الثلاثاء، 1 يونيو 2021

آخر الكلام.. ماركيز في متاهته!

يحكي الروائي الكولومبي جابريل جارثيا ماركيز أنه حينما قرأ رواية "الجميلات النائمات" للروائي الياباني ياسوناري كواباتا أثناء رحلة جوية له على الطائرة؛ شعر برغبة عارمة في مُحاكاة هذه الرواية التي أعجبته كثيرا حتى أنه رأى ضرورة كتابة رواية على غرارها. أعجبته فكرة الرجال الذين بلغ بهم العُمر أرذله، والحالمين باجترار ذكرياتهم مع النساء طوال أعمارهم؛ حتى أنهم بات يكفيهم الدخول إلى غرفة تنام فيها العديد من الفتيات المُراهقات عرايا ليتأملوا عريهن فقط من دون مُمارسة الجنس معهن- وهو الجنس الذي ذوى في أجسام هؤلاء الرجال وتبخرت قدرتهم على مُمارسته- أي أنهم يحاولون من خلال تأمل المُراهقات العرايا إيهام أنفسهم باستعادة شبابهم، وحيويتهم، وقدراتهم الجنسية التي لن تعود إليهم مرة أخرى.

بالفعل يقوم ماركيز بكتابة روايته "ذاكرة غانياتي الحزينات"[1] عن رجل عاش حياته بطولها وعرضها؛ حتى أنه مارس الجنس مع 500 امرأة، كان يدون اسم كل امرأة منهن في دفتره، وحينما بلغ الرجل التسعين من عُمره رغب في قضاء ليلة مع مُراهقة عذراء؛ لذا قام بالاتصال بالقوادة روسا كباركاس التي كان كثيرا ما يلجأ إليها من أجل توفير النساء له، وطلب منها مُراهقته العذراء التي يحلم بها، وهي ما وفرتها له المرأة، لكنها كانت تعطيها مُخدرا كي تنام طوال الليل خشية رُعب الفتاة من الرجل المُسن الذي لم يفعل معها أكثر من أنه كان يظل بجانبها في الفراش مُتأملا لجسدها العاري فقط من دون أي فعل.

ربما نُلاحظ في هاتين الروايتين- اليابانية والكولومبية- رغبة المؤلفين في التعبير عن مُجتمع ذكوري لا يمكن له بسهولة التخلي عن فكرة الفحولة الجنسية؛ لذلك فالرجل منهم حينما يشعر بأنه لم تعد لديه المقدرة على مُمارسة الجنس يكاد أن يصاب بالجنون، ولا يرغب في الاستسلام لآثار الزمن والعمر عليه؛ ومن ثم يحاول بشتى الطُرق استعادة هذه المقدرة الجنسية- رغم يقينه بأنها لن تعود- بأي شكل، لكنه الرجاء الذي يجعل أحدهم- حتى لو لم يكن منطقيا- يختار الجلوس إلى جانب مُراهقة عذراء عارية من دون أن يلمسها، صحيح أننا قد نلمح إلى جانب ذلك رغبة المؤلفين في الإشارة إلى الحُب العذري- وهو ما قد يدركه القارئ للوهلة الأولى- لكن موضوع الحُب العذري هنا مُجرد غطاء لتجميل رغبة الرجال في استعادة فحولتهم الجنسية، أي أن فكرة الحُب هنا لم تكن أصيلة وجوهرية داخل العملين بقدر ما كانت قناعا اجتماعيا تستتر من خلفه الرغبة المحمومة في استعادة المقدرة الجنسية لهؤلاء الرجال.

إن ما فعله ماركيز هنا هو إعادة إنتاج رواية وفكرة أعجبته من خلال أسلوبيته، وبيئته، ومفهومه الخاص، أي أن الأمر لم يكن من قُبيل السطو على رواية كواباتا، بل إعادة تدوير للفكرة بشكل آخر مُغاير وجديد رغم التشابه البيّن بين الروايتين.

هنا جاءت الروائية الجزائرية آمال بشيري التي قرأت رواية ماركيز وأُعجبت بها؛ فأرادت تمثلها من خلال أسلوبيتها ومنطقها الروائي الخاص بها، لكنها لم تفعل مثلما فعل ماركيز مع رواية كواباتا، بل أعطت لخيالها الفرصة للانطلاق على امتداده؛ فتساءلت عن مصير هذه الفتاة العذراء والرجل العجوز في المُستقبل، أي ما بعد انتهاء رواية ماركيز؛ من ثم عملت على سلخ الشخصيات خارج رواية ماركيز مُتأملة لمُستقبلهم وما يمكن أن يؤول إليه الأمر، وإن لم تكتف بذلك، بل جعلت ماركيز شخصية روائية أيضا داخل روايتها، يتحرك، ويفكر، ويتعارك، ويسافر، ويتناقش مع شخصيته الروائية- الرجل العجوز- أي أن بشيري هنا بدأت من حيث انتهى ماركيز، ولم تحاول مُحاكاته في روايته مثلما فعل هو مع رواية "الجميلات النائمات"، صحيح أن الروائية قد أشارت في الصفحة الداخلية الأولى- التي تحمل العنوان- إلى أن روايتها عن رواية ماركيز حيث كتبت بين قوسين "عن رواية ذاكرة غانياتي الحزينات"، لكن من سيقرأ الرواية سيفهم أنها قد أخذت شخصيات بعينها من رواية ماركيز لتتخيل حياتهم المُستقبلية وما يمكن أن يحدث لهم فيما بعد.

لم تكتف بشيري بإشارتها في العنوان إلى تأثرها برواية ماركيز، بل كتبت قبل الدخول في عالم روايتها وأحداثها: "تبدأ القصة حينما تخرج ديلغدينا من النص ليلا، هاربة نحو الصحراء، تأخذ لوحة لأورلاندو ريفيرا، "العزيزة فيغوريتا"، اللوحة الوحيدة التي علقها العجوز على الجدار القصديري، وزوج الأقراط الذهبية التي أهداها إياها ذات ليلة، يستيقظ العجوز العاشق مُرتعشا من كابوس مُرعب حين يرى نفسه مُخضبا بالدماء، ويحس قفصه الصدري يضغط على قلبه الضعيف وهو يركض في صحراء شاسعة، ديلغدينا. فلا يجدها إلى جانبه على السرير المُهترئ، عارية ونائمة في سلام ملائكي على جانب قلبها، والزغب الأصفر الناعم على ظهرها الصلب. يبحث عنها في أدق ركن في المدينة، وحتى في الميناء النهري، يبكي بمرارة على عشقه التسعيني، وأخيرا يسمع أنها رحلت في اتجاه الرمال المُتحركة التي لا تترك أثرا. يتهم غابرييل الذي أقحمه في نص غير منطقي، وأقحم الصغيرة ديلغدينا في عشقه المحموم على بضع ورقات بيضاء ليتركه لمصيره الجهنمي، يطالبه بإعادتها إلى النص، يتعاطف معه غابرييل المغرور بنصوصه الساحرة، يحاول منحه عشقا آخر في نص آخر، يرفض العجوز العاشق، لأنه رغم كل شيء فهو يحب دوره في النص ويتلذذ بعشقه المُستحيل، وهكذا تبدأ رحلة الرجلين بحثا عن الصغيرة ديلغدينا لتحويلها إلى جسد يتوهج رغبة، أو إلى روح تنبض بالحياة، أو على الأقل إلى ما كانت عليه، مُجرد اسم على ورق في رواية "ذاكرة غانياتي الحزينات".

إن هذا المُفتتح الذي بدأت به آمال بشيري روايتها كان خير افتتاح تبدأ به الرواية؛ فهو ليس من قبيل المُقدمات، ولا الشروحات التي قد يبدأ بها الكاتب نصه؛ فيفسده، بل كانت هذه البداية فيها من الذكاء، والتشويق، والدهشة، والإثارة، وإثارة التساؤل، ما يجعل القارئ مُستفزا، على أهبة الاستعداد للدخول إلى عالم الرواية الغرائبي الذي هربت فيه إحدى الشخصيات من نصها؛ لتلحقها شخصية أخرى من أجل إعادتها إلى النص، بل ويلحقهما الكاتب/ الروائي نفسه الذي كتب هذا النص في رحلة إعادة الفتاة مرة أخرى إلى قواعدها الأولى التي وضعها لها في روايته.

ربما لا بد لنا، هنا، من التوقف هنيهة لتأمل ما أقبلت عليه الروائية من أجل كتابة روايتها؛ فالكاتبة- التي سلخت الشخصيات من رواية ماركيز عن عالمها- تهدف إلى تتبع هذه الشخصيات في مُستقبلها بعد انتهاء رواية ماركيز، وهي في هذا التتبع المُستقبلي لا بد لها من استخدام خيالها بشكل مُقنع فيما ستكتبه، لكن يجب ألا يفوتنا أنها ستظل طوال سردها مُقيدة بعالم ماركيز، وشخصياته الأخرى، وعالمه الاجتماعي، والجغرافي، وثقافته، بل وبأسلوبيته أيضا- حتى لا تتباين في أسلوبيتها عن أسلوبية ماركيز نفسه- أي أنها هنا ترغب في إطلاق خيالها من خلال شروط لا يمكن لها الخروج عنها وإلا فسد عالمها الروائي الذي تطمح إلى كتابته، وهو ما يضعها في تحدٍ كبير قد تنجح فيه وتخرج برواية جديدة مُقنعة وجديدة، أو تفشل فشلا ذريعا؛ فتُنتج تجربة روائية مُتهافتة، وساذجة، ومُضحكة، فهل نجحت بشيري في ذلك؟

إن رحلة البحث عن الفتاة الهاربة من رواية ماركيز- أحداث رواية آمال- تحرص فيها الروائية على تقسيم العمل إلى ثلاثة أقسام تلجأ فيهم إلى الترقيم من دون إعطاء أي عناوين لكل قسم منهم، لكن سيبدو لنا هنا أن التقسيم مبني بشكل فيه وعي لأحداث روايتها؛ فالقسم الأول يتناول هروب الفتاة من الرواية وانزعاج الرجل التسعيني الذي وقع في عشقها رغم أنه لم يلمسها يوما؛ حتى أن حياته ستتحول إلى جحيم حقيقي يكاد أن يودي بحياته، فيبدأ في البحث عنها في كل مكان من أرجاء المدينة إلى أن يعرف بأن داني/ تاجر المتا الذي كثيرا ما سافر إلى بلاد العرب قد أخذ الفتاة معه وهرب بها إلى هناك. هنا يقرر العجوز قرارا مجنونا قد يبدو للوهلة الأولى مُجرد قرار أحمق بأن يبيع منزله الذي ورثه عن أبويه للحاق بالفتاة في بلاد العرب التي يتميز أهلها بالشراسة؛ من أجل استعادة الفتاة مرة أخرى والعودة بها، كما كان لا بد له من إقناع ماركيز/ الكاتب بالسفر معه من أجل اللحاق بالفتاة والتعرف عليها؛ فالروائي هو أكثر الناس دراية بها بما أنه هو الذي اختلقها من خياله منذ البداية، أي أن ذهاب العجوز وحده مُستحيل لأنه قد لا يتعرف على الفتاة إذا ما التقاها في بلاد العرب. بينما تتناول في القسم الثاني رحلة كل من الرجل التسعيني وماركيز على ظهر إحدى السُفن التجارية التي تشق عباب المُحيط الهندي، وهي الرحلة التي سيلتقي فيها الرجل التسعيني بأحد العرافين الهنود الذي سيخبره بأنه سيلتقي بالفتاة وسيقابلها، لكنه سيموت عشقا، كما يلتقي العجوز- في رحلته- بإحدى المُراهقات التي يعرف منها أنها قد اختارت السفر إلى بلاد العرب لأنها لا ترغب في الموت فقيرة، وبما أنها قد سمعت بأن بلاد العرب فيها الكثير من المال، كما أن رجالها يعشقون الفتيات الصغيرات؛ فلقد قررت السفر إلى هناك، وبما أنها صغيرة ستكون مُشتهاة منهم، وبالتالي فستربح الكثير من المال الذي سيجعلها تموت ثرية بعيدا عن حياة الفقر، لكن العراف الهندي سيمر بجوار الرجل التسعيني ذات مرة ويهمس له في أذنه بأن هذه الفتاة لن تصل إلى اليابسة، وهو ما يجعل التسعيني يقع في حالة من الاكتئاب لأن هذه الفتاة كانت تذكره بفتاته الهاربة منه، وبالفعل يصيب المُسافرين مرض غريب أشبه بالحمى لتموت الفتاة قبل وصولهم إلى بلاد العرب؛ مما يجعل الرجل التسعيني يلبسها ذهب أمه الذي كان قد ورثه عنها، ويكسوها بالقليل من المال قبل التخلص من جثتها في الماء، وبذلك لا تكون قد ماتت فقيرة. في القسم الثالث من الرواية يصل كل من ماركيز والرجل العجوز إلى بلاد العرب ذات الأبنية العملاقة التي تُشعر المرء بضآلته أمامها، وجوها الخانق بسبب الحرارة والرطوبة العاليتين، وهناك يبدآن البحث عن الفتاة، وحينما يصلان إلى أحد الملاهي الليلية لأهل الكاريبي يعرفان أن داني تاجر المتا زبونا دائما هناك، ومن خلال مُدير المكان ومالكه يتوصلان إلى الفتاة التي كانت تعمل كعاهرة لدى الشولو رامون الذي اشتراها من داني تاجر المتا، وحينما يراها العجوز لا يصدق هيئتها الجديدة التي يراها فيها؛ ومن ثم يصاب بأزمة لفقدانه الفتاة البرئية التي كان يعشقها ويموت أمامها، أي أنه قد مات عشقا بالفعل لتصدق نبوءة العراف الهندي على ظهر السفينة.

تحرص بشيري على وصف حال الرجل التسعيني- الذي اعتاد وجود الفتاة- بعدما هجرت النص فجأة وهربت، وهو الحال الذي أحال حياته إلى جحيم حقيقي يكاد أن يمزقه بقولها: "لم يعد يحتمل غياب الصغيرة ديلغدينا غير المفهوم بالنسبة له، بحث في الحانات النهرية عمن تركته فجأة، تألم في صمت، أغرقه في مرارة عمره التسعيني، وفي وحدته التي أصبحت بعدما عرفها عبئا لا يُطاق، إنه الصمت المُطبق الذي يخنق روحه، ويرجعه إلى السنوات الخوالي التي عرف خلالها ما يزيد عن 500 امرأة، نساء من كل لون، وبقصص كلها مُتشابهة في مساراتها، لكنها شديدة الاختلاف في تفاصيلها الصغيرة. كان يفكر في الاتصال بغابرييل لكي يبلغه بقراره حينما اسودت السماء، وبدأ المطر ينهمر بعنف. مطر حفز الحسرة في روحه، لم يعد سقف البيت يحتمل مياها أكثر ولا سنوات أكثر، شعر باقتراب النهاية، نهاية قصة كُتبت على ورق، وأدخلته جحيم العشق دون أي إرادة منه، شعر بالانهيار، فهو لا يريد ديلغدينا من أجله، وإنما من أجل سنواته التسعين، ومن أجل وحدته المُميتة، بكل صراحة كان يريدها أن تعود من أجل الحياة فقط".

لعل هذا الاقتباس يوضح لنا مدى اعتياد الرجل التسعيني على الحياة مع الفتاة الصغيرة التي عشقها حتى أنه يشعر بأن حياته تكاد أن تنسرب من بين يديه لمُجرد غيابها وهروبها منه إلى جهة غير معلومة، أي أن حياته قد باتت جحيما حقيقيا من دونها، وهو ما يحرك إرادته من أجل البحث عنها والعثور عليها، لأن مُجرد العثور عليها يعني الحفاظ على حياته التي يشعرها تنسرب من بين يديه.

إن هذا المأزق الواقع فيه الرجل التسعيني، وهو مأزق وجودي في حقيقته، يرغمه على التواصل مع ماركيز/ كاتب الرواية الذي خلقه هو وجميع الشخصيات الأخرى؛ ومن ثم تنشأ بينهما العديد من النقاشات والصراعات والاختلافات؛ فماركيز هو خالق العمل في الأساس، وبالتالي لا بد له من تحمل المسؤولية عن هذا المأزق الذي وضع فيه شخصياته، وعليه أن يصحح ما حدث؛ لذلك نقرأ: "اجتاز غرفة المعيشة بخفة لكي يرفع سماعة الهاتف وقلبه يكاد يخترق قفص صدره، أدار الأرقام التي حفظها فقط لأهمية صاحبها، وتسمرت أذناه وراء السماعة حتى جاءه صوت مبحوح من الطرف الآخر: ألو، غابرييل؟ اسمع، أنت من ورطني في قصتك التي لا تُناسب مقامي، ولا سني، ولا حتى قدرتي على الحياة، وأنت من سيحل مُشكلتي. جاءه صوت غابرييل هادئا ومُتعاطفا: ما بك؟ اهدأ وسوف أعيد إليك ديلغدينا، أكتب حاليا نصا جديدا من أجلك، نص ستعشقك فيه ديلغدينا، ولن تتركك للأبد. شعر العجوز بمرارة الاستهزاء، وفهم أن غابرييل يجاريه في خبله، فرد: لست مجنونا لكي أصدقك، لا أريد نصا جديدا، ولا ديلغدينا جديدة، أريد فقط استعادة صغيرتي إلى النص بأي شكل من الأشكال، فمن قال لك إنها مُجرد اسم على ورق؟ كان غابرييل يسمعه بتأن، ليس لأنه كان يشعر بالذنب نحوه، وإنما لأنه فعلا كان مُتعاطفا معه، لم يجد ما كان يجب أن يقوله له؛ لهذا أنهى المُكالمة دون أي تعليق". إن هذا الصراع الذي بدأ ينشأ بين كل من التسعيني/ الشخصية الروائية، وماركيز/ المؤلف هو ما يُكسب الرواية هنا طرافتها؛ فبشيري حريصة على التماهي بين الروايتين- روايتها ورواية ماركيز- والتداخل بينهما، والإيهام حتى أن ماركيز مؤلف الرواية الأولى يصبح هو بدوره مُجرد شخصية روائية داخل نصها الروائي، تحركه كيفما شاءت هي أن تفعل به- تماما كما يفعل ماركيز مع شخصياته الروائية- وتسيطر على مصيره كيفما يحلو لها.

هذا الصراع بين الرجل التسعيني وماركيز يستمر على طول الرواية؛ فتارة نراهما مُتفقين، وتارة أخرى مُختلفين مُتصارعين مع بعضهما البعض لا يطيق أحدهما وجود الآخر، وهو ما نراه في: "فكر أن يتصل بغابرييل ليخبره بما وصل إليه في بحثه عن ديلغدينا، كانت الشمس آخذة في الغروب بلونها الذهبي المُحمّر تماما مثل لون بشرة الصغيرة ديلغدينا، ذُعر لهذا التشبيه، وجرى نحو سماعة الهاتف الصامتة. لم ينتظر كثيرا ليرد عليه صوت غابرييل بتثاقل. ودون مُقدمة انهمك في سرد أخبار الصغيرة: لقد بدأت أعرف أخبارا جديدة عن الصغيرة. قاطعه غابرييل مُتأففا: هل أنت جاد فعلا؟ أرى أنك صدقت القصة التي صنعتها لك، هيا يا عجوز تعقل. لم يجد العجوز أمامه إلا أن يقفل الخط في وجه غابرييل المُستهزئ وهو يشعر بإهانة لا تتحملها روحه الآيلة للسقوط، فكر أن يقطع علاقته به، وليذهب نصه الذي صنعه بحماقة إلى الجحيم".

ألا نلاحظ هنا أن حرص الروائية على التماهي بين ما هو واقعي، وما هو خيالي قد جعل ماركيز نفسه مُجرد شخصية خيالية داخل نصها تتصارع مع غيرها من الشخصيات التي خلقها ماركيز نفسه؟

عرف العجوز التسعيني من فابيو- عازف الساكسفون الخلاسي- أن اسم ديلغدينا الحقيقي هو مانويلا، كما أخبره بأنها قد هربت إلى بلاد العرب مع داني تاجر المتا؛ لذا نرى هنا صراعا حقيقيا هذه المرة بين كل من ماركيز كمؤلف، والرجل العاشق كشخصية؛ لأن ماركيز لم يطلق عليها يوما اسم مانويلا، ورأى أن هذا بمثابة التدخل من شخصياته في نصه الذي خلقه، أي أننا هنا أمام شخصيات بدأت تكتسب استقلاليتها في حياتها حتى أنها بدأت تُطلق على نفسها ما يحلو لها من الأسماء بعيدا عن وصاية الكاتب الذي ابتدعها أو أوجدها، وهو من المواقف التي لا بد أن تجعل أي كاتب في ثورة وغضب عاتٍ إذا ما حاولت شخصياته استقلالها عنه لتتصرف كيفما يحلو لها؛ لذلك نقرأ: "قفز ثانية نحو سماعة الهاتف واتصل بغابرييل: ألو غابرييل، أنا العجوز العاشق. رد عليه غابرييل بملل وقلة تقدير. بلعهما وحاول أن يكلمه بحُسن النوايا التي دوما ما تُثمر نتائج حسنة: لقد عرفت أين ذهبت الصغيرة ديلغدينا، أقصد مانويلا. رد عليه غابرييل باستغراب: ومن تكون مانويلا هذه؟ فأنا لا أعرفها، فهي ليست في النص معك. قاطعه العجوز، وشعر هذه المرة بأنه يتفوق على غابرييل لأنه يعرف السر الذي يجهله هذا الأخير: اسمع يا غابرييل، لقد أسميتها، أو بالأحرى، أنا أسميت الصغيرة باسم ديلغدينا؛ لأنه لم تكن لدي الفرصة لأكلمها وأسألها عن اسمها ولو مرة واحدة، لكنني عرفت مُؤخرا أن اسمها الحقيقي هو مانويلا. اشمأز غابرييل من هذا التدخل الوقح في نصه، ورد عليه بجفاء مُحذرا إياه: أنا لا أقبل بمثل هذه الأسماء للشخوص الذين أصنعهم في رواياتي، ولهذا فأنا لا أعترف إلا بوجود ديلغدينا. شعر العجوز بأنه دخل مع غابرييل في مُنافسة عنيدة لا فائدة منها، لهذا قال بهدوء: يا غابرييل لا أريد أن أحملك أي مسؤولية، لكن في نهاية الأمر أنت من أدخلتني في النص، وجعلتني أعشق تلك الصغيرة وأنا في سني هذه، أنت تفهم ماذا أريد أن أقول. قاطعه غابرييل هذه المرة وهو يتأفف منه: صحيح أنني أدخلتك النص دون أن تعلم، لكنك أحببت الصغيرة بملء إرادتك، كان لك أن تتعامل معها مثلما كنت تفعل مع بنات الحانات من قبل. انتفض قلب العجوز من الخوف بسبب الحقائق التي سمعها، لكنه تماسك واستمر في الحديث: حسنا، سننسى كل الذي مضى، لدي أخبار جيدة عن الصغيرة. هذه المرة انفجر غابرييل من الغضب، وكاد صراخه يثقب أذن العجوز: لماذا لا تفهم؟ لقد انتهيت من النص الذي أنت فيه، ولم يعد يهمني مصيره؛ لهذا لا تزعجني أكثر!".

ألا نلاحظ هنا من خلال هذا الاقتباس الحواري بين كل من ماركيز وشخصية الرجل التسعيني العاشق أن ثمة مسؤولية أخلاقية لا بد أن يتحملها المؤلف تجاه شخصياته التي يقوم بخلقها في أعماله الروائية ويضعها في العديد من المآزق، بل ويتركها أحيانا أخرى في الفراغ؟ ألا يحق لهذه الشخصيات- المُسيرة- أن يفكر فيها مؤلفها بعد انتهائه من روايته؟ إنها لم تمتلك إرادتها منذ اللحظة الأولى لخلقها، كما أنها لم تختر العالم الذي يضعها المؤلف فيه، ولا أحداثه، ولا أفعالها، بل كل شيء في النهاية يعود إلى المؤلف فقط؛ إذن لِمَ لا يلتفت المُؤلف- بشكل عام- إلى هذه الشخصيات بعدما ينتهي من عمله الروائي وينال ما يناله من نجاح بفضلها؟ أليس لهذه الشخصيات عليه حق؟

قد تبدو لنا الفكرة التي نطرحها هنا مُجرد فكرة تشطح بالخيال لمداه الأقصى، لكنها بالفعل فكرة جديرة بأن يطرحها كل روائي على نفسه بعدما يحصد نجاح روايته: ما مصير هذه الشخصيات التي اختلقتها وتركت مصائرها مُعلقة في الفراغ؟ إن رواية بشيري هنا تطرح هذه الفكرة بشكل غير مُباشر- ربما من دون قصدية منها- لكنها تتعرض لها بشكل ما يجعلنا نفكر فيها بجدية، لا سيما أنها تحمل في عُمقها جانبا أخلاقيا، ومدى مسؤولية المُؤلف عن شخصياته.

هذه الشخصيات التي خلقها المؤلف تظل دائما شخصيات قاصرة عن اختيار مصائرها، اتكالية طوال الوقت، غير قادرة على مواجهة الحياة وحدها؛ لأنها منذ وُلدت وجدت نفسها تعتمد على المُؤلف الذي خلقها وصاغها حسب رغبته- تماما كالحيوانات الأليفة المنزلية كالكلاب والقطط مثلا التي عاشت حياتها بالكامل داخل أحد المنازل؛ فهي تعتمد في غذائها وكل حياتها على صاحبها الذي يرعاها، لذلك إذا ما ألقى بها إلى العالم الواسع في الشارع الخارجي تصبح عاجزة عن مُمارسة الحياة، بل وتعتدي عليها غيرها من الحيوانات حتى تقتلها- هذا الموقف هو ما رأيناه بالفعل تماما داخل رواية آمال بشيري حينما قرر العجوز العاشق بيع منزله واللحاق بدلغدينا في بلاد العرب، فلقد وجد نفسه في موقف لا يُحسد عليه؛ لأنه لا يمكن له السفر من دون اصطحاب ماركيز معه، وإلا باتت رحلته لا طائل منها: "لكن فرحته لم تدم كثيرا؛ لأنه تذكر مُعاملة غابرييل المُشينة له، عليه أن يقنعه بموافقته وإلا سوف لن يكون لسفره أي فائدة، فهو من أقحم ديلغدينا في النص، وهو وحده الذي يعرفها، ويستطيع إقناعها بالرجوع معه وإلا. أخافته فكرة سفره لوحده، تصبب عرقا بمُجرد أن فكر في احتمال أن يرفض غابرييل مشروع السفر، أخذ يفكر في حلول منطقية ومُفيدة لهذه المُشكلة، لكنه فهم أنه دون غابرييل لن يجد الصغيرة ديلغدينا؛ لهذا قرر أن يقنعه بالسفر بأي ثمن كان".

آمال بشيري
يشبه الموقف بين شخصيات الأعمال الروائية ومؤلفيها موقفا وجوديا شديد القسوة والبؤس؛ فإذا ما كانت هذه الشخصيات هي السبب الأول والأخير في نجاح المؤلف حينما يكتب عمله الروائي، إذن، لم يتناساها المُؤلف بعدما ينال شهرته ونجاحاته؟! لم يعطيها ظهره راحلا عنها، غير عابئ بها؟ أليس من حقها أن تعرف مصيرها بعدما أقفل روايته؟ أم أن من حقه تركها مُعلقة في الفراغ كأنها لم تكن يوما؟! صحيح أن هذه الأسئلة قد تبدو للقارئ أحيانا مُجرد أسئلة عبثية مُفرطة في الخيال، لكنها جديرة بأن يُلتفت إليها من أجل نقاشها بشكل جدي؛ لأن الموقف الذي دفع به ماركيز الرجل العجوز إلى عشق فتاة مُراهقة عذراء من عُمر أحفاده قد أوصله إلى حال عبثي يرى فيه الخيالات وكأنها حقيقة واقعة بعدما هربت منه الفتاة، وهو ما كان له أن يصل إلى هذا الحال لولا تفكير ماركيز وتخطيطه في روايته ودفعه إلى ذلك- إذن فهو يتحمل المسؤولية كاملة عن الجحيم الذي تعيشه شخصية العجوز- هذا الجحيم نراه في: "فجأة لاحت أمامه صورة الصغيرة ديلغدينا وهي تقود الدراجة الهوائية الملونة التي أهداها إياها ذات يوم، كانت ساقاها تضربان الهواء، وهي تحاول الإفلات من المُستنقع الذي انغرس فيه دولابا دراجتها الهوائية، لوح لها بيده وهو يصرخ بمرح طفولي: انتظري سوف أساعدك. جرى نحوها بلهفة وهو يشكر العناية الإلهية، غرقت ساقاه في الوحل، تبلل طرفا بنطاله الكتاني، كان يلهث من السعادة والتعب أيضا، فجأة وقع على الأرض واختفت صورة الصغيرة ديلغدينا من أمامه، كان راكعا يحدق في الفراغ، وفي زخات المطر الغزيرة، رفع يده إلى وجهه لكي يتحقق من وجود عينيه في محجريهما، من حسرته أخذ يبكي ويتمرغ في الوحل"! أليس المؤلف هنا هو الذي دفع الشخصية إلى هذا المأزق الوجودي الذي بات بسببه يعاني من الهلاوس البصرية والسمعية نتيجة لوعته بشخصية روائية أخرى دفعها الكاتب في طريقه، لكنها هربت من داخل النص؟ إذن، فمن المسؤولية الأخلاقية تحمل الكاتب ما فعله بخياله ليستمر فيه من أجل شخصياته المُعذبة، والتي وضعها على حافة الجحيم بيديه وتركها تعاني.

هذه المُعاناة نراها أكثر من مرة داخل النص الروائي لبشيري؛ فالرجل العاشق يقف على حافة الجنون مُنتظرا السقوط فيه: "خرج من الحمام عاريا وجسمه يرتعش من البرد بعدما مكث تحت صنبور الماء الساخن يُطارد بقايا الوحل على وجهه ويديه، قرر أن يرقص مع الصغيرة ديلغدينا على موسيقى البوليرو، كان يراها قبالته، جالسة على الأريكة، وهي تحتضن القط الهرم الذي أدخل رأسه بين نهديها المُتحفزتين للمُداعبة، حسد القط الذي كان يشم عرقها اللذيذ، تقدم نحوها، مد لها يده، قامت بتراخٍ، علقت يدها على كتفه، طوقها برعشة خفيفة، أسندت رأسها على صدره، كانت تفوح منها رائحة الخزامى والورد البري، التهم أنفاسها الساخنة التي ملأت رئتيه حتى أنه فقد القدرة على التنفس، وأخذا في الرقص كعاشقين لم تعرف مثلهما المدينة منذ عصر مضى، شعر بخفة جسمه، كانت ساقاه بارعتين في الحركة، أخذ يدور وينحني وهي تقهقه من الضحك، كان باستطاعته حملها وهو يضرب برجليه على الأرض، أنزل يده إلى خصرها الضيق، وللمزيد من حماسها أخذ يغني هو أيضا. توقفت الأغنية واختفت الصغيرة، وأدرك العجوز لحظتها أنه وحده عارٍ يدور وسط غرفة الجلوس، يرقص دون وجود أي موسيقى، شعر بالخزي من نفسه". إنه جحيم المؤلف الذي ترك فيه شخصيته وأعطاها ظهره من دون أي اهتمام؛ فرغم أن العجوز لم يمس الفتاة قط، ولم يتذوق حلاوتها إلا أنه قد هام بها عشقا لدرجة توهماته بها حينما فقدها، ولعل عدم مساس العجوز للفتاة التي رغبها كان السبب فيه أيضا المُؤلف، أي أن المؤلف هو الذي حول حياته إلى هذا الجحيم، أليس المؤلف هو الذي دفعه إلى هذا المأزق حينما كتب له: "تذكر نصيحة كاسيلدا أرمينتا، الحُب القديم من غراميات آخر الليل، حينما قالت له في آخر زيارة له في بيتها: إياك أن تموت قبل أن تُجرب روعة المُضاجعة عن حُب". إن هذه النصيحة في حقيقتها وجوهرها ليست نصيحة كاسيلدا أرمينتا، بل نصيحة المؤلف/ ماركيز نفسه الذي كان يخطط له حياته المُستقبلية؛ لأن كاسيلدا أيضا من الشخصيات التي يحركها ماركيز.

ربما كانت هذه المسؤولية الأخلاقية من المُؤلف اتجاه شخصياته هو ما جعل ماركيز يقبل على مضض مُتضرر الرحيل مع العجوز إلى بلاد العرب للبحث عن الصغيرة: "انقطع الكلام بينهما، وأخذ غابرييل يحدث نفسه: ماذا فعلت يا غابيتو؟ أما لشخوصك حق عليك؟ أنت من صنعهم؛ فلتتول أمرهم ولو مرة واحدة! بعينين مُمتلئتين بالدموع هز غابرييل رأسه بالموافقة دون سؤال عن تفاصيل السفر، وهو يدير رأسه تفاديا لالتقاء عينيّ العجوز بعينيه الدامعتين".

تحرص آمال بشيري على بث العديد من الإشارات بين ثنايا سردها، وهي الإشارات التي بقدر ما تشير إلى ما سيحدث في مُستقبل شخصياتها، بقدر ما تُكسب القارئ المزيد من الإثارة انتظارا لما سيحدث، وكيفية حدوثه، أي أنها من خلال هذه الإشارات التي تبثها بذكاء ومهارة تنجح في امتلاك القارئ وعدم إفلاته منها، أو فتور حماسه تجاه أحداث روايتها التي تصوغها بمهارة وإتقان وتؤدة واضحة، ولعل حماس القارئ تجاه العمل الفني هو أهم ما يميز العلاقة بين القارئ وهذا العمل؛ لذلك لا يفوت الروائية هنا الانتباه إلى هذه الميزة من أجل ميلها في صالحها وصالح نصها الروائي في نهاية الأمر؛ فنراها تبتكر لنا شخصية العراف الهندي على ظهر السفينة المُتجهة إلى بلاد العرب وصحرائها الشاسعة، هذا العراف الذي سيتنبأ بنهاية الرجل التسعيني: "كان يحدق في العجوز بعيني صقر دون أن يرف له جفن، تقدم نحوه بثبات محاولا النفاذ إلى داخله، ارتبك العجوز أمام هيبة هذا الهندي الغريب. لم يستطع أن ينطق بكلمة. تقدم هذا الأخير أكثر نحوه، ودون أن يستأذن أخذ يد العجوز المُرتعشة وغاص مُتأملا الخطوط الطويلة المرسومة على كفه. شُلت ساقا العجوز لسبب ما. لم يشعر بالخوف وإنما كان هناك شيء ما يقلقه. وأخيرا رطن الهندي بلهجة كاريبية واضحة: قرابة القرن، وأنت على متن قلبك، لكنك لم تعرف الحُب في حياتك إلا بعد سنتك التسعين. إنك تُبحر من أجلها، أنت من يخاف الموج، ستجدها أينما هي، لكنها لن تتعرف عليك؛ فتموت حُبا!"، أي أن الروائية هنا حريصة على اكتساب انتباه القارئ والاستحواذ على انتباهه بسوقها لشخصية العراف الهندي الذي سيخبرنا في مُنتصف الرواية بما سيحدث، وهو الأمر الذي سيجعل القارئ المتشوق لمُتابعة الأحداث مُستمرا معها لرغبته في معرفة كيف سيلقاها، وكيف سيتم الأمر بناء على نبوءته.

هذه النبوءة التي ابتكرتها الكاتبة تعلم على تعضيدها في نفس القارئ مرة أخرى؛ كي يصدق أنها نبوءة صائبة وليست مُجرد محض توهمات من عراف مُخرف؛ لذلك تعود للرجل الهندي مرة أخرى أثناء إبحارهم على سطح السفينة حينما يتعرف العجوز التسعيني على فتاة مُراهقة تسافر معهم إلى بلاد العرب، ويعرف منها أنها مُسافرة هربا من الفقر، ولأنها علمت بأن العرب يحبون الفتيات الصغيرات. يحدث شكل من أشكال التقارب القوي بين كل من الفتاة والعجوز الذي يراها دائما وكأنها صغيرته الهاربة ديلغدينا مما يجعله يتعامل معها بأبوة وحُب ويعمل على رعايتها، لكن العراف الهندي يقترب منه ذات مرة ليهمس في أذنه بنبوءته الجديدة: "شعر العجوز بأن الصغيرة التي تقف إلى جانبه لديها الكثير مما ترغب في أن تحكيه له. ربما بسبب وقاره الذي كان يجاهد للحفاظ عليه، أو فقط لمُجرد أنها مُطمئنة لعجوز لا يقوى حتى على مُغازلة فتاة في سنها، لهذا بادرت قائلة: اسمي خوانيتا، وأنا من سوكري. لم يجبها العجوز، بل ظل يحدق فيها وهي تتكلم ببطء: أسافر إلى بلاد العرب من أجل أن أهرب من الفقر، هل تفهم ذلك؟ إن الفقر مُرعب، ولا أرغب أبدا في الموت فقيرة مثل أمي. صعق العجوز من حديثها المُحزن؛ فسألها مُتسرعا: وكيف ذلك؟ أتأملين ذلك في بلاد العرب؟ حسنا، سمعت بأن للفتيات الصغيرات مثلي قيمة كبيرة في بلاد العرب؛ ولهذا قررت التعرف على أحدهم، لقد تم ترتيب ذلك عن طريق ميريام من الحي الصيني. فتح العجوز عينيه مثل أرنب مذعور. أخذ يتنفس بعمق وهو يتأتئ: ألا تخافين منهم؟ أنت لا تزالين طفلة صغيرة، يمكنك أن تعملي في سوكري أو في بوغوتا، لماذا كل هذا العناء؟ لم تحاول خوانيتا مُجادلة العجوز المذعور؛ لأنها كانت على يقين بأنه لن يتفهم وضعها، لهذا اكتفت بالقول وهي تُدير ظهرها: لن أموت فقيرة مهما كلفني الأمر ذلك! أراد أن يركض وراءها لكي يحكي لها قصته مع الصغيرة ديلغدينا، ويشرح لها السبب الحقيقي لسفره، لكن العجوز الهندي مر به مرة أخرى وهمس في أذنه بصوت خفيض يشبه صوت الموتى: إنها لن تصل إلى البر. حاول العجوز أن يمسك بيد الهندي، لكنه أفلت منه كذلك هذه المرة، وتوارى عن الأنظار".

إن حرص بشيري هنا على سوق النبوءة الثانية كانت من قبيل التأكيد للقارئ على أن العراف الهندي صادق فيما يذهب إليه من نبوءات يوزعها هنا وهناك، لا سيما أن ثمة حمى تنتشر بين المُسافرين على ظهر السفينة وتموت الفتاة بالفعل قبل الوصول إلى اليابسة، أي أن نبوءات العراف الهندي صائبة؛ وبالتالي فنبوءته تجاه العجوز العاشق لا بد أنها ستحدث، لكننا لا نعرف كيفية حدوثها، وهو ما سيرغب القارئ في تتبعه لمعرفة كيف سيتم الأمر. هنا تكون الكاتبة قد نجحت في امتلاك انتباه القارئ معها حتى نهاية سردها الروائي.

تمارس آمال بشيري السرد الروائي في هذه الرواية بانغماس كامل في الحدث حتى لكأنها قد باتت شخصية روائية داخله أيضا، وهو ما يمنح العمل الكثير من الصدق الذي لا بد أن يؤمن به المُتلقي. هذا الصدق هو ما يجعل ماركيز في الرواية يلتبس عليه الأمر؛ فيخلط بين أعماله الروائية وما يراه يدور أمامه على أرض الواقع لشخصياته الروائية التي خرجت من نصوصها مُمثلة في الرجل العجوز العاشق؛ لذلك نرى ماركيز يكاد أن يصدق ما يدور أمامه بالفعل مما يؤدي إلى اضطرابه حينما نقرأ بعد موت خوانيتا ومحاولة العجوز تجهيزها: "وقف غابرييل مشدوها عند عتبة الباب. لم يكد يصدق ما كان يراه. كانت خوانيتا أنيقة، تبدو نائمة بهدوء، وهي ترى أحلاما جميلة، شعر بإعجاب شديد نحو العجوز، وفكر أنه فعلا عاشق يتقن الحُب أكثر من أي رجل قابله في حياته، نظر إليه هذا الأخير وقال له بحسرة: إنها جميلة، أليس كذلك؟ هز غابرييل رأسه وخرج مُسرعا خوفا من أن يرى العجوز دموعه، وأطرق يفكر، كان يحاول أن يتذكر من تشبه خوانيتا في موتها، جزع حينما تهيأ له أنها قد تكون هي أيضا إحدى شخوص رواياته التي نسيها. لم تعجبه نهايتها غير المُقنعة، أصيب بالذعر حينما افترض لو يأتيه العجوز تماما في هذه اللحظة ويطالبه بإعادة خوانيتا إلى النص لكي تحيا من جديد وتكمل رحلتها إلى بلاد العرب. شعر بثقل يضغط على صدغيه، أجهش بالبكاء وهو يعد نفسه بإعادة الصغيرة ديلغدينا إلى النص لكي لا يموت العجوز حُبا". إن هذا التداخل والتماهي الكامل بين ما هو واقعي، وما هو خيالي يمنح العمل الكثير من الحيوية، لا سيما أن حيلة بشيري في ختام الاقتباس السابق حينما تكتب: "شعر بثقل يضغط على صدغيه، أجهش بالبكاء وهو يعد نفسه بإعادة الصغيرة ديلغدينا إلى النص لكي لا يموت العجوز حُبا" بالتأكيد ستمنح المُتلقي الأمل في ألا تتحقق نبوءة العراف الهندي بموت العجوز حُبا.

الانهيار الحادث بين ما هو واقعي، وما هو خيالي نراه مرة أخيرة في موقف شديد الأهمية لفنيته حينما نقرأ: "تأمل شكله المُتعب وبريق عينيه الخائفتين من الانكسارات التي قد يعانيها من جراء فشله المُحتمل في العثور على ديلغدينا وإنقاذ العجوز من الموت. أخذ يفكر في مصير كل الشخصيات الورقية التي رسمها في كتبه، وذُعر لمُجرد شكه في أنها هي أيضا عرفت الحياة، وأكملت مصائرها خارج نصوصه. العشق والجسد والدهشة. هذا كل ما لقنه إياها بغض النظر عن نواياه الحسنة وعن مصائرها المُخيبة للآمال. قفز قلبه بين ضلوعه حينما تذكر أن بلاد العرب لا تحتمل الخطأ فيما يتعلق بالحلم والدهشة، وأن كل من يخرج من نصوصه ويتوه فيها سيكون مصيره الحتمي هو الفناء"، هنا يكون ماركيز قد بدأ في تحمل مسؤوليته الأخلاقية تجاه شخصياته الروائية وبدأ يفكر فيها بعدما كان يعطيها ظهره ويتناساها مثله مثل غيره من الروائيين بعدما تمنحه هذه الشخصيات الكثير من النجاح.

ثمة استخدام لما نُطلق عليه في السينما تقنية المُونتاج المتوازي Cross Cutting

غلاف الترجمة الإسبانية للرواية
في رواية "آخر الكلام" للروائية الجزائرية آمال بشيري، وسواء استخدمت الروائية هذه التقنية في روايتها عن إدراك وعمدية، أو انها جاءت معها بالمُصادفة إلا أنها أفادت النص بإدخالها إليه كثيرا حينما وصل ماركيز والرجل العجوز إلى بلاد العرب، وخرج كل منهما من دون أن يخبر الآخر للتجول في الشوارع ربما يصطدم بالصدفة بالصغيرة ديلغدينا؛ فنرى الروائية تصف تسكع ماركيز في الشوارع وتأملها، وسرعان ما تنتقل إلى العجوز الذي يتسكع بدوره باحثا عن الصغيرة من دون أي فارق أو علامة على أنها قد انتقلت بسردها من ماركيز إلى العجوز، وسرعان ما تعود إلى ماركيز مرة أخرى، وهكذا عدة مرات، حتى لكأن الأمر لا يختلف عن فيلم سينمائي يحرص فيه مُخرجه على الانتقال من مشهد لآخر بالتبادل، لنرى ما الذي يفعله كل منهما في نفس الوقت؛ فنقرأ مثلا: "وقف العجوز مذهولا من الوجع، أخذ يتنفس بعمق، تصبب جبينه عرقا وارتعشت ركبتاه، شعر بدوار وانقلبت معدته، تذكر أن ديلغدينا واقفة إلى جانبه، فكر أنه من غير اللائق أن تراه في مثل هذا الضعف المُخزي. صلب طوله، مد يده ثانية نحوها وهو يحاول أن يخفي دموعه الغزيرة عنها. لم يندهش غابرييل من برودة الحياة في الشارع رغم حرارة الجو، لكنه انزعج قليلا لكل ذلك التصنع المُبالغ فيه، الذي يُشعر الفرد بسخافة الترف، ويضعف همة الحياة لديه، اشمأز من المقاهي التي تخجل من الأرصفة العريضة، وأكثر أيضا من همس البشر الذين يخشون سماع أصواتهم وهم يقهقهون من شدة الفرح، وتساءل في سره: لماذا يطأطئ المارة رؤوسهم رغم ارتفاع المباني حولهم؟ أهو الخوف أم الخضوع للإسمنت العملاق؟". إن انتقال الساردة هنا من سردها عن العجوز إلى ماركيز كان مُفاجئا ومن دون أي فواصل أو إشارات إلى هذا الانتقال، وهو الانتقال المُفاجئ من مشهد إلى آخر، وهو أيضا ما ستكرره عدة مرات مُتتالية بشكل لا تختلف فيه كثيرا عن السينما.

إن وصول كل من المؤلف وشخصيته الروائية إلى الفتاة الصغيرة حينما يصلان إلى أحد الملاهي الليلية الكاريبية التي يتواجد فيها اللاتينيين يجعل الرجل العجوز العاشق أمام الحقيقة الواضحة التي تُخالف تماما ما يظنه، أو ما لا يرغب في رؤيته؛ فرغم أن العجوز قد تعرف على فتاته في بيت من بيوت الدعارة، ورغم أن من عرفته بها هي القوادة روسا كاباركس إلا أنه حينما وقع في عشقها تناسى تماما كونها عاهرة التقطها من بيت من بيوت الدعارة؛ ومن ثم رسم لها صورة الملاك البرئ الطاهر داخله، حتى أنه ظن أن هروبها إلى بلاد العرب كان مُجرد تغرير بها من قبل داني تاجر المتا، لكن الحقيقة الواقعية تختلف تماما عما ظنه العجوز في داخله؛ فالفتاة ليست سوى عاهرة صغيرة، وهو ما جعلها تهرب إلى أرض العرب من أجل المال بعدما باعتها قوادتها إلى تاجر المتا الذي باعها بدوره إلى قواد ثالث هو الشولو رامون؛ لذلك يرفض العجوز حديث الشولو رامون عن فتاته قبيل التقائها: "لم ينتظر العجوز المُتلهف لسماع أخبار الصغيرة ديلغدينا رد الشولو رامون، باغته بسؤال كاد يجعله ينفجر من الضحك في وجهه: قل لي يا دون، ما نوع العمل الذي تمارسه مانويلا لديك؟ لم يتحمل الماتادور سذاجة العجوز، واحتراما لغابرييل قرر أن يترك لهم المكتب ليتحدثوا بهدوء، وطلب لهم بعض المشروب، وتمنى لهم من كل قلبه أن يتوصلوا إلى اتفاق مرضٍ لكلا الطرفين. وقف الشولو رامون يحدق بذهول في وجه العجوز الذي اعتقد لوهلة ما أنه خرف، ولا يصلح حتى لأن يحتل سريرا في مُستشفى المجانين، أردف قائلا مُحافظا على وقاره: ماذا تعمل حسب رأيك فتاة في مثل سن ووضع مانويلا؟ إنها مومس. بسماعه تلك العبارات بالغة القسوة عن صغيرته ديلغدينا شعر العجوز بأنه مسلوب القوى، وأن رأسه وُضعت للتو تحت المقصلة، وأنه سيكون بطلا بلا أوسمة أُعدم عبثا في حرب غير عادلة. قفز العجوز واقفا والغضب ينهش قلبه، وهو يصرخ في وجه الشولو: إنك لا تُدرك ما تقول؛ صغيرتي ديلغدينا ليست مومسا"، أي أن العجوز قد بات يعيش في وهمه الذي اصطنعه لنفسه باتجاه الفتاة، ولا يرغب في تصديق ما يدور على أرض الواقع من كونها مُجرد عاهرة صغيرة عرفها في بيت من بيوت الدعارة.

هذه الأوهام التي اصطنعها خيال العجوز تنهار فجأة حينما يرى أمامه ديلغدينا: "كان منظرها خليعا، شنيعة اللباس بظهرها العاري وفستانها المصنوع من الجلد اللامع الذي يظهر فخذيها بفجاجة، كانت تنتعل صندلا ذهبي اللون ذا كعب بدا للعجوز على أنه أكثر علوا من البنايات الشاهقة التي رآها هنا في بلاد العرب، بُهت لون بشرتها أمام لون شعرها الأصفر، ومحا أبسط علامات البراءة عن وجهها، كانت باردة بلا ملامح، وكأنها دمية قديمة لا تُغري حتى أطفال القرى الفقيرة المحرومين من اللعب، اكتفى العجوز بالنظر في عينيها الميتتين"؛ لذلك حينما يرى العجوز صغيرته البرئية الواقع في عشقها على هذا الشكل الجديد والذي لا يريد تصديقه، وحينما يتأكد أن حبيبته التي باع من أجلها بيته، وهجر وطنه في رحلة مجهولة من أجلها قد تحولت إلى مسخ لا علاقة له بحبيبته التي يعشقها تصدق نبوءة العراف الهندي حينما يتهاوى أمامها هي وماركيز ليفقد حياته بالموت عشقا: "صمت لبرهة أمام الجميع، ثم قال لها بترجٍ: هل ما زلت تحتفظين بذلك الدب اللطيف؟ خفضت عينيها نحو الأرض، لم ترد عليه، فتح غابرييل قنينة الشامبانيا التي دوت مثل رصاصة طائشة استقرت في قلب العجوز المسكين الذي لم يعد يفكر في كبريائه ولا وقاره، كل ما كان يهمه هو أن يسمع صوت صغيرته ديلغدينا، امتلأت الكؤوس، رفع العجوز كأسه، وزلزال مُدمر انتاب ساقيه، حاول أن يكون رزينا في لحظات العمر غير الرزينة تلك، وقال وهو يبكي: نخب صغيرتي ديلغدينا ونخب براءتها. سقطت الكأس من يد العجوز الذي هوى في لحظة خاطفة على الأرض بلا حراك أمام ذهول الجميع"!

لا يمكن إنكار الخيال الخصب الذي اعتمدت عليه الروائية الجزائرية آمال بشيري في كتابة روايتها "آخر الكلام" وهي الرواية التي بدأت من حيث انتهى الروائي الكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز، أي أنها تكاد أن تكون قد كتبت امتدادا لروايته باعتبار أنه لم ينهها؛ فأتت هي من أجل إكمالها بالشكل الذي تراه حينما افترضت هروب شخصياته الروائية من نصه الروائي، كما لا يفوتنا اللغة والأسلوبية التي كُتبت بهما الرواية، وهي اللغة التي تتقارب، وتتشابه إلى حد التطابق كثيرا مع نفس لغة ماركيز الروائية، حتى لكأننا نقرأ عملا من أعمال ماركيز، وليس عملا لروائي آخر، مما يعني قيامها بجهد كبير كان لا بد لها أن تتدرب عليه كي تصل إلى هذه الدرجة من التشابة التي أفادت نصها أيما إفادة في التماهي بين النصين الروائيين، لكن يبقى القليل من المُشكلات اللغوية المُعتادة التي اعتدنا على رؤيتها لدى مُعظم الروائيين العرب، وهي الأخطاء التي يتشارك فيها الناشر غير الحريص على نص مؤلفه وما يصدره من أعمال مع المؤلف؛ فرأينا الكاتبة تكتب: "بأصابعه الخمس" بدلا من "الخمسة"، كما تصف المقاعد الجلدية غير مرة بقولها: "الجلدية الوفيرة" في حين أن وصفها الصحيح "الجلدية الوثيرة"؛ لأن المقاعد لا توصف بقولنا الوفيرة، كما تكتب "يتسأل" قاصدة بها "يتساءل"، ومثلها كتابتها: "استأذان" قاصدة "استئذان" حيث تأتي الهمزة على نبرة بعد الكسر السابق لها، كما أنها قد اختلط عليها الأمر جغرافيا حينما كتبت أن السفينة المُتجهة إلى بلاد العرب ستُبحر في اتجاه الشرق، في الوقت الذي شقت فيه السفينة طريقها من خلال المُحيط الهندي، أي غربا، لأنها إذا ما كانت قد شقت طريقها شرقا بالفعل كان عليها أن تبحر من خلال المُحيط الأطلنطي وليس المُحيط الهندي.

 

 

محمود الغيطاني 

مجلة ميريت الثقافية

عدد يونيو 2021م

 



[1]  ترجمها صالح علماني بهذا العنوان، في حين ترجمها الدكتور طلعت شاهين بعنوان "ذكريات عن عاهراتي الحزينات".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق