الأحد، 9 فبراير 2020

سيدات العتمة.. بلاغة السرد المُتحرر من سطوة الفكرة

ربما كان كثرة ما تطرحه المطابع ودور النشر من أعمال أدبية ركيكة ومبتذلة، ولا معنى لها سوى التحليق في الفراغ المحض بأقلام نسائية يُعطينا انطباعا يقينيا بأن هذه هي السمة المشتركة التي تميز كتابات المرأة في عمومها- الركاكة والابتذال، أو اللامعنى-، والأسوأ من ذلك أن هذه الوفرة من الكتابات الركيكة تجعل القارئ في أغلب الوقت وعمومه منصرفا عن الكتابة التي تكتبها المرأة؛ لأنه في النهاية لن يجني سوى ضياع وقته، والتحسر على ما وصل إليه المستوى الإبداعي بسبب رغبة مجموعة من النساء في التحقق واكتساب لقب "كاتبة" من دون أن تكون لديها من الأفكار أو الموهبة، أو المعرفة الثقافية، أو آليات السرد ما يؤهلها لأن تخوض في مثل هذا المجال؛ كي تقدم لنا ما يستحق التوقف أمامه، أو الإشادة به.
هذا الابتذال الذي يواجهنا كثيرا فيما تكتبه المرأة يجعلني راغبا في الانصراف معظم الوقت- عن عمد- عن متابعة الكتابة النسوية؛ لوفرة ما قرأته من هذيانات، وأحاجي لا معنى لها تكتبها المرأة باسم الأدب بينما الأدب بريء من نسبة هذا الخطل إليه؛ فالفكرة دائما هي المسيطرة على السرد، المحركة له، الدافعة إليه- ونحن لا ننكر أهمية الفكرة إذا ما حركت السرد وكانت دافعا له؛ فلا سرد من دون أفكار-، لكن الكارثة الحقيقية التي نراها دائما أنه لا فكرة مُطلقا فيما تقدمه المرأة تستأهل ما يجعلها تسطر كلمة واحدة من أجلها؛ فمعظم كتابات المرأة تدور في فلك واحد، وعالم واحد، ومعجم واحد، ومفردات واحدة لا تختلف، ورغبة دائمة في الصراخ والشكوى والجأر من مجتمع ذكوري يعمل على اضطهادها وتقزيمها، ورغبة في التحرر- حتى لو كان التحرر من نفسها-؛ فشعور المرأة الدائم بالاضطهاد جعل لديها هوسا بما يُسمى التحرر حتى لو كان تحررها من التحرر نفسه، أي أنها أُصيبت بمرض لا فكاك لها منه اسمه التحرر من كل شيء، هذا فضلا عن أن الكاتبات اللاتي لا يفكرن بمثل هذا المنطق تسيطر عليهن مجموعة أخرى من الأفكار والهلاوس الهذيانية التي تُحلق في الفراغ المطلق؛ ومن ثم لا نستطيع فهم جملة واحدة مما يكتبن، ولا نفهم ما الذي يرغبن أن يقلنه؛ لأنهن في حقيقة الأمر لا يفهمن، ولا يعرفن ماذا يردن؛ وبالتالي تنعكس هذه الحالة من الفراغ الذي يعشش في عقولهن على ما يكتبن؛ فينقلننا من فراغ إلى فراغ أكبر منه، ونخرج من عملية القراءة وقد تم انتهاك قوانا تماما من دون أن نفهم شيئا.
نستطيع هنا الجزم بأن محاولة دخول الكثيرات من النساء- بشكل من الفوضى، ومن دون امتلاكهن ما يؤهلهن- إلى مجال الكتابة أدى إلى فكرة تكاد تكون عامة ويقينية في أن كل ما تقدمه المرأة من كتابة لا يستحق عناء ضياع الوقت في قراءته لدى الكثيرين؛ مما أضرّ كثيرا بكتابة المرأة وجعل القلائل منهن، والمتميزات في الظل- معظم الوقت-؛ لانصراف القارئ عن متابعتهن باعتبار أن كل ما تكتبه النساء يكاد يتفق في كل شيء.
عند قراءة المجموعة القصصية "سيدات العتمة" للقاصة الفلسطينية شيخة حسين حليوى سنتوقف أمامها منذ الصفحة الأولى متأملين، راغبين في إعادة القراءة مرات عدة للاستمتاع بالسرد القصصي المختلف كثيرا عما سبق أن ذكرناه آنفا؛ فالكاتبة هنا تمتلك حسا قصصيا متميزا ولافتا وزاخرا بالموهبة الحقة التي تجعل السرد يبدو كمجموعة عذبة من الألحان الشجية التي تستمتع بها كلما توغلت في قراءتها.
نلاحظ من خلال قصص المجموعة أن القاصة تدرك جيدا ما تفعله، وتبدأ قصصها دائما وعينيها على الهدف مباشرة؛ فتمتلك القارئ الذي يستسلم لها حتى تنتهي تماما من السرد، كي يُطلق زفرته التي تُدلل على المتعة التي اكتسبها من هذا السرد الجيد، والذي تعرف كاتبته آلياته جيدا؛ فثمة حياة كاملة ومكتملة فيها الكثير من المشاعر والمعاناة الحقيقية فيما تكتبه حليوى؛ كما أن السرد لديها ليس مجرد أفكار مجردة تحاول إلباسها ثوب السرد القصصي عنوة، بل هي حياة مزدحمة حيوية تحتوي داخلها أفكارها، وهي بذلك تختلف عن الأخريات من الكاتبات اللاتي يحملن- معظم الوقت- أفكارا مجردة، أو أفكارا بلهاء مهمومة في الفراغ واللامعنى، ولديهن الرغبة العارمة في إلباسها ثوب السرد القصصي، أو روح الفن؛ فيفشلن في الوصول إلى ذلك، ويقدمن لنا في النهاية شيئا مشوها لا يمكن انتمائه إلى عالم الأدب، ولا يمكن توصيفه.
إذن فشيخة حليوى تكتسب بلاغة السرد لديها ومشروعيته من تحرر السرد من سطوة الفكرة، بمعنى أنها لا تنطلق من الفكرة التي تصبح هي المتن- إذا كانت مسيطرة-، بل تنطلق من السرد أولا الذي يُشكل الحياة المتضمنة في داخلها فكرتها غير الزاعقة، غير الحادة، المقنعة حتى لو كانت تتحدث في أفكار نسوية تقدمها الكثيرات من الكاتبات بركاكة مبتذلة، ومن دون معنى غير قادرات على إكساب فكرتهن للحياة من خلال الأدب.
نلمح ذلك في قصة "سأكون هناك"؛ حيث تهيمن على القاصة فكرة التنصل من بدويتها التي تُسبب لها عقدة تُشعرها بأنها أقل من أبناء وبنات المدينة في حيفا: كنت أحتاجه، الكذب، كما أحتاج أن أكون منهم، منهن: طوني، جوليا، مها، إيهاب، نادرة، تشارلي.. أحتاجه حتى أتسلل من خيمة البداوة وأعيش منفاي المؤقت بسلام، أحتاجه كي أقتل القبائل"؛ لذلك تبدو الشخصية البدوية في القصة راغبة في حياة أهل المدينة شكليا؛ ظنا منها أنها هكذا قد تمدينت، ورغم أننا نقول: إن الفكرة هنا هيمنت على الكاتبة في هذه القصة إلا أنها لم تسمح لها بهذه الهيمنة بشكل كامل، بل حاولت معالجتها سرديا بطريقتها الخاصة التي ألبست- الفكرة- من خلالها الحياة؛ فحولتها إلى سرد حيوي كان هو المتن بينما الفكرة هي الهامش الذي نراه في خلفية السرد، تقول حليوى: "لم أكن أجد حرجا كبيرا في الكذب عليها، الكذب عليها بالذات، كنا جميعا نُخفي عن أمهاتنا أمورا ونكشف أخرى. حتى تلك التي نختار البوح بها نغلفها بعناية مصطنعة كما نغلف الهدايا الرخيصة. نغلفها ببعض كذب ناصع البياض"، من خلال هذا المقطع السردي الذي بدأت به القاصة قصتها نلمح عدة أمور منها: أن ثمة لغة سردية وأسلوبية محكمة فيها العديد من المفردات الثرية الموحية المُحملة يتميز بها السرد القصصي، أي أن الكاتبة تمتلك أسلوبا يخصها، وهو أسلوب قصصي جيد، كما أنها لم تتحدث عن أفكار، أو لم تعمل على التهويم في الفراغ، بل دخلت في صلب الحياة مباشرة من خلال السرد، وهو السرد الذي لن يعطيك فكرته كاملة إلا بعد انتهائها من القصة، ولعل هذا ما يميز السرد لديها، أن الفكرة تكتمل مع اكتمال السرد لديها؛ فالقصة تتحدث ن فتاة في الثانوية العامة بدوية الأصل، تدرس في مدرسة الراهبات في حيفا؛ ولأنها تشعر بالنقص بسبب انتمائها البدوي وترغب في التخلص منه؛ لتكون كأبناء المدينة، فهي تحاول أن تعيش حياتهم وتتصرف تصرفاتهم، وتستمتع بالخروج والتنزه معهم، وهذا ما يرفضه المجتمع البدوي ويمنعها عنه؛ مما يضطرها في الكثير من الأحيان إلى الكذب؛ الأمر الذي يجعل الأم تتشكك فيها دائما باعتبار أنها قد فسدت بسبب معرفتها لأبناء المدينة الفاسدين، رغم أن الحقيقة تؤكد أنهم ليسوا كما تظن الأم.
إذن فالفتاة تقع دائما تحت سطوة الأم التي تخشى على ابنتها من الانفلات، كما تقع أيضا تحت سطوة مدرستها البريطانية التي ترفض دائما هيئة الفتاة البدوية وتصفها بأنها غجرية، أي أنها واقعة بين شقي الرحى؛ الأمر الذي يدفعها للكذب على الجميع بما لا يضر أحد، لكنه يجنبها العقاب والنقاش الذي لا طائل منه: "Sister Bern الراهبة البريطانية وأمي تفصل بينهما عصور من النهضة وتلتقيان في ضرورة تهذيبي. الأولى تنعتني بالغجرية كلما خالفت قوانين المدرسة الصارمة، والثانية تخشى أن أصير غجرية يوما ما. أنجو من شرك البداوة لأقع في فخ الغجر. كانت أقراطي وأساوري الملونة تتضاعف كل شهر، والراهبة التي نذرت نفسها للمسيح والدير تنزعها عني واحدة واحدة بقسوة مؤلمة تطهرني بها من أدران "الشرق المتخلف". ثم ترميها في علبة على مكتبها معدة للخطايا الصغيرة، عن يمينها تمثال الأم وابنها وعن يسارها صليب نازف. شعري كان يزداد جنونا وعنادا وأمي تزداد خوفا ورعبا، فيصير قسمها أكثر قدسية: والله والله ما ترافكيني هيتش، لو تموتي ما تمشي معاي بالشارع وشعْرِتْش هيتش!! وكي أتجاوز عقدهما وظنونهما، تلك الأوروبية رسولة المسيح، وتلك البدوية رسولة الخوف، سيصبح الكذب عندي أكثر ضرورة وحيوية. كي أتجاوزني وخوفي كان لا بد أن أكذب".
هذا الكذب البرئء الذي لا ضرر منه يجعل الأم تعرف بالصدفة حينما تذهب إلى مدرستها في أحد أيام الآحاد أن الابنة ليست في مدرستها كما قالت لها حينما خرجت في الصباح؛ مما يجعل الأم راغبة في عقابها بقسوة وخوف من هذا الكذب: "في تلك اللحظة تساوى عند أمي فعل العار وفعل الكذب، لا فرق بينهما، فالثاني يمهد للأول، والأول يكشفه الثاني"، في حين أن الابنة كانت مع إحدى صديقاتها الحيفاويات تستمعان للأغاني التي تحرمها منها الأم البدوية، ولأن الأم لن تتغير في صرامتها؛ مشت الفتاة خلفها تدندن بالأغنية الأجنبية التي كانت تستمعها مع صديقتها: "وصلنا المحطة. استدارت وهمست بغضب: وِلتشْ إنتِ ما تستحي؟ كمان تغني؟ هاظا يلي تتعلميه من صاحباتِش الدّاشرات؟ هل كانت ستصدق يومها أنني تعلمتها من أكثر الصديقات بُعدا عن الخطيئة وقربا من الله؟ هي لا تصدق إلا بعد أن تنتفي الحاجة للكذب، بعد سنوات".
في قصة "كالنجوم يسقطن من السماء" تعالج القاصة فكرة طالما تعالت بها أصوات النساء الكاتبات بشكل ركيك ومبتذل فيه الكثير من الضجيج، لكننا نجد الكاتبة هنا تعالج نفس الفكرة بهدوء؛ الأمر الذي يُكسب القصة جمالا لافتا وانسيابية سردية ممتعة؛ فالقصة تُعبر عن ذكورية المجتمع بالكامل- الرجال والنساء معا-، وتتحدث عن القيود العديدة الخانقة المفروضة على الأنثى حتى من الأنثى التي مثلها، لكنها تعالج ذلك من خلال سرد عذب هادئ من دون افتعال الضجيج، أو أي شكل من أشكال المباشرة أو الافتعال؛ فالقصة تتحدث عن أحلام "جواهر" الطفلة هي ورفيقاتها في أن يركبن الأرجوحة المصنوعة من إطار سيارة ضخم ومعلق في إحدى أشجار القرية، فهن يشاهدن الفتية يستمتعون بهذه الأرجوحة بينما الأمر مُحرم عليهن كفتيات خوفا عليهن من أمهاتهن؛ فتقف الطفلة ورفيقاتها يتأملن: "تبدو السماء قريبة. أقرب من تراب الأرض. أقدامهم التي اعتادت التسلل من كل الحدود لامست حدود السماء. حلقت بهم الأرجوحة عاليا حتى أصبحت المستوطنة اليهودية تحت أقدامهم. صيحات الفرح والنشوة أعادت إلى الأذهان خرافة الجن الذي يسكن شجرة البلوط العجوز. "هذي الشجرة مسكونة". يرددها الكبار كي يبعدوا الصغار عن مجالسهم تحت الشجرة. والصغار لا يبتعدون. وقفت جواهر ورفيقاتها يراقبن الفتية وهم يحلقون عاليا في سماء القرية. تهامسن: عمرتش ركبت عمرجيحة؟ لا، ولا مرة.. نفسي أتمرجح زيهم هيتج! أَنِيْ اخاف.. واذا وقعنا؟ نِقعْ من السِما.. مثل النجوم.. آه.. عيونهن تقيس المسافة التي تقطعها الأرجوحة بين طرفي السماء، وأيديهن تلملم أطراف أثوابهن كلما ارتفعت الأرجوحة عاليا. وإذا طيّر الهوا فستياني؟! تساءلت إحداهن بفزع".
نلاحظ من خلال المقطع السابق الرغبة العارمة للفتيات في الاستمتاع بالأرجوحة مثلما يستمتع الفتيان، لكن ثمة الكثير من المحاذير والقيود التي يفرضها عليهن المجتمع بالكامل سواء كانوا آباء أم أمهات؛ فالآباء يرفضون أن تتأرجح فتياتهن كالأولاد أو يختلطن بهم، كما أن الأمهات تمنعهن من ذلك ببث الخوف الدائم في أذهانهن؛ حيث الفتاة لا يجب أن يرتفع فستانها أو يطير في الهواء، كما أن الأمهات في حقيقة الأمر يخشين على عذرية الفتيات، وهو القيد/ الوهم الذي تعاني منه كل مجتمعاتنا العربية التي ترى أن الفتاة من دون عذرية هي فاقدة الصلاحية للحياة؛ لذلك تعيش أغلب الفتيات في سجن دائم لا فكاك منه بسبب اعتقادات المجتمع من حولهن.
لكن جواهر وصديقاتها لا يستطعن منع أنفسهن من تجربة متعة التحليق بالأرجوحة؛ فينتظرن حتى ينصرف الفتية ثم يذهبن لتجربتها، ولكن بمجرد صعود الأرجوحة للسماء تنقطع حبالها ليسقطن على الأرض: "هرعت النساء. كل تطمئن على ابنتها بصفعة هنا وشتيمة هناك. وجواهر وحدها كانت ما تزال على الأرض وقد وقعت بعيدا عن الشجرة حيث تربصت بها صخور شرسة. وقفت بصعوبة بالغة. هالها أن ترى الحجارة مصبوغة بدمها. تفحصت يديها وقدميها، لا خدش في أي منهما. ودون أن تدري راحت يدها تتحسس أسفل بطنها وتعود ملطخة بدمها. لم تشعر بألم ولكن شهقة النسوة حولها كانت سكينا يذبح طفولتها! لم تكن هناك. كان دمها حاضرا حيث هي تدفن نفسها. الويل لأمها. "نشفتي دمي ينشف دمتّش!" قالتها أمها وهي تعنيها أكثر من أي مرة قالتها. ليت دمها يجف. ليته جف وتحجر على أن يسيل هكذا. في الكوخ كشفت عنها أمها بحضور "الحبّابة حِسِن". تنفسن الصعداء. الجرح في فخذها. جرح عميق غمرته الحبّابة بالبن وضغطت عليه فجف دمها. شكرت الله. الله سترها معانا. قالت أمها. أعلنت الحبّابة وهي تتعمد أن تُسمع النسوة "الحمد الله البنت ما انصابت جت سليمة"". إذن فخنق الفتيات وفرض المزيد من القيود التي تكبلهن سببه الخوف من فقدهن لعذريتهن فقط؛ مما يؤدي إلى نشأة فتيات لم يستمتعن بطفولتهن، أسيرات للخوف، والعيب، والممنوع دائما.
إلا أن هذا الممنوع الذي تفرضنه الأمهات على بناتهن يمارسنه هن في نفس الوقت: "بعد أيام عادت الأرجوحة تلامس السماء. عند الظهيرة يتفرق الفتية بين المراعي القريبة يحملون الزوّادة فتتزاحم النسوة على الأرجوحة. يضحكن ويداعبن جني الشجرة. وجواهر وصديقاتها يقفن بعيدا. عيونهن تقيس المسافة بين طرفي السماء وأيديهن تزداد التصاقا بأطراف أثوابهن"، تنجح هنا القاصة في كشف تناقضات الحياة الاجتماعية العربية من خلال السرد من دون ضجيج أو افتعال، بل تعتمد على سرد عذب يجعلنا نتأمل كثيرا أثناء القراءة، كما لا يفوتنا أن القاصة بدأت القصة بمفتتح مشوق للسرد كان هو نهاية القصة في حقيقته، إلا أنها استطاعت بعد هذا المفتتح أن تعود إلى أصل الحكاية بسلاسة لتحكيها: "خيط رفيع من الدم اللزج ينساب على الأرض سرعان ما جف تاركا على التراب بقعة حمراء تُدلل على جرح كان. بقعة دم أخرى ما زالت تفترش ثوب "جواهر"، بقعة دائرية كبيرة أسفل بطنها. وأمها تناجي ربها ألا يكون المحظور قد حصل".
في قصة "فستان وردي" تناقش القاصة مجتمع النساء المغلق الخانق الأكثر ذكورية من الرجال أنفسهم، لكنها تناقش ذلك من دون جأر وشكوى وعذاب وصراخ وبكاء، بل من خلال شكل سردي شديد العذوبة والانسيابية، حيث تشتري الأسرة فستانا ورديا لابنتهم البالغة من العمر الثالثة عشرة، ولكن حينما ترتديه الفتاة في البيت أمام المرآة تلحظ أن ساقيها مشعرتين بينما نهديها قد اكتملا؛ فترى الفتاة الأمر بشعا ومنتقصا لأنوثتها التي بدت على ثديهها بينما ساقيها مشعرتين، لكن الأم ترى أن الفتاة ما زالت صغيرة على أن تُزيل شعر ساقيها وتتجمل، بل ترى في هذا عارا لها، ولكن الفتاة تُصرّ على إزالة شعر ساقيها من دون أن تخبر الأم؛ فتنتظر خروجها هي وأخيها من البيت ليتركاها وحدها وتزيل الشعر بشفرة حلاقة أبيها الذي توفى، وحينما تعود الأم تلحظ ساقيها اللامعتين لكنها تصمت من دون إبداء اعتراضها، تفرح الفتاة وتحضر العرس مزهوة بأنوثتها التي تراها اكتملت بعد إزالة شعر الساقين، لكنها حينما تعود تكتشف أن ثمة القليل من الشعر الذي لم تره ولم تنجح في إزالته.
لا ننكر أن ثمة أفكار نسوية هي المسيطرة على المجموعة تنحصر كلها في القيد الاجتماعي الذي يفرضه المجتمع على الإناث، لكن شيخة حليوى لا تجعل من هذه الأفكار تتصدر القص، بل تأتي الأفكار في خلفية القص دائما كأنها غير موجودة. خلافا للأخريات اللاتي يجعلن الفكرة تطل برأسها لنا دائما؛ مما يفقد القصة جمالها ومحتواها الفني؛ فهي حينما ترغب أن تؤكد لنا على ذكورية المجتمع حتى من خلال أفكار النساء تكتب: "في البيت وأمام المرآة الغبشاء صدمها انعدام التناسق بين نهديها النافرين والزغب الذي يغطي ساقيها. إنه انتهاك غير مقصود لشكل الأنوثة وتلاعب بمفاهيمها. لا يمكن للعين ألا تنتقل بخبث بينهما، وتتسع دهشة. أمها مصممة أنها ما زالت صغيرة جدا على معاناة الجمال وألمه، وفتنته أيضا تخيفها. فتنة الجمال قد تكسر روحها الطفلة. "بدري".. تقولها الأم وتتعمد أن تُسمع عمة ابنتها وهي المتولية لشؤون إذابة السكر ومدّه على الأجساد الغضة ثم نزعه بخفة وشطارة لا تضاهيها فيها أي من نساء القرية. "بدري" تكفي كي تغلق أي منفذ لإقناع العمة بقدسية ترميم أنوثة ابنة أخيها الصبية".
هذه الفكرة التي ترى الأنثى مجرد عار متحرك لا يمكن الفكاك منه؛ الأمر الذي يجعل الجميع يفرض حولها المزيد من القيود الخانقة التي تكاد أن تقتلها تعالجها الكاتبة في أكثر من قصة داخل مجموعتها بأشكال مختلفة وبسرد جيد مختلف لا يمكن أن يوحي للقارئ بتكرار الفكرة أبدا، أي رغم أن الأفكار أحيانا تكاد تكون متشابهة؛ ومن ثم تكون القصة الجديدة مجرد عزف على نفس الوتر/ الفكرة، إلا أنها تبدو لنا طازجة وجديدة؛ بسبب السرد الحيوي العذب الذي تكتب به القاصة؛ ففي قصة "فاجرة" نكاد نلحظ أنها تدور حول نفس فكرة المجتمع الذي يرى في الأنثى مجرد عار متحرك، أو مؤجل لا بد سينفجر في وجهه في أي لحظة: "والله تنقصنا سهرة عائلية على شاطئ بحر يافا. يقولون إنه رائع. ما رأيك يا أخي؟ من الذين يقولون؟ أهي أختكِ تُسر لكِ ببعض عهرها وتُدارين أنتِ عليها؟ والله يا أختي يقولون إنه شاطئ العشاق ونحن كما أعرف تجاوزنا مرحلة العشق. أم لكِ رأي آخر؟ لم يكن يهمه رأيها بقدر ما يهمه أن يجد توترا في صوتها أو لفتة حذرة نحو أختها قد تشي ببعض ما تُخفيان. لا يشك أنها قد تُداري على أختها وتسهّل عليها بعض كذبها. هل كُتب عليه أن يحمل عار النسوة في أسرته؟ عارهن المحتمل أو المتوقع؟ يغبط جاره أبا طارق. لا أخوات عنده ولا عمات وكل نسله من الذكور فمن أين سيأتيه العار؟ حينما يُقسم بشرفه لا يخشى أن يتغامز أحد عليه. أما هو فيتحاشى القسم بغير الله وبأسمائه الحسنى. حتى إن ذلك يُكسب قسمه هالة من القداسة وهو يلوح بيده: والله وجلاله وقدرته. "وما الغلط في ذلك؟ ألا تحب زوجتك؟ وأنا أحب زوجي؟ وأختك؟ هل تحب هي الأخرى؟ وشاطئ يافا يطيب مع نسيمه الحب وأشياء أخرى. تُرى ما زالت عذراء؟ يا ستار!".
نلحظ هنا من خلال الاقتباس السابق نظرة المجتمع للأنثى باعتبارها عبء وعار ثقيل لا بد أنه سينفجر في وجهه في أي لحظة، حتى أن الأخ هنا كان يتمنى ألا يكون في عائلته أي من الإناث، ولعل هذه النظرة نظرة عجيبة؛ لأن الفرد الذي يعتبر المرأة عارا مؤجلا، هو نفس الشخص الذي لا يرى في أمه أو زوجته ذلك؛ مما يُدلل على مجتمع مريض منقسم على نفسه، يرى العار في الأخت أو الابنة، أو العمة، أو الخالة فقط، بينما الأم والزوجة بعيدتان عن هذه النظرة؛ لذلك فإن المجتمع الذي يعتقد في مثل هذه الاعتقادات يفرض من القيود على إناثه ما قد يؤدي إلى قتلهن، بل ويُصاب الرجل الذي يؤمن بمثل هذه الأفكار بهذيان وهيستريا وشك مرضي تجاه كل الإناث؛ الأمر الذي يجعله قد يقتل نفسه، وهذا ما رأيناه في القصة؛ فلقد وافق الأخ على الذهاب إلى بحر يافا، لكن ذهابه لم يكن للمتعة والتنزه، بل لظنه أنه سيجد هناك أخته في حالة تلبس مع عشيق مفترض؛ ومن ثم يكون له الحق في قتلها للتخلص من عاره والتخلص من شكوكه التي تؤرقه دائما؛ فبما أنها تدرس وتبيت خارج البيت لا بد أن تكون قد تحولت إلى فاجرة: "جملة عابرة قالها الشيخ في إحدى خطبه أو صديقه المتدين. لا يذكر بدقة من قالها. هي جملة أيقظت في داخله هاجس العار أو الخوف من العار. هل كان القائل يقصده هو بعينه؟ أم يقصد إصلاح المجتمع من باب النسوة الداعرات؟ هل يتغامزون عليه؟ "البنت التي تنام برا اكسر وراها جرّة". كل بنت وأي بنت. وهي منذ بدأت تدرس في جامعة تل أبيب وهي تنام برا. أي معنى لشهادة جامعية وسمعة ملطخة؟". إن النظرة الذكورية هنا للفتاة تراها وكأنها مجرد شيء لا بد من إخفائه حتى لا يستخدمه أحد سواه، وإذا ما تم استخدامه لم يعد صالحا للحياة فضلا عن العار الذي ستجره أيضا.
نتيجة لهذه الأفكار التي يعيش فيها يرى إحدى الفتيات مع شاب على بحر يافا في الظلام فيظنها أخته؛ ومن ثم يعتدي عليها؛ الأمر الذي يجعل من معها يعتدي عليه ليفيق في البيت على أخته التي يشك في سلوكها، أو عارها هي التي تحنو عليه وتمرضه، لكنه لا يتخلص من شكوكه: "من بعيد لمحها. أنها هي. يعرف مشيتها وقوامها. يعرفها حتى في الظلمة ومن الخلف. لا لن يسقط الآن. ليس الآن. يترنح في حدود المعقول. تماسكْ. تماسكْ. يد الشاب تحتضن خصرها والثانية على بطنها. تماسكْ. إياك أن تسقط قبل أن تسحبها من شعرها ومنديلها حتى السيارة. الشاب لا يعنيك الآن. فاجئها من الخلف وجرّها خلفك كغنمتك العنيدة. سأخنقك بيديّ وأدفنك عند مشارف القرية. يا فاجرة. يا فاجرة. يا فا.. يدها تمسح على رأسه ودمعتها تسقط على وجهه. أين أنا؟ لا عليك يا أخي. أنت بخير. أنت بخير. ألم يقتلها؟ زوجته ترمقه بغضب. ماذا أصابك يا رجل؟ كيف تهجم على امرأة حامل بهذا الشكل؟ ماذا توقعت؟ أن يسكت زوجها وأخوها؟ اشكر ربك أنهما لم يقتلاك. ليس هذا وقته. تعاتبها أخته الفاج..ر..ة. ليس الآن. المهم أن يقوم بالسلامة. ولكنها كانت تشبهها. تشبهها جدا. تمتم ونام".
أي أنه رغم تأكده أن المرأة لم تكن أخته، إلا أنه ما زال يصر على أن أخته مجرد عار مؤجل سينفجر في أي لحظة. ربما كانت هذه الفكرة هي ما تحاول شيخة حليوى أن تنوّع عليها في أكثر من قصة بمهارة وفنية سردية عالية، وهذا ما نراه في قصة "باب الجسد" التي تعالج نفس فكرة المجتمع عن الأنثى بشكل مختلف من خلال عيني أب يرى أن ابنته قد اكتملت أنوثتها وتكور نهداها؛ الأمر الذي يشعره بالكثير من الخطر حتى لا تأتي له بالعار؛ وبالتالي يُصرّ على أن ينقلها إلى مدرسة داخلية وكأنه يحبسها في معتقل رغم رفض أمها لذلك، ولعل أهم ما يميز السرد القصصي عند شيخة حليوى أنها تدخل في صلب السرد مباشرة من دون أي مقدمات أو تمهيد، أي أن الحدث ينفجر في وجوهنا من قلبه منذ اللحظة الأولى وهذا ما نراه منذ السطور الأولى للقصة: "منذ أسبوعين وهي تتابع من وراء الحائط الهش ما يصل آذانها من تطورات الجدال بين أمها وأبيها حول قرار إرسالها إلى مدرسة داخلية. لم تتبين أكثر تفاصيله خاصة تلك المتعلقة بالأسباب. لم تسمع كلمة عن فضائل تربية الراهبات ودورهن في تهذيب البنات. كان الكلام منحصرا فيها وفي جسدها. فيما يراه الغير وكيف يراه وحواس أخرى قد يوقظها جسد ينمو. يصير حديثهما همسا حين يختلفان فيه. في الأمر الذي يوجب نقلها إلى مدرسة داخلية. الأب يرى أنهما أصبحا بحجم يكفي للفت نظر سائقي الشاحنات المارين صباحا من الشارع المحاذي للقرية. والأم ترى أنهما بالكاد يظهران خلف حمالة صدرها. بالكاد يظهران أيضا حينما تخلعها وتلقي بها على أقرب كرسي وهي لم تعتد بعد على قطعة قماش تقيد جسدها الغض. تسحبها بمهارة من تحت قميص المدرسة وتتنفس. أما هو فيقسم أنه رأى بأم عينه كيف تتباطأ الشاحنة ويطل السائق من نافذتها يتابع بنتا مسرعة إلى محطة الباص. سائق نعسان شبق. لولا ضباب الصباح لكان من الممكن رؤية لعابه وهو يسيل".
القاصة الفلسطينية شيخة حسين حليوي
في المقطع السابق الذي كان بداية السرد لدى القاصة نلحظ أنها دخلت في صلب الموضوع مباشرة وقلب العالم القصصي الذي تتحدث فيه، وهذه مهارة تتميز بها شيخة حسين حليوى، كما يتبين لنا نظرة المجتمع الدائمة للأنثى باعتبارها عارا على وشك الانفجار في وجوه الجميع؛ الأمر الذي يجعل الجميع راغبين في التخلص منها بسجنها، وتقييدها، أو حتى التخلص من حياتها؛ حتى لا يصيبه عارها المفترض، ورغم أن الفتاة لم تكن منتبهة لأنوثتها كما يظن الأب، إلا أن حديثه جعلها تنتبه إلى هذه الأنوثة التي على وشك التشكل والانفجار: "لم تزعجها كثيرا فكرة المدرسة الداخلية. لا تعرف عنها الكثير. تصلها بعض المعلومات عن الشدة وقسوة المعاملة. يزعجها أكثر انشغال والديها بقطعة من جسدها. لم تكن تعنيها كثيرا. لم تكن تراها عائقا أو مسيلا للعاب".
من خلال السرد بمهارة تجعل شيخة حليوى قصتها أكثر مأساوية؛ فالأب الذي يصر على سجن ابنته في مدرسة داخلية خوفا من عارها، يمتنع عن ذلك حينما يعلم أن هناك فتاة اختفت من إحدى هذه المدارس: "بثينة هي زميلتها الوحيدة في المدرسة التي تعيش في مدرسة داخلية. بعد وفاة والديها وضيق زوجات الإخوة بها كانت الطريق إلى خارج بيت الأسرة هي الحل الأنسب. تداوم في الصباح في المدرسة العادية وبعد الظهر تعود إلى المدرسة الداخلية. قميصها المدرسي الأبيض فضفاض لا يسمح بالجزم أنها دخلت المدرسة من باب الحجم وليس من باب المأساة. لا تتكلم كثيرا ولا تبتسم كثيرا. هذه طبيعتها، يقولها الجميع ولا علاقة للسجن المسائي بذلك. وذات صباح اكتملت المأساة وانتهت. اختفت بثينة. وتناقلت البنات الخبر قلن أنها هربت مع سائق شاحنة كان ينقل لمدرسة الراهبات ما تحتاجه من مواد. أغواها ورحلت معه. عادت لأمها بالخبر. صمت غلف المساء. وكان إشارة النصر الأولى. أغلق والدها باب المدرسة الداخلية إلى الأبد. وفتحت هي بابا آخر. علاقتها مع الجسد. جسدها هي". علنا هنا نلمح المفارقة التي أغلقت بها القاصة سردها القصصي، وهي مفارقة ساخرة من جانبين: أولاهما: أن الأب الذي كان يرى أن المدرسة الداخلية ستحمي ابنته من الانزلاق في العار، هي نفس المدرسة التي اختفت منها الفتاة، ثم تأتي المفارقة الثانية: حيث تبدأ الفتاة في الانتباه إلى جسدها، ومن ثم تبدأ علاقتها الجديدة بالجسد.
في قصة "أفعى" تتناول القاصة فكرة النميمة المجتمعية التي تجعل الآخرين دائما ما يتدخلون فيما لا يعنيهم إما لعجزهم تارة عن أن يفعلوا ما فعله الذين يلوكونه بالنميمة، أو نتيجة سيطرة فكرة التدين الشكلي الظاهري عليهم في حين أنهم في حقيقة أمرهم يروقهم الأمر الذي يمارسون النميمة من خلاله. تقتحم شيخة السرد من قلبه كعادتها في كل قصصها من خلال حوار بين امرأتين إحداهما تقوم بتغسيل الأموات: "ماذا تقولين؟ أفعى؟! اثنتان وليست واحدة. اثنتان؟ لا أشبعها الله! لا.. والأدهى أنها وشمتها على.. مؤخرتها! والأفعى الثانية؟.. دخيلك أم أحمد لا تقوليها! ييييييي عند...؟ ستر الله علينا! منذ عشرين عاما وأنا أغسل الأموات لم أر في حياتي ما رأيته اليوم. والله غسلتها وجسدي كله ينتفض. الله يغفر لها ويستر عليها. والله هذا آخر الزمان. هذه من علامات الساعة. طبعا أم أحمد. عندما يطوي القبر امرأة واشمة أفعى على... اللهم لا تكتبها علينا نميمة. أستغفر الله العظيم. أستغفر الله العظيم. ستر الله على الولايا ورحم جميع أمواتنا".
يبدو لنا مدخل القصة كالعادة مقتحما للسرد من قلبه مباشرة من دون أي مقدمات لنعرف فيما بعد أن هذه ليلة العزاء الثالثة في المرأة التي ماتت وأن زوجها يقف حزينا ليأخذ عزاءها بينما يتذكر ذكرياته الجميلة معها: "زوج الميتة ينظر إلى ساعته ويحصي ما بقى على انتهاء مجلس العزاء. إنه الثالث. ثلاثة أيام لم يذق فيها طعما للنوم. ليته الليلة يغفو ويزورها في منامه. رحلت فجأة. توقف قلبها وبرد جسدها الجميل. حتى الأفعى التي تزين موضعين من الجسد الغض بهتت ألوانها. كانت هديتها له في عيده الخامس والثلاثين وذكرى زواجهما العاشرة. وشم أفعى أسفل ظهرها. بعد عام رجاها أن ترسم أفعى أخرى أسفل بطنها. ترددت. ثم رضخت لرغبة زوج تثيره أفعى وتغريه". تصور لنا حليوى في هذه القصة المجتمعات المنغلقة التي سرعان ما تلوك ألسنتها حكايات الناس حتى لو كانت ميتة من دون احترام لقدسية الموت، أو خصوصية الآخرين، ورغم هذه النميمة التي شاعت بين الناس جميعا إلا أننا نلمح الرغبة في هذه المرأة المثيرة الميتة التي كانت تتوشم بأفعى: "لم تنم نعيمة تلك الليلة. كانت الميتة تتمدد بجمالها بجانبها على السرير وأفاع تتكاثر عند الحافة. تتكاثر وتلتهمها. صارت الأفعى حديث النسوة في صباح الثرثرة وحلم الرجال في ليالي الشغف. ورفيقة ليالي نعيمة بعد كل موت". فالنميمة هنا ليست من وازع ديني فقط باعتبار أن الأفعى لها الكثير من الإرث الديني السيئ حيث كانت مساهمة في إخراج آدم وحواء من الجنة حسب الأسطورة الدينية، بل كانت النميمة أيضا تحمل في طياتها الرغبة الجنسية من قبل الكثيرين من الرجال الذين يشتهون هذه الأنثى صاحبة الأفعى.
في قصة "حيفا اغتالت جديلتي" ثمة عذوبة حقيقية في السرد والتعبير عن فتاة بدوية تتعلم في مدرسة الراهبات في حيفا؛ ومن ثم ترغب أن تتنصل من بداوتها وتبدو مثل بنات المدينة؛ فتغير لهجتها البدوية، وتحاول أن تتصرف مثلهن، إلا أنها لديها عائقين ترغبان في التخلص منهما تماما؛ لتصبح بنت المدينة وهما جديلتها الطويلة التي تلامس الأرض، وهو الإرث البدوي الذي لا تفعله بنات المدن، واسمها القادم من عمق البداوة: شيخة: "كان الطلاب في مدرسة راهبات الناصرة في حيفا خليطا من أهل المدينة ومن الوافدين عليها كل صباح من القرى المجاورة. لكل حلمه ولكل سببه. كنت إذ أصل بوابة المدرسة تفتح أبواب الجنة والجحيم معا. أمحو من ذاكرتي المؤقتة كوخا يؤويني أنا وأخي وأمي. أتبرأ من بداوتي الأزلية، يطاوعني لساني ويتبرأ هو الآخر من اللهجة البدوية الفاضحة. وحدهما اسمي وجديلتي كانا يفضحان ما أخفي! لم أفلح في إقناعهم بأنني من سلالة ملوك الصحراء، وأنني حظيت دون غيري بشرف حمل هذا الاسم. القهقهات المكبوتة كانت تجلد روحي "شيخة.. هههههههه؟ شو يعني ختيارة؟". وجديلتي إرث بداوة يقصم ظهري. من لي بيدي تعبث بشعر قصير يداعب عنقي؟ تغازل خصلاته المنفلتة قسمات وجه غلبت القسوة على الصبا فيه؟".
هنا تصر الفتاة وتلح غير مرة على أمها أن تسمح لها بقص جديلتها الطويلة والتخلص منها إلى أن ترضخ الأم لإلحاحها: "سرنا أنا وأمي نقطع الطريق من محطة الباص إلى صالون الحلاقة الوحيد في المنطقة. لاذت كل منا بصمت يكفيها شر مناقشة الأمر مرة أخرى، فمنذ انتقلت إلى مدرسة راهبات الناصرة في حيفا وأنا ألح عليها، كنت أطلب وهي ترفض، أتوسل فتسبني، أبكي فتصمت. كانت وهي المطلقة حديثا قد أتت على نصيبها من الخطايا، فأي مكان يُعد لمواجهة أخرى مع الحمولة؟ أي عذر ستلتمسه لبنت أغوتها حيفا؟ لم تقتنع، ولكنها وافقت، كانت قد استعذبت طعم التمرد أو كرهت طعم الخنوع". من قلب السرد تنطلق شيخة في بداية قصتها، فتأخذ الأم ابنتها إلى الحلاق وتتخلص من جديلتها الطويلة، ورغم أنها كانت رغبة الفتاة ظنا منها أنها ستكون من أبناء المدينة بهذا الفعل إلا أنها تشعر بالحزن العميق بسبب خسرانها لجديلتها، وترى أن حيفا المدينة قد خانتها، مما يجعلها تتفادى المرور مرة أخرى من أمام الحلاق: "كنت أتفادى المرور بجانب صالونه رحمة بروحي. أجهشت في بكاء صامت. أمي من ورائي تتوعدني بنظراتها: طيب.. طيب بس نروّح. لم أعد أخش وعيد أمي هذه المرة، فهي شريكتي في الجرم. هي التي اختارت الحلاق واليوم والساعة، موافقتها كانت مغتصبة ولكنها موافقة تدرأ عني عقابا مؤكدا.. كانت جديلتي المبتورة قد انتزعت معها قطعة من روحي، تألمت بصمت، لم أجرؤ على النظر في المرآة المقابلة، غضب أمي المحزون يتربصني من الخلف، ورأسي الأثكل يتربص نزقي الصبياني من الأمام".
بالفعل تنجح الفتاة في أن تكون مدينية مظهريا فقط، ورغم ذلك فإنها تشعر بالندم على ما فعلته لتكون ابنة مدينة: "تريحتِ هسا؟ صرت مثل بنات حيفا؟ هاظ اللي ودّتش اياه؟ الله يكصف عُمرتش! صرت مثل بنات حيفا أو كدت أصير. صدّقت ذلك أو كدت أصدقه إلا يدي ما زالت تبحث عن جديلتي، فترتد كالملسوعة".
نلاحظ في هذه القصة ملاحظتين مهمتين، الأولى أن عنوان القصة لا يتناسب معها؛ فالفتاة نفسها هي من كانت تشعر بالعار من أصولها ومظهرها البدوي، وتظن أن التخلص من جديلتها ستجعلها من بنات المدن. إن افتتانها بالمدينة هو الذي أعطاها الرغبة في اتخاذ القرار الجريء؛ وبالتالي لا يمكن أن تكون المدينة سببا في الاغتيال أو إلقاء اللوم عليها، ومن هنا لا يمكن أن يتانسب العنوان مع القصة: "حيفا.. صديقة خائنة، تفتنني ثم تعلن التوبة"!
الملاحظة الثانية أنها كانت القصة الوحيدة التي سقطت فيها الكاتبة في الضجيج والشكوى من دون وجود أي مبرر رغم أن القصة جيدة جدا، لكنها وقعت فيما تقع فيه الكاتبات النسويات من خلال جملة واحدة لكنها شديدة المباشرة وذات صوت عال حينما كتبت: "هيّاتها جدولتك.. قالها الحلاق بشيء من الإعجاب واللهفة. تهاوت على الأرض، ومقصه يفاخر في يده بنصر ذكوري آخر.. كان وهو المعتاد على تلك العقلية البدوية التي تتساوى فيها الجديلة والبكارة مدركا هول المصاب"، من خلال هذه الجملة نلمح مباشرة مغالطة عجيبة من القاصة؛ فما قالته لم يكن له أي علاقة بالسرد أو القص الذي تكتبه في هذه القصة؛ فالفتاة هي من ذهبت إلى الحلاق بعد إلحاح مستميت منها إلى أمها، أي أنه لم يكن هناك من أرغمها على فعل ذلك، وهي مجرد زبونة جاءت إلى الرجل وطلبت منه فعل ما؛ ففعله باعتبار هذا الفعل هو عمله، إذن فمن أين جاءت بهذه الفكرة عن ذكورية الرجل وسعادته وانتشائه بما فعل؟! ولماذا أقحمتها في السرد من دون أي مبرر لها؟ وهل إذا ما حذفنا هذه الجملة ستؤثر على سياق السرد أو تنقصه؟ إن محاولة اللعب على هذا الوتر النسوي من دون داع أو مبرر عقلاني وبمثل هذا الشكل الفج والصارخ يفسد القصة رغم جمالياتها وجودتها، فثمة إحساس واهم وجاثم على صدر الكاتبة هنا بتربص الرجل الدائم بها رغم عدم وجود سبب منطقي في السرد لمثل هذا التربص أو الظن.
في قصة "سيدات العتمة" وهي القصة الأخيرة من المجموعة والتي تأخذ المجموعة عنوانها يبدو لنا السرد جافا لا فكرة فيه ولا معنى، حتى أن القصة هنا تصلح لأن تكون مقالا في جريدة أكثر من صلاحيتها لأن تكون سردا قصصيا، وربما كانت هذه القصة هي الوحيدة في المجموعة التي أخفقت فيها القاصة، ولا أدري لم أصرت على أن تضمنها مجموعتها؛ فهي تتميز بالجفاف والمباشرة في الفكرة الصارخة الغير صالحة لأن تتحول إلى سرد قصصي، وهذا وضح كثيرا من أسلوب السرد وطريقته، فهي تريد الحديث عن نسوة قابلتهم في حياتها لكنها فشلت في تحويل ذلك إلى قصة: "سيدات العتمة لا يعرفن أنهن سيدات العتمة. السيادة اقتناص لم يُدربن عليه قبل الغابة ولا بعدها. وهي لا تشغلهن. إنه العمر. هو الاقتناص الأوحد. في الثلاثين تتبنى كل واحدة منهن إجابة معلبة جاهزة لكل الأسئلة الوجودية والغبية. فيكون السؤال مثلا: كيف حالك؟ ما هو شكل سعادتك؟ متى ترحلين؟ تستل إجابة من كُمّ شرودها: أني عارفة؟ عُمُر وِدُّه يمظى".
من خلال هذا السرد الجاف الخالي أساسا من الفكرة القصصية الإبداعية، والذي لا يقدم لنا شيئا يتضح لنا أن السرد يصلح لأن يكون مقالا متوسط القيمة من أن يكون قصة قصيرة فيها أي شكل من أشكال الفنية.
تأتي المجموعة القصصية "سيدات العتمة" للقاصة الفلسطينية شيخة حسين حليوى كقص منفرد يتميز بالعذوبة والسلاسة لقاصة تتحدث مثل الأخريات عن المشاكل التي تعاني منها النساء في مجتمعاتنا العربية، لكن الفرق بينها وبين غيرها من الكاتبات أنها تمتلك موهبة حقيقية تعرف من خلالها كيف تصهر مثل هذه الأفكار والمعاناة في سرد قصصي حقيقي يتميز بالجودة والتميز، كما لا يفوتنا أن الكاتبة تمتلك أسلوبا متميزا، ومقدرة على الدخول في السرد المباشر من قلب الحدث، فضلا عن لغة جيدة تحتوي على الكثير من المفردات الثرية، الموحية، المحملة بالعديد من المعاني، كما تتميز لغتها بالسلامة اللغوية وهو الأمر الذي بات من الأشياء النادرة اليوم لدى النسبة الغالبة من الكتاب الجاهلين أساسا بكيفية كتابة اللغة العربية؛ وم ثم يرتكبون باسم الكتابة الكثير من الجرائم اللغوية المهينة للغة والكتابة.




محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب.
عدد فبراير 2020م.