ربما تختلف حيواتنا، وتجاربنا مع الآخرين عن بعضها البعض- وهذا أمر مفروغ منه- لكن قد تبدو بعض هذه الحيوات فيها من التشابه ما يجعل أحدنا يؤكد على أن حياة فلان أقرب إلى حياته الشخصية وتجربته، لا سيما إذا ما كانت هذه الشخصيات التي نحاول التماهي معها من الشخصيات المعروفة، أو المشهورة التي نحاول البحث في حيواتهم، نابشين إياها بسبب الفضول في اقتحام حيوات المشاهير، مما يجعلنا دائمي التلصص عليهم لمعرفة تفاصيل تجاربهم، وهو الأمر الذي يجعل من حيوات المشاهير مشاعا للجميع يعبثون فيها كيفما شاءوا؛ الأمر الذي قد يجعل البعض منا يرى في حياة أحدهم شبها كبيرا من تجربته الحياتية فيبدأ في التماهي معه.
لكن، هل تصلح مثل هذه المُقارنات/ التماهي كموضوع روائي قادر على نسج عمل روائي؛ فيبدأ الروائي بناء عمله بالاعتماد على حيوات مُختلفة تتشابه إلى حد بعيد مع بعضها البعض من جهة، ومع حياة الراوي داخل العمل من جهة أخرى؟
مثل هذه التساؤلات الكثيرة لا بد من إثارتها عند قراءة رواية "أصابع امرأة نيئة" للروائية التونسية هدى حواس التي جعلت من حياة راويتها داخل الرواية/ غنوة بمثابة استعارة فنية لحيوات العديد من الشخصيات الأدبية الواقعية التي نعرفها جيدا لا سيما الشاعرة والروائية الأمريكية سيلفيا بلاث، والشاعرة الأمريكية آن سكستون، والكاتبة الفلسطينية مي زيادة، فضلا عن شخصية شاهدة/ صديقة الراوية داخل الرواية، بالإضافة إلى حياة الراوية نفسها.
أي أن الروائية هدى حواس دخلت عالمها الروائي للتعبير عن حياة بطلتها غنوة ومُعاناتها من خلال أربع شخصيات أخرى، حتى لكأن العالم الروائي لديها قد انقسم إلى خمسة أوجه للحياة/ المُعاناة تكاد أن تتشابه، وتتداخل إلى حد بعيد في التجربة الحياتية، بسبب عامل مُشترك بينهن؛ مما أدى إلى التداخل بين هذه العوالم والحيوات في نسيج روائي لا يمكن له فصل أي شخصية منهن عن الأخرى، بل لا بد من هذا التداخل من أجل اكتمال العالم الروائي.
تتناول هدى حواس في روايتها حياة غنوة الفتاة الرقيقة التي لم تنضج بعد على المستوى السيكولوجي رغم نضوجها العمري، وزواجها من كمال، الكاتب الصحفي الناجح، وعملها بدورها في مجال الصحافة، فضلا عن كتابتها للرواية، أي أن غنوة تمتلك من مُسببات النضوج السيكولوجي ما يجعلها ناضجة بالقدر الكافي، لكنها تعترف بأنها ما زالت الطفلة الصغيرة النيئة كما كان يحلو لأمها أن تصفها: "ما زلت تلك المرأة النيئة التي طالما أوقعها غباؤها في مطبات الحياة الكثيرة، لم أنضج كثيرا عن الطفلة التي أعرف مُنذ أكثر من ثلاثين سنة، حين كنت أتعثر وأسقط في كل مرة أحاول المشي في ساحة الحوش الكبير، وحين كنت أُسقط ما أحمله من يدي من أطبق صغيرة أو لعب، أو حتى قطع البسكويت التي كانت تعدها لنا جدتي. وكأني في ذلك الزمن البعيد جدا أسمع كلمات أمي وهي تهزأ مني وتوبخني بشدة مُرددة نفس تلك الكلمة "نيّة، وقتاش باش تكبر وتكبس روحك، نيّة كيما عاهدتك". كأني نفس تلك الطفلة الحمقاء التي يسخر منها الجميع، حتى ردة فعلي لم تتغير كثيرا حينما كنت أرى شيئا يبدو غريبا؛ فأتسمر في مكاني مُحملقة بعينيّ، كاتمة لأنفاسي".
في هذا الاقتباس السابق الذي افتتحت به الروائية عالمها الروائي يتبين لنا أنها تتحدث عن امرأة طفلة لم تنضج على المستوى النفسي رغم نضوجها العمري، وهو الأمر الذي يجعل قول أمها السابق، حينما كانت صغيرة، ما زال يصدق عليها حتى الآن، أي أن الروائية حريصة مُنذ السطر الأول من روايتها على رسم شخصية راويتها/ غنوة كشكل من التمهيد والتأسيس للعالم الروائي الذي نحن بصدد دخوله، ومن ثم تُهيئنا لقبول الخلل النفسي الذي تُعاني منه غنوة التي تدور أحداث الرواية على لسانها بضمير المُتكلم.
هذا الخلل السلوكي/ عدم النضج تؤكد عليه الروائية غير مرة حينما نقرأ: "هل أنا مجنونة فعلا؟ لماذا، إذن، أستلذ بطعم الوجع، وأستميت في استدراجه؟ لماذا أفكر في كل شيء، وفي الوقت نفسه أترك العالم يتداعى بأسره أمام عينيّ؟ هل أنا مجنونة لأني أعتقد في حقيقة تُخالف حقيقتهم؟ أم لأن روحي مُعلقة بشيء غير أشيائهم، أم لأن وجعي مُتعالٍ عن وجعهم؟ لا أدري حقا. لا أدري لماذا أستسلم إلى تلك النوبات التي تصيبني مرة بعد مرة؟".
ألا نُلاحظ هنا عدم النضج حتى في رؤيتها للعالم والتعاطي معه؟ إنها غير قادرة على إدراك وفهم ما يدور من حولها، ورغم أنها ترى نفسها مُجرد شخصية مُختلفة عمن حولها، إلا أنها غير قادرة على إدراكهم، أو تفهمهم؛ ومن ثم تستسلم لفكرة جنونها التي يبثها لها من هم حولها لا سيما كمال زوجها!
نعرف فيما بعد أن غنوة مُصابة بشكل من أشكال الاكتئاب الذي كثيرا ما يفضي بها إلى رؤية العديد من الشخصيات التي تتمثل لها؛ فتجالسهم، وتثرثر معهم في همومها وهمومهم المُشتركة، فضلا عن وقوعها في نوبات هستيرية تؤدي بها في النهاية إلى الإغماء والغياب عن العالم، لكنها رغم ذلك ليست مجنونة، فهي مُدركة لحالتها جيدا، ومُوقنة بأنها ترى العالم من خلال رؤية خاصة تخصها وحدها وتختلف فيها عن غيرها ممن يحيط بها، لكنها تستسلم رغم ذلك لوصف الآخرين لها بالجنون في بعض الأحيان، كما أنها تعمل على روايتها التي تضع فيها شخصيتها وحياتها، ومُعاناتها، بشكل يتداخل مع حيوات العديدات من الشخصيات الواقعية التي نعرفها في عالم الأدب، حتى لكأنهن الأوجه المُتعددة لحياتها، أو النسخ الأخرى منها التي تُدركها جيدا بعيدا عن عالمها الواقعي، وهي الشخصيات التي تتمثل لها كلما انفردت بذاتها لتبدأ في الحديث إليهن، والنقاش معهن!
رغم محاولة الكاتبة عدم
الإفضاء بعالمها الروائي وتفاصيله المُتشابكة دفعة واحدة- فهي تبث التفاصيل على
طول أحداث السرد المُتفرقة- وهو من الأمور التي تؤكد على مقدرة الروائية على
الإمساك بتلابيب العالم الذي تخوضه مُتحكمة في السرد الروائي، إلا أننا سنُلاحظ
بعض الإشارات التي تُدلل لنا على وجود أزمة ما ستفضي بها إلينا فيما بعد؛ الأمر
الذي يفتح الباب لتساؤل القارئ الدائم، ورغبته في إكمال القراءة حتى النهاية. هي
على سبيل المثال تتحدث عن زوجها/ كمال في الصفحات الأولى من الرواية- حينما يعرض
عليها في إحدى الليالي أن يقرأ لها بعض الصفحات من كتاب "الروض العاطر"-
قائلة: "ابتسمتُ وقلت في نبرة ساخرة: فياجرا الكلمات، قد تصلح لأوقات قبل
النوم. قال: لست حيوانا غنوة. أنا أحبك، وشغفي بجسدك ليس إلا شغف عاشق. لم أعلق
على كلامه، كنت مُستغربة تماما؛ فهو نادرا ما يعبّر عن حبه وشغفه. لكني شعرت بحنان
حقيقي يغمر قلبي، وبموجات من الدفء تتسلل إلى جسدي، وبشيء غريب يُبعث فيّ فجأة.
ربما اكتشفت حينها أنني أحبه. تركت رأسي يترنح على كتفه، وقلت: اقرأ، سنتسلى أكيد
هذه الليلة بالروض العاطر".الروائية التونسية هدى حواس
ألا نُلاحظ هنا أن الزوجة مُعرضة عن زوجها، ساخرة من رغباته ومُغازلاته لها؟ رغم إدراكنا لهذا الصد عن الزوج إلا أننا سنتساءل: ما السبب في هذه المُعاملة الجافة من الزوجة تجاهه رغم حبه لها، ورغبته فيها؟ بل ما الداعي لهذا الجفاف رغم أنها تؤكد أنها قد تزوجت منه بسبب الحُب؟
إن الكاتبة هنا حريصة على عدم كشف عالمها الروائي دفعة واحدة، بل تبثه في ثنايا سطورها دفقة تلو الأخرى لتظل مُمتلكة لذهن المُتلقي، مُسيطرة عليه حتى آخر سطور روايتها، أي أنها حريصة على التساؤل الدائم الذي يجعل من المُتلقي أسيرا للعالم الروائي حتى انتهائه.
هذا الإعراض نُلاحظه مرة أخرى في: "تركته يحدثني وأغمضت عينيّ، كان هو لا يتوقف عن الكلام كأنه في حالة هذيان: أوجاع الرأس مُدمرة، أنت لا تعلمين شيئا عنها. أنت طفلة مُدللة لا تدركين شيئا عن عالم الوجع، الوجع الذي نما في ذاكرتي مُنذ الطفولة وكبر معي، كم أكره العقاب، المُعلمون يتفانون في العقوبات بدعوى أنهم يربوننا. أكره المُعلمين، المُعلمون يكسرون في الطفل كبرياءه، ويعلمونه الإذلال مُنذ الصغر. أمي أيضا كانت تُتقن العقوبات. وكان يحلو لها أن تضربنا على رؤوسنا. هذا الرأس كم عوقب من مرة! ويبدو أن بعض الأفكار تعفنت فيه من شدة الضربات. أوجاع الرأس مُدمرة يا غنوة. أنت لا تعلمين ماذا أعاني، حاولت أن أتخلص من كل عقدي، لكني لم أفلح، مُنذ متى أحاول أن أتخلص من بذرة الطفل القديم فيّ؟ ولكني لا أستطيع. ما نتربى عليه صغارا يقبع بداخلنا، وكلما حاولنا أن نتجاوزه يُخرج لنا مخالبه، ويُحاربنا بشدة. وبقايا الضربات العفوية أو الجاهلة تُعاقبنا مرة أخرى حين نحاول التمرد عليها. حتى الحُب لم يستطع أن يحميني من أوجاع الرأس. ربما لم أكن عاشقا جيدا، ولكني وقعت أكثر من مرة في الحُب".
إن الزوج، هنا، راغب في مُشاركة زوجته فيما يشعر به، وما يفكر فيه، لكنها رغم ذلك تُعرض عنه، غير مُهتمة بما يفضي به إليها، غير راغبة في المُشاركة؛ لذا فلقد تركته يتحدث وأغمضت عينيها غير مُهتمة بما يقوله لها، وهو الأمر الذي يجعلنا نتساءل: لم تتعامل الزوجة مع زوجها بمثل هذا الإعراض، والصد الدائم، واللامبالاة رغم محاولاته الدائمة في التواصل معها والقرب منها؟
إذا ما حرصنا كمُتلقين على مواصلة القراءة سنعرف أن عدم نضجها، وزواجها منه- رغم حبها له- واكتشافها لخيانته لها ذات مرة كانوا السبب فيما وصلت إليه مع كمال: "كنت مُضطرة إلى السفر بمُفردي إلى مدينتي بسبب مرض أختي. وكان المفروض أن أقضي الليلة هناك، غير أن تعكر صحتها اضطرنا إلى العودة إلى العاصمة. ففي مدينتي الصغيرة لا يوجد غير مُستشفى لعلاج الحالات البسيطة، ولا تتوفر فيه كل المُعدات الطبية اللازمة. وكان من المُستحسن نقلها إلى مصحة بالعاصمة. فرافقتها صحبة زوجها، وبعد أن اطمأننت عليها عدت إلى بيتي. عدت لأشتم رائحة الخيانة وهي تنتهك كل خصوصياتي. غرفة نومي، وبيت استحمامي، وثوبي، ومنشفتي المُطرزة، وسائل استحمامي المُفضل. كانت رائحة البنفسج تعبق في جناحي. وبقايا الرغوة في قاع المغطس. وثوبي المُبلل بمائها يتدلى من المشجب البلوري. وشعراتها الشقراء ما تزال عالقة بمنشفتي. يبدو أنها أنهت مهمتها للتو وغادرت قبيل قدومي بقليل، وتركت آثارها تعج في بيتي. لم أتصور خيانته لي، ولم أشك فيه مُطلقا. ورغم ذلك لم أتفاجأ كثيرا، وتصرفت مع الأمر ببرود استغربته من نفسي. جمعت كل أغراضي التي استعملتها هذه الزائرة الغريبة ورميت بها في سلة المهملات. وتركت له الجناح، وانتقلت إلى غرفة الضيوف. كان هو يراقبني من مكتبه وينتظر ردة فعلي، لكن النوبة الهستيرية التي أصابتني أنقذته من المواجهة"!
إن رد فعل غنوة على الخيانة لا يمكن أن يكون ردا طبيعيا، أو رد فعل زوجة مُحبة لزوجها، أو حتى مُهتمة به، بل هو رد فعل امرأة لا يعنيها الرجل الذي يعيش معها بقدر ما يعنيها الشعور بإهانة كرامتها فقط، وهو ما يؤكد أنها لا تشعر تجاهه بأي شعور حقيقي، أي أنها تخونه بادعائها الحُب تجاهه- باعتبارها زوجة له- مثلما يخونها هو مع غيرها من النساء، ولكن رغم اختلاف مفهوم الخيانتين هنا- إحداهما معنوية، والأخرى مادية- إلا أنهما تتساويان تماما ما بين الزوج والزوجة، ولا خلاف بينهما!
لكن، إذا ما كانت غنوة تعاني من اكتئاب حاد، وإذا ما كانت تتمثل لها العديد من النساء في غرفتها ليتجسدن لها وتبدأ في مُحادثتهن، وإذا ما كانت تدخل في العديد من النوبات الهيستيرية التي تُغيبها عن العالم؛ فمن المُمكن لنا الذهاب إلى أن كمال لم يخنها فعليا، وأنها تتخيل الأمر- ربما من أجل الشعور بالاتساق مع مشاعرها الجافة تجاهه، وإعراضها عنه- أي أن اعتقادها بخيانته هنا يصبح بمثابة حيلة نفسية دفاعية من أجل الشعور بالتوازن النفسي، والهروب من الشعور بالذنب تجاه الزوج الذي يحاول التقرب منها رغم جفاف مشاعرها، لا سيما أنه لا يوجد على طول الرواية أي دليل مادي ملموس على خياناته لها اللهم ما ذكرته في الاقتباس السابق.
قد يكون كمال خائنا، وقد تكون خيانته مُجرد هلاوس في ذهن غنوة، لا سيما أنه سبق له أن حكى لها عن حبه القديم ببساطة ولم يخف عنها أي شيء في الوقت الذي أخفت هي فيه علاقتها وحبها السابق ليوسف، وهو الشخص الذي ما زالت تفكر فيه، وتشعر بالاشتياق إلى الأوقات التي سبق لهما أن قضياها مع بعضهما البعض! أي أننا نستطيع القول: إن غنوة هي التي تخون الزوج على المستوى العاطفي/ المعنوي، وتحاول التخفيف من وطأة الشعور بالذنب من خلال هذا التخيل الذي قد لا يكون له وجود فعلي إلا في ذهنها فقط!
نعرف أن غنوة كانت علاقتها بأمها علاقة سيئة، صحيح أنها لم تكن تكرهها، لكنها لم تكن تشعر تجاهها بأي عاطفة طبيعية بين فتاة وأمها، بينما كانت تعشق الأب كثيرا؛ فهو يُدللها، ولا يعاقبها دائما مثلما تفعل الأم؛ لذلك حينما مات الأب كانت صدمة كبيرة لها في حياتها، كما كانت في علاقة عشق مع زميلها في الجامعة/ يوسف، وهو الشخص الذي تخلى عنها فجأة؛ لأنها لم تكن بارعة في التعبير عن مشاعرها تجاهه، حتى أنها لم تقل له يوما ما كلمة أحبك رغم طول المُدة التي قضياها معا؛ وهو الأمر الذي شكّل لها أزمة نفسية ثانية، ثم كان انتحار شاهدة، أقرب صديقاتها لها؛ لتكون الطامة الكبرى التي أصابتها بلوثة سيكولوجية، أدت إلى حالتها النفسية التي تحياها الآن.
لكن، رغم ذلك فغنوة ترد كل المآسي في حياتها، ومُعاناتها إلى الحُب؛ فالحُب لديها هو السبب الأساس في كل العذاب السيكولوجي لدى العديد من النساء، وهو ما يؤدي بهن إلى حالتهن المزاجية الكئيبة التي تفضي بهن في النهاية إلى الانتحار، أي أن العاطفة والرجال، وخياناتهم هي السبب في لوثات مُعظم النساء وانتحارهن- كما ترى غنوة!
لذلك فهي تتمثل العديد من الحالات التي تتماهى مع حالتها وتستحضرهن لتبدأ في الحديث معهن، وعن مُعاناتهن مع رجالهن، بل وتكتب عنهن في روايتها التي تعمل عليها أيضا.
إن استحضار الشخصيات
النسائية الشبيهة بحالتها- كما تراها هي- يتبدى لنا مع الصفحات الأولى من الرواية،
أي أن الروائية حريصة مُنذ البداية على اقتحام العالم الروائي بما تعانيه بطلتها،
ثم تُفصل لنا الأمور فيما بعد، وهو ما نقرأه في: "انحلت عقدة الدهشة
المُفاجئة بعد وقت ليس بالقليل عندما سمعت شاهدة تقول لي: يبدو أنك تفاجأت
بحضورنا. ألم تستدع أرواحنا كل ليلة في تخوم كلماتك؟ ألم تهدمي الجدار القائم بين
عالمين نائيين، وخرقت كل طقوس الكتابة لتستدعي أرواحنا شاهدة على وجعك؟ نطقت
بصعوبة كأني أقتلع كلماتي من طين الصمت: روحي خربت لوحدتي، وأنتن عشتن عطش الحُب،
وصُلبتن على خشبة العشق، أنتن إيقاعات الجنون، وكان عصيا عليّ أن أعيش وجعي دون
اصطبار وأنا وريثة الخبل، حتى أتخطى هاجس انتحاري"!سيليفيا بلاث
إذن، فنحن مُنذ البداية أمام شخصية اكتئابية لا يشغل تفكيرها سوى الرغبة في الانتحار، وهو الأمر الذي يجعلها تتمثل العديد من الشخصيات النسائية اللاتي سبق لهن أن انتحرن بسبب علاقاتهن مع الرجال، ومُعاناتهن في هذه العلاقة التي أدت بهن إلى شكل اكتئابي أدى بهن في النهاية إلى الانتحار للتخلص من آلامهن النفسية. إن هدى حواس هنا عملت على تحديد أبعاد عالمها الروائي والنفسي بحصره في شخصيات نسائية اكتئابية، سعين للانتحار بسبب عشقهن للرجال الذين كانوا في حياتهن، ورغم أنها عملت بهذا الشكل على تضييق العالم- مع ما تتضمنه هذه الرؤية من إلقاء اللوم على العلاقات بين الرجل والمرأة بسحق مشاعر المرأة، وإنهاء حياتها- إلا أن تحديدها للعالم الروائي يتوافق تماما مع الشخصيات التي اختارتها، والأحداث التي مررن بها، أي أن ثمة مُناسبة فنية بارعة بين الشكل والمضمون الروائي نجحت الكاتبة في الوصول إليه لنسج العالم الروائي الذي أدخلتنا إليه.
إن استحضار الشخصيات التي لا وجود لها نراه كثيرا على طول الرواية، وهو ما نُلاحظه في: "في تلك اللحظة الملحمية الكاشفة والمخفية اشتهيت أن أحضنهن واحدة واحدة. فكرت أني مجنونة فعلا، وأني أختلق عالما من الأشباح كما أفعل في رواياتي. داهمتني أفكار غريبة أن أكون في عالم أسطوري، وأني من سُلالة أخرى. من سلالة تستعذب العناكب أن تعيش تحت جلدي، وتتغلغل في الحروف والمشاعر، وتقودني إلى عالم مائل تضيع فيه الأزمنة، وينحرف فيه العقل. غرفتي الآن تفوح منها روائح عطرهن المُعتق الخارج من توابيتهن. وجودهن الآن أصبح أمرا واقعا، وحياتي مُفعمة بالتوقعات اللامُنتظرة، والأحداث المُستعصية عن الفهم. ومهما يكن الأمر لم يعد يعنيني ما الحقيقة وما الخيال. انهدم الفاصل بينهما". أي أن غنوة قد وصلت إلى درجة مرضية تجعلها في حالة من الهلاوس السمعية والبصرية التي تستحضر من خلالها أشخاصا لا وجود لهم، وتُدرك جيدا أنهم قد رحلوا عن الحياة، لكنهم يتمثلون لها كالأحياء ويجالسونها، ويحادثونها أيضا!
رغم عدم حقيقية وجود هذه الشخصيات، وإدراكها لانتفاء وجودهم الواقعي نراها تتعايش مع الأمر وكأنه حقيقة في عالم يخصها وحدها فقط، وتصدقه: "الساعة مُنتصف الليل، ما زلت أحاول النوم ولا أستطيع رغم تعبي. تحرك الرف ببطء شديد، رأيتها تخرج من دفتي الكتاب الموضوع في طرف المكتبة، أغمضت عينيّ بشدة كأني أهرب منها ومن شبح وجودها معي في غرفتي. لم أصدق في البداية وجودها، حتى نطت من ذلك الركن، لم تقل شيئا، ولكني رأيت دمعة عالقة بطرف رموشها الكثيفة. جلست إلى جواري في الأريكة العريضة، ووضعت أصابعها البيضاء الرقيقة على كتفي في حركة طبطبة خفيفة. كان الصمت مُطبقا على المكان، لا أسمع غير صوت تنفسنا وتكتكات الساعة الخشبية المُعلقة على الحائط المُقابل. مُنذ رحيل شاهدة أعيش وحيدة. ليس لي من أحدثه، ولا من يستمع إليّ بعمق روحه، وتمرد عقله كما كانت تفعل".
إن الروائية هدى حواس إنما تعبر لنا عن مجموعة من النسوة التي لم تنضج مشاعرهن بالقدر الكافي؛ وهو الأمر الذي يؤدي بهن إلى أزماتهن النفسية مع الرجال المُرتبطات بهم، فليس الحُب هو السبب الرئيس- كما ترى غنوة- في حالاتهن السيكولوجية الاكتئابية، وليست خيانات الرجال هي السبب؛ لأنهن مُتقلبات بطبعهن بسبب عدم النضج، وهو ما نراه في حديثها عن سيليفيا بلاث الشاعرة والروائية الأمريكية التي انتحرت بسبب خيانة زوجها لها، وإن كنا نرى أن حالتها المزاجية الاكتئابية كانت هي السبب الأول في الانتحار، وليست خيانة الزوج لها: "كتبت لتيد: إن حدث لك مكروه سأقتل نفسي. وتذكرت ما قلته ليوسف: سأجن إن ابتعدت عني. الكلمات التي نكتبها بوعي شديد أو دون وعي هي حقيقتنا التي نعيشها، والتي تتحكم فينا. سيلفيا لم تقتل نفسها لأن مكروها أصاب تيد، وإنما قتلت نفسها حين أصابها هو بمكروه! عاقبت نفسها بالموت انتحارا لأنها لم تتحمل خيانة تيد، كما عاقبتُ نفسي بالجنون لأني لم أتحمل فراق يوسف. كلانا ضحية خياراتنا الحمقاء، وكلانا اخترنا الوجع لأجل من نُحب. وربما لأنها امرأة نيئة مثلي كما كانت تنعتني أمي؛ فلم تتحمل هذا الوجع. ها هي الطفلة النيئة كبرت يا أمي، ولم تنضج وأصبحت فقط امرأة نيئة، لم يكن لدي إدراك بذلك حتى ماتت شاهدة، كلماتها ما زالت تشهد على أننا لم نكن نُتقن لعبة الضحية، وإنما استسلمنا لهزائم الحُب. لم أتفطن إلى نبرة صوتها الصادقة وهي تُعلن لي عن موعد موت قريب. كنت أسخر منها، ولم أكن أعلم أنني كنت أسخر من نفسي ومن غبائي أيضا. هل كانت هي أيضا امرأة نيئة؟".
إن الاقتباس السابق يؤكد لنا أن أزمات تلك النسوة النفسية سببها الجوهري هو عدم نُضجهن، وحماقاتهن في التعامل مع الأشياء والحياة، والعلاقات، وليس الحُب، وخيانات الرجال لهن، وحتى إذا ما كانت ثمة خيانة؛ فالخيانة نابعة من عدم نضج النساء، وكأنهن هن من دفعن رفقائهن للخيانة بسبب عدم اكتمالهن نفسيا/ عدم نضجهن، بالإضافة إلى أننا لا بد لنا من الانتباه إلى قول غنوة: "كما عاقبت نفسي بالجنون لأني لم أتحمل فراق يوسف". إن هذه الجملة الجوهرية تؤكد لنا أنها لم تكن مُخلصة لزوجها كمال، وأنها قد جُنت، أو أصابتها حالتها النفسية بسبب فقدها ليوسف، أو تخليه عنها؛ الأمر الذي يضعها في دائرة الخيانة لكمال، وليس العكس، بل يجعلنا نمد الخيط حتى مداه الأقصى، ونذهب إلى أنه حتى إذا ما كانت ثمة خيانة من كمال لغنوة؛ فهي التي دفعته إلى هذه الخيانة بسبب حالتها النفسية التي وضعت نفسها فيها بعد هجر يوسف لها، ثم قبولها الزواج من كمال مُدعية حبها له رغم أنها ما زالت تعيش بمشاعرها مع يوسف الذي تركها، ولعلنا نُلاحظ أيضا عدم نضجها النفسي من خلال قولها: "وربما لأنها امرأة نيئة مثلي كما كانت تنعتني أمي؛ فلم تتحمل هذا الوجع. ها هي الطفلة النيئة كبرت يا أمي، ولم تنضج وأصبحت فقط امرأة نيئة"، وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه من أنهن مجموعة من النسوة غير الناضجات على المستوى النفسي، وهو ما أدى به إلى أزماتهن النفسية.
إن عدم اكتمال المشاعر، أو الوصول إلى حالة من النضج والإدراك الكامل، هو ما يدفع المرأة إلى الاعتقاد بمجموعة من الأوهام التي لا يمكن التسليم بصحتها، فهي فقط من ترى صحة ما تفكر فيه، لكننا إذا ما أخضعنا الأمر للعقل لاتضح لنا عدم استقامته مع التفكير العقلي؛ لذلك نقرأ: "ذكرني كلامها عن الحُب بكلام شاهدة آخر حياتها وهي تقول: المرأة حين تعشق تسقط، ولن تتخلص من هذا العشق إلا بالجنون أو الموت. تطلعت إلى صورتها الموضوعة على الكوميدينو بالقرب من السرير. رأيتها تنظر إليّ كأنها تُعاتبني. ربما لأني استهزأت بمشاعرها حين كانت تتحدث عن حُبها لحمزة بشغف". إن عدم نضجها هو ما يجعلها ترى أن العشق لا بد أن يؤدي بصاحبته إما إلى الموت أو الجنون، أي أننا أمام مجموعة من النسوة غير الناضجات في مشاعرهن؛ ومن ثم يصلن إلى حالة من حالات التعلق التي لا يمكن أن تستقيم معها الحياة ببساطة؛ لأن الحُب لديهن يتحول إلى إدمان عاطفي مرضي غير خاضع للمنطق، أو العقل، ومن ثم يقعن في الاكتئاب والحالات العصابية التي لا بد بها أن تؤدي بهن إلى الانتحار للتخلص من الحياة!
هذه الرغبة في التخلص من الحياة هي ما يُسيطر سيطرة كاملة على غنوة، رغم عدم وجود سبب منطقي وضروري لهذه الرغبة الانتحارية؛ فهي متزوجة من رجل يحبها ويحاول التقرب منها- ومع افتراض خيانته لها فهو يحاول دائما إصلاح الأمر ورأبه- كما تعمل في مهنة مُستقرة، وتكتب الرواية، وتتوافر لها كل أسباب الحياة، لكنها تعيش مع ذاكرتها القديمة مع حبيبها السابق، وتستمرئ جنونها ورغبتها الانتحارية من أجله: "كانت تتوارد عليّ الأسئلة لأفهم ما الذي حوّل سيليفيا من عالم العبقرية والإبداع إلى عالم الجنون؟ ومن حوّل رغبتها في الحياة إلى الموت؟ من أرادت أن تغيظ بموتها؟ الكلمة، تيد، الله؟ من الذي يستحق أن تُتقن من أجله حرفة الموت، ومن هي عدوتها الحقيقية، المرأة أم الرجل؟"، صحيح أن تيد زوج سيلفيا بلاث كان يخونها بالفعل مع حبيبته آسيا، وربما كان هذا هو السبب الحقيقي لانتحارها، لكن غنوة هنا تحاول تمثل مجموعة من الحالات التي لا علاقة لهن بها؛ لأنها في جوهر الأمر تخون كمال على المستوى المعنوي بحياتها داخل ذاكرتها مع يوسف حتى من قبل أن تتزوج به، وما زالت على هذه الحالة حتى بعدما تزوجت منه، أي أنها راغبة في الشعور بشعور الضحية، أو تلجأ إلى حيلة نفسية من أجل إقناع نفسها بأنها بالفعل ضحية، لمنع تسرب الشعور بالذنب إلى نفسها.
إن محاولة التماهي مع شعور الضحية يجعلها تُغرق في تفاصيل سيليفيا بلاث لتؤكد لنفسها أن العلاقات مع الرجال تؤدي إلى الانهيارات النفسية والرغبة الانتحارية في النهاية: "آسيا المرأة التي هزمتها، أخذت منها حبيبها وزوجها تيد الذي انبهرت بجسده الرياضي ووسامته، وبكتاباته، ورسوماته. كم كانت شغوفة به وبكل تفاصيل حياته! تيد الرجل الثاني في حياتها الذي أحبته وتزوجته، وهو أيضا الرجل الثاني المتورط في جنونها وموتها. أحبته مُنذ لقائها الأول به في الفولبرايت في إنجلترا أين كانت تدرس الكتابة الإبداعية. ولعل الرجل الأول أيضا كان سببا غير مُباشر في جنونها. كان مرض أبيها وموته مُؤثرا في حياتها، وكانت قصائدها عبارة عن تداعيات لهواجسها وللتعبير عن خواء روحها وشعورها بالفقدان. لم يتحمل تيد مرضها الذي شخصه الأطباء بالقطب المزاجي وبعد دخولها لمصحة نفسية تركها وذهب ليعيش مع عشيقته آسيا".
ألا نُلاحظ هنا أن تيد لم يكن هو السبب الأساس في حالتها الاكتئابية، والرغبات الانتحارية؟ فلم يكن هو ولا آسيا/ عشيقته السبب في انتحارها؛ لأنها تمتلك الرغبة الانتحارية مُنذ البداية مع فقدان الأب- لاحظ قولها لعل الرجل الأول أيضا كان سببا غير مُباشر في جنونها. كان مرض أبيها وموته مُؤثرا في حياتها- أي أن عدم احتمال تيد لمرضها كان عاملا مُساعدا لرغبتها الانتحارية، بينما كانت هي في الأساس لديها الاستعداد النفسي والفطري لما حدث.
إنها حالات من عدم النضج في المشاعر لدى العديد من النماذج النسائية التي اختارتها غنوة للتماهي معها ظنا منها أن الحُب وخيانات الرجال هما السبب فيما وصلن إليه، وهي معهن رغم انتفاء ذلك وعدم استقامته مع العقل، والواقع.
هذه الحالة نراها أيضا مع آن سكستون الشاعرة الأمريكية التي انتحرت بسبب خيانة زوجها ألفريد لها- كما ترى هي أو غنوة- لكن إذا ما تأملنا حياة آن سيتأكد لنا أنها هي التي كانت تخونه مع العديد من الرجال، ورغم ذلك فلقد ألقت اللوم عليه هو واتجهت للانتحار في نهاية الأمر! وإذا ما كانت سيليفيا بلاث تعاني من الاكتئاب بسبب فقد الأب، مما أدى بها إلى نهايتها، وإذا ما كانت غنوة تخون كمال على المستوى المعنوي بحياتها في ذاكرتها مع يوسف؛ مما أدى إلى حالتها، فضلا عن فقدانها للأب أيضا، فآن سكستون قد خانت ألفريد على المستوى المادي مع الكثيرين من الرجال، أي أننا لا يمكن لنا التعاطف معها، أو الذهاب إلى أن خيانة الزوج لها كان هو الدافع لانتحارها واكتئابها، بل هي التي كان لديها الاستعداد للحالة الاكتئابية، وكانت عابثة في علاقتها الزوجية مع ألفريد، وحينما خانها ألقت اللوم عليه بدلا من لوم نفسها!
"كانت تحبه بجنون، تزوجته وعاشت معه حياة لطيفة. وكانت عاطفة الحُب تكبر فيها، لكنه كان غير قادر أن يفهم جنون عشقها. كانت مليئة برسائل لم تُرسلها إليه. وحتى إن أرسلتها فلن يتغير شيء. هو زوج برجوازي لطيف، عاقل بما يكفي ليحافظ على روتين حياته. رغم محاولاتها أن تؤثر فيه بكلماتها، بكل ما تكتبه إلا أنها أدركت بعد فوات الأوان أنها حمقاء؛ لاعتقادها أن الكلمات قد تؤثر فيه، ومع ذلك كانت تحاول ولا تيأس؛ فهي تعلم أن من يحب لا يستطيع أن يتراجع. في الحُب لا قرارات نتخذها أو نتراجع عنها. في الحُب فقط دهشة واحدة تستمر إلى الأبد، كانت دائما تردد: لا أبالي، أحبك كيفما كنت، فات الأوان على طردك من قلبي، فأنت تعيش داخلي. لكنها هذه المرة أحست أنه يدفعها إلى الجنون بحماقاته. رأته شخصا غريبا، شريرا، وتمنت لو أنها تخلصت منه. فما الفائدة من وجوده في حياتها وهو لا يفهمها، ولا يفهم لغتها، ولا يملك عقلا يستوعبها؟ عندما لا نجد شخصا عاقلا بما يكفي للتحدث إليه؛ فسنضطر إلى أن نكون مجانين"!
إذا كانت هذه هي حالة آن سكستون
مع زوجها؛ فهي تُدلل على امرأة لم تنضج بعد، امرأة حمقاء اختارت الرجل الذي لا
يتناسب معها، أو مع تفكيرها، أو مشاعرها، وترغب في أن تغيره إلى شكل آخر ترغبه في
ذهنها، رغم أنها كان عليها ألا تختار الحياة معه مُنذ البداية لأنه في الواقع لا
يتوافق مع تفكيرها، أو الشكل النموذجي الذي ترغب شريكها العاطفي عليه. إن الرجل لا
علاقة له بلغة الكلمات التي ترغبها، وهذه طبيعته التي تعرفها عنه، لكنها تريد منه
أن يتغير من أجلها ليصبح على الشكل الذي تريده هي، وهذا من الأمور المُستحيلة؛ لأن
كل إنسان يظل على ما هو عليه، ولا يمكن له التغير من أجل الآخرين، وإلا يكون قد
انتحر على المستوى المعنوي بتحوله إلى شخص لا يتوافق مع نفسه، إلا أننا نراها رغم
ذلك تلقي باللوم عليه، بدلا من إلقاء اللوم على مشاعرها غير الناضجة وخيارها
الخاطئ مُنذ البداية، وبدلا من تقبل زوجها الذي اختارته بملء إرادتها ألقت اللوم
عليه وبدأت في خيانته: "الحُب المخلوط ببهارات الأفكار المارقة عن المألوف له
نكهة خاصة، لذلك لم تقاوم آن وتركت روحها وجسدها لهذا الأخرس رغم قرعات الضمير
الذي يذكرها أنها زوجة لألفريد الذي كانت تحبه يوما ما. وأن كل ما تفعله هو نوع من
الخيانة. لكن، أية خيانة هذه التي تغدق عليها كل هذه السعادة؟! حين يكون شعورنا
صادقا ترتبك المفاهيم التي يطرزها المُجتمع بخيوطه العقيمة. الخيانة تكون أشد في
المشاعر. كم امرأة متزوجة لا تخون جسدها، ولكنها تعيش حياتها كاملة تخون مشاعرها؟
كم جثة تنام في فراش الزوجية بكل وفاء الميتين؟".مي زيادة
إذن، فآن سكستون أيضا لم تنضج بعد، بل وتبرر لنفسها خيانة زوجها بأن خيانة المشاعر هي الأكثر جرحا وجرما، أي أن آن هي الانعكاس الآخر لغنوة، فإذا ما كانت خيانة غنوة هنا خيانة معنوية/ المشاعر، فآن خيانتها جسدية للزوج، وهو ما يعني أن غنوة المُرتبكة على المستوى السيكولوجي، ومستوى المشاعر، تحاول تمثل مجموعة من النسوة المُرتبكات مثلها تماما، واللاتي لم يصلن إلى النضج الكافي؛ وبالتالي يلقين باللوم على رجالهن الذين خانوهن ربما بسبب عدم النضج الكافي لديهن كزوجات.
إنه نفس الأمر الذي سنلمحه مع صديقتها شاهدة التي كانت مُتعددة العلاقات مع الكثير من الرجال، ورغم أنها كانت عقلانية، وتؤمن بالفلسفة وحرية المرء في خياراته الحياتية إلا أنها ستقع في حب حمزة- المُتدين بشكل راديكالي، والذي يرى أنه قادر على إصلاح المُجتمع وإعادته بالقوة إلى الشكل الديني والأيديولوجي الذي يراه هو، أي أنه يرغب من الجميع أن يعيشوا حياته، وتبعا للفكرة التي يؤمن بها هو؛ لذلك سيفجر نفسه في عملية انتحارية- إن حمزة سيعمل على تغيير أفكارها باسم الحب، بل وسترتدي الحجاب، وتصبح تابعة له في أفكاره؛ لذلك حينما يفجر نفسه في عملية انتحارية؛ تقوم بدورها بالانتحار بتفجير نفسها بالمُتفجرات بدعوى أنها ستذهب إلى حبيبها في عالم آخر لا بد أن تلتقي فيه معه، لأنها لم تعد صالحة للحياة معنا بعدما ذهب بعيدا عنها.
إنهن مجموعة من النسوة غير الناضجات، اللاتي ينتحرن باسم الحُب والمشاعر رغم خياراتهن الخاطئة، أي أننا أمام مجموعة من الحمقاوات اللاتي لا يمكن لنا التعاطف معهن باسم الحُب!
تستمرئ غنوة التماهي مع الشخصيات النسائية المُعذبة- بهتانا- باسم الخيانات والمشاعر؛ فتستدعي تجربة مي زيادة وجنونها بسبب خيانة جبران لها مع ماري هاسكل، رغم أننا لا يمكن لنا الذهاب معها لذلك أيضا، أو إلقاء اللوم على جبران؛ فمن خلال ما نعرفه عن حياة مي زيادة يتضح لنا أنها كانت مُجرد امرأة مُتلاعبة بالعديدين من الرجال المُعجبين بها، والواقعين في عشقها ومنهم عباس محمود العقاد، أي أن المرأة لم تكن سوى امرأة لاهية، عابثة، شاعرة بالكثير من التيه نتيجة وقوع الرجال في عشقها، لكنها كانت تتلاعب بهم جميعا؛ ومن ثم يكون طلب جبران الزواج من ماري هاسكل، لا سيما أنها من عاضدته وساندته، ووقفت إلى جواره في المهجر طبيعيا، كما أنه لن يعيش على حب عذري مع مي البعيدة عنها آلاف الكيلو مترات، إلا أن غنوة رأت أن جنون مي كان سببه خيانة جبران لها بطلبه الزواج من ماري التي رفضت الزواج به، رغم حبها له، كي لا تأخذه من عالمه الفني وتشغله عنه. أي أن مي بدروها كانت وجها من الأوجه النسائية غير الناضجة على المستوى النفسي والشعوري مما أدى إلى أزمتها النفسية.
"ترتعش أناملها وهي تكتب دون توقف. تذكرت لحظة اكتشافها لعلاقة جبران بماري هاسكل، وردة فعلها حين علمت بقرار زواجه منها. لم تكتب له أي كلمة. كان الصمت يطبق على أنفاسها ويمنع أناملها من الصراخ ببعض الحروف التي يمكن أن تطفئ نار الغيرة المُلتهبة بداخلها. كانت تشعر بيد الموت تقبض على أنفاسها وهي تتخيل جبران بين أحضان امرأة غيرها. يحدثها عن أسراره. ويهمس إليها بكلماته الملائكية الجانحة إلى كونه السماوي. أمسكت رأسها بكلتا يديها وهي تصرخ: هل أخذها معه إلى عالمه؟ هل كانت أقرب مني إلى روحه؟ وماذا عني؟ وهبتك العمر بأكمله، جمالي، عقلي، روحي، أناملي، كل ما أملك كان لك وحدك دون سواك. حتى جنوني هو لك دون سواك. هل كلمتها بتلك اللغة؟ لغتنا أنا وأنت؟ لغتنا التي تُشبه تغاريد الطير العاشقة؟ ألم تقل لي أنها لغتنا الخاصة بنا؟ ها إنك تهبها بعض تغاريدنا. بعضا من أنغامنا، فرحتنا وشجننا. ها إنك تهبها بعض نجومنا التي رسمناها في سمائنا، وأضأنا بها عتمة الليل، ورتقنا بها مزقات الطريق. ماذا فعلت بي جبران؟ حطمت القلب الذي أحييته ذات مساء. وشردت أحلامي التي بنيتها من ظلال الفكرة ومن أجنحة الكلمات. علمتني أن أحلق معك عاليا. علمتني أن أصير كوكبا في سماء خُلقت لنا فقط. لا أحد سوانا يسير بين الغمام يسترق النظر إلى كل الأجرام، ويسمع حديثها، ويتتبع خطواتها. ثم فجأة رميتني هنا بين كومة من الحجارة المُتكلسة التي لا تصلح لغير بناء البيوت الفانية. من قال لك إني أريد العودة إلى هذه الأرض؟ من يتعود على العيش فوق المُرتفعات لا تستهويه السهول. ماذا وهبتها أيضا؟ بعض قلبك؟ هل يمكن لقلب العاشق أن ينشطر نصفين؟! واهم أنت يا محبوبي. فقد ضللت الطريق. ها إنها ترفض طلبك وتمنحك قلبا آخر للحياة. قلبا مُتكملا لا تتناصف فيه الأشياء. كانت أكثر منك تسلقا للمشاعر الحقيقية. ها إنك تفوز مرتين بجنون مي، وتضحيات ماري. كم أنت محظوظ بنا، وكم نحن محظوظتان بهذا العشق الذي قاد إحدانا إلى ذرف الدموع، والأخرى إلى الجنون".
هل من المُمكن هنا الانسياق خلف شعور مي زيادة في خيانة جبران لها؛ ومن ثم التأكيد على أنه كان السبب في أزمتها النفسية التي عانتها؟
بالتأكيد لا؛ فمي كانت مُجرد امرأة عابثة راغبة في امتلاك كل شيء من حولها، وآملة في التفاف الرجال جميعهم من حولها كعاشقين من أجل تعذيبهم واللهو بهم، بينما هي مشاعرها مع جبران الذي كان من المنطقي له التخلي عنها بسبب بُعد المسافة بينهما، فضلا عن أن ماري هاسكل كانت هي الأقرب إليه على أرض الواقع، وهي من عاضدته في كل شيء.
إذن، فغنوة الواقعة في عشق يوسف، حتى قبل زواجها من كمال، بتخيلها لهذه النماذج من النساء إنما تُخادع نفسها من أجل خلق مُبرر لحالتها النفسية ورغبتها في الانتحار، إنها تبحث عن العامل المُساعد من خلال هذه النسوة وتمثلهن كي تقضي على صوت ضميرها بسبب خيانتها لكمال، وهي الخيانة التي تنكرها في حين أننا نقرأ: "اعتقدت قبل ذلك أن الغياب يساوي النسيان. لكني كنت واهمة، ها هو الغياب يزيدني تعلقا به، وها هي المسافة لا تنقص شيئا من حبي له. لكن الحُب إذا زاد على حده صار وباء لا بد من القضاء عليه. وحُب يوسف لم يعد مُجرد حُب، إنه ورم يكبر في داخلي ويمتد كل يوم ويسيطر على أعضاء الجسد، على الشرايين، على الكبد، على القلب، على العقل، حتى على المعدة، فها أنا أصبحت آكل بنهم غريب لم أعتده قبل ذلك. أما هذه الأصابع فقد استولى عليها بكليتها، تينع حروفها من أجل أن تقول شيئا عن حبي له. ثم تنكفئ على نفسها في حزن غريب حين تعجز عن قول ما تريد"، أي أن غنوة واقعة في عشق يوسف رغم زواجها من كمال، وهو ما لا يمكن اغتفاره لها، وهي نفسها تُدرك ذلك، وواثقة من خيانتها لزوجها؛ لذا تتمثل هذه الحكايات لغيرها من النساء للتخلص من الشعور بالذنب، وإلقاء اللوم على كمال بدلا من لوم ذاتها!
ربما بسبب شعورها هذا؛ فهي ترغب في الانتقام من يوسف حتى بعد رحيلها بالانتحار الذي تفكر فيه: "قررت كتابة مُذكراتي ليعلم حين أرحل أي حب كنت أحمله له في قلبي، وأي وجع تركه فيه. فكرة جيدة لأعاقبه بقية الحياة. سيقرأها وسيشعر بالذنب، ستسجنه كلماتي إلى الأبد، ستسلبه كل مشاعره ولن يبقى له مجال ليحب مرة ثانية. لكن، هل ليوسف قلب يشعر به ويندم؟ ولكني لا أتخيل يوسف يحب امرأة غيري. مُجرد التفكير في ذلك يقتلني. ولكن ما همني ساعتها وقد ودعت هذه الحياة؟ أبدا لن ينعم بلحظة سعادة واحدة بعد رحيلي. سيظل طيفي وطيف كلماتي يحوم حول رأسه، حول قلبه، ويمضي ما تبقى من حياته يتجرع طعم الندم والحسرة. لن أرحل دون أن أفسد حياته. لن يكون الحُب وباء في حياتي وحدي، سينهش ذاكرته أيضا، وسيقبض على روحه. سوف لن يحتمل الحياة بعدي، وربما يقرر الالتحاق بي. هكذا سيجمعنا الحُب في عالم آخر". إن تفكير غنوة هنا شديد السذاجة والسطحية، وعدم اكتمال النضج، إنها امرأة تتصرف بطفولية ساذجة، وتظن أنها من المُمكن لها بكتابة مُذكراتها قبل انتحارها أن تقضي على حياة يوسف ظنا منها أنه سيتعذب بها، بل هي تتميز بالكثير من الأنانية التي نلحظها في "لا أتخيل يوسف يحب امرأة غيري، مُجرد التفكير في ذلك يقتلني"، فهي لا ترغبه أن يكون لغيرها، في حين أنها تحيا حياتها مع رجل آخر؛ مما يُدلل على عدم الاكتمال، والاضطراب النفسي.
تحاول غنوة الطلاق من كمال، وحينما يرفض طلاقها تهرب منه بعيدا عنه، لكن الروائية هدى حواس تتخلص من عالمها الروائي بشكل فيه الكثير من الفنية والحرفية، وهو ما يمكن لنا أ نُطلق عليه حُسن التخلص؛ فالروائية وجدت أن عالمها لا يمكن له أن ينتهي بسهولة بعدما أوغلت في هذه المشاعر المُتناقضة غير السوية، ومن ثم كان الفصل الأخير فيه من الفنية والذكاء ما جعل الرواية مُكتملة على مستوى البناء، حينما قرأنا في الفصل الأخير: "هذا الفصل لم تكتبه الساردة، بل كتبته أنا سليم الحريري، رئيس مجمع الترجمات، وصاحب دار نشر أنامل"، ثم يحدثنا عن لقائه بغنوة في أحد المطارات، ومحاولته فتح الحديث معها بعدما جلست إلى جواره تقرأ في مجموعة من الأوراق، فعرفها بنفسه كناشر إلا أنها ردت عليه بجفاء، وحينما صعدا إلى الطائرة أرسلت له مخطوط روايتها مع المُضيفة، ولم تلبث أن أصابتها حالة هيستيرية من حالاتها التي استدعت نقلها إلى المشفى، وهو ما جعل المُضيفة تسلمه حقائبها ظنا منها أنه يعرفها بما أنها كانت قد أرسلت إليه مخطوط روايتها، وهنا يضطر سليم الحريري إلى التقليب في محتويات حقيبتها للتواصل مع أي شخص يستطيع أن يسلمه مُتعلقاتها، وبالفعل يفعل ذلك إلا أنه يحتفظ بالرواية التي قرأها عدة مرات وقام في النهاية بنشرها.
إن رواية "أصابع امرأة نيئة" للروائية التونسية هدى حواس من الأعمال الروائية المُهمة في تأمل حالات العديد من النساء اللاتي لم ينضجن على مستوى المشاعر؛ ومن ثم فهن يلقين دائما باللوم على الرجال باعتبار أن شركائهم هم السبب الرئيس في إصابتهن بالعديد من الحالات النفسية السيئة التي قد تفضي بهن إلى الجنون، أو الانتحار، ولعل الروائية قد نجحت إلى حد بعيد في تحليل هذه الحالات غير المُكتملة النضج، وقامت بتشريحها على المستوى النفسي ببراعة فنية، ورغم أن الرواية قد تبدو للوهلة الأولى نسوية مدينة للرجل بشكل عام، إلا أنها في حقيقتها تدين المرأة بسبب عدم نضجها، مما يجعلها شديدة الحماقة في خياراتها وأحكامها، لذلك نراها تؤكد على أن المرأة نفسها تكاد أن تكون ذكورية في تفكيرها في أي مكان من العالم حينما نقرأ قول أم سيلفيا بلاث لها: "تذكرت حديثها عن أمها، حافظي على عذريتك، الشرف يكمن هناك بين فخذيك، المرأة الشريفة هي من تهدي عذريتها لزوجها، الرجل يحترم المرأة التي تهبه جسدها طاهرا، عليك أن تظلي عذراء حتى يأتي زوجك ويظفر بهديته، كوني بيضاء ناصعة كثلجة لتكوني زوجة صالحة، وبجرات قلم طويلة ومُرتعشة كنت أسجل على أوراقي ما نقلته إليّ من حواراتها مع أمها"!
ربما نُلاحظ هنا أن الروائية إنما تدين المرأة ذاتها، وهي المرأة التي تفكر بعقلية ذكورية تماما، وترى في نفسها مُجرد شيء، لا يمكن له أن يتميز بالنقاء، أو الطهارة إلا بتحولها إلى راهبة لم يمسها رجل من قبل، وإذا ما حدث ومسها رجل قبل زواجها؛ فهي تتحول إلى مُجرد شيء مُدنس- لاحظ قولها: الرجل يحترم المرأة التي تهبه جسدها طاهرا- أي أن أي علاقة لها قبل الزواج يُعد تدنيسا لها وكأنها باتت شيئا لا قيمة له لا بد من إلقائه في سلة المهملات!
تعد رواية "أصابع امرأة نيئة" من الروايات القليلة التي تتأمل في عالم المرأة محاولة تشريح سيكولوجيتها غير المُكتملة، وما يؤدي إليه عدم الاكتمال إلى قلب الحقائق، وتزييفها؛ لعدم قدرتها على إدراك الواقع وما يدور فيه؛ ومن ثم تستمرئ دور الضحية للجميع، رغم أنها هي الجانية على كل من حولها!
محمود الغيطاني
مجلة مصر المحروسة
عدد يوليو 2022م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق