الثلاثاء، 15 يونيو 2021

Your Son.. الأبوة كمحرك للجريمة

قد يظن البعض، للوهلة الأولى، أن الفيلم الإسباني Your Son أو Tu Hijo- تبعا للاسم الأصلي للفيلم- للمخرج الإسباني ميغيل آنخيل فيفاس Miguel Ángel Vivas هو مجرد فيلم من أفلام التشويق والجريمة التي تعمل على جذب المُشاهد إلى التمسك بمقعده حتى اللحظة الأخيرة من أجل مشاهدة الجريمة التي ستحدث، لكن النظرة المتمهلة للفيلم ستؤكد لنا أن فيلم "ابنك" هو فيلم عن الأسرة، لاسيما الأبوة. إنها مشاعر الأبوة التي قد تدفع صاحبها إلى قتل أي شخص من الممكن له أن يمس الابن؛ باعتباره مُقدسا لا يصح لأحد أن يمسه حتى لو كان مخطئا في كل ما يفعله في حياته.

من خلال مشهدين سريعين وشديدي التركيز، وبلغة سينمائية موجزة يقدم لنا المخرج ميغيل آنخيل فيفاس في مشاهد ما قبل التيترات Avant titre الطبيب الجراح خيمينيز الذي قام بدوره ببراعة الممثل Jose Coronado جوزيه كورونادو الذي لا يهتم في حياته سوى بعمله وتركيزه فيه، كما يوضح لنا أن ثمة علاقة قوية تربطه بابنه المراهق الذي يشترك في مسابقات للعدو؛ وهو الأمر الذي يجعل الابن دائما ما يصطحب أبيه معه في تمارين الجري اليومية؛ ليشاركه فيها.

نشاهد خيمينيز معظم الوقت في سيارته مُستمعا إلى الراديو الذي يبث أخبارا عن الأزمة الاقتصادية في إسبانيا، وتعليق المذيع الساخر عليها حينما يقول: إن قطاع البناء يعاني من نقص كبير في العمال، في الوقت الذي يعلق فيه على الخبر بقوله: أين هي الوظائف؟ لو وفروا الوظائف لوجدوا الكثير من الشباب واقفين بالطوابير من أجلها. ربما كان هذا التركيز على الأخبار الاقتصادية التي تعاني منها إسبانيا كان من الأهمية في سياق الفيلم؛ حيث نرى الآلاف من الشباب الذين لا يفعلون شيئا سوى الذهاب إلى الملاهي الليلية يوميا من أجل قتل أوقاتهم، وتناول المخدرات، أي أن المخرج كان يمتلك من اللغة السينمائية التي جعلته يقدم ما يريد قوله بشكل من الإيجاز السينمائي البعيد تماما عن المباشرة الفجة التي قد تُفقد الفيلم الكثير من فنيته.

يُفاجأ خيمينيز بإحدى الممرضات التي تخبره بأن ابنه قد وصل إلى المشفى مُصابا بعدما تعرض لضرب كاد أن يُفضى به إلى الموت؛ فيسرع إلى غرفة العمليات من أجل محاولة إنقاذه بنفسه، لكن زملائه من الأطباء يطردونه خارج العمليات؛ مبررين الأمر بأنه لا يمكن له أن يفعل شيئا، وأنهم سيقومون بدورهم في ذلك. ربما كان مشهد الأب/ الطبيب هنا وهو يحاول تعقيم يديه قبل دخوله إلى غرفة العمليات من أهم المشاهد في الفيلم حينما نرى يديه ترتعشان غير قادر على تثبيتهما، بينما يحاول جاهدا السيطرة عليهما من أجل التعقيم واللحاق بابنه الطريح في غرفة العمليات، كما أن هذه اللقطات التفصيلية كانت من أهم ما يميز الفيلم لدى المخرج؛ حيث اللقطات الكبيرة على الوجه، واليدين لدى الأب؛ لتوضيح ردود الأفعال والانفعالات التي يشعر بها الأب على طول الفيلم. وهو ما رأيناه أيضا حينما يخرج ابنه من غرفة العمليات ويظل واقفا أمام بابها متأملا دماء ابنه على الأرض بينما تقوم العاملة بمسحها. نرى هنا الأب متأملا للدماء من خلال لقطات كبيرة على وجهه بينما يعمل المخرج من خلال المونتاج على الانتقال المتبادل- غير مرة- بين ملامح الأب المتأملة القلقة، وبين منظر الدماء على الأرض وكأنما في هذه الدماء حياة ابنه.

تؤكد الشرطة للأب بأنهم لم يستطيعوا التوصل إلى الجناة الذين قاموا بالاعتداء على ابنه؛ فهم لم يقوموا بسرقة أمواله، ولا دراجته البخارية، لكن هاتفه المحمول فقط هو الذي اختفى، كما يخبرون الأب أن أحد أصدقائه قد غيّر أقواله مرتين، ربما لأنه مرتبك، لكنهم حتى هذه اللحظة لا يمتلكون أي دليل على أي شيء؛ ومن ثم ستبدأ عملية البحث عن الأسباب والجناة.

لا يستطيع الأب هنا انتظار نتائج بحث الشرطة بينما ابنه في غيبوبة داخل غرفة العناية المُركزة؛ فيبدأ البحث بنفسه؛ ليعرف ما حدث، مُهملا في ذلك عمله، ليقضي معظم أوقات الليل في الخارج مُراقبا للعديد من الشخصيات. يخبره صديق ابنه أنه غير أقواله؛ لأنه رأى من قاموا بالاعتداء على ماركوس ولقد كانوا أربعة شباب، لكنه يخاف من إخبار الشرطة لأنهم رأوه أيضا، ويعتقد أنه إذا ما أبلغ عنهم فإنهم قد يقتلونه، لكنه يخبر الأب أن أحدهم قد صور الاعتداء بالكامل على هاتفه المحمول، وهو يعمل في محطة وقود بالقرب من الملهى الليلي الذي كان ابنه فيه، وأن هذا الشاب يصبغ شعره باللون الأبيض.

يتجه خيمينيز إلى محطة الوقود ويبدأ في مراقبة الشاب ومطاردته ليلا في كل مكان يذهب إليه، سواء في الملهى الليلي، أو على الطريق إلى أن يقرر أن يصطدم به ذات مرة؛ فيصدمه دراجته البخارية بسيارته، وحينما يخرج الشاب هاتفه من أجل الاتصال بالشرطة يختطف خيمينيز الهاتف، ويفر من مكان الحادث.

ربما كان الاهتمام بتفاصيل العمل السينمائي الصغيرة من أهم ما يميز المخرج ميغيل آنخيل فيفاس؛ فحينما اختطف الطبيب هنا هاتف الشاب واستقل سيارته نراه بين برهة وأخرى يحرص على لمس شاشة الهاتف حتى لا يتم إغلاقه، وبالتالي سيعجز عن فتحه مرة أخرى إلى أن يتوقف بعيدا باحثا في مقاطع الفيديو ليشاهد من خلاله عملية الاعتداء القاسية على ابنه بالكامل، وهي العملية التي كاد أن يقتلونه تماما فيها.

تزداد داخل الأب الرغبة اليقينية في قتل كل من قام بالاعتداء على ابنه، لا سيما الشاب الذي كان حريصا على ركله في وجهه أكثر من مرة من أجل قتله، لكنه يسرع إلى مركز الشرطة ومعه الهاتف لتراه المُحققة التي تتولى القضية، إلا أنها ترفض رفضا تاما النظر في الهاتف مُبررة ذلك بأنها لا تستطيع رؤية الفيديو إلا من خلال إذن قضائي رغم أن الهاتف يحتوي على فيديو يدين من اعتدوا على الابن فيه، وفي مقابل رفضها رؤية الفيديو يُدان الطبيب بتهمة الاعتداء على شاب قاصر وسرقة هاتفه؛ وهو الأمر الذي يجعله يقول لزوجته حينما يخرج بكفالة: لماذا لا يشاهدونه؟ خرجت بكفالة بينما هم في الشارع.

هنا يتأكد لخيمينيز أن حق ابنه لا يمكن أن يعود بالقانون، وأن المعتدين سيظلون في الخارج يمرحون بينما الابن في غيبوبة بين الحياة والموت؛ لذلك يقرر أن القانون لا فائدة منه، وأن فكرة الانتقام الشخصي هي الوحيدة الراجحة من أجل الثأر لابنه ممن فعلوا به ذلك.

الممثل بول مونين
يحاول الطبيب الاتصال بأندريا حبيبة ابنه وهو الدور الذي قدمته الممثلة Ester Expósito إستر إكسبوسيتو، لكنها تطلب منه عدم الاتصال بها مرة أخرى، ولا تبدي أي اهتمام بما حدث لماركوس؛ الأمر الذي يدفعه إلى الذهاب إليها في مدرستها لملاقاتها أثناء خروجها، لكنها تعود للتهرب منه مرة أخرى؛ فيقول لها: إنه قد رأى الفيديو، هنا تتوقف لتسأله: أي فيديو؟ فيخبرها عن فيديو الاعتداء على ماركوس الذي سجله المعتدون، لكنها تتهرب منه غير مهتمة حينما يصل راؤول، حبيبها الجديد. هنا يلمح الأب على المعطف الذي يرتديه راؤول نفس العلامة التي سبق أن رآها في الفيديو، وحينما يبحث عنه على الفيس بوك من خلال صفحة أندريا يتأكد أن راؤول هو الذي كان يرغب في قتل الابن داخل الفيديو المُسجل.

يعبر المخرج عن الطبيب وتفكيره من خلال المشهد الذي نراه فيه يرتدي الحذاء الرياضي الذي أهداه الابن له، وخروجه للجري أثناء الليل في نفس الطريق الذي كان يمارس فيه الجري مع الابن، بينما نرى من خلال لقطات قريبة عضلات وجهه التي تزداد تشنجا لحظة بعد أخرى، بينما يقطع المخرج من خلال المونتاج على مشاهد الاعتداء على الابن التي سبق أن رآها في الفيديو المُسجل. إن المونتاج المتوزاي Cross Cutting الذي حرص عليه المخرج بين اللقطات القريبة على وجه الأب أثناء جريه اللاهث، وبين لقطات الاعتداء على الابن كانت من الضرورة والأهمية؛ ما يجعلنا ندرك الحالة النفسية العاصفة التي يمر بها، والتفكير العميق الذي يفكر فيه من أجل اتخاذ قراره فيما يجب أن يفعل، وهو بالفعل ما ينتهي به الأمر إلى الاقتناع بقتل من فعل بابنه ذلك.

إن مشاعر الأبوة هنا كان لها من التأثير ما جعل الطبيب الناجح في عمله المستقر، والذي يعيش حياة اجتماعية وأسرية مستقرة أيضا، لا يهتم بهذا العمل، ولا يستقر في بيته ويظل طوال الليل خارجه للبحث عمن فعل بالابن ذلك، ولعل مقدرة الممثل جوزيه كورونادو التمثيلية كانت أهم ما ساعد المخرج في التعبير عن فيلمه وما يرغب في تقديمه؛ فنحن نرى الأب طوال الوقت تبدو على وجهه علامات الذهول والشرود الدائم والقلق وكأنه منفصل تماما عما يدور من حوله، أو أنه خارج هذا العالم المحيط به، بينما يعيش في عالم آخر يخصه لا علاقة له بكل من هم حوله. هذه التفاصيل التي يحرص عليها الممثل في تجسيد شخصية الأب، وهذه القدرة على تقمص شخصية الأب المكلوم في ابنه لدرجة أن من يشاهده يتأكد أن العالم قد انتهى بالنسبة لهذا الرجل، كانت من الصدق الذي يجعل المشاهد في حالة تعاطف دائم معه حتى لو اشتط فيما يفعله من أجل الثأر للابن.

الممثلة الإسبانية إيستر أكسبوسيتوا
يتجه خيمينيز إلى أحد الأشخاص الذي سبق أن أنقذ ابنه طبيا، ويخبره بما حدث لابنه، ويطلب منه ضرب من قاموا بهذا الفعل مع ماركوس، لا يقتنع الرجل في البداية، لكن الطبيب يعده بمبلغ كبير من المال، يوافق الرجل على مضض، ويُحضر للطبيب مسدسا كان قد طلبه، إلا أن والد راؤول- صاحب الملهى الليلي- الذي كان قد اعتدى على ماركوس يلحق خيمينيز داخل سيارته وفي يده شاكوش ليقوم بتثبيت يد الطبيب على عجلة القيادة وضربها بالشاكوش بقسوة ليقول له: لو اقتربت مرة أخرى من ابني سأقتلك.

هنا يقرر الطبيب الانتقام الحقيقي لابنه بنفسه؛ فيذهب إلى منزله محاولا الإمساك بالمسدس، لكن إصابة يده بالشاكوش تمنعه؛ فيفتح علبه المشارط الطبية ليأخذ أحدها ويتجه إلى الملهى الليلي الذي يجتمع فيه الشباب الذين اعتدوا على ابنه لاسيما راؤول الذي كاد أن يقتل ماركوس، وهو نفس الشاب الذي اختطف أندريا حبيبة ابنه منه.

يمنعه الأمن من الدخول؛ فيخبرهم بأن ابنته بالداخل ولا ترد على هاتفها وهي قاصر؛ فيسمحون له. يبدأ في البحث عن راؤول حتى يلمحه يدخل إلى دورة المياة فيتبعه، وما أن يخلو المكان تماما إلا منه ومن الشاب؛ يطعنه في رقبته بالمشرط الطبي ليموت مباشرة، ويسرع بالخروج.

حينما يصل خيمينيز إلى منزله يسمع صوت بكاء ما؛ ليجد ابنته سارة ومعها أندريا التي تبكي. تمد سارة يدها بهاتف محمول إلى أبيها، وتخبره بأن هذا الهاتف هو هاتف ماركوس، وأنها ترغب منه في رؤية الفيديو المُسجل عليه، يتناول الأب الهاتف بقلق؛ ليشاهد من خلاله ابنه وقد قابل أندريا خارجة من الملهى الليلي ويطلب منها أن يوصلها بسيارة أحد أصدقائه. توافق أندريا، وفي السيارة يبدأ ماركوس في لومها لأنها تركته وذهبت لغيره، لكنها تحاول أن تُنهي النقاش معه، ويدخل للسيارة أحد الأصدقاء المشتركين بينما يسألها ماركوس: هل كنت تضاجعينه في الوقت الذي كنت على علاقة بي؟ لكنها ترفض النقاش معه، أو الرد عليه. هنا يأخذ صديقهما هاتف ماركوس ويبدأ بالتسجيل، بينما يقوم ماركوس بإغلاق أبواب السيارة ويقوم باغتصاب أندريا في الوقت الذي يقول لها فيه: إنه يحبها، لكنها الآن من الممكن أن يغتصبها جميع أصدقائه انتقاما منها.

إيستر أكسبوسيتوا
يشاهد الأب الفيديو بذهول، لكنه يقول بيقين بعدما ينتهي منه: إذن، فهذا هو السبب. لقد كان يحبك.

لا يمكن إنكار أن ما قاله الأب بعد مشاهدة فيديو اغتصاب ابنه لأندريا صادم، ومثير للكثير من الدهشة؛ فالأب هنا يلتمس العذر لابنه في اغتصاب أندريا، ولا يراه مذنبا، بل يراها هي المُذنبة؛ لأنها تركته وارتبطت بغيره، ورغم أن الجريمة التي ارتكبها الابن مع أندريا هي التي أدت إلى الجريمة الأخرى في الاعتداء عليه حتى الموت من أجل التأديب من قبل راؤول المرتبط بها، ومن أجل الحصول على فيديو الاغتصاب، لكن رغم هذه الصدمة من رد فعل الأب إلا أن المُشاهد قد يتعاطف إلى حد كبير معه؛ ومن ثم يوافقه على ما ذهب إليه باعتباره أبا يرى أن ابنه قد ظُلم وجُرح وأُهين حينما تركته الفتاة التي يعشقها وذهبت إلى غيره، كما أن مشاعر الأبوة تجعله يرى ابنه مُنزها عن الخطأ حتى لو كان مُخطئا بالفعل؛ فالآباء دائما ما يرون أبناءهم في صورة ملائكية، منزهون عن أي خطأ بينما أبناء الآخرين هم المخطئين دائما.

يقوم الأب بطرد أندريا، وحينما تحاول أخذ هاتف ماركوس يجذبها الأب من شعرها ليأخذ منها الهاتف ويقوم بطردها من المنزل. يذهب الأب إلى غرفة العناية المركزة للاطمئنان على ابنه، ويقوم بتقبيل رأسه، ويفتح هاتف ماركوس المحمول ليقوم بإلغاء الفيديو المُسجل عليه اعتداء الابن على أندريا وتنزل تيترات النهاية؛ لتؤكد أن الأب حينما قام بالقتل، وحينما قام بتحمل أندريا للذنب، وحينما ألغى الفيديو الذي يدين ابنه؛ فهو قد فعل كل ذلك وهو على يقين بأنه على صواب، وأن ابنه برئ من أي ذنب، وأنه لا بد من الانتقام للابن بهذه الطريقة.

الممثلة آسيا أورتيجا
لم يقل لنا المخرج ما هو مصير الأب قبل إنهاء الفيلم، لكنه كان من الذكاء ما يجعلنا نعرف مصيره؛ فهو حينما قام بقتل راؤول داخل الملهى الليلي، وأثناء خروج الأب من الملهى ركز المخرج بذكاء ودقة على كاميرات المراقبة التي كانت تقوم بتسجيل وجود الطبيب داخل الملهى الليلي؛ ومن ثم فخروجه من الملهى سواء من داخله، أو في الشوارع المحيطة به كانت مُسجلة كما عرضها المخرج في الفيلم، أي أن الشرطة لا بد لها أن تستدل عليه باعتباره القاتل؛ ومن ثم ستدينه، لكن المخرج لم يكن يرغب في النهايات التقليدية؛ فقدم لنا هذا المشهد قبل نهاية الفيلم بحوالي نصف الساعة؛ الأمر الذي يُدلل على بلاغة الصورة لديه، وعدم ميله للثرثرة أو التزيد.

يعبر الفيلم الإسباني "ابنك" Your Son عن مشاعر شديدة الخصوصية، وهي الخصوصية التي أدت لانفجار كل هذه المشاعر الغاضبة التي دفعت الأب إلى القتل، ولعل خصوصية هذه المشاعر من الممكن لها أن تدفع أي أب في نفس الموقف إلى ما فعله خيمينيز حينما يجد أن القانون لا يستطيع فعل شيء لمن قاموا بالاعتداء على الابن. صحيح أن المخرج يميل بفيلمه إلى فكرة الانتقام الشخصي، وتحقيق العدالة الفردية بعيدا عن القانون والمؤسسات؛ الأمر الذي يؤدي- بالضرورة- إلى شيوع الفوضى في المجتمعات، لكننا في نهاية الأمر لا يمكن لنا لوم الأب فيما ذهب إليه رغم عدم مشروعيته، بل سنتعاطف معه، ونكاد أن نشجعه طوال أحداث الفيلم حتى وهو يقوم بقتل راؤول؛ نتيجة للأداء التمثيلي المتكامل للممثل جوزيه كورونادو الذي بدا على وجهه- منذ دخول الابن إلى المشفى- وكأنه رجل قد فقد الحياة تماما، وانفصل عن هذا العالم، ولم يعد يعرف سوى عالم الانتقام للابن، واجترار كل ذكرياته معه؛ فبعد دخول الابن إلى المشفى، ورغم أنه كان يذهب مع الابن دائما للجري يوميا مُرغما؛ نراه يذهب للجري وحده في نفس الطريق التي كان يعبرها مع ماركوس، وكأنه يريد استحضاره بهذا الفعل الذي كان يمارسه معه، أي أن الابن كان بمثابة مركز الكون بالنسبة له.

المخرج الإسباني خوسيه كورونادو
نجح المخرج الإسباني ميغيل آنخيل فيفاس في تقديم فيلم عميق ومهم، وعاصف عن الأبوة وأثرها، وما يمكن أن تؤدي إليه هذه المشاعر العميقة من أجل الأبناء، لكننا لا يمكن إنكار أن الفيلم كان من الأفلام التي تنتصر للنظرة والمجتمع الذكوري بشكل كامل؛ فالأب هنا لا يعنيه من أسرته سوى الابن ماركوس، وبالتالي نرى أن علاقته بالأم والابنة هامشية تماما، وحينما يحدث سوء للابن ينهار العالم تماما في عينيه، كما أنه رغم رؤيته للفيديو الذي يغتصب فيها ماركوس لأندريا أمام أصدقائه الذين يقومون بالتسجيل لا يدين الابن هنا، بل يدين أندريا المُغتصبة بقوله: لقد كان يحبك، أي أنها هي المذنبة بتركها له، وهذا يعني أنها تكتسب وجودها وكينونتها وأهميتها من حب ماركوس لها؛ وبالتالي فهي تفقد أي امتيازات حينما تهجره ويكون فعل اغتصابه لها أمرا بديهيا، أي أنه ينظر إلى المرأة هنا نظرة دونية؛ فالرجل هو الذي يُكسبها موقعها من الإعراب في هذا المجتمع الذكوري؛ لذلك نراه يقوم بطردها وجذبها من شعرها من أجل الحصول على الهاتف الخاص بابنه. لكن رغم هذه النظرة الذكورية لا يمكن إنكار أهمية ما قدمه المخرج، ومقدرته الفنية التي اتضحت من خلال فيلمه لا سيما التصوير، والمونتاج، كما أن الموسيقى التصويرية التي قدمها فرناندو فاكاس Fernando Vacas كانت من أهم العناصر داخل الفيلم؛ فلقد لعبت دورا حيويا في التعبير عن الكثير من اللحظات النفسية العصيبة التي يمر بها الأب خاصة مع استخدام مزيج من البيانو والنحاس الحزين اللذين كانا ينطلقان بشكل فيه من المرارة ما يجعلنا أكثر تعاطفا مع الأب.

 

 

 

محمود الغيطاني

مجلة الثقافة الجديدة

عدد يونيو 2021م

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق