الثلاثاء، 8 يونيو 2021

في رواية أخرى.. لعبة البناء والهدم

ما معنى أن يحرص السارد على بناء مشهد روائي مُتماسك بلغة روائية جيدة، وأسلوبية أجود لينخرط المُتلقي في تلقيه، ثم لا يلبث هذا السارد أن يعود لهدم مشهده من خلال مشهد تالٍ ينفي ما سبقه تماما- مُلقيا في نفس المُتلقي الكثير من الشك والارتباك واللايقين- ليبدأ في بناء مشهد روائي آخر يتناقض مع ما سبقه، ثم لا يلبث مرة ثالثة ورابعة في نفي ما سبق بالكامل، هادما إياه، ليعود إلى بناء مشاهد جديدة تدور جميعها حول نفس الفكرة مُنطلقا من نفس الانطلاقة التي بدأ منها في مشهده الأول مع الاختلاف في التفاصيل والوقائع والأحداث؟

إنه يعني- بلا شك- أن السارد هنا يعي جيدا أنه يمارس لعبة الكتابة من خلال الهدم والبناء، وحريص على إرباك المُتلقي للعمل الروائي من خلال هذه اللعبة التي تستهويه ويمارسها بمُتعة مُنقطعة النظير؛ الأمر الذي يجعله كثير المحو والكتابة عدة مرات، حتى أنه من المُمكن له أن يستمر في هذه العملية إلى ما لا نهاية؛ ومن ثم لا يمكن للعمل الروائي الذي يكتبه أن ينتهي.

ربما يفكر أحدنا إذا ما وصلنا إلى هذه النقطة أن ما يفعله الروائي هنا مُجرد عبث لا طائل منه ما دام يمحو ويعيد الكتابة فقط حتى أن العمل لا يمكن له أن ينتهي من خلال هذه اللعبة- الدائرية- الأبدية، وهو تفكير مشروع لأي شخص أن يفكر فيه بالفعل إذا لم يطلع على العمل بنفسه، ولم يفهم تفاصيل الكتابة فيه، لكن، لا بد من الإطلاع على تفاصيل العمل الروائي أولا؛ لنفهم آليات الروائي في فعل ذلك، والأسباب التي اتخذها كركيزة له من أجل أن يكتب عمله بمثل هذا الشكل الذي يجعلنا في حالة ارتياب دائمة من كل ما يسوقه لنا من حقائق وأحداث وشخصيات؛ لأن كل الوقائع هنا غير قابلة لليقين، وهي أقرب إلى الشك فيها أكثر مما تقترب من تصديقها.

هذه الأفكار والتساؤلات- عن ماهية الكتابة بهذا الشكل الذي يمارس فيه الكاتب لعبته المُمتعة والمُضللة في آن- هي ما انثالت على أذهاننا حين قراءتنا لرواية "في رواية أخرى" للروائي الجزائري محمد علاوة حاجي الذي يلعب لعبة السرد بجدية صارمة، ومُتعة كبيرة؛ ليقدم لنا في النهاية روايته المُربكة.

يبدأ حاجي روايته بالفصل صفر، وهو الفصل الذي كان بمثابة التمهيد للدخول إلى عالمه الغرائبي الذي يسوقه مُنغمسا فيه، حتى أننا لا نقرأ جملة "الفصل الأول" إلا في الصفحة الواحدة والثلاثين، ونلاحظ في الفصل صفر أن الروائي يتوجه بحديثه لنا منذ جُملته الأولى، فنقرأ: "وأنا نصف مُمدد في كرسيّ على سطح هذه العمارة الآيلة للسقوط، واضعا رجلا على رجل، أرتشف قهوتي، وألتهم ما تبقى من سيجارتي، أتصور كيف وصل هذا الشيء إليك، بل أتصور أكثر من احتمال لذلك". إذن فالروائي للوهلة الأولى يحادث قارئه، ويبدأ في تخيل كيفية وصول هذه الرواية إلى أيدينا قبل الدخول إلى عالمه الروائي، هذه التصورات التي يسوقها الكاتب من أجل تخيل كيفية وصول الرواية إلى أيدينا يزج من خلالها شخصياته الروائية التي ستكون لُب العمل الروائي فيما بعد، وكأنه يتصورنا- كقراء- مُجرد شخصياته التي اختلقها، ومن ثم لا بد لها من أن تتلبسنا لتكون نحن، أو نكون هي، في لعبة من تبادل الأدوار التي يجيدها على طول عمله الروائي؛ لذلك سرعان ما يكتب لنا: "الاحتمال الأول: كنت مارا بشارع س في ظهيرة يوم قائظ، وكنت تحمل بقايا سيجارة في يدك، وورقة نقدية رخصية في جيبك. ورقة واحدة لا أكثر ولا أقل. هذا ما تحمله عادة وأنت تخرج من البيت. في مثل هذا الوقت من كل يوم يكون ما تبقى من ورقتك هو النصف. أما اليوم، فالمبلغ ما زال على حاله، والسبب أن سائق التاكسي العجوز الذي أوصلك هذا الصباح من حي س لم يتمكن من قبض أجرته، إذ لم يكن يحمل فكة معه. طلب منك، على مضض، أن تدفعها في المرة القادمة. نزلت وأنت تتساءل: هل ستكون ثمة مرة قادمة؟ على الأرجح أنكما لن تلتقيا مُجددا؛ فنادرا ما ركبت مرتين مع السائق ذاته، حتى في خط س- س. اتجهت رأسا إلى مقهى س؛ حيث اعتدت تناول فطورك وأنت ناوٍ ألا يتجاوز المبلغ الذي ستتركه هناك نصف ما لديك. فوجئت بموحوش، صديقك الذي لم تلتق به منذ أيام الخدمة العسكرية، قابعا في زاوية يحتسي قهوته ويدخن".

إذا ما تأملنا الاقتباس السابق في مدخل العمل الروائي سنُلاحظ أن الروائي هنا لا يخطط لشخصيات عمله الروائي فقط، بل يخطط لنا حياتنا نحن؛ فهو يتخيل أننا هذه الشخصيات التي يتحدث عنها، وأن هذا ما حدث معنا حتى وصلت إلى أيدينا روايته التي يقوم بكتابتها، أي أنه يمارس لعبة التخيل هنا إلى أقصاها بزجنا داخل العمل الروائي، أو بزج شخصياته الروائية نفسها في حياتنا نحن، وهو في هذا اللون من الكتابة يمارس شكلا يخصه حينما يقطع بعد هذا الاقتباس مُباشرة ليكتب: "حقيقة أولى: سعادتك وأنت ترى، مُجددا، هذ الصديق القديم الذي بدا عليه الشعور ذاته، فقد ضمك إلى صدره بقوة مُعبرا عن اشتياقه"، ثم لا يلبث أن يكتب بعدها: "حقيقة ثانية: شعورك بالحُزن حين تأكدت من أنك لن تخرج من المقهى إلا وقد تركت فيه كل ما في جيبك. ستضطر لقرض مبلغ مُماثل من الآنسة س، زميلتك في العمل، التي سيكون عليك تسديد كل ديونها قبل نهاية الشهر، إذ باتت، منذ ثلاثة أشهر، تدون كل سنتيم تستدينه منها في كراستها المُخصصة لتسجيل الأرقام الهاتفية".

ألا نلاحظ هنا أسلوبية الكاتب التي يحاول من خلالها تشييء مشاعرنا وكأننا مُجرد كائنات مجهرية يفحصها حتى أنه يضع الاحتمالات الشعورية أمامنا في شكل هوامش ومُلاحظات بمُجرد ما قابلنا صديقنا القديم على المقهى- باعتبار حالة التماهي التي يرغب في إدخالنا إليها؟

يستمر علاوة حاجي في سرد تخيله في كيفية وصول الرواية إلينا بمُتابعة قصته التي سيتناول فيها الصديق طعامه مع موحوش؛ ليقوم موحوش بدفع الحساب ثم ينصرف ويحاول صديقه/ نحن اللحاق به من أجل الاستدانة منه لكنه يكون قد اختفى؛ لتقوده قدماه إلى إحدى المكتبات التي تبيع الكُتب القديمة، لتمتد يده إلى أحد الكتب ويحملها دافعا الورقة النقدية التي في جيبه: "لسبب ما وجدتك تحمل هذا الشيء، وتمد يدك إلى جيبك، تُخرج الورقة وتسلمها للبائع العجوز الذي ستلاحظ أنه يشبه، إلى حد كبير، سائق التاكسي الذي ركبت معه صباحا"!

لو كان الروائي قد توقف إلى هذا الحد لكان من المُمكن تقبل تخيله، لكنه يستمتع بما يفعله ويستمر معه حتى النهاية ليكتب: "بائع الكتب القديمة هو نفسه سائق التاكسي المُهترئ. يعمل في الصباح سائقا، وفي المساء بائعا. الأمر بسيط ومنطقي جدا. هل تراه أنت غريبا أو خرافيا؟"، كما أنه سيظل يتساءل عن السبب الذي جعله يضحي بالورقة النقدية اليتيمة حتى أنه سيعود إلى بيته ماشيا بسبب إنفاقها في مُقابل هذا الكتاب.

لعلنا نلاحظ حتى الآن أن تخيل الروائي مُجرد أمر عادي لكاتب يضع في رأسه سيناريو وصول روايته إلينا- كقراء- لكنه سرعان ما يُدهشنا بهدم كل ما سبق أن ذهب إليه وحاول تخيله بوضع احتماله الثاني الذي ينفي كل ما سبق ويبدأ من البداية مرة أخرى لتخيل وصول روايته إلى أيدينا؛ فيكتب: "الاحتمال الثاني: كنت تتسكع في شارع س وأنت تحمل بقايا سيجارة في يدك وورقة نقدية رخيصة في جيبك. تسكعت طويلا رغم الحرارة والرطوبة، فأنت لا تختلف عن مُعظم المواطنين الذين يشعرون بأن شيئا ينقصهم إذا لم يقوموا بهذا الطقس اليومي: الطواف عند الشارع س مرة واحدة في اليوم على الأقل. وهذا التفكير المُشترك، أو لنقل الاتفاق الجماعي غير المُعلن، هو ما يجعله مُكتظا طيلة النهار. دعنا نتفق على أن طوافك اليوم، وعلى غير العادة، لم يكن اعتباطيا؛ إذ كنت تذرع الشارع ذهابا وإيابا، من أعلاه إلى أسفله، ثم من أسفله إلى أعلاه، وتقف عند واجهة كل محل بحثا عن هدية مُناسبة بمُناسبة عيد ميلاد سمّونة، خطيبتك التي أضافت اليوم إلى عمرها سنة كاملة"، أي أن سياق الحدث قد اختلف تماما، وأضاف إليه الكاتب شخصيات جديدة يفترض أنها لا علاقة وثيقة بنا كقراء- رغم أنها شخصيات روايته التي سنراها فيما بعد- وسنعرف أنه قد توقف أمام إحدى المكتبات، وفكر أن يشتري كتابا كهدية لخطيبته لعدة أسباب: أولا: أن الكتاب لن يكلفه كثيرا من المال لا سيما أنه لم يقبض راتبه منذ ثلاثة أشهر، وثانيا: لأنه لا يحب القراءة في الأساس، وأنه غير مُتعلم ولا علاقة له بالكتب؛ الأمر الذي جعل والدة خطيبته تعترض على خطبتهما لا سيما أن حماته/ مبروكة دكتورة جامعية؛ وبالتالي فقد رأى أن هديته هذه لابنتها هي نوع من الغزل لأمها كي ترضى عنه! لكنه سيُفاجأ حينما يقابل خطيبته بثورتها عليه، ورفضها هديته، وحين يبرر لها السبب ستتركه غاضبة مُخيرة إياه أن يذهب بهديته إلى أمها ما دام حريصا على إرضائها.

يُفاجئنا الروائي في نهاية هذا الاقتراح بالتفاته إلينا كقراء ليكتب: "مجرد اقتراح: لا أريد أن أتدخل في حياتك الشخصية، لكن لِمَ لا تفكر في تغليفه وإهدائه للسيدة مبروكة؟ بعد خمسة أيام، خمسة أيام فقط، ستضيف إلى عمرها سنة كاملة"! إن هذا الالتفات من الكاتب إلينا كقراء يؤكد لنا أنه مُستمتع أيما استمتاع بمُمارسة لعبته الشهبية بالبازل في البناء والهدم، أو إعادة تشكيل المشهد وتبادل المواقع فيما يفعله بالشخصيات، لكنه لا يكتفي بذلك، بل يضع احتمالا ثالثا لكيفية وصول الرواية إلينا يعمل فيه جاهدا على تغيير مواقع الشخصيات التي رأيناها في الاحتمالين السابقين، مُغيرا من الأحداث التي أدت إلى ذلك.

يستمر الروائي مُستمتعا فيكتب: "الاحتمال الثالث: أحيانا، تقودك قدماك إلى أماكن ليس فيها سقف لاحتمالات الأنواع البشرية التي يمكن أن تلتقيها هناك. هذا ما حدث معك، وأنت تجدك بعد مُنتصف ليل ما، في حانة ما، تقع على الأرجح في إحدى الأزقة الضيقة المُتفرعة عن الشارع س. لا أريد أن أفكر كثيرا في السبب أو الأسباب التي قادتك إلى هناك. أفضل أن أعتبرك مُجرد زبون موسمي، من النوع الذي لا يأتي إلى هذه الأمكنة إلا مرة واحدة في الشهر، في نهايته تحديدا، عندما يقبض على مُرتبه. أفعل ذلك وأنا أعرف أن الأمر عسكي في حالتك. فأنت لم تقبض مُرتبك منذ ثلاثة أشهر، وهذا سبب كافٍ لمجيئك. هنا بإمكانك أن تنسى، ولو لساعات قليلة كابوسك الرئيسي، والكوابيس الثانوية التي تتفرع عنه"، يستمر الكاتب في احتماله الثالث لنعرف أنه سيتناول الكثير من الكحول بشكل مُفرط، كما سيكون هناك أحد الأشخاص جالسا وحده يعب من الشراب بشكل غير طبيعي، ويتخيل أن هذا الرجل هو موحوش، أخوه الذي هرب من البيت منذ سنوات، ويحدث أن يقوم موحوش وقد بلغ به السُكر مبلغه؛ فنقرأ: "يُخرج من محفظته مجموعة كتب. يصرخ: هذه كتبتها في المرحاض، لكنها أهم منكم جميعا يا عديمي الكرامة. يصفكم أنتم الجالسين في الحانة، كلكم وبلا استثناء، بالجهلة التافهين، وبأنكم مُجرد بهائم قذرة وحشرات حقيرة. يهدد بفتح سحاب سرواله ليتبول عليكم واحدا واحدا، ثم يتراجع. يقول إنكم ستقدرون قيمته وقيمة كتبه يوما. يصفق الملك فتفعل حاشيته مثله، لا ينتشي موحوش بالمشهد طويلا، إذ يهوي على الطاولة، ومعه كتبه التي تتساقط بين يديك. ومُجددا، تقابلك المرأة الشاردة ذات الشعر الأحمر القاني وخيط القهوة المُتدفقة من فنجانها. تُدقق في صورته واسمه اللذين على ظهر الغلاف".

ربما كان لا بد لنا هنا من التوقف هنيهة أمام هذا الاقتباس من الاحتمال الثالث في كيفية وصول الرواية إلينا؛ لأننا سنلاحظ أن الكاتب قد هدم الاحتمالين السابقين وأحداثهما وشخصياتهما ليبدأ في بناء مشهد جديد بأحداث مُغايرة مع تبادل المواضع للشخصيات، وكأنه يعيد الترتيب في لعبة من ألعاب البازل؛ فالرجل الكاتب داخل الاحتمال الثالث قد بات موحوشا/ شقيقه الذي هرب من البيت صغيرا، رغم أن موحوش في الاحتمال الأول كان صديقه الذي لم يره منذ تركا الخدمة العسكرية، كما سنلاحظ أيضا أن كتاب موحوش حينما وصل إليه تأمل الصورة التي على غلافه التي تحتوي على امرأة شاردة حمراء الشعر، وتصب القهوة المُتدفقة من فنجانها، فإذا ما أغلقنا الرواية التي بين أيدينا، والتي كتبها محمد علاوة حاجي سيتضح لنا أنه يصف غلاف روايته، أي أنه حريص على التماهي بين الكتاب الذي كتبه موحوش، وبين روايته، بما أنه كان حريصا منذ البداية على التماهي بين عالمه الروائي وبين عالمنا نحن الواقعي فأدخلنا في طيات سرده باعتبارنا شخصيات روائية تتعامل مع شخصياته الروائية الفعلية التي ستستمر معنا حتى نهاية العمل الروائي.

ألا يدل ذلك على استمتاع الروائي هنا باللعب المُتماهي مع الواقع كي يضحى الواقع والخيال عالما واحدا يستطيع من خلاله البناء والهدم، وإعادة التشكيل كيفما يحلو له حتى أنه يضع لنا بعد هذه الاحتمالات الثلاثة احتمالا فرعيا؟

نقرأ في احتماله الفرعي: "أنت تُحسن القراءة. في هذه الحالة، يُفترض أنك قرأت كل ما هو مكتوب إلى حد الآن. بإمكانك إذن أن تتصل بالكاتب وتُسمعه مقدار صفحتين من الشتائم، أو تبعث إليه برسالة شنيعة عبر بريده الإليكتروني المدوّن على الصفحة الأخيرة. بإمكانك أيضا ألا تفعل شيئا، وتكتفي بقلب الصفحة، لتقرأ تتمة هذا الفصل البائس"! إن حاجي بالفعل يضع بريده الإليكتروني على الصفحة الأخيرة، وإذا ما قلبنا هذه الصفحة سنقرأ: "تتمة الفصل صفر" كما أشار في الاقتباس، إذن فهو لا يعنيه القارئ هنا بقدر ما يعنيه الشكل الفني الذي اختاره لكتابة روايته، وهذه اللعبة التي يلعبها معنا قبل الدخول إلى عالم روايته في الفصل الأول، رغم أن الأمر ليس بهذه الحدة والقطيعة والصرامة في حقيقته؛ لأننا بالفعل في الفصل صفر كنا قد دخلنا إلى عالمه الروائي بمُعاشرتنا لشخصيات سمّونة، ومبروكة، وموحوش، ومقران/ سائق التاكسي وبائع المكتبة، الذين هم شخصيات العمل الروائي بأكمله، وهو في تقديمه ذلك إنما يؤكد على أن جميع الشخصيات تتبادل مواقعها وأدوارها داخل العمل؛ فمقران مثلا ليس دائما مُجرد سائق للتاكسي، ولا بائع في مكتبة، بل سنقرأ: "سائق التاكسي، بائع التُحف القديمة، قابض الحافلة، موزع البريد، المعلم، الطبيب النفساني، مُقدم النشرة الجوية وآخرون. الناس كلهم، أو مُعظمهم في حقيقة الأمر، ليسوا سوى مقران. بالنسبة لسمّونة ومبروكة، لا يختلف الأمر كثيرا. لكن، عليّ أن أفهم أمرا هاما، وهو أن موحوش غير موجود إلا في رأسي، سمّونة أيضا ومبروكة وجدي والصرصور الكبير الذي أصبح بحجم كبش، ثم بحجم فيل، ومقران، ومُفتش التربية، والطبيب النفسي"، أي أنه لا يوجد يقين مُطلق في هذا العالم، بل شك دائم تجاه كل شيء، وأي شيء، وعلينا تقبل أن تكون الشخصيات في أي دور يحلو للكاتب أن يضعها فيها؛ فالأهم هنا هو استكماله لسرده من خلال العالم الذي اختاره ليكون مجال هذه الرواية.

علاوة حاجي
ثمة مُلاحظة لا يمكن تجاوزها أو إغفالها في العالم الروائي الذي يخوض فيه الروائي الجزائري محمد علاوة حاجي، وهي أن العالم أو الحدث الروائي لديه يكاد أن يكون استاتيكيا/ متوقفا لا يتحرك بسهولة، وهو في هذا الركود الظاهري الذي يعمد الروائي إليه بقصدية يمتلك حركته الديناميكية في داخله، وهي الحركة التي لا يمكن مُلاحظتها بسهولة إلا من خلال التلاعب السردي الذي يلجأ إليه؛ فهو يعمد إلى إيقاف الحدث من أجل إعادة تشكيله عدة مرات، أي إعادة هدمه وبنائه بالشكل الذي يراه مُناسبا لشخصياته، وتبعا لما خطط له، سنُلاحظ هذا بشكل بيّن على سبيل المثال حينما تفكر الشخصية الرئيسية في الرواية عبور الطريق من أجل الوصول إلى خالته مبروكة- التي كانت في أحد الاحتمالات السابقة حماته- فحينما يتوقف على جانب الطريق مُنتظر تاكسيا ليقله إليها يشعر بأنه قد توقف به الزمن على هذه اللحظة لسنوات طوال، حتى أنه يظن أنه حينما سيصل إلى خالته مبروكة ستكون قد شاخت كثيرا بسبب انتظارها له بينما هو متوقف على جانب الطريق في انتظار سيارة، لكنه حينما ييأس من توقف أي سائق له يبدأ في التفكير من أجل عبور الطريق، ولعلنا نلاحظ أن الروائي توقف بشخصيته طوال هذا الفصل عند هذه النقطة التي لم يغادرها بسهولة، وهو في هذا التوقف يعيد تشكيل المشهد غير مرة فاتحا الباب لجميع الاحتمالات المُمكنة التي تنطلق جميعها من لحظة توقفه على جانب الطريق؛ لذلك يكتب: "ولكنني سأقطع الطريق السيّار. لا يدور في رأسي غير أمر واحد: أن أعبر، بأقصى سرعتي، بين السيارات المارة بأقصى سرعتها، جيئة وذهابا. أعبر كأن شيئا لم يكن. كأن شيئا لم يمر بينها. لا يفصلني عن كل واحدة منها سوى نصف مليمتر ونصف جزء من الثانية. وحينها سأجدني هناك، في الجهة المُقابلة، أكثر قُربا من خالتي مبروكة. عدا ذلك، كل الاحتمالات الأخرى مُستبعدة، تقريبا".

هنا يبدأ الروائي في معاودة اللعبة المُمتعة التي سيبدأ القارئ نفسه في الاستمتاع بها مع الكاتب، أي أن التماهي بين القارئ والكاتب يصل إلى ذروته حتى أن القارئ من المُمكن له أن يبدأ في فتح باب للاحتمالات التي لم يكتبها الكاتب نفسه فيتشاركان في صناعة العمل الروائي؛ فنقرأ: "الاحتمال الأول: تصدمني السيارة الأولى؛ فينسحق جسدي تحت عجلاتها الدائرة بسرعة مائة وستين كيلو مترا في الساعة. الاحتمال الثاني: تصدمني السيارة الأولى، وتقذف بي إلى مكان غير بعيد، عند حافة الطريق الذي يصل الشرق بالغرب، تحديدا إلى نقطة البداية التي أقف فيها الآن. أسقط واقفا على قدميّ مثل هرّ. أجدني مُعافى تماما، وحينها سيكون عليّ التفكير في الاحتمالات المُتبقية. الاحتمال الثالث: تصدمني السيارة الأولى، وتقذف بي إلى السيارة الثانية التي تقذفني إلى السيارة الثالثة التي تقذفني إلى الرابعة التي تقذفني إلى الخامسة التي أنتهي مطحونا تحت عجلاتها الدائرة بسرعة مائة وستين كيلو مترا في الساعة، أو لنقل بسرعة مائة وعشرين. الاحتمال الرابع: تصدمني السيارة الأولى، وتقذف بي إلى السيارة الثانية التي تقذفني إلى السيارة الثالثة التي تقذفني إلى الرابعة التي تقذفني إلى الخامسة التي تقذفني، مثل غطاء قارورة مياه غازية في أوج احتقانها، إلى الرصيف. أسقط واقفا وأجدني مُعافى تماما؛ فأنفض ملابسي وأكمل وجهتي، وقد أصبحت خالتي مبروكة قاب شارعين أو أدنى. الاحتمال الخامس: تصدمني السيارة الأولى، وتقذف بي إلى.. أية لعبة سخيفة هذه؟"، هنا ينتبه الكاتب إلى أنه قد قضى حوالي إحدى عشرة دقيقة في هذه الاحتمالات التي تنفي بعضها البعض؛ لذلك يبدأ في تحريك الحدث تحريكا بطيئا حينما يتخيل نفسه قد ذهب إلى خالته مبروكة لينفتح باب الاحتمالات مرة أخرى حينما تراه بعد هذه الفترة الطويلة، كما لا يفوتنا هنا أن الكاتب يحرك شخصياته تماما كما نرى في أفلام التحريك، أو أفلام الكارتون التي تُقدم للأطفال؛ فنرى الشخصيات في هذه الأفلام يتم دهسها مثلا تحت إحدى السيارات، ولا تلبث أن تنهض لتمارس حياتها بشكل طبيعي.

إذن، فنحن أمام رواية مفتوحة على كل الاحتمالات، هذه الاحتمالات لا تخص كاتبها فقط، بل يتشارك معه فيها قارئه أيضا- بما أن القارئ هنا قد بات شخصية من الشخصيات الروائية منذ الصفحة الأولى، وبما أن السارد في الرواية هو القارئ نفسه من خلال لعبة التماهي التي بدأها الكاتب لنتواطأ معه فيها- لكن هذه الاحتمالات التي يعتمد عليها الكاتب في لعبة البناء والهدم يستخدمها، عامدا، في إرباك القارئ- المُشارك له- فيختلط عليه الأمر وكأنما الروائي هنا يرغب رغبة حقيقة في السخرية من قارئه والضحك عليه- تماما كطفل يمارس لعبته السحرية أمام الآخرين- وهو الأمر الذي سيجعل القارئ يتراجع خطوة للخلف لحين تدارك ما حدث بعد الإرباك المُتعمد، ثم لا يلبث أن يعود إلى مُشاركة الكاتب مرة أخرى.

هذا الإرباك الذي يتعمده علاوة حاجي نقرأه في: "لا يمكن أن يكون الأمر محض صُدفة. عندما تتكرر الأشياء نفسها بالتفاصيل نفسها، لا يصبح ثمة مكان للصدفة. ثمة خطأ ما إذن، دعوني أفكر في الأمر. الاحتمال الأول: لا يوجد طريق سريع، ولا بطيء. لا وجود لسيارات آتية أو ذاهبة أو متوقفة. حتى ممر المُشاه غير موجود. كل ما في الأمر هو مساحة من التراب أو الرمل، وأنا أعدو فيها كجحش يثير الغبار وانتباه الناس. الاحتمال الثاني: الطريق في مكانه، وممر المُشاه أيضا. السيارات ذاهبة وآتية بأقصى سرعتها. أما العنصر غير الموجود في القصة كلها فهو أنا. من الواضح أنني غير موجود، وإلا لصدمتني تلك السيارات وأنا أروح وأجيء بينها. بالطبع، لا يمكنها أن تصدم شخصا غير موجود. في هذه الحالة فإن خالتي مبروكة غير موجودة هي الأخرى. سمّونة أيضا، وموحوش الذي اختطفها مني، ودزينة الأطفال التي ترتبت عن ذلك، ومقران أستاذ العلوم الشرعية. في كلا الاحتمالين، ثمة احتمالان لا ثالث لهما"، ثم يستمر الروائي في احتمالين جديدين مُتفرعين عن الاحتمالين السابقين.

ألا نلاحظ هنا أن الروائي قد عمد إلى إرباك القارئ ومحو كل ما سبق أن كتبه في روايته؟ فالفصل الأول الذي استمر طوال ثلاث عشرة صفحة مُثبتا فيه الحدث على لحظة وقوفه على جانب الطريق راغبا في الذهاب إلى خالته، وحريصا فيه على بناء العديد من المشاهد والاحتمالات التي سرعان ما يهدمها، يعود الكاتب في نهاية الفصل من أجل هدمه بالكامل، بل وهدم الفصل صفر الذي سبقه، راغبا في البداية من جديد تماما بنفس الشخصيات ولكن في مواقف وأحداث أخرى مُختلفة؛ مما يؤدي إلى إرباك القارئ معه.

قد يتساءل البعض: ما الذي يقصده الكاتب من كل هذا العبث؟ لم كل هذه الفوضى التي يصنعها من دون هدف؟

الحقيقة أن الكاتب هنا لا يعبث، ولا يعمد إلى صناعة فوضى مجانية، بل هو يمارس شكلا روائيا خطط له كثيرا قبل البداية فيه، وهذا الشكل الروائي يكاد أن يكون مُمتعا بالنسبة له وللقارئ معا، كما أنه ساق في طيات سرده ما يؤكد عدم عبثية ما يفعله؛ فهو يبث بين ثنايا سرده العديد من الإشارات التي تُدلل على الحالة السيكولوجية لشخصيته الروائية، وإن كان يحرص على عدم التصريح بها، نرى ذلك في: "ما لم يُكتب على البطاقة، هو أنني لا أنام مثل البشر. أقصد أنني لا أنام إلا نادرا، وهذا أحد أوجه غرابتي. فاستسلامي للنوم يعني أنني أمنح فرصة ذهبية للكوابيس المُتربصة بي طيلة اليوم لتُطبق عليّ. لا أستسلم له بسهولة؛ فأنا عنيد بطبعي، أقاوم، أُمانع، أستعين بكوب قهوة ضخم. آخذ ثلاثة أقراص من دواء مُضاد للنوم، ثم أنام"! إن هذا المقطع يُدلل على أن ثمة خلل ما في سيكولوجية الراوي وإن لم يصرح به؛ فهو يرى العديد من الكوابيس في نومه، مما يجعله يمتنع عن النوم لأطول فترة مُمكنة، وهذه الكوابيس- في حد ذاتها- دليل عدم صحة نفسية، لكن الروائي يعود مرة أخرى في موضع آخر من الرواية إلى إشارة جديدة عن صحته النفسية ليقول: "تعتقد أنني مجنون؟ لا ألومك. الحقيقة أنني لم أُقنع نفسي بالمجيء إليك إلا بعد أن أقنعتها بأنني مجنون حقيقي، أو أكاد أكونه. في العادة، لا يأتي إليك غير المجانين. أو على الأقل، أولئك الذين تستحوذ على عقولهم أفكار مجنونة. ربما ليس ثمة فرق بين الحالتين. أيا كان، عليك أن تتحمل كل هذا، ما دمت ستقبض أجرة في نهاية المُقابلة. لكن إياك أن تصدق أنني أقنعت نفسي بالمجيء إليك، فقط، لأقص عليك حكايات جدي وعصاه. أسوأ ما في الأمر لم يأت بعد".

هذا الحديث الذي تتحدثه الشخصية الروائية الرئيسية في الرواية يتم توجيهه إلى طبيب ما، ومن الواضح أنه طبيب نفسي، أي أن الشخصية هنا تعاني من خلل نفسي واضح، وهو يدرك جزءا منه، وإن كان غير قادر على إدراكه كلية، لكننا سنُلاحظ أن الروائي حريص على عدم التصريح بالأمر وتأكيده للقارئ، بل يشير إليه من بعيد فقط؛ ليظل الأمر دائما في مجال دائرة الشك والارتياب، وهما الإحساسان المُحيطان بالعمل الروائي منذ الفقرة الأولى منه؛ بسبب عمدية الروائي لذلك، وكأنه يقول لنا: لا يوجد يقين واحد في هذا العالم؛ فكل شيء قابل للشك والارتياب، وإعادة بنائه وتشكيله مرة أخرى.

اختلال الصحة النفسية الذي نستشعره لدى الشخصية الروائية هنا قد يتحول إلى حالة ترجيحية بين الشك واليقين بأنه مُصاب بفصام نفسي حينما نقرأ: "رُحت أقدم له الطعام صباح مساء، وراح يكبر، ويكبر، حتى تجاوز الحجم الطبيعي للصراصير. وعندها، أيقنت أنني أمام صرصور غير عادي. صرصور بتّ أخافه، ربما أكثر مما يخافه جدي نفسه. كبرت، وأصبحت في هذا العمر. وكبر الصرصور أيضا. أصبح بحجم الأرنب، ثم بحجم خروف. عندما أصبح الصرصور بحجم خروف تقريبا، اختفى جدي. طرحت فرضيتين لهذه القضية: الأولى: رحل إلى بيت آخر في مدينة أخرى، وتزوج امرأة أخرى. الثانية: مات. بجلطة دماغية مثلا. لا أذكر أنني رأيته ميتا، أو حضرت جنازته. لكن هذا لا يُقلل من الفرضية. مات جدي، لكن الصرصور لم يمت. لم يبق في البيت غيرنا: الصرصور وأنا. أصبح بحجم خروف. والآن صار بحجم فيل. تخيل صرصورا بحجم فيل. أليس الأمر مُريعا؟ لعلك لا تصدق. بإمكانك أن تأتي معي إلى البيت وتشاهده بأم عينيك. مات جدي. كبر الصرصور. أصبح بحجم الفيل. أما أنا فسأصاب بالجنون. هذا إن لم أكن قد جُننت فعلا. أرجوك، صارحني يا دكتور، هل أنا مجنون؟". إذن فالشخصية الروائية التي تحكي هذه الهلاوس والتخيلات للطبيب ليست سوى شخصية مُعتلة نفسيا بالفعل، وهي هنا لا بد لها أن تكون مُصابة بالفصام الذي يجعلها أكثر من شخصية، وهنا يتضح لنا السبب في أن الشخصيات ليست في موقع واحد طوال أحداث السرد، بل هي تتبادل أدوارها ومواقعها بين فصل وآخر، وأحيانا داخل الفصل الواحد أيضا؛ لأن الشخصية الساردة ذاتها شخصية مُتشظية إلى العديد من الشخصيات المُختلفة، وهذا أيضا يفسر لنا إعادة البناء والهدم غير مرة، بل وتشكيل السرد على أكثر من وجه، وأكثر من احتمال.

محمد علاوة حاجي
لكن، ولأن الروائي هنا يرغب في مواصلة مُتعته الروائية التي تقوم على البناء والهدم؛ فهو يهدم لنا هذه الاحتمالية بعدما كدنا نتقين منها، بل ويذهب إلى أن الجنون هو مُجرد قرار تتخذه شخصياته حينما ترغب في ذلك، وهو ما يؤكده بعد ذلك مُباشرة حينما يكتب: "في المقهى التقيته مُجددا، موحوش، بدا لي مُختلفا. وقبل أن يتسلل إلى الخارج، هاربا من دفع الحساب همس في أذني: لدي خبر لك، لقد جُننت. فعلت ذلك قبلك، ولا أحد أراد تصديقي. هذا سيثير بعض المتاعب، لكن لا يهمني الأمر، المُهم أنني جُننت وكفى. بإمكاننا أن نصبح صديقين إذن. طبعا، طبعا. لكن أخبرني لماذا قررت، فجأة، أن تصبح مجنونا؟ ليس ثمة سبب واضح، أقصد أن هناك الكثير من الأسباب التي تدفع بالمرء إلى الجنون، أعتقد أنني تأخرت. أبدا، ما زلت صغيرا يا رجل، والعمر كله أمامك، كيف وجدت الأمر؟ مُسليا، لكن المُشكلة أنهم لا يأخذون الأمر على محمل الجد. لا شيء يأتي بسهولة يا صديقي، ثمة ثمن يجب أن ندفعه دائما، لكنني أريد سماع أسبابك، هل هي مُقنعة؟ لا أعرف. فيم تفكر الآن؟ في الهروب، وأنت؟ في القفز". إن الروائي من خلال هذا المقطع إنما يعيد القارئ مرة أخرى إلى النقطة صفر، أو إلى حالة من العبثية التي تحيط بكل شيء في هذا العالم الروائي؛ فالجنون هنا مُجرد قرار من المُمكن لنا أخذه بسهولة وإخبار الآخرين به، كما أن موحوش الذي عرفنا فيما قبل أنه صديقه، لم يعد صديقه؛ لذلك يطلب منه السارد أن يكونا صديقين حينما عرف بقراره لأن يكون مجنونا، وسنلاحظ أنهما يعانيان في اتخاذهما لهذا القرار بأن الآخرين لا يأخذون الأمر على محمل الجد، أي أن قرارهما في حد ذاته يكاد أن يكون قرارا عاقلا لا يتخذه سوى العقلاء أنفسهم، وليس المعتلون نفسيا! لكن الروائي هنا حريص على إنهاء الفصل برغبة السارد في القفز، وهو قراره الجديد الذي سيتخذه. هذا القفز الذي ذكره في نهاية الفصل هو ما سنفهمه في الفصل التالي؛ فهو راغب في القفز من فوق الدور السادس في البناية الجالس فيها، وهي البناية التي رأيناه يجلس على سطحها في الفصل صفر من الرواية.

هنا يصل الروائي محمد علاوة حاجي بشخصيته الفصامية إلى ذروتها، وهو ما سيؤكد لنا هذا الفصام حينما يقول: "على الأرجح، بل من المؤكد، أن الشخص الذي يهم بالقفز من على سطح العمارة المُهترئة المُؤلفة من ستة طوابق، هو أنا. شيء واحد يجعلني مُتأكدا من ذلك: هذه الملابس التي أعرفها جيدا. هذا القميص الأسود الشاحب لي، وسروال الجينز الأزرق المُغبّر لي، وذلك الحذاء الرياضي الأبيض المُتسخ لي. أذكر أنني اشتريته، الحذاء، من المحل س قبل ثلاث سنوات بالضبط. كان موضة دارجة في تلك الأيام. الشخص الذي يهم بالقفز من على سطح العمارة المُهترئة المُؤلفة من ستة طوابق، قد لا يكون أنا. قفز احتمالان إلى رأسي للتو. الأول: أعرت ملابسي لمعتوه ما، وها هو يهم بالقفز من هذا العلو الشاهق بها. أخشى في هذه الحالة، أن يتم استدعائي للتحقيق في مُلابسات الحادث. كان عليه أن يعيد لي أغراضي، على الأقل حتى لا أخسرها عندما يموت. الثاني: سرقها مني أحدهم. تسلل إلى شقتي أو أخذها وهي مُعلقة على الشرفة. اختلسها مني وأنا أسبح، في المسبح أو في البحر. ولكم أن تحدسوا بما حدث بعد ذلك. دعونا من هذا ولنتفق على أنني من يقف على سطح العمارة. حينها سيكون أمامي خياران: الأول: أن أصعد إليّ، وأحاول إقناعي بعدم القفز من ذلك العلو الشاهق. أستبعد أن أسمعني، فمن الواضح أني مُصمم على المضي في القرار. الثاني: أن أنضم إلى كوكبة المارين الذين سيجتمعون بعد قليل، مثل كمشة جعارين عثرت على روثة بقرة طازجة، وأقف بينهم. أرقبني بقليل من الحذر، وأردد معهم الأسئلة التي لا تحمل كثيرا من الحيرة: هل سيفعلها؟ لماذا يريد أن يفعلها؟ هل سأفعلها؟ لماذا أريد أن أفعلها؟".

ألم يصل الروائي هنا بشخصيته إلى ذروة فصامها النفسي، حتى أنه سيتأكد لنا أن كل ما كان من سرد هو مُجرد هذيان شخص فصامي؟ هذا الفصام ستعترف به الشخصية الساردة بالفعل حينما يقتل زوجته لأنها لا تضع له الكثير جدا من الملح في الطعام كما يحب؛ فيضطر دائما إلى ضربها، لكنها حينما فعلت ووضعت له ما يريده من كمية كبيرة من الملح رأى أنها زائدة جدا عن الحاجة، وقذفها بمطفأة السجائر الكريستالية التي استقرت في رأسها فماتت: "جثة امرأة مُمددة أمام مرمدة مُبقعة بالدم، وقطة بيضاء سمينة تموء داخل تلافيف دماغك. تلك القطة ستصيبك بالجنون. هذا أنت، الشخص ذاته. الكهل غريب الأطوار، الذي يعاني حالة مُتأزمة من انفصام الشخصية، الذي لا ينام كبقية البشر. إن لم تكن هو، فأنت تشبهه"! أي أن السارد هنا رغم اعترافه بالفعل بأنه مُصاب بالفصام ليفسر لنا في النهاية كل ما قرأناه من ارتباك سابق، يعود في نهاية حديثه ليحاول إرباكنا ونفي يقيننا بقوله: "إن لم تكن هو، فأنت تشبهه"!

لكن، هل سيظل الكاتب على هذه الحالة من التلاعب الأبدي بنا؟ بالتأكيد لا بد أن يتبادر هذ التساؤل إلى أذهاننا، لا سيما أن الحالة، والعالم الروائي اللذين وضعنا الروائي فيهما يتيحان له الاستمرار للأبد مُمارسا ألاعيبه السردية التي لا تنتهي، إلا أن الروائي يدرك هنا أن العمل الروائي لا بد له من نهاية، لكنه ينهيه تاركا إيانا في منطقة ضبابية ما بين الشك واليقين، غير راغب في أن يصل بنا إلى أرض ثابتة ليكتب: "عند المُنعطف، رأى مبروكة وابنتها سمّونة جالستين على الأرض. تتسولان صدقات المارة كعادتهما، البائستان. أرمي إلى صحنهما الفارغ ما تبقى من أوراق موحوش، ثم أهم بالمُغادرة. تتشبث سمّونة بي: خذنا معك. لكنني سأقفز من الطابق السادس. تقولان بصوت واحد كما في مسرحية: سنقفز معك. المعتوهتان، تظنان الأمر مزحة. أنفلت منهما وأمضي إلى وجهتي، وحين أصل، أجد جمعا غفيرا من الفضوليين مُجتمعين، بينهم سمّونة ومبروكة وموحوش ومقران. أجلس على الحافة وأنا ألتهم سجائري، واحدة تلو الأخرى، في استرخاء تام. أرقبهم ويرقبونني. يصلني ضجيجهم. اعتدت أن أرى شخصا يهدد بالقفز، لكني لم أر من قبل حشدا يفعل ذلك. إنهم يريدون إنهاء هذه المهزلة بمهرجان من القفز. لكن، لماذا يريدون فعل ذلك؟ ما زلت أرقبهم، وما زالوا يرقبونني. الاحتمال الأول: أنا فوق، وجوقة المجانين تحت. الاحتمال الثاني: أنا تحت، أدخن وأرقب ببرودة مجموعة مجانين يهددون بالقفز من الطابق السادس. ما يحز في قلبي هو أن كل شيء سينتهي هكذا، الآن وهنا، دون أن تعرفوا ما إذا كنت فوق وهم تحت، أم أنني تحت وهم فوق. عزاؤكم الوحيد في كل هذا الهراء أني لا أعرف أيضا". ربما كان الاقتباس الأخير- وهو المقطع الأخير من الرواية- بمثابة الصدمة للقارئ الذي لن يخرج من الفخ الذي نصبه له الروائي محمد علاوة حاجي بمهارة وفنية وإتقان، عامدا إلى التلاعب بالسرد والقارئ معا؛ فهو لم يصرح- في حقيقة الأمر- بفصام السارد، وإن كان قد أشار إليه، ولم يغلق لنا نهايته لنعرف ما الذي سيفعله، وإن كان قد تركنا أمام احتمالاته.

إن رواية "في رواية أخرى" للروائي الجزائري محمد علاوة حاجي من الروايات القليلة التي تستمتع بفنيات السرد الروائي وتمارسه كلعبة مُمتعة ومُسلية في آن؛ فيظل يتلاعب بالعملية الكتابية والقارئ معا طوال الوقت، كما أن الروائي هنا نجح في تقديم رواية مفتوحة على كل الاحتمالات المُمكنة، وهي الرواية التي من المُمكن لمُتلقيها المُشاركة في كتابتها من دون أن يختل بنائها المُعتمد على الاحتمالات المفتوحة التي تتيح هدم كل ما كان وإعادة بنائه في سياق وبشكل مُختلف، ولكن، ليس معنى ذلك أن هذا الشكل الفني- بهذا المفهوم- مُجرد بناء مُهلهل فضفاض غير مُتماسك البنيان، بل هو في حاجة إلى الكثير من التركيز والمهارة والدربة لمن يتعرض إلى إعادة البناء والهدم أكثر من مرة.

لكن يبقى أن الروائي قد وقع في العديد من الأخطاء اللغوية التي باتت تتواجد في مُعظم الأعمال الروائية العربية؛ لذلك نراه حينما يستخدم فعل الأمر من "نظر" يكتب "أنظر" مُضيفا له همزة قطع، رغم أن الألف هنا ألف وصل؛ لأن الفعل بمثابة الأمر من فعل ثلاثي الأصل، ووضع همزة القطع له يجعله فعلا مُضارعا وليس فعل أمر، كما يكتب "سيحضون" بدلا من "سيحظون" مُستخدما الضاض كبديل للظاء، وهو من المشهور في اللهجات المغاربية وإن كان لا يصلح للاستخدام في سياق السرد الفصيح الذي استخدمه الكاتب فيه، كما يكتب "صغيرا أبله" بدلا من "صغيرا أبلها"؛ لأن الصفة تتبع الموصوف في الحركات، ويستخدم الاسم الموصول في غير ما يشير إليه فيكتب: "الطفلين الذين" وهو الاسم الموصول الدال على الجمع وليس المثنى، في حين أن الصحيح "الطفلين اللذين"، ويقع في الخطأ المشهور "تخرجت من الجامعة"، والصحيح "تخرجت في الجامعة"، وحينما يكتب "اضطررت" يكتبها بشكل خاطئ في "اضطرّت"، وهي من الأمور التي لا بد أن تجعل القارئ يشعر بالقلق أثناء قراءته، وكثيرا ما توقفه عن إكمال العمل الأدبي بسبب كثرة وقوع هذه الأخطاء، أو تفكيره فيها مُنشغلا عن عملية القراءة.

 

 

محمود الغيطاني
مجلة مصر المحروسة

7 يونيو 2021م

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق