الأربعاء، 23 يونيو 2021

أربعة ضد البنك.. إعادة تدوير الكوميديا الألمانية

عام 1976م تقريبا قام المخرج الألماني Wolfgang Petersen فولفجانج بيترسين بإخراج فيلمه التليفزيوني Four Against the Bank أربعة ضد البنك، أو حسب العنوان الأصلي للفيلم Vier Gegen die Bank عن رواية للروائي الأمريكي Ralph Maloney رالف مالوني بعنوان The Nixon Recession Caper، وهو الفيلم الذي لاقى الكثير من النجاح حينها، ثم لم يلبث المخرج الألماني أن انتقل للعمل في هوليوود، وقدم العديد من الأفلام الناجحة هناك باللغة الإنجليزية، لكنه بعد فترة طويلة تكاد أن تُقارب الأربعين عاما عاد مرة أخرى إلى ألمانيا من أجل صناعة السينما باللغة الألمانية، لكنه هذه المرة رأى أنه لا بد له من إعادة صناعة فيلمه القديم مرة أخرى، ومن ثم اختار له طاقم العمل الجديد وعمل على إعادة تدوير الفيلم الكوميدي مرة أخرى بشكل أكثر حداثة.

لكن، ما الدافع الذي من المُمكن له أن يدفع أحد المُخرجين إلى إعادة صناعة فيلم يخصه مرة أخرى؟ هل هو غير راضٍ عنه، أم أنه يرى فيه رؤية جديدة، أم رغب المُخرج في صناعة فيلم يُعد بمثابة مُحاكاة ساخرة للكوميديا الألمانية؟

ربما كان المُخرج غير راضٍ عن فيلمه السابق، لكنه حقق الكثير من النجاح حينها؛ الأمر الذي يجعلنا نستبعد مثل هذا الأمر، كما أنه لم يقدم أي رؤية فنية جديدة من خلال فيلمه الجديد الذي أعاد فيه تدوير الفيلم القديم، بل تكاد تكون هي نفس الأحداث من دون اختلاف. إذن، فلم يبق لنا سوى الافتراض الأخير، وهو أن المخرج أراد صناعة مُحاكاة ساخرة للكوميديا الألمانية.

بشكل فيه الكثير من الاختزال والابتعاد عن الثرثرة يحاول المُخرج منذ بداية فيلمه تقديم شخصياته الرئيسية من خلال أربعة مشاهد سريعة ومُتلاحقة؛ ليعرفنا بهم بشكل موجز؛ فنرى بيتر- قام بدوره الممثل الألماني Jan Josef Liefers جان جوزيف ليفرس- الممثل نصف الموهوب في بعض الأعمال التليفزيونية، وكريس- قام بدوره الممثل الألماني Til Schweiger تل شفايجر- المُلاكم السابق الذي يقوم بتدريب النساء في صالة رياضية، ويحلم بامتلاك صالة للياقة البدنية، وماكس مسوق الإعلانات- قام بدوره الممثل الألماني matthias schweighöfer ماتياس شفايغومر- ابن إحدى العلائلات الثرية، وإن كان لا يرغب في أن ينفق عليه أبوه من ماله؛ لذلك حرص على ادخار المال الذي يعمل به، هؤلاء الثلاثة لا يربط بينهم أي رابط سوى أنهم قد وضعوا مدخراتهم في نفس البنك فقط آملين أن يحققوا من خلال هذه المُدخرات أحلامهم.

سرعان ما ينتقل المُخرج إلى تعريفنا بشخصية توبياس مُستشار الاستثمار في أحد البنوك الكبيرة- قام بدوره الممثل الألماني Michael Herbig مايكل هيربيج- وهو شخصية ليس لها علاقات مع النساء لخجله من التعري، كما أنه لا يوافق على غش عملاء البنك، وعدم إخبارهم بالحقائق، أي أنه شخصية شديدة المُباشرة والصراحة، وهو ما لا يرضى عنه مدير البنك- شوماخر- الذي يدير تسعة بنوك تحقق الكثير من الأرباح؛ لذلك يرغب شوماخر في إقالة توبياس الذي يتولى حسابات بعض المودعين للاستثمار ومنهم الثلاثة السابقين، ولأن القانون والتعاقد الذي بين توبياس والبنك لا يمكن أن يسمح للمدير أن يقيله من دون أي أسباب وجيهة، يعمل على إرغامه كي يقدم استقالته للبنك بمنع تقارير السوق اليومية من الوصول إليه من خلال البريد الإليكتروني، وهو الأمر الذي يؤدي إلى فقدان هؤلاء المُودعين لأموالهم التي ادخروها؛ بسبب عدم مُتابعة توبياس تقارير السوق التي لا تصله.

يشعر المودعون الثلاثة بالكثير من الغضب ويتجهون إلى البنك راغبين في الفتك بتوبياس، الذي يضطر إلى تقديم استقالته، وأثناء تجمعهم في أحد البارات للتخطيط في كيفية الانتقام من المُحاسب الذي تسبب في ذلك يجدونه منزويا في إحدى أركان البار وحيدا؛ فيحاول أحدهم الاتجاه إليه، لكن الآخر يخبره أنهم إذا ما اقتربوا منه في هذا المكان؛ فلا بد أنهم سيدخلون السجن.

يتابعه الثلاثة لحين الوصول إلى بيته، ويقتحمونه عليه، ليربطوه ويحاولون الانتقام منه، لكنه يخبرهم أنه لا ذنب له فيما حدث لأموالهم، ولأن مدير البنك يرغب في إقالته، فقد عمل على أن يخسروا أموالهم ليكون ذلك سببا في طرده. هنا يفكر بيتر في سرقة البنك؛ لاسترداد أموالهم، ويسأل توبياس: هل لو سُرقت بعض الملايين من البنك؛ سيؤدي ذلك إلى فقدان المودعين لأموالهم؟ لكنه يؤكد له أن ذلك غير صحيح لأن البنوك مُؤمن عليها ضد هذه السرقات؛ كي لا يفقد المودعون أموالهم، هنا يقررون السطو على البنك ليقول كريس: ستكون جريمة من دون ضحايا.

يوافق توبياس على الاشتراك معهم في عملية السرقة؛ انتقاما من شوماخر مدير البنك، ويمدهم بالمعلومات الكاملة التي تفيدهم في خطتهم، ويدفعون المال لأحد الرجال كي يتظاهر بأنه سيسطو على البنك أثناء وجودهم داخله من أجل معرفة الوقت اللازم لوصول الشرطة إلى البنك، وحينما يتأكدون أن الوقت اللازم هو 16 دقيقة فقط؛ يبدأون في التخطيط لخطتهم.

يتفقون مع توبياس على ألا يكون معهم في السطو؛ لأنه بالتأكيد سيتم استدعائه في التحقيقات بعد السطو، بما أنه كان من موظفي البنك؛ وبالتالي من الممكن أن يكون له مصلحة في السطو عليه، ويؤكد له بيتر أنه لا بد له من أن يكون بعيدا عن البنك في نفس التوقيت، كما لا بد من وجود العديد من الشهود على مكان تواجده حينها. يقرأ بيتر في الجريدة أن البابا سيكون في استاد كبير وسيستقبله الآلاف من الناس، ويطلب من توبياس أن يتعرى تماما في الاستاد أمام الآلاف ليكونوا شهودا على مكان تواجده حين سرقة البنك.

يقوم الثلاثة بالفعل بسرقة مليونين ومئة ألف من اليوروهات، لكنهم يكتشفون أنهم لا يستطيعون التصرف فيها؛ لأن فريق التحقيق في سرقة البنك قد أبلغ بالأرقام المُسلسلة للأوراق النقدية، كما أن رئيس فريق التحقيق الدكتورة إليزابيث- قامت بدورها الممثلة الألمانية Antje Traue أنتي تراوي- قد استدعت كل من بيتر، وكريس، وتوبياس للإدلاء بمعلوماتهم في التحقيق، والوحيد الذي لم يتم استدعائه؛ لعدم ظهوره في البنك من قبل هو ماكس.

تتشكك إليزابيث فيهم لا سيما كريس الذي يوجد وشم على يده قد ظهر في كاميرات البنك، لكنه يؤكد لها أنه ليس المواطن الوحيد الذي لديه مثل هذا الوشم، وأثناء التحقيق تظهر رسالة على هاتف إليزابيث يعرف من خلالها كريس أنها عزباء وتشعر بالكثير من الوحدة لذلك تدخل إلى مواقع المواعدة. تعرف زوجة بيتر بأمر الأموال حينما تكتشفها في المنزل، لكنها عندما تعلم منه أنهم مليونان من اليوروهات تبدي رغبتها في مساعدتهم من أجل الاحتفاظ بالأموال، وإلصاق السطو بشخص آخر.

يقترح توبياس عليهم بضرورة إيجاد الدلائل التي لا بد منها من توجيه سير التحقيق ضد شوماخر مدير البنك نفسه باعتباره هو من قام بالسطو، وبالفعل يقنع المُلاكم كريس صديقين قديمين له كانا في السجن بأن يعترفا بأنهما من قاما بعملية السطو، وأن شوماخر هو من أمدهما بكل المعلومات البنكية. وتبدأ زوجة بيتر في التخطيط من أجل أن يلتقي ماكس بإليزابيث من خلال مواقع التعارف باعتباره مُعجبا بها، وبالفعل يتعارفا ويتفق معها على الذهاب إلى أحد المطاعم التي يتواجد فيها شوماخر أسبوعيا مع عشيقاته بعدما يضعا لها أمام باب شقتها عقدا ثمينا.

تظن العشيقة أن شوماخر هو من وضع لها العقد الثمين، ويتجه كل من توبياس وكريس إلى بيت شوماخر من أجل وضع العديد من الدلائل التي تؤكد بأنه هو من سرق البنك، منها مليون و700 ألف يورو في منزله بالإضافة إلى مجموعة من جوازات السفر المُزيفة، فضلا عن أن توبياس أجرى العديد من الاتصالات الدولية ببعض البنوك ليبدو الأمر وكأنه غسيل أموال.


تلاحظ إليزابيث شوماخر في المطعم، ويوحي لها ماكس أنه قد يكون هو الذي خطط لعملية السطو، وحينما يتم توقيف الرجلين اللذين اتفق معهما كريس يعترفا بأن شوماخر هو الذي أعطاهم المعلومات كاملة من أجل السطو، وبالفعل يتم العثور على كل الدلائل في بيته؛ ليتم توقيفه وإلقائه في السجن.

تستمر علاقة ماكس مع إليزابيث التي تتحول إلى علاقة حقيقية، ويكون كل شخص منهم قد حصل على مئة ألف من اليوروهات.

لا يمكن إنكار أن المخرج الألماني فولفجانج بيترسن نجح في تقديم فيلم فيه قدر كبير من الإمتاع والفكاهة، ولم يسقط بفيلمه باتجاه الابتذال الذي لا داع له، لكننا نلاحظ أن المخرج قد رسم شخصياته بشكل هزلي مُبالغ فيه، صحيح أن الهزل قد يتناسب إلى حد ما مع الكوميديا، لكن يبدو أنه قد بالغ في شخصياته الهزلية التي قد نفسرها برغبته في المُحاكاة الساخرة للكوميديا الألمانية.

المخرج الألماني فولفجانج بيترسين

لكن لا يفوتنا أن البطل الحقيقي للفيلم يتمثل في الموسيقى التصويرية للموسيقي الألماني Enis Rotthoff إينيس روتوف، وهي الموسيقى الرشيقة التي مثلت أهم ما في الفيلم المُمتع؛ حيث كانت توحي بالكثير من المرح منذ المشهد الأول، وهو المرح الذي يتناسب إلى حد بعيد مع أحداث الفيلم التي نراها أمامنا على الشاشة؛ الأمر الذي ساعد في إكساب الأحداث المزيد من الحيوية والتشويق.

 

محمود الغيطاني
مجلة الكرمة
 

عدد يونيو 2021م.








 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الثلاثاء، 15 يونيو 2021

Your Son.. الأبوة كمحرك للجريمة

قد يظن البعض، للوهلة الأولى، أن الفيلم الإسباني Your Son أو Tu Hijo- تبعا للاسم الأصلي للفيلم- للمخرج الإسباني ميغيل آنخيل فيفاس Miguel Ángel Vivas هو مجرد فيلم من أفلام التشويق والجريمة التي تعمل على جذب المُشاهد إلى التمسك بمقعده حتى اللحظة الأخيرة من أجل مشاهدة الجريمة التي ستحدث، لكن النظرة المتمهلة للفيلم ستؤكد لنا أن فيلم "ابنك" هو فيلم عن الأسرة، لاسيما الأبوة. إنها مشاعر الأبوة التي قد تدفع صاحبها إلى قتل أي شخص من الممكن له أن يمس الابن؛ باعتباره مُقدسا لا يصح لأحد أن يمسه حتى لو كان مخطئا في كل ما يفعله في حياته.

من خلال مشهدين سريعين وشديدي التركيز، وبلغة سينمائية موجزة يقدم لنا المخرج ميغيل آنخيل فيفاس في مشاهد ما قبل التيترات Avant titre الطبيب الجراح خيمينيز الذي قام بدوره ببراعة الممثل Jose Coronado جوزيه كورونادو الذي لا يهتم في حياته سوى بعمله وتركيزه فيه، كما يوضح لنا أن ثمة علاقة قوية تربطه بابنه المراهق الذي يشترك في مسابقات للعدو؛ وهو الأمر الذي يجعل الابن دائما ما يصطحب أبيه معه في تمارين الجري اليومية؛ ليشاركه فيها.

نشاهد خيمينيز معظم الوقت في سيارته مُستمعا إلى الراديو الذي يبث أخبارا عن الأزمة الاقتصادية في إسبانيا، وتعليق المذيع الساخر عليها حينما يقول: إن قطاع البناء يعاني من نقص كبير في العمال، في الوقت الذي يعلق فيه على الخبر بقوله: أين هي الوظائف؟ لو وفروا الوظائف لوجدوا الكثير من الشباب واقفين بالطوابير من أجلها. ربما كان هذا التركيز على الأخبار الاقتصادية التي تعاني منها إسبانيا كان من الأهمية في سياق الفيلم؛ حيث نرى الآلاف من الشباب الذين لا يفعلون شيئا سوى الذهاب إلى الملاهي الليلية يوميا من أجل قتل أوقاتهم، وتناول المخدرات، أي أن المخرج كان يمتلك من اللغة السينمائية التي جعلته يقدم ما يريد قوله بشكل من الإيجاز السينمائي البعيد تماما عن المباشرة الفجة التي قد تُفقد الفيلم الكثير من فنيته.

يُفاجأ خيمينيز بإحدى الممرضات التي تخبره بأن ابنه قد وصل إلى المشفى مُصابا بعدما تعرض لضرب كاد أن يُفضى به إلى الموت؛ فيسرع إلى غرفة العمليات من أجل محاولة إنقاذه بنفسه، لكن زملائه من الأطباء يطردونه خارج العمليات؛ مبررين الأمر بأنه لا يمكن له أن يفعل شيئا، وأنهم سيقومون بدورهم في ذلك. ربما كان مشهد الأب/ الطبيب هنا وهو يحاول تعقيم يديه قبل دخوله إلى غرفة العمليات من أهم المشاهد في الفيلم حينما نرى يديه ترتعشان غير قادر على تثبيتهما، بينما يحاول جاهدا السيطرة عليهما من أجل التعقيم واللحاق بابنه الطريح في غرفة العمليات، كما أن هذه اللقطات التفصيلية كانت من أهم ما يميز الفيلم لدى المخرج؛ حيث اللقطات الكبيرة على الوجه، واليدين لدى الأب؛ لتوضيح ردود الأفعال والانفعالات التي يشعر بها الأب على طول الفيلم. وهو ما رأيناه أيضا حينما يخرج ابنه من غرفة العمليات ويظل واقفا أمام بابها متأملا دماء ابنه على الأرض بينما تقوم العاملة بمسحها. نرى هنا الأب متأملا للدماء من خلال لقطات كبيرة على وجهه بينما يعمل المخرج من خلال المونتاج على الانتقال المتبادل- غير مرة- بين ملامح الأب المتأملة القلقة، وبين منظر الدماء على الأرض وكأنما في هذه الدماء حياة ابنه.

تؤكد الشرطة للأب بأنهم لم يستطيعوا التوصل إلى الجناة الذين قاموا بالاعتداء على ابنه؛ فهم لم يقوموا بسرقة أمواله، ولا دراجته البخارية، لكن هاتفه المحمول فقط هو الذي اختفى، كما يخبرون الأب أن أحد أصدقائه قد غيّر أقواله مرتين، ربما لأنه مرتبك، لكنهم حتى هذه اللحظة لا يمتلكون أي دليل على أي شيء؛ ومن ثم ستبدأ عملية البحث عن الأسباب والجناة.

لا يستطيع الأب هنا انتظار نتائج بحث الشرطة بينما ابنه في غيبوبة داخل غرفة العناية المُركزة؛ فيبدأ البحث بنفسه؛ ليعرف ما حدث، مُهملا في ذلك عمله، ليقضي معظم أوقات الليل في الخارج مُراقبا للعديد من الشخصيات. يخبره صديق ابنه أنه غير أقواله؛ لأنه رأى من قاموا بالاعتداء على ماركوس ولقد كانوا أربعة شباب، لكنه يخاف من إخبار الشرطة لأنهم رأوه أيضا، ويعتقد أنه إذا ما أبلغ عنهم فإنهم قد يقتلونه، لكنه يخبر الأب أن أحدهم قد صور الاعتداء بالكامل على هاتفه المحمول، وهو يعمل في محطة وقود بالقرب من الملهى الليلي الذي كان ابنه فيه، وأن هذا الشاب يصبغ شعره باللون الأبيض.

يتجه خيمينيز إلى محطة الوقود ويبدأ في مراقبة الشاب ومطاردته ليلا في كل مكان يذهب إليه، سواء في الملهى الليلي، أو على الطريق إلى أن يقرر أن يصطدم به ذات مرة؛ فيصدمه دراجته البخارية بسيارته، وحينما يخرج الشاب هاتفه من أجل الاتصال بالشرطة يختطف خيمينيز الهاتف، ويفر من مكان الحادث.

ربما كان الاهتمام بتفاصيل العمل السينمائي الصغيرة من أهم ما يميز المخرج ميغيل آنخيل فيفاس؛ فحينما اختطف الطبيب هنا هاتف الشاب واستقل سيارته نراه بين برهة وأخرى يحرص على لمس شاشة الهاتف حتى لا يتم إغلاقه، وبالتالي سيعجز عن فتحه مرة أخرى إلى أن يتوقف بعيدا باحثا في مقاطع الفيديو ليشاهد من خلاله عملية الاعتداء القاسية على ابنه بالكامل، وهي العملية التي كاد أن يقتلونه تماما فيها.

تزداد داخل الأب الرغبة اليقينية في قتل كل من قام بالاعتداء على ابنه، لا سيما الشاب الذي كان حريصا على ركله في وجهه أكثر من مرة من أجل قتله، لكنه يسرع إلى مركز الشرطة ومعه الهاتف لتراه المُحققة التي تتولى القضية، إلا أنها ترفض رفضا تاما النظر في الهاتف مُبررة ذلك بأنها لا تستطيع رؤية الفيديو إلا من خلال إذن قضائي رغم أن الهاتف يحتوي على فيديو يدين من اعتدوا على الابن فيه، وفي مقابل رفضها رؤية الفيديو يُدان الطبيب بتهمة الاعتداء على شاب قاصر وسرقة هاتفه؛ وهو الأمر الذي يجعله يقول لزوجته حينما يخرج بكفالة: لماذا لا يشاهدونه؟ خرجت بكفالة بينما هم في الشارع.

هنا يتأكد لخيمينيز أن حق ابنه لا يمكن أن يعود بالقانون، وأن المعتدين سيظلون في الخارج يمرحون بينما الابن في غيبوبة بين الحياة والموت؛ لذلك يقرر أن القانون لا فائدة منه، وأن فكرة الانتقام الشخصي هي الوحيدة الراجحة من أجل الثأر لابنه ممن فعلوا به ذلك.

الممثل بول مونين
يحاول الطبيب الاتصال بأندريا حبيبة ابنه وهو الدور الذي قدمته الممثلة Ester Expósito إستر إكسبوسيتو، لكنها تطلب منه عدم الاتصال بها مرة أخرى، ولا تبدي أي اهتمام بما حدث لماركوس؛ الأمر الذي يدفعه إلى الذهاب إليها في مدرستها لملاقاتها أثناء خروجها، لكنها تعود للتهرب منه مرة أخرى؛ فيقول لها: إنه قد رأى الفيديو، هنا تتوقف لتسأله: أي فيديو؟ فيخبرها عن فيديو الاعتداء على ماركوس الذي سجله المعتدون، لكنها تتهرب منه غير مهتمة حينما يصل راؤول، حبيبها الجديد. هنا يلمح الأب على المعطف الذي يرتديه راؤول نفس العلامة التي سبق أن رآها في الفيديو، وحينما يبحث عنه على الفيس بوك من خلال صفحة أندريا يتأكد أن راؤول هو الذي كان يرغب في قتل الابن داخل الفيديو المُسجل.

يعبر المخرج عن الطبيب وتفكيره من خلال المشهد الذي نراه فيه يرتدي الحذاء الرياضي الذي أهداه الابن له، وخروجه للجري أثناء الليل في نفس الطريق الذي كان يمارس فيه الجري مع الابن، بينما نرى من خلال لقطات قريبة عضلات وجهه التي تزداد تشنجا لحظة بعد أخرى، بينما يقطع المخرج من خلال المونتاج على مشاهد الاعتداء على الابن التي سبق أن رآها في الفيديو المُسجل. إن المونتاج المتوزاي Cross Cutting الذي حرص عليه المخرج بين اللقطات القريبة على وجه الأب أثناء جريه اللاهث، وبين لقطات الاعتداء على الابن كانت من الضرورة والأهمية؛ ما يجعلنا ندرك الحالة النفسية العاصفة التي يمر بها، والتفكير العميق الذي يفكر فيه من أجل اتخاذ قراره فيما يجب أن يفعل، وهو بالفعل ما ينتهي به الأمر إلى الاقتناع بقتل من فعل بابنه ذلك.

إن مشاعر الأبوة هنا كان لها من التأثير ما جعل الطبيب الناجح في عمله المستقر، والذي يعيش حياة اجتماعية وأسرية مستقرة أيضا، لا يهتم بهذا العمل، ولا يستقر في بيته ويظل طوال الليل خارجه للبحث عمن فعل بالابن ذلك، ولعل مقدرة الممثل جوزيه كورونادو التمثيلية كانت أهم ما ساعد المخرج في التعبير عن فيلمه وما يرغب في تقديمه؛ فنحن نرى الأب طوال الوقت تبدو على وجهه علامات الذهول والشرود الدائم والقلق وكأنه منفصل تماما عما يدور من حوله، أو أنه خارج هذا العالم المحيط به، بينما يعيش في عالم آخر يخصه لا علاقة له بكل من هم حوله. هذه التفاصيل التي يحرص عليها الممثل في تجسيد شخصية الأب، وهذه القدرة على تقمص شخصية الأب المكلوم في ابنه لدرجة أن من يشاهده يتأكد أن العالم قد انتهى بالنسبة لهذا الرجل، كانت من الصدق الذي يجعل المشاهد في حالة تعاطف دائم معه حتى لو اشتط فيما يفعله من أجل الثأر للابن.

الممثلة الإسبانية إيستر أكسبوسيتوا
يتجه خيمينيز إلى أحد الأشخاص الذي سبق أن أنقذ ابنه طبيا، ويخبره بما حدث لابنه، ويطلب منه ضرب من قاموا بهذا الفعل مع ماركوس، لا يقتنع الرجل في البداية، لكن الطبيب يعده بمبلغ كبير من المال، يوافق الرجل على مضض، ويُحضر للطبيب مسدسا كان قد طلبه، إلا أن والد راؤول- صاحب الملهى الليلي- الذي كان قد اعتدى على ماركوس يلحق خيمينيز داخل سيارته وفي يده شاكوش ليقوم بتثبيت يد الطبيب على عجلة القيادة وضربها بالشاكوش بقسوة ليقول له: لو اقتربت مرة أخرى من ابني سأقتلك.

هنا يقرر الطبيب الانتقام الحقيقي لابنه بنفسه؛ فيذهب إلى منزله محاولا الإمساك بالمسدس، لكن إصابة يده بالشاكوش تمنعه؛ فيفتح علبه المشارط الطبية ليأخذ أحدها ويتجه إلى الملهى الليلي الذي يجتمع فيه الشباب الذين اعتدوا على ابنه لاسيما راؤول الذي كاد أن يقتل ماركوس، وهو نفس الشاب الذي اختطف أندريا حبيبة ابنه منه.

يمنعه الأمن من الدخول؛ فيخبرهم بأن ابنته بالداخل ولا ترد على هاتفها وهي قاصر؛ فيسمحون له. يبدأ في البحث عن راؤول حتى يلمحه يدخل إلى دورة المياة فيتبعه، وما أن يخلو المكان تماما إلا منه ومن الشاب؛ يطعنه في رقبته بالمشرط الطبي ليموت مباشرة، ويسرع بالخروج.

حينما يصل خيمينيز إلى منزله يسمع صوت بكاء ما؛ ليجد ابنته سارة ومعها أندريا التي تبكي. تمد سارة يدها بهاتف محمول إلى أبيها، وتخبره بأن هذا الهاتف هو هاتف ماركوس، وأنها ترغب منه في رؤية الفيديو المُسجل عليه، يتناول الأب الهاتف بقلق؛ ليشاهد من خلاله ابنه وقد قابل أندريا خارجة من الملهى الليلي ويطلب منها أن يوصلها بسيارة أحد أصدقائه. توافق أندريا، وفي السيارة يبدأ ماركوس في لومها لأنها تركته وذهبت لغيره، لكنها تحاول أن تُنهي النقاش معه، ويدخل للسيارة أحد الأصدقاء المشتركين بينما يسألها ماركوس: هل كنت تضاجعينه في الوقت الذي كنت على علاقة بي؟ لكنها ترفض النقاش معه، أو الرد عليه. هنا يأخذ صديقهما هاتف ماركوس ويبدأ بالتسجيل، بينما يقوم ماركوس بإغلاق أبواب السيارة ويقوم باغتصاب أندريا في الوقت الذي يقول لها فيه: إنه يحبها، لكنها الآن من الممكن أن يغتصبها جميع أصدقائه انتقاما منها.

إيستر أكسبوسيتوا
يشاهد الأب الفيديو بذهول، لكنه يقول بيقين بعدما ينتهي منه: إذن، فهذا هو السبب. لقد كان يحبك.

لا يمكن إنكار أن ما قاله الأب بعد مشاهدة فيديو اغتصاب ابنه لأندريا صادم، ومثير للكثير من الدهشة؛ فالأب هنا يلتمس العذر لابنه في اغتصاب أندريا، ولا يراه مذنبا، بل يراها هي المُذنبة؛ لأنها تركته وارتبطت بغيره، ورغم أن الجريمة التي ارتكبها الابن مع أندريا هي التي أدت إلى الجريمة الأخرى في الاعتداء عليه حتى الموت من أجل التأديب من قبل راؤول المرتبط بها، ومن أجل الحصول على فيديو الاغتصاب، لكن رغم هذه الصدمة من رد فعل الأب إلا أن المُشاهد قد يتعاطف إلى حد كبير معه؛ ومن ثم يوافقه على ما ذهب إليه باعتباره أبا يرى أن ابنه قد ظُلم وجُرح وأُهين حينما تركته الفتاة التي يعشقها وذهبت إلى غيره، كما أن مشاعر الأبوة تجعله يرى ابنه مُنزها عن الخطأ حتى لو كان مُخطئا بالفعل؛ فالآباء دائما ما يرون أبناءهم في صورة ملائكية، منزهون عن أي خطأ بينما أبناء الآخرين هم المخطئين دائما.

يقوم الأب بطرد أندريا، وحينما تحاول أخذ هاتف ماركوس يجذبها الأب من شعرها ليأخذ منها الهاتف ويقوم بطردها من المنزل. يذهب الأب إلى غرفة العناية المركزة للاطمئنان على ابنه، ويقوم بتقبيل رأسه، ويفتح هاتف ماركوس المحمول ليقوم بإلغاء الفيديو المُسجل عليه اعتداء الابن على أندريا وتنزل تيترات النهاية؛ لتؤكد أن الأب حينما قام بالقتل، وحينما قام بتحمل أندريا للذنب، وحينما ألغى الفيديو الذي يدين ابنه؛ فهو قد فعل كل ذلك وهو على يقين بأنه على صواب، وأن ابنه برئ من أي ذنب، وأنه لا بد من الانتقام للابن بهذه الطريقة.

الممثلة آسيا أورتيجا
لم يقل لنا المخرج ما هو مصير الأب قبل إنهاء الفيلم، لكنه كان من الذكاء ما يجعلنا نعرف مصيره؛ فهو حينما قام بقتل راؤول داخل الملهى الليلي، وأثناء خروج الأب من الملهى ركز المخرج بذكاء ودقة على كاميرات المراقبة التي كانت تقوم بتسجيل وجود الطبيب داخل الملهى الليلي؛ ومن ثم فخروجه من الملهى سواء من داخله، أو في الشوارع المحيطة به كانت مُسجلة كما عرضها المخرج في الفيلم، أي أن الشرطة لا بد لها أن تستدل عليه باعتباره القاتل؛ ومن ثم ستدينه، لكن المخرج لم يكن يرغب في النهايات التقليدية؛ فقدم لنا هذا المشهد قبل نهاية الفيلم بحوالي نصف الساعة؛ الأمر الذي يُدلل على بلاغة الصورة لديه، وعدم ميله للثرثرة أو التزيد.

يعبر الفيلم الإسباني "ابنك" Your Son عن مشاعر شديدة الخصوصية، وهي الخصوصية التي أدت لانفجار كل هذه المشاعر الغاضبة التي دفعت الأب إلى القتل، ولعل خصوصية هذه المشاعر من الممكن لها أن تدفع أي أب في نفس الموقف إلى ما فعله خيمينيز حينما يجد أن القانون لا يستطيع فعل شيء لمن قاموا بالاعتداء على الابن. صحيح أن المخرج يميل بفيلمه إلى فكرة الانتقام الشخصي، وتحقيق العدالة الفردية بعيدا عن القانون والمؤسسات؛ الأمر الذي يؤدي- بالضرورة- إلى شيوع الفوضى في المجتمعات، لكننا في نهاية الأمر لا يمكن لنا لوم الأب فيما ذهب إليه رغم عدم مشروعيته، بل سنتعاطف معه، ونكاد أن نشجعه طوال أحداث الفيلم حتى وهو يقوم بقتل راؤول؛ نتيجة للأداء التمثيلي المتكامل للممثل جوزيه كورونادو الذي بدا على وجهه- منذ دخول الابن إلى المشفى- وكأنه رجل قد فقد الحياة تماما، وانفصل عن هذا العالم، ولم يعد يعرف سوى عالم الانتقام للابن، واجترار كل ذكرياته معه؛ فبعد دخول الابن إلى المشفى، ورغم أنه كان يذهب مع الابن دائما للجري يوميا مُرغما؛ نراه يذهب للجري وحده في نفس الطريق التي كان يعبرها مع ماركوس، وكأنه يريد استحضاره بهذا الفعل الذي كان يمارسه معه، أي أن الابن كان بمثابة مركز الكون بالنسبة له.

المخرج الإسباني خوسيه كورونادو
نجح المخرج الإسباني ميغيل آنخيل فيفاس في تقديم فيلم عميق ومهم، وعاصف عن الأبوة وأثرها، وما يمكن أن تؤدي إليه هذه المشاعر العميقة من أجل الأبناء، لكننا لا يمكن إنكار أن الفيلم كان من الأفلام التي تنتصر للنظرة والمجتمع الذكوري بشكل كامل؛ فالأب هنا لا يعنيه من أسرته سوى الابن ماركوس، وبالتالي نرى أن علاقته بالأم والابنة هامشية تماما، وحينما يحدث سوء للابن ينهار العالم تماما في عينيه، كما أنه رغم رؤيته للفيديو الذي يغتصب فيها ماركوس لأندريا أمام أصدقائه الذين يقومون بالتسجيل لا يدين الابن هنا، بل يدين أندريا المُغتصبة بقوله: لقد كان يحبك، أي أنها هي المذنبة بتركها له، وهذا يعني أنها تكتسب وجودها وكينونتها وأهميتها من حب ماركوس لها؛ وبالتالي فهي تفقد أي امتيازات حينما تهجره ويكون فعل اغتصابه لها أمرا بديهيا، أي أنه ينظر إلى المرأة هنا نظرة دونية؛ فالرجل هو الذي يُكسبها موقعها من الإعراب في هذا المجتمع الذكوري؛ لذلك نراه يقوم بطردها وجذبها من شعرها من أجل الحصول على الهاتف الخاص بابنه. لكن رغم هذه النظرة الذكورية لا يمكن إنكار أهمية ما قدمه المخرج، ومقدرته الفنية التي اتضحت من خلال فيلمه لا سيما التصوير، والمونتاج، كما أن الموسيقى التصويرية التي قدمها فرناندو فاكاس Fernando Vacas كانت من أهم العناصر داخل الفيلم؛ فلقد لعبت دورا حيويا في التعبير عن الكثير من اللحظات النفسية العصيبة التي يمر بها الأب خاصة مع استخدام مزيج من البيانو والنحاس الحزين اللذين كانا ينطلقان بشكل فيه من المرارة ما يجعلنا أكثر تعاطفا مع الأب.

 

 

 

محمود الغيطاني

مجلة الثقافة الجديدة

عدد يونيو 2021م

 

 

 

الثلاثاء، 8 يونيو 2021

في رواية أخرى.. لعبة البناء والهدم

ما معنى أن يحرص السارد على بناء مشهد روائي مُتماسك بلغة روائية جيدة، وأسلوبية أجود لينخرط المُتلقي في تلقيه، ثم لا يلبث هذا السارد أن يعود لهدم مشهده من خلال مشهد تالٍ ينفي ما سبقه تماما- مُلقيا في نفس المُتلقي الكثير من الشك والارتباك واللايقين- ليبدأ في بناء مشهد روائي آخر يتناقض مع ما سبقه، ثم لا يلبث مرة ثالثة ورابعة في نفي ما سبق بالكامل، هادما إياه، ليعود إلى بناء مشاهد جديدة تدور جميعها حول نفس الفكرة مُنطلقا من نفس الانطلاقة التي بدأ منها في مشهده الأول مع الاختلاف في التفاصيل والوقائع والأحداث؟

إنه يعني- بلا شك- أن السارد هنا يعي جيدا أنه يمارس لعبة الكتابة من خلال الهدم والبناء، وحريص على إرباك المُتلقي للعمل الروائي من خلال هذه اللعبة التي تستهويه ويمارسها بمُتعة مُنقطعة النظير؛ الأمر الذي يجعله كثير المحو والكتابة عدة مرات، حتى أنه من المُمكن له أن يستمر في هذه العملية إلى ما لا نهاية؛ ومن ثم لا يمكن للعمل الروائي الذي يكتبه أن ينتهي.

ربما يفكر أحدنا إذا ما وصلنا إلى هذه النقطة أن ما يفعله الروائي هنا مُجرد عبث لا طائل منه ما دام يمحو ويعيد الكتابة فقط حتى أن العمل لا يمكن له أن ينتهي من خلال هذه اللعبة- الدائرية- الأبدية، وهو تفكير مشروع لأي شخص أن يفكر فيه بالفعل إذا لم يطلع على العمل بنفسه، ولم يفهم تفاصيل الكتابة فيه، لكن، لا بد من الإطلاع على تفاصيل العمل الروائي أولا؛ لنفهم آليات الروائي في فعل ذلك، والأسباب التي اتخذها كركيزة له من أجل أن يكتب عمله بمثل هذا الشكل الذي يجعلنا في حالة ارتياب دائمة من كل ما يسوقه لنا من حقائق وأحداث وشخصيات؛ لأن كل الوقائع هنا غير قابلة لليقين، وهي أقرب إلى الشك فيها أكثر مما تقترب من تصديقها.

هذه الأفكار والتساؤلات- عن ماهية الكتابة بهذا الشكل الذي يمارس فيه الكاتب لعبته المُمتعة والمُضللة في آن- هي ما انثالت على أذهاننا حين قراءتنا لرواية "في رواية أخرى" للروائي الجزائري محمد علاوة حاجي الذي يلعب لعبة السرد بجدية صارمة، ومُتعة كبيرة؛ ليقدم لنا في النهاية روايته المُربكة.

يبدأ حاجي روايته بالفصل صفر، وهو الفصل الذي كان بمثابة التمهيد للدخول إلى عالمه الغرائبي الذي يسوقه مُنغمسا فيه، حتى أننا لا نقرأ جملة "الفصل الأول" إلا في الصفحة الواحدة والثلاثين، ونلاحظ في الفصل صفر أن الروائي يتوجه بحديثه لنا منذ جُملته الأولى، فنقرأ: "وأنا نصف مُمدد في كرسيّ على سطح هذه العمارة الآيلة للسقوط، واضعا رجلا على رجل، أرتشف قهوتي، وألتهم ما تبقى من سيجارتي، أتصور كيف وصل هذا الشيء إليك، بل أتصور أكثر من احتمال لذلك". إذن فالروائي للوهلة الأولى يحادث قارئه، ويبدأ في تخيل كيفية وصول هذه الرواية إلى أيدينا قبل الدخول إلى عالمه الروائي، هذه التصورات التي يسوقها الكاتب من أجل تخيل كيفية وصول الرواية إلى أيدينا يزج من خلالها شخصياته الروائية التي ستكون لُب العمل الروائي فيما بعد، وكأنه يتصورنا- كقراء- مُجرد شخصياته التي اختلقها، ومن ثم لا بد لها من أن تتلبسنا لتكون نحن، أو نكون هي، في لعبة من تبادل الأدوار التي يجيدها على طول عمله الروائي؛ لذلك سرعان ما يكتب لنا: "الاحتمال الأول: كنت مارا بشارع س في ظهيرة يوم قائظ، وكنت تحمل بقايا سيجارة في يدك، وورقة نقدية رخصية في جيبك. ورقة واحدة لا أكثر ولا أقل. هذا ما تحمله عادة وأنت تخرج من البيت. في مثل هذا الوقت من كل يوم يكون ما تبقى من ورقتك هو النصف. أما اليوم، فالمبلغ ما زال على حاله، والسبب أن سائق التاكسي العجوز الذي أوصلك هذا الصباح من حي س لم يتمكن من قبض أجرته، إذ لم يكن يحمل فكة معه. طلب منك، على مضض، أن تدفعها في المرة القادمة. نزلت وأنت تتساءل: هل ستكون ثمة مرة قادمة؟ على الأرجح أنكما لن تلتقيا مُجددا؛ فنادرا ما ركبت مرتين مع السائق ذاته، حتى في خط س- س. اتجهت رأسا إلى مقهى س؛ حيث اعتدت تناول فطورك وأنت ناوٍ ألا يتجاوز المبلغ الذي ستتركه هناك نصف ما لديك. فوجئت بموحوش، صديقك الذي لم تلتق به منذ أيام الخدمة العسكرية، قابعا في زاوية يحتسي قهوته ويدخن".

إذا ما تأملنا الاقتباس السابق في مدخل العمل الروائي سنُلاحظ أن الروائي هنا لا يخطط لشخصيات عمله الروائي فقط، بل يخطط لنا حياتنا نحن؛ فهو يتخيل أننا هذه الشخصيات التي يتحدث عنها، وأن هذا ما حدث معنا حتى وصلت إلى أيدينا روايته التي يقوم بكتابتها، أي أنه يمارس لعبة التخيل هنا إلى أقصاها بزجنا داخل العمل الروائي، أو بزج شخصياته الروائية نفسها في حياتنا نحن، وهو في هذا اللون من الكتابة يمارس شكلا يخصه حينما يقطع بعد هذا الاقتباس مُباشرة ليكتب: "حقيقة أولى: سعادتك وأنت ترى، مُجددا، هذ الصديق القديم الذي بدا عليه الشعور ذاته، فقد ضمك إلى صدره بقوة مُعبرا عن اشتياقه"، ثم لا يلبث أن يكتب بعدها: "حقيقة ثانية: شعورك بالحُزن حين تأكدت من أنك لن تخرج من المقهى إلا وقد تركت فيه كل ما في جيبك. ستضطر لقرض مبلغ مُماثل من الآنسة س، زميلتك في العمل، التي سيكون عليك تسديد كل ديونها قبل نهاية الشهر، إذ باتت، منذ ثلاثة أشهر، تدون كل سنتيم تستدينه منها في كراستها المُخصصة لتسجيل الأرقام الهاتفية".

ألا نلاحظ هنا أسلوبية الكاتب التي يحاول من خلالها تشييء مشاعرنا وكأننا مُجرد كائنات مجهرية يفحصها حتى أنه يضع الاحتمالات الشعورية أمامنا في شكل هوامش ومُلاحظات بمُجرد ما قابلنا صديقنا القديم على المقهى- باعتبار حالة التماهي التي يرغب في إدخالنا إليها؟

يستمر علاوة حاجي في سرد تخيله في كيفية وصول الرواية إلينا بمُتابعة قصته التي سيتناول فيها الصديق طعامه مع موحوش؛ ليقوم موحوش بدفع الحساب ثم ينصرف ويحاول صديقه/ نحن اللحاق به من أجل الاستدانة منه لكنه يكون قد اختفى؛ لتقوده قدماه إلى إحدى المكتبات التي تبيع الكُتب القديمة، لتمتد يده إلى أحد الكتب ويحملها دافعا الورقة النقدية التي في جيبه: "لسبب ما وجدتك تحمل هذا الشيء، وتمد يدك إلى جيبك، تُخرج الورقة وتسلمها للبائع العجوز الذي ستلاحظ أنه يشبه، إلى حد كبير، سائق التاكسي الذي ركبت معه صباحا"!

لو كان الروائي قد توقف إلى هذا الحد لكان من المُمكن تقبل تخيله، لكنه يستمتع بما يفعله ويستمر معه حتى النهاية ليكتب: "بائع الكتب القديمة هو نفسه سائق التاكسي المُهترئ. يعمل في الصباح سائقا، وفي المساء بائعا. الأمر بسيط ومنطقي جدا. هل تراه أنت غريبا أو خرافيا؟"، كما أنه سيظل يتساءل عن السبب الذي جعله يضحي بالورقة النقدية اليتيمة حتى أنه سيعود إلى بيته ماشيا بسبب إنفاقها في مُقابل هذا الكتاب.

لعلنا نلاحظ حتى الآن أن تخيل الروائي مُجرد أمر عادي لكاتب يضع في رأسه سيناريو وصول روايته إلينا- كقراء- لكنه سرعان ما يُدهشنا بهدم كل ما سبق أن ذهب إليه وحاول تخيله بوضع احتماله الثاني الذي ينفي كل ما سبق ويبدأ من البداية مرة أخرى لتخيل وصول روايته إلى أيدينا؛ فيكتب: "الاحتمال الثاني: كنت تتسكع في شارع س وأنت تحمل بقايا سيجارة في يدك وورقة نقدية رخيصة في جيبك. تسكعت طويلا رغم الحرارة والرطوبة، فأنت لا تختلف عن مُعظم المواطنين الذين يشعرون بأن شيئا ينقصهم إذا لم يقوموا بهذا الطقس اليومي: الطواف عند الشارع س مرة واحدة في اليوم على الأقل. وهذا التفكير المُشترك، أو لنقل الاتفاق الجماعي غير المُعلن، هو ما يجعله مُكتظا طيلة النهار. دعنا نتفق على أن طوافك اليوم، وعلى غير العادة، لم يكن اعتباطيا؛ إذ كنت تذرع الشارع ذهابا وإيابا، من أعلاه إلى أسفله، ثم من أسفله إلى أعلاه، وتقف عند واجهة كل محل بحثا عن هدية مُناسبة بمُناسبة عيد ميلاد سمّونة، خطيبتك التي أضافت اليوم إلى عمرها سنة كاملة"، أي أن سياق الحدث قد اختلف تماما، وأضاف إليه الكاتب شخصيات جديدة يفترض أنها لا علاقة وثيقة بنا كقراء- رغم أنها شخصيات روايته التي سنراها فيما بعد- وسنعرف أنه قد توقف أمام إحدى المكتبات، وفكر أن يشتري كتابا كهدية لخطيبته لعدة أسباب: أولا: أن الكتاب لن يكلفه كثيرا من المال لا سيما أنه لم يقبض راتبه منذ ثلاثة أشهر، وثانيا: لأنه لا يحب القراءة في الأساس، وأنه غير مُتعلم ولا علاقة له بالكتب؛ الأمر الذي جعل والدة خطيبته تعترض على خطبتهما لا سيما أن حماته/ مبروكة دكتورة جامعية؛ وبالتالي فقد رأى أن هديته هذه لابنتها هي نوع من الغزل لأمها كي ترضى عنه! لكنه سيُفاجأ حينما يقابل خطيبته بثورتها عليه، ورفضها هديته، وحين يبرر لها السبب ستتركه غاضبة مُخيرة إياه أن يذهب بهديته إلى أمها ما دام حريصا على إرضائها.

يُفاجئنا الروائي في نهاية هذا الاقتراح بالتفاته إلينا كقراء ليكتب: "مجرد اقتراح: لا أريد أن أتدخل في حياتك الشخصية، لكن لِمَ لا تفكر في تغليفه وإهدائه للسيدة مبروكة؟ بعد خمسة أيام، خمسة أيام فقط، ستضيف إلى عمرها سنة كاملة"! إن هذا الالتفات من الكاتب إلينا كقراء يؤكد لنا أنه مُستمتع أيما استمتاع بمُمارسة لعبته الشهبية بالبازل في البناء والهدم، أو إعادة تشكيل المشهد وتبادل المواقع فيما يفعله بالشخصيات، لكنه لا يكتفي بذلك، بل يضع احتمالا ثالثا لكيفية وصول الرواية إلينا يعمل فيه جاهدا على تغيير مواقع الشخصيات التي رأيناها في الاحتمالين السابقين، مُغيرا من الأحداث التي أدت إلى ذلك.

يستمر الروائي مُستمتعا فيكتب: "الاحتمال الثالث: أحيانا، تقودك قدماك إلى أماكن ليس فيها سقف لاحتمالات الأنواع البشرية التي يمكن أن تلتقيها هناك. هذا ما حدث معك، وأنت تجدك بعد مُنتصف ليل ما، في حانة ما، تقع على الأرجح في إحدى الأزقة الضيقة المُتفرعة عن الشارع س. لا أريد أن أفكر كثيرا في السبب أو الأسباب التي قادتك إلى هناك. أفضل أن أعتبرك مُجرد زبون موسمي، من النوع الذي لا يأتي إلى هذه الأمكنة إلا مرة واحدة في الشهر، في نهايته تحديدا، عندما يقبض على مُرتبه. أفعل ذلك وأنا أعرف أن الأمر عسكي في حالتك. فأنت لم تقبض مُرتبك منذ ثلاثة أشهر، وهذا سبب كافٍ لمجيئك. هنا بإمكانك أن تنسى، ولو لساعات قليلة كابوسك الرئيسي، والكوابيس الثانوية التي تتفرع عنه"، يستمر الكاتب في احتماله الثالث لنعرف أنه سيتناول الكثير من الكحول بشكل مُفرط، كما سيكون هناك أحد الأشخاص جالسا وحده يعب من الشراب بشكل غير طبيعي، ويتخيل أن هذا الرجل هو موحوش، أخوه الذي هرب من البيت منذ سنوات، ويحدث أن يقوم موحوش وقد بلغ به السُكر مبلغه؛ فنقرأ: "يُخرج من محفظته مجموعة كتب. يصرخ: هذه كتبتها في المرحاض، لكنها أهم منكم جميعا يا عديمي الكرامة. يصفكم أنتم الجالسين في الحانة، كلكم وبلا استثناء، بالجهلة التافهين، وبأنكم مُجرد بهائم قذرة وحشرات حقيرة. يهدد بفتح سحاب سرواله ليتبول عليكم واحدا واحدا، ثم يتراجع. يقول إنكم ستقدرون قيمته وقيمة كتبه يوما. يصفق الملك فتفعل حاشيته مثله، لا ينتشي موحوش بالمشهد طويلا، إذ يهوي على الطاولة، ومعه كتبه التي تتساقط بين يديك. ومُجددا، تقابلك المرأة الشاردة ذات الشعر الأحمر القاني وخيط القهوة المُتدفقة من فنجانها. تُدقق في صورته واسمه اللذين على ظهر الغلاف".

ربما كان لا بد لنا هنا من التوقف هنيهة أمام هذا الاقتباس من الاحتمال الثالث في كيفية وصول الرواية إلينا؛ لأننا سنلاحظ أن الكاتب قد هدم الاحتمالين السابقين وأحداثهما وشخصياتهما ليبدأ في بناء مشهد جديد بأحداث مُغايرة مع تبادل المواضع للشخصيات، وكأنه يعيد الترتيب في لعبة من ألعاب البازل؛ فالرجل الكاتب داخل الاحتمال الثالث قد بات موحوشا/ شقيقه الذي هرب من البيت صغيرا، رغم أن موحوش في الاحتمال الأول كان صديقه الذي لم يره منذ تركا الخدمة العسكرية، كما سنلاحظ أيضا أن كتاب موحوش حينما وصل إليه تأمل الصورة التي على غلافه التي تحتوي على امرأة شاردة حمراء الشعر، وتصب القهوة المُتدفقة من فنجانها، فإذا ما أغلقنا الرواية التي بين أيدينا، والتي كتبها محمد علاوة حاجي سيتضح لنا أنه يصف غلاف روايته، أي أنه حريص على التماهي بين الكتاب الذي كتبه موحوش، وبين روايته، بما أنه كان حريصا منذ البداية على التماهي بين عالمه الروائي وبين عالمنا نحن الواقعي فأدخلنا في طيات سرده باعتبارنا شخصيات روائية تتعامل مع شخصياته الروائية الفعلية التي ستستمر معنا حتى نهاية العمل الروائي.

ألا يدل ذلك على استمتاع الروائي هنا باللعب المُتماهي مع الواقع كي يضحى الواقع والخيال عالما واحدا يستطيع من خلاله البناء والهدم، وإعادة التشكيل كيفما يحلو له حتى أنه يضع لنا بعد هذه الاحتمالات الثلاثة احتمالا فرعيا؟

نقرأ في احتماله الفرعي: "أنت تُحسن القراءة. في هذه الحالة، يُفترض أنك قرأت كل ما هو مكتوب إلى حد الآن. بإمكانك إذن أن تتصل بالكاتب وتُسمعه مقدار صفحتين من الشتائم، أو تبعث إليه برسالة شنيعة عبر بريده الإليكتروني المدوّن على الصفحة الأخيرة. بإمكانك أيضا ألا تفعل شيئا، وتكتفي بقلب الصفحة، لتقرأ تتمة هذا الفصل البائس"! إن حاجي بالفعل يضع بريده الإليكتروني على الصفحة الأخيرة، وإذا ما قلبنا هذه الصفحة سنقرأ: "تتمة الفصل صفر" كما أشار في الاقتباس، إذن فهو لا يعنيه القارئ هنا بقدر ما يعنيه الشكل الفني الذي اختاره لكتابة روايته، وهذه اللعبة التي يلعبها معنا قبل الدخول إلى عالم روايته في الفصل الأول، رغم أن الأمر ليس بهذه الحدة والقطيعة والصرامة في حقيقته؛ لأننا بالفعل في الفصل صفر كنا قد دخلنا إلى عالمه الروائي بمُعاشرتنا لشخصيات سمّونة، ومبروكة، وموحوش، ومقران/ سائق التاكسي وبائع المكتبة، الذين هم شخصيات العمل الروائي بأكمله، وهو في تقديمه ذلك إنما يؤكد على أن جميع الشخصيات تتبادل مواقعها وأدوارها داخل العمل؛ فمقران مثلا ليس دائما مُجرد سائق للتاكسي، ولا بائع في مكتبة، بل سنقرأ: "سائق التاكسي، بائع التُحف القديمة، قابض الحافلة، موزع البريد، المعلم، الطبيب النفساني، مُقدم النشرة الجوية وآخرون. الناس كلهم، أو مُعظمهم في حقيقة الأمر، ليسوا سوى مقران. بالنسبة لسمّونة ومبروكة، لا يختلف الأمر كثيرا. لكن، عليّ أن أفهم أمرا هاما، وهو أن موحوش غير موجود إلا في رأسي، سمّونة أيضا ومبروكة وجدي والصرصور الكبير الذي أصبح بحجم كبش، ثم بحجم فيل، ومقران، ومُفتش التربية، والطبيب النفسي"، أي أنه لا يوجد يقين مُطلق في هذا العالم، بل شك دائم تجاه كل شيء، وأي شيء، وعلينا تقبل أن تكون الشخصيات في أي دور يحلو للكاتب أن يضعها فيها؛ فالأهم هنا هو استكماله لسرده من خلال العالم الذي اختاره ليكون مجال هذه الرواية.

علاوة حاجي
ثمة مُلاحظة لا يمكن تجاوزها أو إغفالها في العالم الروائي الذي يخوض فيه الروائي الجزائري محمد علاوة حاجي، وهي أن العالم أو الحدث الروائي لديه يكاد أن يكون استاتيكيا/ متوقفا لا يتحرك بسهولة، وهو في هذا الركود الظاهري الذي يعمد الروائي إليه بقصدية يمتلك حركته الديناميكية في داخله، وهي الحركة التي لا يمكن مُلاحظتها بسهولة إلا من خلال التلاعب السردي الذي يلجأ إليه؛ فهو يعمد إلى إيقاف الحدث من أجل إعادة تشكيله عدة مرات، أي إعادة هدمه وبنائه بالشكل الذي يراه مُناسبا لشخصياته، وتبعا لما خطط له، سنُلاحظ هذا بشكل بيّن على سبيل المثال حينما تفكر الشخصية الرئيسية في الرواية عبور الطريق من أجل الوصول إلى خالته مبروكة- التي كانت في أحد الاحتمالات السابقة حماته- فحينما يتوقف على جانب الطريق مُنتظر تاكسيا ليقله إليها يشعر بأنه قد توقف به الزمن على هذه اللحظة لسنوات طوال، حتى أنه يظن أنه حينما سيصل إلى خالته مبروكة ستكون قد شاخت كثيرا بسبب انتظارها له بينما هو متوقف على جانب الطريق في انتظار سيارة، لكنه حينما ييأس من توقف أي سائق له يبدأ في التفكير من أجل عبور الطريق، ولعلنا نلاحظ أن الروائي توقف بشخصيته طوال هذا الفصل عند هذه النقطة التي لم يغادرها بسهولة، وهو في هذا التوقف يعيد تشكيل المشهد غير مرة فاتحا الباب لجميع الاحتمالات المُمكنة التي تنطلق جميعها من لحظة توقفه على جانب الطريق؛ لذلك يكتب: "ولكنني سأقطع الطريق السيّار. لا يدور في رأسي غير أمر واحد: أن أعبر، بأقصى سرعتي، بين السيارات المارة بأقصى سرعتها، جيئة وذهابا. أعبر كأن شيئا لم يكن. كأن شيئا لم يمر بينها. لا يفصلني عن كل واحدة منها سوى نصف مليمتر ونصف جزء من الثانية. وحينها سأجدني هناك، في الجهة المُقابلة، أكثر قُربا من خالتي مبروكة. عدا ذلك، كل الاحتمالات الأخرى مُستبعدة، تقريبا".

هنا يبدأ الروائي في معاودة اللعبة المُمتعة التي سيبدأ القارئ نفسه في الاستمتاع بها مع الكاتب، أي أن التماهي بين القارئ والكاتب يصل إلى ذروته حتى أن القارئ من المُمكن له أن يبدأ في فتح باب للاحتمالات التي لم يكتبها الكاتب نفسه فيتشاركان في صناعة العمل الروائي؛ فنقرأ: "الاحتمال الأول: تصدمني السيارة الأولى؛ فينسحق جسدي تحت عجلاتها الدائرة بسرعة مائة وستين كيلو مترا في الساعة. الاحتمال الثاني: تصدمني السيارة الأولى، وتقذف بي إلى مكان غير بعيد، عند حافة الطريق الذي يصل الشرق بالغرب، تحديدا إلى نقطة البداية التي أقف فيها الآن. أسقط واقفا على قدميّ مثل هرّ. أجدني مُعافى تماما، وحينها سيكون عليّ التفكير في الاحتمالات المُتبقية. الاحتمال الثالث: تصدمني السيارة الأولى، وتقذف بي إلى السيارة الثانية التي تقذفني إلى السيارة الثالثة التي تقذفني إلى الرابعة التي تقذفني إلى الخامسة التي أنتهي مطحونا تحت عجلاتها الدائرة بسرعة مائة وستين كيلو مترا في الساعة، أو لنقل بسرعة مائة وعشرين. الاحتمال الرابع: تصدمني السيارة الأولى، وتقذف بي إلى السيارة الثانية التي تقذفني إلى السيارة الثالثة التي تقذفني إلى الرابعة التي تقذفني إلى الخامسة التي تقذفني، مثل غطاء قارورة مياه غازية في أوج احتقانها، إلى الرصيف. أسقط واقفا وأجدني مُعافى تماما؛ فأنفض ملابسي وأكمل وجهتي، وقد أصبحت خالتي مبروكة قاب شارعين أو أدنى. الاحتمال الخامس: تصدمني السيارة الأولى، وتقذف بي إلى.. أية لعبة سخيفة هذه؟"، هنا ينتبه الكاتب إلى أنه قد قضى حوالي إحدى عشرة دقيقة في هذه الاحتمالات التي تنفي بعضها البعض؛ لذلك يبدأ في تحريك الحدث تحريكا بطيئا حينما يتخيل نفسه قد ذهب إلى خالته مبروكة لينفتح باب الاحتمالات مرة أخرى حينما تراه بعد هذه الفترة الطويلة، كما لا يفوتنا هنا أن الكاتب يحرك شخصياته تماما كما نرى في أفلام التحريك، أو أفلام الكارتون التي تُقدم للأطفال؛ فنرى الشخصيات في هذه الأفلام يتم دهسها مثلا تحت إحدى السيارات، ولا تلبث أن تنهض لتمارس حياتها بشكل طبيعي.

إذن، فنحن أمام رواية مفتوحة على كل الاحتمالات، هذه الاحتمالات لا تخص كاتبها فقط، بل يتشارك معه فيها قارئه أيضا- بما أن القارئ هنا قد بات شخصية من الشخصيات الروائية منذ الصفحة الأولى، وبما أن السارد في الرواية هو القارئ نفسه من خلال لعبة التماهي التي بدأها الكاتب لنتواطأ معه فيها- لكن هذه الاحتمالات التي يعتمد عليها الكاتب في لعبة البناء والهدم يستخدمها، عامدا، في إرباك القارئ- المُشارك له- فيختلط عليه الأمر وكأنما الروائي هنا يرغب رغبة حقيقة في السخرية من قارئه والضحك عليه- تماما كطفل يمارس لعبته السحرية أمام الآخرين- وهو الأمر الذي سيجعل القارئ يتراجع خطوة للخلف لحين تدارك ما حدث بعد الإرباك المُتعمد، ثم لا يلبث أن يعود إلى مُشاركة الكاتب مرة أخرى.

هذا الإرباك الذي يتعمده علاوة حاجي نقرأه في: "لا يمكن أن يكون الأمر محض صُدفة. عندما تتكرر الأشياء نفسها بالتفاصيل نفسها، لا يصبح ثمة مكان للصدفة. ثمة خطأ ما إذن، دعوني أفكر في الأمر. الاحتمال الأول: لا يوجد طريق سريع، ولا بطيء. لا وجود لسيارات آتية أو ذاهبة أو متوقفة. حتى ممر المُشاه غير موجود. كل ما في الأمر هو مساحة من التراب أو الرمل، وأنا أعدو فيها كجحش يثير الغبار وانتباه الناس. الاحتمال الثاني: الطريق في مكانه، وممر المُشاه أيضا. السيارات ذاهبة وآتية بأقصى سرعتها. أما العنصر غير الموجود في القصة كلها فهو أنا. من الواضح أنني غير موجود، وإلا لصدمتني تلك السيارات وأنا أروح وأجيء بينها. بالطبع، لا يمكنها أن تصدم شخصا غير موجود. في هذه الحالة فإن خالتي مبروكة غير موجودة هي الأخرى. سمّونة أيضا، وموحوش الذي اختطفها مني، ودزينة الأطفال التي ترتبت عن ذلك، ومقران أستاذ العلوم الشرعية. في كلا الاحتمالين، ثمة احتمالان لا ثالث لهما"، ثم يستمر الروائي في احتمالين جديدين مُتفرعين عن الاحتمالين السابقين.

ألا نلاحظ هنا أن الروائي قد عمد إلى إرباك القارئ ومحو كل ما سبق أن كتبه في روايته؟ فالفصل الأول الذي استمر طوال ثلاث عشرة صفحة مُثبتا فيه الحدث على لحظة وقوفه على جانب الطريق راغبا في الذهاب إلى خالته، وحريصا فيه على بناء العديد من المشاهد والاحتمالات التي سرعان ما يهدمها، يعود الكاتب في نهاية الفصل من أجل هدمه بالكامل، بل وهدم الفصل صفر الذي سبقه، راغبا في البداية من جديد تماما بنفس الشخصيات ولكن في مواقف وأحداث أخرى مُختلفة؛ مما يؤدي إلى إرباك القارئ معه.

قد يتساءل البعض: ما الذي يقصده الكاتب من كل هذا العبث؟ لم كل هذه الفوضى التي يصنعها من دون هدف؟

الحقيقة أن الكاتب هنا لا يعبث، ولا يعمد إلى صناعة فوضى مجانية، بل هو يمارس شكلا روائيا خطط له كثيرا قبل البداية فيه، وهذا الشكل الروائي يكاد أن يكون مُمتعا بالنسبة له وللقارئ معا، كما أنه ساق في طيات سرده ما يؤكد عدم عبثية ما يفعله؛ فهو يبث بين ثنايا سرده العديد من الإشارات التي تُدلل على الحالة السيكولوجية لشخصيته الروائية، وإن كان يحرص على عدم التصريح بها، نرى ذلك في: "ما لم يُكتب على البطاقة، هو أنني لا أنام مثل البشر. أقصد أنني لا أنام إلا نادرا، وهذا أحد أوجه غرابتي. فاستسلامي للنوم يعني أنني أمنح فرصة ذهبية للكوابيس المُتربصة بي طيلة اليوم لتُطبق عليّ. لا أستسلم له بسهولة؛ فأنا عنيد بطبعي، أقاوم، أُمانع، أستعين بكوب قهوة ضخم. آخذ ثلاثة أقراص من دواء مُضاد للنوم، ثم أنام"! إن هذا المقطع يُدلل على أن ثمة خلل ما في سيكولوجية الراوي وإن لم يصرح به؛ فهو يرى العديد من الكوابيس في نومه، مما يجعله يمتنع عن النوم لأطول فترة مُمكنة، وهذه الكوابيس- في حد ذاتها- دليل عدم صحة نفسية، لكن الروائي يعود مرة أخرى في موضع آخر من الرواية إلى إشارة جديدة عن صحته النفسية ليقول: "تعتقد أنني مجنون؟ لا ألومك. الحقيقة أنني لم أُقنع نفسي بالمجيء إليك إلا بعد أن أقنعتها بأنني مجنون حقيقي، أو أكاد أكونه. في العادة، لا يأتي إليك غير المجانين. أو على الأقل، أولئك الذين تستحوذ على عقولهم أفكار مجنونة. ربما ليس ثمة فرق بين الحالتين. أيا كان، عليك أن تتحمل كل هذا، ما دمت ستقبض أجرة في نهاية المُقابلة. لكن إياك أن تصدق أنني أقنعت نفسي بالمجيء إليك، فقط، لأقص عليك حكايات جدي وعصاه. أسوأ ما في الأمر لم يأت بعد".

هذا الحديث الذي تتحدثه الشخصية الروائية الرئيسية في الرواية يتم توجيهه إلى طبيب ما، ومن الواضح أنه طبيب نفسي، أي أن الشخصية هنا تعاني من خلل نفسي واضح، وهو يدرك جزءا منه، وإن كان غير قادر على إدراكه كلية، لكننا سنُلاحظ أن الروائي حريص على عدم التصريح بالأمر وتأكيده للقارئ، بل يشير إليه من بعيد فقط؛ ليظل الأمر دائما في مجال دائرة الشك والارتياب، وهما الإحساسان المُحيطان بالعمل الروائي منذ الفقرة الأولى منه؛ بسبب عمدية الروائي لذلك، وكأنه يقول لنا: لا يوجد يقين واحد في هذا العالم؛ فكل شيء قابل للشك والارتياب، وإعادة بنائه وتشكيله مرة أخرى.

اختلال الصحة النفسية الذي نستشعره لدى الشخصية الروائية هنا قد يتحول إلى حالة ترجيحية بين الشك واليقين بأنه مُصاب بفصام نفسي حينما نقرأ: "رُحت أقدم له الطعام صباح مساء، وراح يكبر، ويكبر، حتى تجاوز الحجم الطبيعي للصراصير. وعندها، أيقنت أنني أمام صرصور غير عادي. صرصور بتّ أخافه، ربما أكثر مما يخافه جدي نفسه. كبرت، وأصبحت في هذا العمر. وكبر الصرصور أيضا. أصبح بحجم الأرنب، ثم بحجم خروف. عندما أصبح الصرصور بحجم خروف تقريبا، اختفى جدي. طرحت فرضيتين لهذه القضية: الأولى: رحل إلى بيت آخر في مدينة أخرى، وتزوج امرأة أخرى. الثانية: مات. بجلطة دماغية مثلا. لا أذكر أنني رأيته ميتا، أو حضرت جنازته. لكن هذا لا يُقلل من الفرضية. مات جدي، لكن الصرصور لم يمت. لم يبق في البيت غيرنا: الصرصور وأنا. أصبح بحجم خروف. والآن صار بحجم فيل. تخيل صرصورا بحجم فيل. أليس الأمر مُريعا؟ لعلك لا تصدق. بإمكانك أن تأتي معي إلى البيت وتشاهده بأم عينيك. مات جدي. كبر الصرصور. أصبح بحجم الفيل. أما أنا فسأصاب بالجنون. هذا إن لم أكن قد جُننت فعلا. أرجوك، صارحني يا دكتور، هل أنا مجنون؟". إذن فالشخصية الروائية التي تحكي هذه الهلاوس والتخيلات للطبيب ليست سوى شخصية مُعتلة نفسيا بالفعل، وهي هنا لا بد لها أن تكون مُصابة بالفصام الذي يجعلها أكثر من شخصية، وهنا يتضح لنا السبب في أن الشخصيات ليست في موقع واحد طوال أحداث السرد، بل هي تتبادل أدوارها ومواقعها بين فصل وآخر، وأحيانا داخل الفصل الواحد أيضا؛ لأن الشخصية الساردة ذاتها شخصية مُتشظية إلى العديد من الشخصيات المُختلفة، وهذا أيضا يفسر لنا إعادة البناء والهدم غير مرة، بل وتشكيل السرد على أكثر من وجه، وأكثر من احتمال.

محمد علاوة حاجي
لكن، ولأن الروائي هنا يرغب في مواصلة مُتعته الروائية التي تقوم على البناء والهدم؛ فهو يهدم لنا هذه الاحتمالية بعدما كدنا نتقين منها، بل ويذهب إلى أن الجنون هو مُجرد قرار تتخذه شخصياته حينما ترغب في ذلك، وهو ما يؤكده بعد ذلك مُباشرة حينما يكتب: "في المقهى التقيته مُجددا، موحوش، بدا لي مُختلفا. وقبل أن يتسلل إلى الخارج، هاربا من دفع الحساب همس في أذني: لدي خبر لك، لقد جُننت. فعلت ذلك قبلك، ولا أحد أراد تصديقي. هذا سيثير بعض المتاعب، لكن لا يهمني الأمر، المُهم أنني جُننت وكفى. بإمكاننا أن نصبح صديقين إذن. طبعا، طبعا. لكن أخبرني لماذا قررت، فجأة، أن تصبح مجنونا؟ ليس ثمة سبب واضح، أقصد أن هناك الكثير من الأسباب التي تدفع بالمرء إلى الجنون، أعتقد أنني تأخرت. أبدا، ما زلت صغيرا يا رجل، والعمر كله أمامك، كيف وجدت الأمر؟ مُسليا، لكن المُشكلة أنهم لا يأخذون الأمر على محمل الجد. لا شيء يأتي بسهولة يا صديقي، ثمة ثمن يجب أن ندفعه دائما، لكنني أريد سماع أسبابك، هل هي مُقنعة؟ لا أعرف. فيم تفكر الآن؟ في الهروب، وأنت؟ في القفز". إن الروائي من خلال هذا المقطع إنما يعيد القارئ مرة أخرى إلى النقطة صفر، أو إلى حالة من العبثية التي تحيط بكل شيء في هذا العالم الروائي؛ فالجنون هنا مُجرد قرار من المُمكن لنا أخذه بسهولة وإخبار الآخرين به، كما أن موحوش الذي عرفنا فيما قبل أنه صديقه، لم يعد صديقه؛ لذلك يطلب منه السارد أن يكونا صديقين حينما عرف بقراره لأن يكون مجنونا، وسنلاحظ أنهما يعانيان في اتخاذهما لهذا القرار بأن الآخرين لا يأخذون الأمر على محمل الجد، أي أن قرارهما في حد ذاته يكاد أن يكون قرارا عاقلا لا يتخذه سوى العقلاء أنفسهم، وليس المعتلون نفسيا! لكن الروائي هنا حريص على إنهاء الفصل برغبة السارد في القفز، وهو قراره الجديد الذي سيتخذه. هذا القفز الذي ذكره في نهاية الفصل هو ما سنفهمه في الفصل التالي؛ فهو راغب في القفز من فوق الدور السادس في البناية الجالس فيها، وهي البناية التي رأيناه يجلس على سطحها في الفصل صفر من الرواية.

هنا يصل الروائي محمد علاوة حاجي بشخصيته الفصامية إلى ذروتها، وهو ما سيؤكد لنا هذا الفصام حينما يقول: "على الأرجح، بل من المؤكد، أن الشخص الذي يهم بالقفز من على سطح العمارة المُهترئة المُؤلفة من ستة طوابق، هو أنا. شيء واحد يجعلني مُتأكدا من ذلك: هذه الملابس التي أعرفها جيدا. هذا القميص الأسود الشاحب لي، وسروال الجينز الأزرق المُغبّر لي، وذلك الحذاء الرياضي الأبيض المُتسخ لي. أذكر أنني اشتريته، الحذاء، من المحل س قبل ثلاث سنوات بالضبط. كان موضة دارجة في تلك الأيام. الشخص الذي يهم بالقفز من على سطح العمارة المُهترئة المُؤلفة من ستة طوابق، قد لا يكون أنا. قفز احتمالان إلى رأسي للتو. الأول: أعرت ملابسي لمعتوه ما، وها هو يهم بالقفز من هذا العلو الشاهق بها. أخشى في هذه الحالة، أن يتم استدعائي للتحقيق في مُلابسات الحادث. كان عليه أن يعيد لي أغراضي، على الأقل حتى لا أخسرها عندما يموت. الثاني: سرقها مني أحدهم. تسلل إلى شقتي أو أخذها وهي مُعلقة على الشرفة. اختلسها مني وأنا أسبح، في المسبح أو في البحر. ولكم أن تحدسوا بما حدث بعد ذلك. دعونا من هذا ولنتفق على أنني من يقف على سطح العمارة. حينها سيكون أمامي خياران: الأول: أن أصعد إليّ، وأحاول إقناعي بعدم القفز من ذلك العلو الشاهق. أستبعد أن أسمعني، فمن الواضح أني مُصمم على المضي في القرار. الثاني: أن أنضم إلى كوكبة المارين الذين سيجتمعون بعد قليل، مثل كمشة جعارين عثرت على روثة بقرة طازجة، وأقف بينهم. أرقبني بقليل من الحذر، وأردد معهم الأسئلة التي لا تحمل كثيرا من الحيرة: هل سيفعلها؟ لماذا يريد أن يفعلها؟ هل سأفعلها؟ لماذا أريد أن أفعلها؟".

ألم يصل الروائي هنا بشخصيته إلى ذروة فصامها النفسي، حتى أنه سيتأكد لنا أن كل ما كان من سرد هو مُجرد هذيان شخص فصامي؟ هذا الفصام ستعترف به الشخصية الساردة بالفعل حينما يقتل زوجته لأنها لا تضع له الكثير جدا من الملح في الطعام كما يحب؛ فيضطر دائما إلى ضربها، لكنها حينما فعلت ووضعت له ما يريده من كمية كبيرة من الملح رأى أنها زائدة جدا عن الحاجة، وقذفها بمطفأة السجائر الكريستالية التي استقرت في رأسها فماتت: "جثة امرأة مُمددة أمام مرمدة مُبقعة بالدم، وقطة بيضاء سمينة تموء داخل تلافيف دماغك. تلك القطة ستصيبك بالجنون. هذا أنت، الشخص ذاته. الكهل غريب الأطوار، الذي يعاني حالة مُتأزمة من انفصام الشخصية، الذي لا ينام كبقية البشر. إن لم تكن هو، فأنت تشبهه"! أي أن السارد هنا رغم اعترافه بالفعل بأنه مُصاب بالفصام ليفسر لنا في النهاية كل ما قرأناه من ارتباك سابق، يعود في نهاية حديثه ليحاول إرباكنا ونفي يقيننا بقوله: "إن لم تكن هو، فأنت تشبهه"!

لكن، هل سيظل الكاتب على هذه الحالة من التلاعب الأبدي بنا؟ بالتأكيد لا بد أن يتبادر هذ التساؤل إلى أذهاننا، لا سيما أن الحالة، والعالم الروائي اللذين وضعنا الروائي فيهما يتيحان له الاستمرار للأبد مُمارسا ألاعيبه السردية التي لا تنتهي، إلا أن الروائي يدرك هنا أن العمل الروائي لا بد له من نهاية، لكنه ينهيه تاركا إيانا في منطقة ضبابية ما بين الشك واليقين، غير راغب في أن يصل بنا إلى أرض ثابتة ليكتب: "عند المُنعطف، رأى مبروكة وابنتها سمّونة جالستين على الأرض. تتسولان صدقات المارة كعادتهما، البائستان. أرمي إلى صحنهما الفارغ ما تبقى من أوراق موحوش، ثم أهم بالمُغادرة. تتشبث سمّونة بي: خذنا معك. لكنني سأقفز من الطابق السادس. تقولان بصوت واحد كما في مسرحية: سنقفز معك. المعتوهتان، تظنان الأمر مزحة. أنفلت منهما وأمضي إلى وجهتي، وحين أصل، أجد جمعا غفيرا من الفضوليين مُجتمعين، بينهم سمّونة ومبروكة وموحوش ومقران. أجلس على الحافة وأنا ألتهم سجائري، واحدة تلو الأخرى، في استرخاء تام. أرقبهم ويرقبونني. يصلني ضجيجهم. اعتدت أن أرى شخصا يهدد بالقفز، لكني لم أر من قبل حشدا يفعل ذلك. إنهم يريدون إنهاء هذه المهزلة بمهرجان من القفز. لكن، لماذا يريدون فعل ذلك؟ ما زلت أرقبهم، وما زالوا يرقبونني. الاحتمال الأول: أنا فوق، وجوقة المجانين تحت. الاحتمال الثاني: أنا تحت، أدخن وأرقب ببرودة مجموعة مجانين يهددون بالقفز من الطابق السادس. ما يحز في قلبي هو أن كل شيء سينتهي هكذا، الآن وهنا، دون أن تعرفوا ما إذا كنت فوق وهم تحت، أم أنني تحت وهم فوق. عزاؤكم الوحيد في كل هذا الهراء أني لا أعرف أيضا". ربما كان الاقتباس الأخير- وهو المقطع الأخير من الرواية- بمثابة الصدمة للقارئ الذي لن يخرج من الفخ الذي نصبه له الروائي محمد علاوة حاجي بمهارة وفنية وإتقان، عامدا إلى التلاعب بالسرد والقارئ معا؛ فهو لم يصرح- في حقيقة الأمر- بفصام السارد، وإن كان قد أشار إليه، ولم يغلق لنا نهايته لنعرف ما الذي سيفعله، وإن كان قد تركنا أمام احتمالاته.

إن رواية "في رواية أخرى" للروائي الجزائري محمد علاوة حاجي من الروايات القليلة التي تستمتع بفنيات السرد الروائي وتمارسه كلعبة مُمتعة ومُسلية في آن؛ فيظل يتلاعب بالعملية الكتابية والقارئ معا طوال الوقت، كما أن الروائي هنا نجح في تقديم رواية مفتوحة على كل الاحتمالات المُمكنة، وهي الرواية التي من المُمكن لمُتلقيها المُشاركة في كتابتها من دون أن يختل بنائها المُعتمد على الاحتمالات المفتوحة التي تتيح هدم كل ما كان وإعادة بنائه في سياق وبشكل مُختلف، ولكن، ليس معنى ذلك أن هذا الشكل الفني- بهذا المفهوم- مُجرد بناء مُهلهل فضفاض غير مُتماسك البنيان، بل هو في حاجة إلى الكثير من التركيز والمهارة والدربة لمن يتعرض إلى إعادة البناء والهدم أكثر من مرة.

لكن يبقى أن الروائي قد وقع في العديد من الأخطاء اللغوية التي باتت تتواجد في مُعظم الأعمال الروائية العربية؛ لذلك نراه حينما يستخدم فعل الأمر من "نظر" يكتب "أنظر" مُضيفا له همزة قطع، رغم أن الألف هنا ألف وصل؛ لأن الفعل بمثابة الأمر من فعل ثلاثي الأصل، ووضع همزة القطع له يجعله فعلا مُضارعا وليس فعل أمر، كما يكتب "سيحضون" بدلا من "سيحظون" مُستخدما الضاض كبديل للظاء، وهو من المشهور في اللهجات المغاربية وإن كان لا يصلح للاستخدام في سياق السرد الفصيح الذي استخدمه الكاتب فيه، كما يكتب "صغيرا أبله" بدلا من "صغيرا أبلها"؛ لأن الصفة تتبع الموصوف في الحركات، ويستخدم الاسم الموصول في غير ما يشير إليه فيكتب: "الطفلين الذين" وهو الاسم الموصول الدال على الجمع وليس المثنى، في حين أن الصحيح "الطفلين اللذين"، ويقع في الخطأ المشهور "تخرجت من الجامعة"، والصحيح "تخرجت في الجامعة"، وحينما يكتب "اضطررت" يكتبها بشكل خاطئ في "اضطرّت"، وهي من الأمور التي لا بد أن تجعل القارئ يشعر بالقلق أثناء قراءته، وكثيرا ما توقفه عن إكمال العمل الأدبي بسبب كثرة وقوع هذه الأخطاء، أو تفكيره فيها مُنشغلا عن عملية القراءة.

 

 

محمود الغيطاني
مجلة مصر المحروسة

7 يونيو 2021م