أخرى لتعمل تحت مظلة الشركات الإنتاجية الكبرى. "يتضح هذا بشدة في مُناقشات وتعريفات النقاد وصُناع الأفلام والمُعلقين حول السينما المُستقلة في الولايات المُتحدة الأمريكية؛ فيذكر الناقد إيمانويل ليفي في كتابه "سينما المُهمشين: صعود الفيلم الأمريكي المُستقل" Cinema Of Outsiders: Amerian Independent Film: "إن السياق المُحيط بالأفلام المُستقلة تنازعه الإشكاليات والتناقضات التي تعكس اختلاف الأمزجة واستراتيجيات صناعة الأفلام"، ويعود ليفي ليلقي مزيدا من الضوء على الاختلافات العميقة حول معنى الفيلم المُستقل في الولايات المُتحدة حينما يقول: في الماضي كان يُطلق مُصطلح المُستقل على الأفلام المُنخفضة الميزانية، والتي يتم عرضها عادة لمدة أسبوع في قاعات الفن المحلية، في إشارة لتلك الأفلام مُنخفضة الميزانية التي تُصنع خارج حدود الاستديوهات، والتي كانت توزعها شركة مافريك. كان للمُصطلح معنى واضحٌ. في التسعينيات تغيرت الأحوال؛ فشركات مثل ديزني، ووارنر، ويونيفرسال قد أنتجت ووزعت الأفلام المُستقلة مثلها مثل شركات ميراماكس، ونيولاين، وأكتوبر، كما ارتفعت ميزانيات الأفلام لتبلغ في بعض الأفلام حوالي خمسين مليون دولار. إن الخلاف حول معنى المُستقل هو خلاف عميق، وربما هذا ما دفع واحدا من أهم صُناع الأفلام المُستقلة، وهو جيم جارموش أن يصرح في إحدى المرات: إنه، حقيقة، لم يعد يعرف ماذا تعني السينما المُستقلة. ويبدو أن هنالك تصورين أساسيين ومُختلفين حول مفهوم الفيلم المُستقل داخل الولايات المُتحدة الأمريكية يتعلق الأول بكيفية تمويل الفيلم المُستقل، والثاني يركز على روح الاستقلال، أو الرؤية الخاصة والمُستقلة لصانع الفيلم. طبقا للتصور الأول؛ أي فيلم قد تم تمويله، أو إنتاجه خارج هوليوود هو فيلم مُستقل، أما التصور الثاني فهو يقترح أن العوامل المُحددة لما نستطيع أن نعتبره فيلما مُستقلا من عدمه هي المنظور الخاص، أو الرؤية الجديدة الطازجة، وأن يحمل الفيلم روحا ابتكارية تنتصر للتجديد، وإدراج الرؤية الشخصية لصانع الفيلم"[5].

من خلال الاقتباس السابق يتضح أن الفيلم المُستقل هو فيلم يحرص تماما على إنتاجية مُنخفضة كما كانت تحرص عليها أفلام المقاولات المصرية في الثمانينيات، ولكن ليس معنى حرص صُناع الأفلام المُستقلة على هذه الميزانية المُنخفضة أنهم يقدمون ما هو ردئ في عالم صناعة السينما؛ الأمر الذي يعمل على تدمير الصناعة، بل هم حريصون- رغم انخفاض الميزانيات- على صناعة سينما جيدة ربما تكون أكثر جودة- من الناحية الفنية- من الأفلام التي تعتمد على ميزانيات ضخمة، لكنهم حاولوا الخروج من المنظومة الإنتاجية المُسيطرة؛ لرغبتهم في تقديم ما هو جديد وغير مُعتاد في صناعة السينما التقليدية، وهو الأمر الذي يرفضه المُنتجون المُسيطرون على عالم الصناعة، وبالتالي لم يكن أمام أصحاب هذه التجارب سوى الاستقلال في صناعة أفلامهم التي يحبونها، ويقتنعون بتقديمها؛ من أجل المزيد من الدفع بالسينما نحو الأمام والتجريب فيها بتقديم تجارب جديدة غير تقليدية.

هنا، لا بد من الوقوف على تعريف واضح للسينما المُستقلة إذن، وهو ما يؤكده "إيمانويل ليفي في كتابه "سينما المُهمشين: صعود الفيلم الأمريكي المُستقل"، والذي يُعد واحدا من أهم المراجع التي كُتبت عن السينما المُستقلة في أمريكا: يعني مُصطلح المُستقل، هذه الأفلام التي تحمل رؤى مُخرجين طموحين يعملون بنقود قليلة، وميول غير تجارية. الفيلم المُستقل هو فيلم طازج مُنخفض التكاليف، له أسلوبه الفني الخاص، وموضوعاته التي لا تهتم بالنجاح الجماهيري بقدر ما تهتم بالتعبير عن الرؤية الخاصة بصانع الفيلم"[6].

من خلال التعريفات السابقة لمفهوم الأفلام المُستقلة، والخلاف حول المفهوم يتأكد لنا أنه ليس كل فيلم مُنخفض التكاليف أو مُنخفض الميزانية هو فيلم تجاري، أو فيلم مقاولات؛ لأن السينما التي أرادت الاختلاف عما هو سائد في الصناعة السينمائية، بتقديمها ما هو تجريبي وجديد، قد اعتمدت على الميزانيات المُنخفضة أيضا؛ من أجل محاولة النجاح في تقديم السينما التي يؤمنون بها، أي أن انخفاض التكاليف ليس شرطا من أجل وضع الفيلم في إطار المقاولات أو الأفلام الرديئة، ولعلنا رأينا مثل هذه التجارب مع فيلم "إيثاكي" للمُخرج إبراهيم البطوط 2005م الذي صنعه بميزانية لم تتجاوز الأربعين ألف جنيها مصريا، كما قدم أيضا فيلمه "عين شمس" 2009م، ثم فيلم "حاوي" 2010م، وهي السينما التي كان من رواد صناعتها في مصر المُخرج أكرم فريد في فيلمه "حبة سكر" 1998م، والمُخرج أحمد رشوان في فيلمه "بصرة" الذي كان من إنتاج 2008م، وعُرض أول عرض له في مهرجان فالنسيا في إسبانيا، وكان عرضه الجماهيري الأول في مصر 2010م، والمُخرج أحمد عبد الله في فيلم "ميكروفون" 2011م، والمُخرجة هالة لطفي في فيلمها "الخروج للنهار" 2014م، والمُخرجة نادين خان في فيلمها "هرج ومرج" 2013م، والمُخرجة ماجي مُرجان في فيلمها "عشم" 2013م، كما خاض التجربة المُخرج محمد خان في فيلمه "كليفتي" 2004م[7].

إن أفلام المقاولات التي ظهرت في مُنتصف ثمانينيات القرن الماضي كانت قادرة على أن تضم إليها نجومها الذين يخصونها، بل تعدت ذلك في اختيار نجوم ومُمثلين لا علاقة لهم بالسينما ولا يعرفهم أحد من الجمهور إلى مُمثلين معروفين ويعرفهم الجمهور جيدا مثل سعيد صالح، ويونس شلبي، وسمير غانم، وإسعاد يونس وغيرهم؛ الأمر الذي جعل لهذه السينما- رغم رداءتها وتهافتها- جمهورا يُقبل عليها؛ نظرا لإيمانه بهذه الأسماء من المُمثلين الموهوبين مثل سعيد صالح على سبيل المثال. كما لا يفوتنا أيضا أن المُمثلة نادية الجندي مثلا كانت من نجوم السينما التجارية- B Movies- في الثمانينيات من القرن الماضي، أي أن هذه السينما- سواء التجارية منها أو المقاولات- قد نجحت في استقطاب العديد من المُمثلين المعروفين في الصف الأول؛ الأمر الذي أكسبها شكلا من أشكال الجماهيرية، وساعد على انتشارها.

سعيد صالح

كما كان لها مُخرجوها الذين لم يقدموا سواها في صناعة السينما، وهم المُخرجين الذين تناساهم تاريخ صناعة السينما وكأنهم لم يمروا فيها من قبل؛ نظرا لعدم أهمية، ورداءة ما قدموه من أفلام مثل صلاح سري، وناصر حسين الذي قدم أفلاما مثل "اللي ضحك على الشياطين" 1981م، و"سطوحي فوق الشجرة" 1983م، و"السوق"، و"عودة الماضي"، و"ابتسامة في عيون حزينة"، و"طبول في الليل"، و"النصيب مكتوب" 1987م، أي خمسة أفلام في عام واحد، وغيرها الكثير من الأفلام التي بلغت 32 فيلما في خمسة عشر عاما فقط، أي بمُعدل فيلمين كل عام، ورغم ذلك لم يترك فيلما واحدا من المُمكن أن يتذكره التاريخ السينمائي، وسيد سيف الذي قدم "كلاب الحراسة" 1984م، و"الحلال والحرام" 1985م، و"عذراء و3 رجال" 1986م، و"رغبة وحقد وانتقام" في نفس العام، و"باب النصر" 1988م، و"خميس يغزو القاهرة" 1990م، و"تعالب.. أرانب" 1994م لتنتهي هنا حياته الفنية بعد هذه الأفلام، وإسماعيل حسن الذي قدم "الكومندان" 1986م، و"عريس في اليانصيب" 1989م، و"صاحبك من بختك" 1990م، وغيرها من الأفلام التي بلغت ستة عشر فيلما كان آخرها "لا مؤاخذة يا دعبس" عام 2000م، وإبراهيم عفيفي الذي كان الأسوأ بامتياز، واختصر فيما يقدمه من كوارث سينمائية التصنيف من A إلى Z بسرعة البرق حيث قدم أفلاما مثل "الفرن" 1984م، و"السيد قشطة" 1985م، و"عزبة الصفيح" 1987م، و"العجوز والبلطجي" 1989م، و"قبضة الهلالي" 1991م، وغيرها من الأفلام، وهشام أبو النصر الذي يثير الكثير من الدهشة؛ لانخراطه في صناعة هذه الفئة من الأفلام؛ فهو حاصل على درجة الدكتوراه في الدراسات السينمائية عام 1974م من جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، كما كان أستاذا لمادة الإخراج والتذوق السينمائي في المعهد العالي للسينما، لكن رغم ذلك نراه يخرج فيلم "البنات والمجهول" 1986م، و"العصابة" 1987م، وغيرها من الأفلام، وإبراهيم عزقلاني الذي قدم فيلم "المزيكاتي" 1988م وهو الفيلم الذي اشترك فيه المُمثل سعيد صالح، وسيد زيان، والمُمثلة صابرين، كما كانت هذه السينما لها نجومها من المُنتجين الحريصين على عدم إنتاج أي أفلام سواها مثل المُنتج فؤاد الألفي الذي أنتج "أرباب سوابق" 1988م للمُخرج محمد أباظة، و"عبقري على ورقة دمغة" 1987م للمُخرج أحمد ثروت وهو الفيلم الذي اشترك فيه سمير غانم، ووحيد سيف، وسوسن بدر، و"رجب الوحش" 1985م للمُخرج كمال صلاح الدين، و"شيطان من عسل" 1985م للمُخرج حسن الصيفي، و"من يطفئ النار" 1982م للمُخرج اللبناني محمد سلمان، لكن المُثير للدهشة هنا أن هذا المُنتج كان هو مُدير الإنتاج لفيلم "الأقدار الدامية 1982م للمُخرج خيري بشارة.

إذا ما تأملنا الكثير من أفلام المقاولات التي قُدمت في الثمانينيات من القرن الماضي؛ للاحظنا أنها قد نجحت إلى حد ما في استقطاب عدد كبير من مُمثلي مصر الذين ينتمون إلى الصف الأول، وليس هذا بالأمر الغريب؛ فالسينما لا يمكن لها أن تقوم، في المقام الأول، من دون المُمثل، ولقد كان هناك العديدون من المُمثلين الذين يقبلون العمل في أي شكل من الأفلام السينمائية من دون تمييز بين الجيد والردئ منها؛ فالأمر بالنسبة لهم لم يكن أكثر من عمل يُدر عليهم المزيد من الأموال، وقد ساهم المُمثل سمير غانم، على سبيل المثال، في حوالي خمسين فيلما من أفلام المقاولات في فترتي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي تحت دعوى أنه كان يقبل الظهور في هذه الأفلام من أجل المُساهمة في علاج شقيقه "سيد" الذي كان يعاني من الفشل الكلوي، ويرغب في إجراء جراحة زرع كلى له، وفعل مثله في المُساهمة لبقاء هذه السينما على قيد الحياة لفترة أطول المُمثل يونس شلبي الذي كان يبحث عن البطولة في هذه الأفلام الرديئة، وهي الأفلام التي أعطته الفرصة الفعلية ليكون بطلا سينمائيا؛ بعدما كان مُمثلا ثانيا في كل الأفلام الجيدة الصناعة؛ فقدم أفلاما مثل "عليش دخل الجيش" 1989م للمُخرج يوسف إبراهيم وهو الفيلم السينمائي الوحيد الذي قدمه المُخرج، و"الشاويش حسن" 1988م للمُخرج إسماعيل حسن، و"العسكري شبراوي" 1982م للمُخرج هنري بركات، و"سفاح كرموز" 1987م للمُخرج حسين عمارة. كذلك المُمثل سعيد صالح الذي قدم "خمسة كارت" 1990م للمُخرج ناصر حسين، و"قسمة ونصيب" 1990م للمُخرج حسن الصيفي، و"سلم على سوسو" 1990م للمُخرج ناصر حسين، كذلك المُمثلة سميرة صدقي التي كانت بطلة أفلام المقاولات في التسعينيات، وأحمد بدير الذي قدم الكثير من هذه الأفلام، والمُمثلة إسعاد يونس التي اشتركت في عدد لا يُستهان به من أفلام المقاولات مثل "مغاوري في الكلية" 1985م للمُخرج حسن الصيفي، و"فتوة درب العسال" 1985م للمُخرج أحمد ثروت، و"مسعود سعيد ليه" 1983م للمُخرج أحمد ثروت أيضا، وغيرها الكثير من الأفلام.

يونس شلبي

إن هذه الظاهرة التي ظهرت في ثمانينيات القرن الماضي حتى مُنتصف التسعينيات كانت بمثابة مُنعطف خطير في حياة السينما المصرية، وكان من المُمكن لها لو استمرت عدة سنوات أخرى أن تقضي على السينما المصرية تماما، وتعلن موتها الحقيقي لولا وجود موجة الواقعية الجديدة ومن جاءوا بعدها باعتبارهم امتدادا لها؛ فهذه الموجات كانت بمثابة حائط الصد الحقيقي والقوي في مواجهة هذه السينما التي لا معنى لها، والتي لم يكن يعنيها صناعة السينما في أي شيء، بقدر ما كان يعنيها صناعة مسخ يتم تعليبه في شرائط الفيديو- في الوقت الذي كان جهاز الفيديو كاسيت مُنتشرا فيه- لكن مع التقدم التكنولوجي واندثار الفيديو بدأت هذه الموجة في الاختفاء تماما في مُنتصف التسعينيات، وبدأت السينما المصرية في ذلك الوقت تسترد عافيتها مرة أخرى وتقدم العديد من الأفلام التي تُمثل السينما الجادة.

لكن، هل معنى اختفاء هذه الظاهرة في مُنتصف التسعينيات أنها قد توارت تماما؟

لا يمكن الجزم باختفاء ظاهرة أفلام المقاولات التي ظهرت كنتيجة طبيعية وحتمية للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي مر بها المُجتمع المصري؛ فبعد الهزيمة الكبرى، وبعد سياسة الانفتاح الساداتية كانت كل الدلائل والمُؤشرات تشير إلى مثل هذا الانهيار الذي حدث على كل المستويات، وليس السينما فقط، أي أننا كنا أمام مُجتمع ينهار تماما، تتفسخ علاقاته الاجتماعية وتنقلب، تتشكل علائق إنتاج جديدة، ومُثُل وقيم جديدة، تتبادل الطبقات الاجتماعية أماكنها وينقلب الهرم الاجتماعي، تندثر قيم ثقافية وتنشأ ثقافة جديدة، ينزوي مجموعة من الوطنيين والمُثقفين في الظل؛ ليظهر غيرهم من أنصاف المُتعلمين، أو مُنعدمي التعليم، أي أننا كنا أمام مُجتمع يُعاد تشكيله- سواء بالسلب أم بالإيجاب- في ظل هذه الفترات التاريخية لا بد أن يحدث انهيار لكل شيء، سواء كانت السينما، أو الثقافة، أو السياسة، أو الاقتصاد؛ فكل شيء يُعاد تشكيله من خلال نُظم وأُطر جديدة إلى أن يستقر المُجتمع على شكله الجديد، وهذا يعني أن ظهور موجة سينما المقاولات في الثمانينيات كان له ما يبرره، وكان له جذوره التي تؤكد أن ما حدث لا بد أن يكون النتيجة الحتمية لما سبق من سياسات أدت إلى تدمير المُجتمع المصري.

لكن، مع استقرار الأوضاع انزوت هذه الموجة من السينما التي أطلقنا عليها سينما المقاولات مع انزواء واختفاء مُسبباتها، إلى أن عادت للظهور مرة أخرى في الألفية الجديدة بشكل أكثر وضوحا لا سيما بعد ثورة يناير 2011م. هنا بدأت رائحة سينما المقاولات تظهر مرة أخرى، وبشكل أكثر رداءة وفجاجة، وجهل بالسينما، بل وأكثر انحطاطا فنيا وأخلاقيا، أي أننا إذا ما حاولنا تأمل الأمور بشكل أكثر روية وهدوءا سيتأكد لنا أن هذا اللون من السينما لا يظهر ويقوى وتزداد كثافته إلا في أوقات الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكبرى، وهي الأوقات التي يفقد فيها المُجتمع الثقة في كل شيء، ويبدأ في التشكل بشكل جديد ومُختلف عما كان عليه.

إذا ما نظرنا إلى الماضي للاحظنا أن هذه السينما ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية مع ظهور أثرياء وتجار الحرب، ثم اختفت لتعود إلى الظهور بعد سياسة الانفتاح الساداتي التي دمرت المُجتمع المصري، لتعود مرة ثالثة بعد ثورة يناير 2011م، أي أن تشكل المُجتمعات وانهيارها على كافة المستويات لا بد أن يعطي الفرصة لهذا الشكل من السينما للظهور؛ بسبب عدم اتزان المُجتمع الذي يتأرجح من دون معرفة كيفية استقراره على شكل له قوام، فإذا ما استقر المُجتمع على شكل ثابت تختفي مرة أخرى، كما أننا لا ننكر أن هذه السينما لا بد لها من مقومات أخرى مُساعدة لها كي تظهر، من هذه المقومات ظهور الفيديو في الثمانينيات مثلا الذي كان الأداة الأولى المُساعدة لها من أجل الاستهلاك السريع، ومع اختفاء وسيط الفيديو بدأت هذه الأفلام تختفي، لكن مع بداية ظهورها مرة أخرى في الألفية الجديدة كان هناك وسيطٌ أكثر شراسة وضراوة من الفيديو، وهو القنوات الفضائية، التي لا تُعد ولا تُحصى، المُتخصصة في عرض الأفلام. هذه القنوات الفضائية تبث على مدار الساعة ولا يمكن لها أن تتوقف، أي أنها مُجرد آلة لا بد لها من الاستهلاك طوال الوقت وإلا أدى توقفها إلى الكثير من الخسائر؛ وهنا بدأت الموجة الثالثة لأفلام المقاولات تظهر مرة أخرى؛ لأنها لديها الوسيط الذي سيستهلك هذه الأفلام بشكل دائم، بل ويطلب المزيد من هذه الصناعة الرديئة. كما أدى انتشار هذه الفضائيات إلى دخول بعض مُلاكها إلى مجال الإنتاج السينمائي من أجل صناعة أفلام لا معنى لها، وبثها فيما بعد من خلال قنواتهم، أو بيعها لغيرهم من القنوات الفضائية، أو استغلال أغنية ما في الفيلم لتُدر عليه الكثير من المال ببيعها إلى القنوات الأخرى.

محمد حسن رمزي

معنى ذلك أن الظرف التاريخي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي قد توفر لظهور هذه الموجة مرة جديدة، كما توفر لها الوسيط المُستهلك لها، وهو وسيط أكثر شراسة وضراوة من أجهزة الفيديو في السابق؛ مما يدل على أن هذه الموجة الجديدة قد تستمر فترة أطول، وربما تكون أشرس من الموجة التي سبقتها إلى أن يستقر المُجتمع المصري مرة أخرى على شكل له قوام ثابت؛ فيعمل على اختفائها.

ثمة أسباب أخرى بالضرورة أدت إلى ظهور هذه الموجة من الأفلام مرة أخرى ومنها خوف المُنتجين من الدخول في مُغامرة الإنتاج؛ بسبب عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمُجتمع المصري بعد ثورة 2011م؛ وهو الأمر الذي جعل من يُقبل على الإنتاج مُجرد مُغامر؛ الأمر الذي أدى إلى توقف العديد من المُنتجين عن العمل والاتجاه نحو التوزيع الذي يرونه أكثر ضمانا من خسارتهم في حال إنتاجهم للأفلام، كما أن قرصنة الأفلام في الآونة الأخيرة كانت سببا جديدا في توقف عجلة الإنتاج؛ بسبب تكبيد المُنتج الكثير من الخسائر بعد القرصنة، وهو الأمر الذي جعل البعض ممن لا علاقة لهم بصناعة السينما يدخلون إلى عالم الصناعة والإنتاج برؤوس أموال ضعيفة جدا قد لا تتعدى المليون أو المليونين من الجنيهات؛ لأنه في هذه الحالة إذا ما خسر ستكون خسارته بسيطة جدا، ويستطيع استردادها بمُجرد بيع الفيلم للفضائيات، وفي هذا الشأن يقول المُنتج والموزع السينمائي محمد حسن رمزي: "إن السينما حاليا تشهد عددا كبيرا من الأفلام التي تحتوي على مضمون شعبي وتكلفة قليلة، ودا اللي شغال حاليا، على حد وصفه، مُؤكدا أن المُنتج حاليا يلجأ إلى الفيلم قليل التكلفة؛ حتى يستطيع أن يحصل على ثمن الفيلم مرة أخرى؛ بسبب سرقة الأفلام، سواء الكبيرة أو الصغيرة منها، ولجوء المُنتج إلى الفيلم قليل التكلفة؛ لأن أفلام "عز والسقا وحلمي"، وغيرهم من النجوم تحتاج إلى ميزانيات ضخمة، ورغم حب الجمهور الذهاب إلى السينما من أجلهم، لكن المُنتج لا يستطيع أن يكسب منها؛ لأنه يتعرض لخسارة بمُجرد سرقة الفيلم، وأضاف: ربنا أنقذ الأفلام التي تواجدت في العيد ومنها أفلام السبكي، لكن بعدها لم تنجح الأفلام الأخرى، وأشار: نشكر من يُغامر بإنتاج فيلم حتى ولو كانت تكلفته صغيرة؛ لأنه يحاول أن يُعيد إلى السينما نشاطها، ولا يظل مكتوف الأيدي، وإذا خسر تكون خسارته صغيرة؛ لأنه يستطيع أن يُحقق تكلفة الفيلم بمُجرد بيعه للقنوات"[8].

بالتأكيد لا يمكن الاتفاق مع المُنتج والموزع محمد حسن رمزي في قوله: "نشكر من يغامر بإنتاج فيلم حتى ولو كانت تكلفته صغيرة؛ لأنه يحاول أن يُعيد إلى السينما نشاطها، ولا يظل مكتوف الأيدي، وإذا خسر تكون خسارته صغيرة؛ لأنه يستطيع أن يُحقق تكلفة الفيلم بمُجرد بيعه للقنوات"؛ لأن أخذ هذا الحديث على إطلاقه؛ سيؤدي بالضرورة إلى موجة جديدة وكاسحة لأفلام المقاولات التي ستغرق السينما المصرية، وتنتهي بسببها الصناعة الجادة تماما، بل وسيحجم المزيد من المُنتجين عن الإنتاج ويقفوا موقف المُتفرج على ما يحدث في انتظار تغير الظروف التي قد لا تتغير وتسود هذه الموجة من السينما الرديئة. صحيح أن الأفلام القليلة التكلفة ليست كلها بالضرورة رديئة ومنها ما هو جيد جدا كما رأينا مع السينما المُستقلة، لكن، المُلاحظ أن موجة الأفلام القليلة التكلفة التي ظهرت مرة أخرى في السينما المصرية تتشابه تماما مع أفلام المقاولات في الثمانينيات، بل هي أكثر منها رداءة وفجاجة وإسفافا وتدميرا لمقومات صناعة السينما التي قد تنتهي إذا ما استمرت هذه الموجة الشرسة، كما أن مُنتجي هذه الأفلام يفلسفون الأمور ويحاولون التقعيد والتكريس لها باعتبار أن هذا ما يجب أن يكون، وهذا ما نُلاحظه في حديث المُنتج وسام حسن- أحد مُنتجي الأفلام قليلة التكلفة والشعبية الرديئة- حينما يقول: "إن ذوق الجمهور غيّر كثيرا من الأفلام المطروحة بدور العرض السينمائي، وأن من يتواجد لمُشاهدة فيلم، حاليا، هي الطبقة العاملة في المُجتمع التي تكسب قوتها يوما بيوم؛ لأن الطبقة العالية حاليا مُنشغلة بالوضع السياسي في البلد، وانتشرت الأفلام قليلة التكلفة؛ لأنها تحتوي على المضمون الشعبي الذي أصبح يهم جميع طوائف الشعب المصري، وأضاف: نتجه لإنتاج أفلام بتكلفة قليلة؛ لأنني إذا خسرت لا تكون الخسارة كبيرة، وأستطيع أن أعوض هذه الأموال من خلال عرض الفيلم في القنوات، أما عندما تكون تكلفة الفيلم كبيرة لا أستطيع أن أعوض هذه التكلفة، والمُنتج يغامر حاليا في المضمون في وجود الظروف الصعبة التي يعيشها المُجتمع، ورغم ذلك فهناك أفلام تكلفتها قليلة وتُحقق إيرادات عالية ويكون بها أيضا رسالة مُهمة مثلما حدث في فيلم "عبده موتة"، وأشار إلى أنه ينتج حاليا فيلم "هيصة" بتكلفة لا تتجاوز 3 ملايين، ويقدم فيه رسائل مُهمة، يتوقع له إيرادات عالية"![9].

من فيلم "واحد بيسوق واتنين في الصندوق"

ربما نُلاحظ من حديث المُنتج وسام حسن، المُهتم بصناعة سينما قليلة التكلفة، رديئة المضمون، أنه يعمل- عن اقتناع- على التأسيس والتكريس لهذا الشكل من أشكال السينما، ويرى أنها السينما التي لا بد لها أن تكون موجودة اعتمادا على أن جمهور السينما الآن هو الطبقة العاملة- المُنخفضة التعليم- أي أنه يريد القول: إننا نُقدم ما يتناسب مع تعليم الجمهور وذوقه مهما كان مُنخفضا، وكأنما السينما لا تعدو أكثر من صناعة تحت الطلب، تُقدم ما يرغبه جمهورها مهما كان مُسفا ولا قيمة له، وهذا خطأ كبير؛ لأنه بهذا المنطق لا يقوم بصناعة سينما تحتوي على أي شكل من أشكال الفن، بقدر ما هي صناعة "على المقاس" لمن يرغب في ذلك- تماما كما حدث في ثمانينيات القرن الماضي؛ حيث كان الموزع الخليجي يسيطر على سوق صناعة السينما في مصر بفرض شروطه على المُنتج قبل أن يهم بصناعة أي فيلم، كما كانت السينما حينها تتم صناعتها لغير المُتعلمين والحرفيين ممن هاجروا هجرة مُؤقتة إلى الخليج- وفي ذلك، بالتأكيد، تدمير لصناعة السينما، كما أنه يتحدث، بشكل فيه قدر غير هيّن من اليقين- بأن فيلم "عبده موتة" للمُخرج إسماعيل فاروق 2012م- وهو الفيلم الذي أدى إلى انتشار موجة كاسحة من الإيمان بجدوى العنف واللاقيمة في المُجتمع المصري، وتقنين لقيم البلطجة- يحمل رسالة مُهمة! وهذا ما لا يمكن تصوره أو تصديقه؛ فأي رسالة مُهمة تحملها هذه الأفلام حينما لا يخرج عالمها عن البلطجة وتجارة الُمخدرات، والاستخدام المُفرط للقوة، وفرض الإتاوات بعيدا عن سياق المُجتمع والقانون في مُجتمعات صغيرة ومُنغلقة على ذاتها، وتكاد الدولة لا تعرف عنها شيئا، أو تحاول مُطاردة أبنائها طول الوقت؟!

هنا لا بد من التوقف والتأمل: أين الرسالة التي تقدمها هذه الأفلام كما يدعي من يقومون بصناعتها؟!

إن تزوير الحقائق، أو محاولة الإيمان بما هو غير موجود، بالفعل، من أجل مُغازلة جمهور مُنخفض التعليم، ولا يفهم شيئا في الفن هو من الخطورة بمكان ما قد يؤدي إلى التدمير الحقيقي لصناعة السينما وانتهائها كفن، أو على الأقل تراجع السينما المصرية إلى أدنى مستوى لها مرت به في تاريخها السينمائي.

إذن، فلقد ظهرت موجة سينما المقاولات تبعا للعديد من الظروف التي كان لا بد لها أن تُنتج هذا الشكل المُسف من السينما، ولكن مع زوال هذه الأسباب زال وجود هذا الشكل من أشكال السينما في مُنتصف التسعينيات؛ لتستمر السينما الجيدة والجادة- كسينما الواقعية الجديدة وامتداداتها- في تشكيل مسيرة السينما المصرية باعتبارها فنا في المقام الأول؛ الأمر الذي جعل صُناع المقاولات يتوارون تماما من المشهد السينمائي، وتسقط أفلام هذه الفترة من ذاكرة السينما المصرية بالكامل، ومن ذاكرة جمهورها أيضا؛ الأمر الذي يُدلل ويؤكد على أن الجمهور لم يكن يرغب في ذلك مثلما يدعي صُناع هذه السينما، وإلا لكانت هذه الأفلام ما زالت مُستمرة في ذاكرتهم حتى اليوم على الأقل، لكن معنى اندثار هذه الأفلام من ذاكرة المجموع الجمعي- المُشاهد الأساس للسينما- هو دليل دامغ على أن هذه الأفلام مرت من هنا ذات فترة، لكنها باتت كأنها لم تكن.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21"

عدد يوليو 2022م

من كتاب "صناعة الصخب: ستون عاما من تاريخ السينما المصرية 1959- 2019م"

الجزء الثاني من الكتاب للمُؤلف.



[1] انظر كتاب "وقائع السينما المصرية 1895- 2002م" للناقد علي أبو شادي/ الكتاب ص 254/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 2004م.

[2] انظر المرجع السابق ص 256.

[3] انظر المرجع السابق ص 263.

[4] انظر كتاب "صعود السينما المُستقلة في مصر" للناقد محمد ممدوح/ الكتاب ص 28/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 2017م.

[5] أنظر المرجع السابق ص 29- 30.

[6] انظر المرجع السابق ص 33.

[7] اعتمدنا في التأريخ لهذه الأفلام على تاريخ العرض الجماهيري الأول، وليس تاريخ الإنتاج الفعلي.

[8] انظر تقرير "سينما النهضة: العودة إلى أفلام المقاولات" للصحفي أحمد حسن/ جريدة الصباح/ 22 إبريل 2013م.

[9] انظر المرجع السابق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق