الجمعة، 22 سبتمبر 2023

من البيت للمدرسة: سينما اجتماعية أم تلفيقية؟!

في عام 1972م قدم المُخرج أحمد ضياء الدين فيلمه "من البيت للمدرسة" الذي يُعد من أكثر الأفلام ركاكة وسذاجة بشكل لا يمكن لطفل صغير أن يقتنع بأحداثه وما يدور فيه، مُعتمدا في ذلك على سيناريو ضحل، شديد التلفيق كتبه السيناريست عدلي المولد المُحامي الذي رغب في أن يصل إلى الفكرة النابتة في ذهنه بكافة الطُرق السهلة والساذجة وأبسطها من دون الاهتمام بالمنطق الداخلي لأحداث فيلمه، لدرجة أن ما ذهب إليه من أحداث تلفيقية تعدت المنطق الواقعي قي الحياة الواقعية إلى عدم الاقتناع بها على مستوى المنطق الفيلمي الداخلي للفيلم.

في صناعة السينما قد تتعارض الأحداث التي نراها في الفيلم مع المنطق الواقعي الذي نحياه، لكن مثل هذه الأمور مقبولة؛ فالمُشاهد دائما ما يُتقن فن التواطؤ، أي أنه يستطيع تقبل ما يدور من أحداث مُستحيلة باعتبارها أحداث مُمكنة، ولكن شرط هذا القبول أن تمتلك هذه الأحداث- غير المنطقية واقعيا- منطقا داخليا وتسلسلا، وعدم تناقض بين بعضها البعض، أي أن الفيلم من خلال منطقه الداخلي الذي يذوّب الأحداث في هارمونية واحدة مُكتملة يجعلنا كمُشاهدين نغض الطرف عن مدى واقعية الأحداث التي نراها من عدمها، أما في حالة فقدان الفيلم لمنطقه الداخلي- وهو المنطق الأهم- ينصرف المُشاهد عن المُتابعة لينتبه بأن صُناع الفيلم يستهينون بعقله، مُقدمين له مجموعة من الأحداث التلفيقية التي لا يمكن قبولها بأي شكل من الأشكال.

ثمة مُلاحظتان لا بد من الانتباه إليهما قبل الدخول في العالم الفيلمي الذي قدمه المُخرج أحمد ضياء الدين لأهميتهما: أولاهما: أننا لاحظنا على أفيش الفيلم عبارة: غلطة الآباء تنمو مع الزمن؛ فتُحطم الأبناء! ولعل وجود مثل هذه العبارة على الأفيش يُعد بمثابة الرسالة الأخلاقية التي تحمل في طياتها الكثير من الحكمة والنصيحة من قبل صُناع الفيلم ليوجهونها للمُشاهد، أي أن صُناع الفيلم، هنا، قد اتخذوا موقف الناصح الذي لا بد له أن يدلي بحكمته للمُشاهد، ومن ثم وضعوا فيلمهم- حتى من قبل مُشاهدته- في موضع الفيلم الذي سيقدم لهم الحكمة، وهو ما لا يمكن قبوله على المستوى الفني.


المُلاحظة الثانية: هي كتابة عبارة "الفيلم الاجتماعي الكبير من البيت للمدرسة" على تيترات الفيلم، وهي العبارة التي لا بد لها أن تثير الكثير من الدهشة والتساؤل لا سيما تجاه كلمة "الكبير" التي تصف الفيلم الاجتماعي، ولماذا يراه صُناع الفيلم كبيرا، ومن أقنعهم بمثل هذا اليقين بأن الفيلم هو فيلم اجتماعي كبير؟

إن هاتين المُلاحظتين لا بد لهما من تشكيك المُشاهد منذ اللحظة الأولى في الفيلم ومدى فنيته حتى قبل أن يقبل على مُشاهدة المشهد الأول منه؛ لأن صُناعه هنا يطلقون الأحكام- سواء منها الأخلاقية، أو التي تحمل في طياتها حكمة- وهو الأمر الذي لا علاقة له في حقيقته بالفن، بقدر ما له علاقة بأمور أخرى تربوية بعيدة عن صناعة السينما.

يبدأ المُخرج أحمد ضياء الدين فيلمه بسهير- قامت بدورها المُمثلة نجلاء فتحي- الطالبة في المرحلة الثانوية والتي تستعد للذهاب إلى مدرستها بينما تحاول أن تتعجل أمها تفيدة- قامت بدورها المُمثلة سميرة مُحسن- كي تنهي لها خياطة جونلتها المقطوعة والتي ترقعها الأم برقعة على شكل وردة.

تسرع سهير للحاق بمدرستها لكنها أثناء سيرها في الطريق تصطدم بها سيارة لتقع أرضا؛ فيهبط السائق للاطمئنان عليها ويهبط معه حسن- قام بدوره المُمثل نور الشريف- ونلاحظ وجود محمود- قام بدوره المُمثل رشدي أباظة- داخل السيارة يدحن سيجاره. تؤكد سهير لحسن أنها بخير؛ فيعرض عليها أن يوصلها، وحينما تحاول الرفض يصرّ محمود على أن تستقل السيارة ليخبرها حسن أن عمه محمود وكيل نيابة وأنهم سوف يوصلونها إلى مدرستها.


توافق سهير، ويظل حسن ينظر إليها مُعجبا بها طوال الطريق، وهو الأمر الذي يلاحظه عمه محمود الذي كان في طريقه إلى إحدى المُستشفيات من أجل أخذ أقوال أحد المُصابين فيها. تصل سهير، لكنها حينما تدخل إلى فصلها الدراسي تلاحظ مُدرستها ناهد- قامت بدروها المُمثلة عزيزة راشد- الوردة التي رتقت بها أمها على جونلتها؛ فتطلب منها خلعها؛ مما يجعل سهير في موقف مُحرج وتطلب من المُدرسة أن تخلعها بعدما ينتهي دوامها الدراسي، لكن ناهد تُصرّ على خلع الوردة من على الجونلة وتنزعها عنوة؛ فينكشف القطع الموجود في الجونلة، وهو ما يجعل ناهد تشعر بالندم على فعلها وتطلب من سهير الذهاب إليها في حجرة المُدرسات بعد انتهاء الحصة.

تعتذر ناهد للفتاة عما حدث، وترتق لها الجونلة بنفسها، لتعدها بأنها ستقوم بتفصيل جونلة لها، لكن سهير ترفض العرض وتشكرها مُنصرفة. أثناء خروج الفتيات من المدرسة بعد انتهاء اليوم الدراسي تعرض عليها صديقتها ميرفت أن توصلها معها في سيارة خالها عصام- قام بدروه المُمثل أشرف عبد الغفور- فتوافق سهير على مضض، لكنها تشعر بالكثير من الاستياء من عصام الذي يحاول التحرش بها والنظر إليها بنظرات لا تليق. حينما تهبط ميرفت أمام بيتها تطلب من خالها أن يوصل سهير إلى البيت؛ فينتهز الفرصة ويوافق، لكن سهير تظل بعيدة عنه مُلتصقة بالباب بسبب نظراته الشرهة إلى ساقيها اللتين تحاول تغطيتهما، وحينما تزداد حدة تحرشه توقفه أمام إحدى البنايات مُدعية بأنها تسكن هنا.


تهبط سهير أمام البناية وتتظاهر بدخولها حتى ينصرف عصام الواقف أمامها مُنتظرا دخولها، وأثناء محاولة اختفائها عن نظره داخل البناية يُفتح المصعد ليخرج منه حسن الذي قابلته في الصباح حينما صدمتها سيارة عمه؛ فيُفاجأ بها مُرحبا، وتدخل المصعد لكنه يصعد معها. يسألها حسن عن كونها تسكن في هذه البناية، لكنها تخبره بأنها في زيارة لخالها الذي يسكن في الدور الأخير، فيبتسم ليقول لها: أيوة، فيلا الأستاذ محمود حسن؛ لتؤكد على كلامه. يسألها بخبث عن رأيها في ابن أخيه حسن لترد عليه بأنه لطيف. حينما يصل المصعد إلى الدور الأخير يخرج معها حسن؛ فتتساءل مُستاءة عن السبب في خروجه معها، ليرد عليها ضاحكا بأن الأستاذ محمود حسن هو عمه الذي كان في السيارة في الصباح وأن هذه الفيلا هي فيلته، أي أنه يعرف بأنها تكذب عليها.

أظن أنه لا بد لنا من التوقف هنا هنيهة قبل الاستمرار في أحداث الفيلم من أجل تأمل ما سبق؛ فاصطدام سيارة محمود حسن وكيل النيابة بسهير في الطريق ومعرفتنا في المشهد التالي حينما يصل إلى المشفى أن سهير في الحقيقة ابنته التي لا يعرف عنها شيئا قد يكون من قبيل المُصادفة المقبولة؛ فالأم تفيدة التي تعمل كعاملة نظافة في المشفى حينما شاهدته تذكرت من خلال الفلاش باك Flash Back ماضيها معه حينما كانا متزوجين زواجا عُرفيا تركت من أجله أهلها للأبد، وكيف أنها حينما أخبرته بأنها حامل في الشهر الثاني وأنهما لا بد لهما أن يتزوجا بشكل رسمي، يتنصل منها ليخبرها بأنه قد توظف كوكيل نيابة في الصعيد وعليه أن يذهب أولا من أجل استلام عمله وترتيب أمر زواجهما لكنه لا يعود إليها مرة أخرى؛ مما يجعلها فيما بعد تتزوج من المعلم مدبولي- قام بدوره المُمثل محمد رضا- نقول: إن هذه المُصادفة من المُمكن لنا كمُشاهدين تقبلها، لكن أن يذهب في نفس اليوم مُباشرة- بعد حادث الاصطدام- لأخذ أقوال أحد المُصابين في نفس المشفى التي تعمل فيها تفيدة يأتي كمُصادفة أقل قبولا بعض الشيء، إلا أن المُصادفة الثالثة التي اعتمد عليها المُخرج كي يستكمل بها أحداث فيلمه كيفما رسمها في ذهنه تبدو لنا شديدة التلفيقية والعمدية؛ حيث اضطرت سهير إلى الهبوط من سيارة عصام لتتخلص منه، وادعت بأنها تسكن في إحدى البنايات التي هي نفس البناية التي يسكن فيها أبوها الحقيقي وابن أخيه حسن. إن المُخرج قد لجأ إلى هذه المُصادفة غير المنطقية والعمدية تماما من أجل التقاء سهير بحسن مرة أخرى؛ ومن ثم يستطيع استكمال أحداث فيلمه كما رسمها مُسبقا، أي أن الفيلم هنا يقوم على التلفيقية غير المُقنعة والتي لا منطقية فيها.


يهبط حسن خلف سهير حينما يعرف أنها كانت تكذب عليه ليسألها عن السبب في كذبها؛ فتحكي له أنها كانت في صُحبة خال صديقتها ميرفت، ولأنها فتاة فقيرة تسكن في بدروم مع أمها وزوجها رغبت أن تجنب نفسها الكثير من الإحراج؛ لذلك ادعت بأنها تسكن في هذه البناية وحاولت التخفي عن أنظاره حتى ينصرف. يشعر حسن بالكثير من الإعجاب بسهير ويخبرها بذلك، لكنها تؤكد له أن الأغنياء من أمثاله دائما ما يحاولون التلاعب بالفتيات الفقيرات وتتركه راحلة عنه.

يخبر أحد المُدرسين- الذي كان خطيبا للمُدرسة ناهد- بأنها إذا ما كانت لديها رغبة في أن تهدي سهير ملابس جديدة فعليها أن تفعل ذلك من دون أن تعرضها للكثير من الإهانة بأن توزع في حفل نصف العام جوائزها، وتكون جائزة سهير بعض الملابس الجديدة. بالفعل في حفل مُنتصف العام تقدم سهير على المسرح المدرسي رقصة استعراضية، وهو الحفل الذي يحضره عصام مع ابنة أخته ميرفت؛ فيشاهد سهير أثناء رقصها وتزداد رغبته فيها، وتقوم ناهد بتوزيع الجوائز وتكون جائزة سهير لتفوقها في جميع المواد والرقص الإيقاعي.

تفرح سهير بالملابس حينما تراها في البيت وترتدي إحداها لتذهب إلى موعد مع حسن الذي ربط بينهما الكثير من الحُب، لكن سهير تتشكك أثناء حديثها معه بأنه يحبها كما تحبه، ولأنه أراد أن يؤكد لها جديته يصطحبها معه إلى فيلا عمه الأستاذ محمود، وهناك يسألها محمود عن عمل أبيها لتخبره بأن زوج أمها يعمل كتاجر غلال، وحينما يسألها عن مكتبه تخبره بالحقيقة وأن زوج الأم يبيع "الكشري" على عربة صغيرة في الشارع؛ الأمر الذي يجعله ينزعج كثيرا، ويتساءل مُندهشا موجها حديثه لابن أخيه: أنت عايز تتجوز واحدة من ولاد الحواري؟!


تخرج سهير مُنزعجة ليلحقها حسن مُؤكدا لها أنه يحبها، وأن كلام عمه لا يعنيه. يلاحظ المعلم مدبولي/ زوج أمها أنها ترتدي ثيابا جديدة حينما تعود إلى البيت ويسألها عن هذه الثياب من أين أتت بها، وحينما تخبره بأنها جائزة المدرسة لا يصدقها ويذهب معها إلى المدرسة بالفعل مُستفسرا، لكن ناهد تؤكد له أن هذه الملابس هي جائزتها بالفعل. هنا تدخل ميرفت لتدعو ناهد إلى حفل عيد ميلادها، كما تدعو سهير أمام المعلم مدبولي الذي يوافق بشرط ألا تتأخر عن الساعة التاسعة مساء.

من أجل المزيد من الأحداث التلفيقية وصيرورة الأحداث كما يرغبها صُناع الفيلم نجد أن ميرفت تسكن في الشقة المُقابلة تماما لشقة خالها، وأن أمها قد رفضت أن تقيم حفل عيد الميلاد في شقتها لعدم وجود من ينظف الشقة؛ لذلك فقد كان الحفل في شقة عصام. في الحفل نشاهد عصام الذي يتناول الويسكي في فنجال الشاي طوال الحفل، كما أنه يتابع سهير بعينيه راغبا فيها رغم أن شقيقته تلح عليه أن يهتم بخطيبته التي تشعر بالكثير من الغضب. حينما ينصاع عصام لشقيقته للترحيب بخطيبته يذهب إليها فقط لأنها تقف مُحادثة لسهير، وهنا تنطلق موسيقى إحدى الرقصات ليطلب عصام مُراقصة سهير بدلا من مُراقصة خطيبته التي لا يهتم بها. تشعر خطيبته بالكثير من الغضب والغيرة، بينما تبدأ سهير الرقص معه، لكنه أثناء مُراقصتها يحاول أكثر من مرة تقبيلها أمام الجميع بشكل لا يمكن تصديقه، ولا يمكن أن يحدث من رجل أمام خطيبته في الحياة الواقعية، لكن مصدر الدهشة هنا ليس محاولته تقبيلها أكثر من مرة أمام الجميع، بل كان المصدر الحقيقي للدهشة هو رد فعل سهير التي أبدت شيئا من التمنع فقط.


إن مشهد مُراقصة عصام لسهير من المشاهد التي تم تقديمها بشكل فيه الكثير من المُبالغة غير المُقنعة مُطلقا؛ فناهيك عن رغبته في تقبيلها، وهو ما يمكن لنا تجاوزه على مضض رغم أن خطيبته تتابعه ببصرها شاعرة بالغيرة، فإن موقف سهير كان مُجرد الاستياء والتمنع فقط، وكأنها تتمنع تمنع المُتدللات، أي مُجرد تمنع ظاهري، كما أنها رغم ذلك تستمر في الرقص معه من دون محاولة الانسحاب أو حتى إبداء استيائها بدفعه، أو حتى الاعتراض على ما يفعله قولا؛ ومن ثم كان المشهد غير مُقنع وشديد التلفيق.

تنتبه سهير إلى أن الساعة قد وصلت الحادية عشرة؛ مما يجعلها تسرع بالعودة إلى بيتها، لكن زوج الأم يتظاهر بغضبه لتأخرها ويطردها من البيت ليقول لها: ارجعي مطرح ما كنتي. ورغم أنه لم يكن يقصد طردها؛ حيث قال لأمها أنه يتظاهر بذلك فقط وسيفتح لها الباب بعد قليل حتى لا تفعل ذلك مرة أخرى، إلا أنها تصدق ما فعله وتعود إلى بيت ميرفت مرة أخرى بينما تهطل الأمطار على رأسها بغزارة.

من العقلاني والمنطقي لأي إنسان أن السير تحت المطر لا يمكن له أن يُمرض المرء للدرجة التي تجعله غير قادر على الوقوف على قدميه أو سعاله بشدة وبشكل متواصل بمُجرد خروجه من تحت المطر مُباشرة، لكن سهير حينما وصلت إلى البناية التي تسكن فيها ميرفت نراها في حالة تداعي كامل وكأنها مُصابة بالمرض منذ فترة طويلة، كما أنها تدق باب شقة عصام بدلا من باب شقة ميرفت المُقابلة لها، رغم معرفتها بأن ميرفت تقطن في الشقة المُقابلة- وهو تلفيق جديد من صُناع الفيلم كي يكتمل كما رسموه- تبدو لنا سهير مريضة وكأنها على وشك الموت بشكل فيه الكثير من السذاجة؛ لذلك بمُجرد ما يفتح لها عصام باب شقته نراها تكاد أن تهوى أرضا ليسندها مُستقبلا إياها في الداخل. تسأل سهير عن ميرفت؛ ليؤكد لها بأنه سيستدعيها، لكن عليها أن تغير ملابسها المُبتلة حتى لا يصيبها البرد. بالفعل تطيعه سهير وحينما تخرج من الحمام غير مُتزنة- لسنا ندري سبب عدم اتزانها- يناولها عصام فنجالا من الويسكي ليدفئها بينما تبدو لنا سهير شديدة السذاجة- ربما يظن المُخرج سذاجتنا نحن- ولا تعرف أن ما تناولته مشروبا كحوليا.


ربما لا تقتصر المشاهد الساذجة المُصطنعة على ما سبق فقط، لكن مشهد اغتصاب عصام لها كان فيه الأكثر من السذاجة والمُبالغة التلفيقية غير المُقنعة، وبالتالي لا يمكن للمُشاهد التفاعل أو التعاطف معه؛ فمقاومتها لعصام- أثناء اغتصابها- بدت لنا مُجرد تمنع امرأة راغبة في الأمر، لكنها تتدلل عليه، كما أنها لم تحاول الصراخ أو الاستنجاد بأحد رغم معرفتها بأن صديقتها تقطن في الشقة المُقابلة، وأن أي صوت في الليل من المُمكن سماعه بوضوح، وفي المُقابل حينما استيقظت في الصباح رأيناها تصرخ؛ الأمر الذي جعل عصام يحاول كتم صوتها كيلا يسمعها أحد؛ مما يفتح الباب لتساؤل المُشاهد: إذا كانت لديها المقدرة على الصراخ كما فعلت حينما استيقظت؛ فلم لم تصرخ حينما كان عصام يغتصبها رغم أنها لم تكن مُغيبة؟!

تعود سهير إلى بيتها باكية بعدما يعدها عصام بأنه سيتزوجها، ويبدو عليها الشرود الدائم أثناء وجودها في المدرسة، وحينما يقابلها حسن تخبره بأنهما لا بد لهما أن يفترقا، ويجب عليهما التوقف عن علاقتهما؛ نظرا لأنهما من مستويين مُختلفين تماما؛ الأمر الذي يجعله يسافر إلى الإسكندرية من أجل التمرن كمُحامٍ في مكتب هناك والابتعاد عن سهير.

أثناء وجودها في الفصل الدراسي تشرد سهير لتكتب خطابا لعصام تخبره فيه بأنه قد مرت العديد من الأيام ولم يوف بوعده لها، لكن حينما يقترب المُدرس منها تضعه في كراستها التي يأخذها المُدرس، لينتبه فيما بعد إلى الخطاب ويحتجزها بعد انتهاء حصته التالية في الفصل ليلومها على هذا الأمر.


تشعر ميرفت بالغيرة من اهتمام المُدرس بسهير، وتظن أن بينهما شيئا، أو أنه يحاول مُضايقتها، وأثناء خروجها تذهب معها سهير لتستقل السيارة مع عصام وبعد نزول ميرفت تطلب منه أن يفي بوعده وإلا أبلغت عنه الشرطة وأخبرت خطيبته بما فعله، إلا أنه يؤكد لها بأنه سيسافر إلى الإسكندرية في الغد من أجل فسخ الخطبة وسيعود كي يتزوجها، لكن سهير حينما تسأل ميرفت عن عودة خالها من السفر تؤكد لها ميرفت أن خالها لم يسافر.

تتيقن سهير بأن عصام يتلاعب بها، وهو ما يجعلها غير راغبة في الذهاب إلى المدرسة، وحينما تلاحظ ناهد تغيبها تخبرها ميرفت بأنها ستذهب إليها لتستطلع سبب هذا الغياب، وهناك تخبر أمها بأن سهير ربما تتغيب لأن المُدرس يضايقها ويحتجزها بعد انتهاء اليوم الدراسي مُنفردا بها في الفصل؛ الأمر الذي يجعل الأم تثور وتذهب إلى المدرسة لاستطلاع الأمر.

هناك يخبرها المُدرس أن علاقته بسهير هي علاقة المُدرس بالتلميذ، وأنه كان يلومها بعدما وجد خطابا غراميا في كراستها، لكن الأم لا تصدق هذا الادعاء، وتخبر المُديرة بأنها ستبلغ الشرطة بالأمر، إلا أن ناهد تؤكد لها الأمر، وتخبرها بأنها ستذهب معها إلى البيت لمُقابلة سهير التي لا يمكن لها أن تنكره.

على الجهة الأخرى تسرع سهير إلى بيت عصام ليذهب معها إلى المدرسة وينقذ المُدرس الذي لا ذنب له، لكنه يرفض مُتهما إياها بالجنون؛ مما يجعلها تهدده بأنها ستخرج لإخبار شقيقته وإخبار الشرطة بما بدر منه؛ فيحاول منعها من الخروج وخنقها للتخلص منها، لكنها تلمح سكينا بجوار رأسها على المنضدة فتأخذه لترشقه في ظهره في نفس اللحظة التي تصل فيها ناهد إلى شقته للبحث عن سهير عنده، وحينما تجد الباب مفتوحا تدخل لتُفاجأ به يموت بينما لا يوجد أحد في الشقة بعدما هربت سهير من الباب الخلفي.

تحاول ناهد تخليصه من السكين بإخراجه من ظهره، وتبدأ في الصراخ؛ ليتم اتهامها بقتل عصام نظرا لأن بصماتها على السكين وعدم وجود أحد في الشقة سواهما، ورغم أنها تؤكد بأنها قد ذهبت للبحث عن سهير إلا أنه يتم احتجازها على ذمة التحقيق.


تهرب سهير لتُهاتف بيت حسن، لكن الخادم يخبرها بعنوانه في الإسكندرية لتذهب إليه. وهناك تعيش مع حسن لحظات حب يتخللها تذكرها للحادث وخوفها من مصيرها، لكنها في يوم تقرأ في الجريدة بأن الشرطة تبحث عنها لإغلاق القضية، وبمُجرد قراءتها للخبر نراها- من خلال مشهد شديد الاصطناع- في حالة وهن شديد وعدم القدرة على الوقوف على قدميها حتى أنها يغشى عليها حينما تقف، ولما يأتي حسن بالطبيب يخبره: هي محتاجة لرعاية كتير، ولازم تتنقل المُستشفى، المُهم إنها متعرفش إن حياتها في خطر؛ عشان متفكرش كتير، وبعدين تتعب أكتر! مما يجعلنا في دهشة قصوى من صيرورة الحدث وقول الطبيب؛ فهي لم تكن تعاني من أي شيء، وكانت صحتها جيدة جدا حتى أننا رأيناها في مشاهدها في الإسكندرية تجري على الشاطئ وتلعب الكرة مع حسن؛ ومن ثم فلا مُبرر مُقنع لهذا المرض المُفاجئ الذي يجعل حياتها في خطر، وهو المرض الذي لم يحدده الفيلم سوى أنه جعلها مريضة وغير قادرة على الحركة فقط لتلازم الفراش، فضلا عن أن وجهها وماكياجها يؤكدان أنها لا تعاني من أي شيء حتى لو مُجرد الإجهاد!

تطلب سهير من حسن أن ينقلها إلى المشفى الذي تعمل فيه أمها في القاهرة، وحينما يعود إلى عمه يطلب منه مئتي جنيه؛ فيرفض عمه لأنه يعرف بأنه في حاجة للمال من أجل الزواج بالفتاة التي هربت من القضية، هنا يخبره حسن أنها لم تهرب وأنها في المشفى. يؤكد العم على أنه لا بد له من استجوابها قبل الذهاب إلى المحكمة. وحينما يذهب إلى المشفى لا يجدها- أي أنها تمتلك من القوة وعدم المرض ما يجعلها تخرج وتمشي على قدميها-.

في المحكمة يؤكد محمود وكيل النيابة أن ناهد هي من قتلت عصام، ويطلب المحامي استدعاء سهير للشهادة في اللحظة التي تدخل فيها سهير بكل صحتها وعنفوانها إلى قاعة المحكمة مع حسن وأمها؛ لتؤكد للقاضي بأن عصام قد اعتدى عليها وحينما ذهبت إليه حاول قتلها مما جعلها تقوم بقتله بدورها.

تذهب أمها/ تفيدة إلى محمود وتذكره بنفسها؛ لترجوه بأن ينقذ ابنتها، لكنه يؤكد لها بأن البنت لا بد من مُحاكمتها لأنها مُجرمة مُدانة بقتل عشقيها. هنا تخبره الأم بأن سهير هي ابنته، لكنه يكتب قرار القبض عليها، ليثنيه بكتابته استقالته التي قدمها للنائب العام.


ينتقل بنا المُخرج إلى المشفى حيث عادت سهير مرة أخرى لاستكمال مرضها- الذي يرغبه المُخرج- رغم أنها لم تكن مريضة حينما ذهبت إلى قاعة المحكمة- ونرى حسن معها بينما هي في كامل ماكياجها وتبدو عليها الصحة الوافرة، لكن المُخرج أراد لها أن تموت في هذا المشهد كي يستطيع أن يختم فيلمه، وبالتالي يخرج حسن من حجرتها مذهولا في الوقت الذي يصل فيه محمود لرؤية ابنته وحينما يراها قد ماتت يقوم بتقبيلها لينتهي الفيلم الشديد السذاجة الذي قدمه لنا المُخرج أحمد ضياء الدين.

إن فيلم "من البيت للمدرسة" للمُخرج أحمد ضياء الدين لا يمكن لنا أن نُطلق عليه توصيف الفيلم السينمائي؛ فهو فيلم شديد السذاجة والتلفيقية في أحداثه التي لا يمكن لطفل أن يصدقها، أي أن هذا الفيلم لو كان فيلما من أفلام التحريك التي تُقدم للأطفال فهم لا يمكن لهم أن يقتنعوا بما رأيناه فيه من أحداث. كما أن أحداث الفيلم ونهايته اللامعقولتان يفتحان الباب للتساؤل مرة أخرى: أين هو الفيلم الاجتماعي الكبير الذي أشار إليه صُناع الفيلم في تيترات البداية؟! وهل هذا الهراء الذي رأيناه من المُمكن أن يكون فيلما اجتماعيا، بل ويتم وصفه بالكبير؟!

إن هذا الفيلم يؤكد لنا أن فترة السبعينيات التي حاولت عدم الإشارة إلى الهم الاجتماعي، والانفصال الكامل عن المُجتمع وما يعانيه أفراده، والحرص على تقديم العديد من الأفلام التغيبية والإلهائية قد جعل السبعينيات من أسوأ الحقب السينمائية التي مرت بها السينما المصرية؛ نظرا لأن هذه الفترة قدمت الكثير من الأفلام على هذه الشاكلة.

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة

عدد سبتمبر 2023م

الاثنين، 11 سبتمبر 2023

شبق.. الملحمة الجنسية الأكثر قتامة! (الجزء الثاني)

حوار دياليكتيكي ماهر، مُفرط في قسوته الذهنية بقدر إمتاعه، هذا ما يمكن لنا قوله حينما ننتهي من مُشاهدة الجزء الثاني من فيلم Nymphomaniac شبق للمُخرج والسيناريست الدانماركي Lars Von trier لارس فون ترير الذي يؤكد لنا بثقة مُفرطة- للمرة التي لا نعرف عددها- أنه ليس مُجرد صانع أفلام- فهذا قد يكون بمثابة الإهانة له- بل هو مُفكر حقيقي يتخذ من السينما وسيلة للتفكير؛ ومن ثم ينقل لنا هدير أفكاره وتأملاته، ورؤاه، وآراءه، وثقافته بشكل بصري مُمتع، مُتمتعا في ذلك بأسلوبية خاصة ومُدهشة ماهر في استخدامها وصبغ أفلامه بها، ليمتعنا بدورنا مع ما يقدمه لنا. إنه الثائر الأول على صناعة السينما في العالم وأساليبها النمطية- سواء الأيديولوجية منها، أو الأسلوبية البصرية- الأمر الذي يدفعه دائما إلى إثارة الدهشة بمحاولته التجديد فيها تبعا لرؤيته في الصناعة وما يجب أن تكون عليها، وبالتالي دائما ما نرى له أفلاما تذهب إلى الطرف الأقصى والأبعد من التجريب؛ مما يجعل الكثيرين من صُناع ونقاد السينما يتهمونه بالتخريب، والجنوح باتجاه الغرابة، بل وبالتعالي على الجميع، لكنهم رغم ذلك ينبهرون بما يقدمه في نهاية الأمر اعترافا منهم بأنه من أفضل صُناع الأفلام في مجال الصناعة السينمائية- رغم أننا لا يمكن لنا نفي قصديته التخريبية في صناعة السينما من أجل الخروج بأنماط جديدة!

يقدم لارس فون في الجزء الثاني من فيلمه درجة أكبر من العمق في تناوله للحواس وأثرها على حياة الإنسان، لا سيما موضوع الشبق الأنثوي الذي اتخذه كمثال للحواس ونقاشها، لكن الإيغال في هذا العمق يصبغ الفيلم بصبغة شديدة القتامة والإظلام- وهو ما يتناسب مع أن الفيلم هو الجزء الثالث المُتمم لثلاثية الكآبة The Depression Trilogy- حتى أن المُشاهد للفيلم لا بد له أن يخرج منه وقد انتابته كآبة حقيقية لن يتخلص منها بسهولة- وهو التأثير الجوهري الذي يرغب ترير في أن يترك فيلمه بأثره على مُشاهده، حتى لكأنها رغبة سادية جوهرية منه تجاه مُشاهديه!


إن لارس فون، هنا، لم يقدم لنا فيلما يكاد أن يكون جنسيا لفرط المشاهد الجنسية الكاملة والتعري الكامل، وتحديق الكاميرا وتركيزها على الفتحات الجنسية للمُمثلين بقدر ما نجح في صناعة فيلم شديد الذهنية أشبه بالبحث العلمي والثقافي عن الجنس وأسراره، وهو من خلال مشاهد الجنس التي لا تنتهي- والتي تصيبنا بالمزيد من الاكتئاب والسوداوية- إنما يرغب في التأكيد على حقيقة لا مناص منها تفيد بأن الجنس مثلما هو ضروري في حياتنا، ومثلما يدفع بحياتنا باتجاه السعادة، والراحة، والاتزان النفسي، فهو قد يقودنا إلى الدمار التام إذا ما حاولنا الانسياق إليه وذهبنا خلفه إلى جانبه الأقصى والمُظلم الذي لا حد له؛ فهو حاسة، ورغبة كلما استزدت منها زادتك بوفرة وسخاء، لكن سخاءها في نهاية الأمر شديد التدمير على صاحبه، بل وعلى من يحيطون به أيضا!

نحن في هذ الفيلم- بجزئيه- لسنا في الحقيقة داخل عالم جنسي لا ينتهي بقدر ما نحن في عالم من العدمية والاكتئاب اللذين يلقيان بظلالهما علينا كمُشاهدين، ومن ثم تنتقل إلينا هذه العدمية والاكتئاب في حالة من حالات التماهي المشهورة في العروض السينمائية، والتي تجعل المُشاهد- رغم أنه متواطئ مع صُناع العمل على أنه سيصدق ما يُعرض أمامه باعتباره واقعا- يعيش داخل العالم البصري المعروض أمامه؛ الأمر الذي قد يصيبه- إذا ما أفرط في التماهي- بالكآبة، أو السعادة، أو الدخول في حالة من حالات البكاء، أو التشنج، أو غير ذلك من التأثيرات القادرة السينما على نقلها لمُشاهدها.

إذن، فما الذي يرغب لارس فون في قوله لنا، ودفعه إلى صناعة هذا الفيلم؟

إنه في واقع الأمر يفكر، يتأمل في الحياة الإنسانية، في الحواس، والمُجتمع، والأخلاق، والمُوسيقى، والرياضيات، والجريمة، والأدب، والفنون التشكيلية، والتاريخ، والأديان، والله! أي أننا أثناء مُشاهدتنا لفيلمه نكون في حقيقة الأمر إنما نحدق بأعين شديدة الاتساع داخل رأس فون ترير نفسه، وما يدور فيها من أفكار صاخبة، ومُضطربة تشبه هديرا هائلا من الأمواج التي لا تتوقف لفرط قوتها واكتساحها لذهنه، لذلك لا بد أن ينتابنا إحساس مُلح ويقيني بأن جو- قامت بدورها المُمثلة الفرنسية الأصل الإنجليزية الجنسية Charlotte Gainsbourg تشارلوت جينسبورج- وسليجمان- قام بدوره المُمثل السويدي stellan skarsgård ستيلان سكارسجارد- ليسا سوى وجهين لعملة واحدة تمثل في نهاية الأمر لارس فون ترير نفسه؛ ورغم أن جو- داخل الفيلم- تمثل الجانب الحسي الشهواني- المرأة الشبقة التي تحكي حكايتها- بينما سليجمان يمثل الرجل المُثقف العقلاني الذي يحلل الأمور بعقلانية مُستمعا إليها، إلا أننا مع المزيد من التأمل والتركيز سيتأكد لنا بأن كل من جو وسليجمان هما الوجهين الحقيقيين لترير ذاته، أي أنهما ترير في وجهيه الحسي والعقلاني، ومن ثم فالحوار الدياليكتيكي الدائر بينهما هو في نهاية الأمر ليس سوى حوار بين حسية المُخرج وعقلانيته وثقافته في نزاع سيطرة هائل وقاسٍ، ومحاولة فرض القوة لأحدهما على الآخر في معركة تتسم بالكثير من العنف الذهني والحسي من أجل فرض أحد الوجهين على الآخر! إنه الذهاب بالأفكار إلى جانبها الأقصى المُتطرف الذي قد يؤدي بصاحبها إلى الدمار تماما لأنها ستسحبه إلى جانبها الأكثر إظلاما- ربما لا بد من الإشارة إلى الاكتئاب المُزمن الذي يعاني منه المُخرج في واقع حياته والسبب في رغبته لصناعة أفلامه الاكتئابية.


إذا ما كان ترير قد قطع الجزء الأول من فيلمه، وأغلقه على جو أثناء مُمارستها الجنسية مع جيروم- قام بدوره المُمثل الأمريكي Shia LaBeouf شيا لابوف- ورغم أن المُمارسة كانت لاهبة إلى حد كبير حتى أنها قد طلبت منه إغلاق جميع فتحاتها؛ مما جعله يغلق فمها بإدخال لسانه بالكامل فيه، بينما تجلس على قضيبه المُنتصب، ليمد أصابعه بإدخالها في شرجها- أي أن الجنس يذهب معهما إلى مداه الأقصى- إلا أنه رغم هذه الحسية المُفرطة سقطت جو فجأة في الفراغ التام، فلم تعد تشعر بأي شهوانية، أي أنها فقدت أي إحساس جنسي بما تفعله، وهو الأمر الذي جعلها تشعر بالكثير من الذعر، وتجهش بكاء بسبب هذه العدمية الكاملة التي حلت بها فجأة.

ربما لا بد لنا من التوقف أمام دلالة هذه العدمية/ الفراغ الجنسي الذي أصاب جو لأهميته في سياق الفيلم الذي صنعه ترير؛ فجو مُنذ عرفناها في الجزء الأول هي فتاة تعلي من شأن الرغبة الجنسية والشبقية والحواس على المشاعر، وترى أن الحسية الشبقية التي تتمتع بها أبقى، وأكثر أهمية من المشاعر الإنسانية، لا سيما مشاعر الحب التي تشعر تجاهها بالكثير من الامتعاض والاحتقار؛ الأمر الذي جعلها دائما في حالة حرب حقيقية مع مشاعر الحب باعتبارها أقل من مشاعرها الحسية، فضلا عن أن الحب- من وجهة نظرها- السبب في الكثير من كوارث العالم وبالتالي يؤدي إلى الكذب، والنفاق، بل وحتى القتل، وهذا ما يفسر لنا كتابة المُخرج على بوستر فيلمه Forget About Love انس أمر الحب، لذلك دائما ما كانت جو تبتعد عن علاقات الحب في شكل أقرب إلى إعلان الحرب على المشاعر، وهو ما كان يقض مضجعها ويقلقها كثيرا حينما بدأت تتعلق بجيروم بعدما قابلته مرة ثانية، وهو ما أقلقها أكثر حينما قابلته في المرة الثالثة وتأكدت أنها مُتعلقة به تعلقا عاطفيا.


إن تغاضي جو عن تعلقها العاطفي بجيروم، واستعادة العلاقة معه، ومُشاركتها الحياة معه في بيت واحد وكأنها ستكتفي به كرجل واحد في حياتها أدى بها، في عقلها اللاواعي، إلى مثل هذا الفراغ الذي سقطت فيه، ومن ثم فقدت حواسها وشعورها بالمُتعة الجنسية؛ فهي في لاوعيها ترفض المشاعر العاطفية التي وقعت فيها وتغاضت عنها واستسلمت لها، وهو ما جعل اللاوعي يعمل لديها بأن فقدت إحساسها الجنسي نتيجة هذا الارتباط العاطفي، أي أن الحب في نهاية الأمر كان سببا رئيسا في تعطيل الشعور الجنسي لديها! أي أن قمع العقل سيؤدي به في النهاية إلى العمل اللاواعي والسيطرة على حواسنا- إنها رسالة ترير.

لعلنا لا ننسى أن ترير يهتم في فيلمه بالحسية على جميع مستوياتها حتى الدلالات السيميائية منه، وهو ما رأيناه في طريقة كتابة عنوان الفيلم على البوستر حيث كتب Nymph()maniac أي أنه تعمد كتابة حرف الـO في الإنجليزية على شكل قوسين يحيلان المُشاهد للكلمة إلى شفري فرج المرأة في تأكيد منه على حسية كل مُفردات العالم الفيلمي الذي يقدمه، وهو ما رأيناه أيضا في افتتاحية فيلمه ذات الشاشة المُظلمة في الجزء الأول والتي ركز فيها على حاسة السمع قبل أي شيء، أي أننا هنا في عالم يغص بالحسية تماما، راغب في عمل الحواس قبل أي شيء.

إن هذه الحسية التي يؤكد عليها المُخرج تجعلنا نستطيع تفسير السبب في فقد جو لحسيتها، ووقوعها في مثل هذا الفراغ؛ فالحب والمشاعر بالنسبة إليها- وبالنسبة لعالم الفيلم- عدوان شرسان للحسية الشبقية كما أسس ترير لذلك من خلال جزئه الأول.

إذن، كان لا بد لجو أن تصل إلى هذا الوضع غير المفهوم، لذلك يبدأ ترير في جزئه الثاني من حيث انتهى في جزئه الأول؛ فنشاهد جو التي فقدت أي إحساس جنسي بالمُتعة، أو النشوة الجنسية- وكأنما فرجها قد تم تخديره- عارية على فراشها إلى جوار جيروم بينما تحاول مُمارسة عادتها السرية بقسوة، وقلق، وخوف في محاولة منها لاستعادة إحساسها بالجنس مرة أخرى، لكنها رغم محاولاتها المُستميتة لا تشعر بأي شيء؛ الأمر الذي يجعلها تُبلل إحدى المناشف وتضرب بها فرجها بقسوة عله يستعيد الإحساس مرة أخرى بينما نراها تبكي بحسرة على عدم الشعور بأي شيء!


إنها سيطرة العقل اللاواعي على الجسد والحواس بسبب مُعارضة الفعل للاقتناعات التي يقتنع بها المرء، وهو ما جعل سليجمان يعلق على الأمر من خلال ثقافته بقوله: إن ما حدث لك هو بالضبط مفارقة زينون، أنت أخيل، والسُلحفاة هي بلوغ الذروة. فتتساءل مُندهشة: ما الذي تقوله؟! ليرد: لا، لا، اسمعي فقط، أخيل والسُلحفاة تنافسا في سباق العدوْ، أخيل الواثق من نفسه سمح للسُلحفاة أن تبدأ السباق مُتقدمة عنه بمئة متر- سنُلاحظ أن المُخرج كعادته يبدأ في رسم خطوط توضيحية على الشاشة لما يقوله سليجمان، وهي أسلوبية تخص ترير- الآن، المُشكلة الرياضية هي قبل أن يتخطى أخيل السُلحفاة عليه أن يصل إلى النقطة التي بدأت منها السُلحفاة السباق والتي تبعد عنه مائة متر، ولكن عندما يصل أخيل إلى تلك النقطة ستكون السُلحفاة قد تحركت مسافة مُعينة، وعندها عليه أن يصل للنقطة التي وصلت إليها السُلحفاة، وعند وصوله إليها تكون السُلحفاة قد تقدمت وقطعت مسافة أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية، بذلك لا يستطيع أخيل اللحاق بالسُلحفاة وتخطيها أبدا. بنفس الطريقة، لأنك تُلاحقين الذروة، وهي مُتقدمة عنك؛ فأنت لا تستطيعين اللحاق بها، وهذه هي المُفارقة!

سنُلاحظ في تعليق سليجمان هذه الاستعراضية المُمتعة للثقافة داخل الفيلم، والتي لا بد من ردها إلى لارس فون نفسه، صحيح أن ترير يتعمد هذا الاستعراض الثقافي في أفلامه جميعا، لكنها تبدو لنا في النهاية جزءا لا يمكن أن ينفصل عن سياق وأحداث فيلمه رغم أننا نُدرك جيدا بأن المُخرج نفسه هو الذي يتحدث على لسان شخصياته، فضلا عن أن ترير يرغب في التأكيد على لاجنسية سليجمان، وعدم اهتمامه الحقيقي بما ترويه جو من مُغامرات جنسية بقدر اهتمامه بربط حكاياتها الجنسية بمعارفه المُختلفة التي أخذها من بطون الكتب، وهو الأمر الذي سيدفع جو إلى الشعور بالاستياء منه قائلة: اعذرني، لكن يبدو أنك لا تأخذ الأمور على مأخذ الجد، أنا أحكي لك عن أسوأ تجربة مررت بها في حياتي، خلال ثوان فقدت الإحساس الجنسي، ببساطة صار فرجي مُخدرا، وأنت تأتي لتحدثني عن هذه المُفارقة الرياضية السخيفة؟! حقيقة، لقد بدأ يساورني الشك في أنك تصغى إليّ أصلا. فيسألها: لم تقولين ذلك؟! لترد: لم أحك هذه القصة كاملة من قبل، ولكن عندما أحكي للرجال عن تجاربي، وحكايات من حياتي الجنسية، يكون من الواضح أنهم يشعرون بالإثارة. فيرد: أنا بالفعل أشعر بالإثارة. لتقول: نعم، تشعر بالإثارة فيما يتعلق بالترهات الرياضية، ولكن ليس بالقصة، أي نوع من الأشخاص أنت؟!


إن سوء الفهم الحادث بين كل من جو وسليجمان بسبب تعليقاته الثقافية على تجاربها الجنسية، ومحاولته ربط هذه التجارب بما خبره من بطون الكتب يؤدي به إلى الاعتراف بأنه رجل لا جنسي، أي أنه لم يسبق له مُمارسة الجنس من قبل لا مع أي امرأة أو أي رجل، فيقول: أنا أعتبر نفسي شخصا بلا نوازع جنسية، بالطبع مارست الاستمناء في سن المُراهقة، لكنه لم يشعرني بأي مُتعة، لذلك لن تجدي لدي أي ميول جنسية، الأمر ليس نادرا كما قد تظنين، لقد قرأت طبعا الكثير من الكتب ذات الموضوعات الجنسية، حكايات كانتربري، الديكاميرون، ألف ليلة وليلة، اذكري أي كتاب في ذلك الموضوع ستجدينني قرأته باهتمام بالغ واستمتاع كبير، لكنه مُجرد استمتاع أدبي، أعتقد أن حالتي هذه ربما تجعل مني أفضل مُستمع لقصتك؛ فأنا لا أحمل أفكارا مسبقة، ولا أي تفضيلات جنسية، في الحقيقة أنا أفضل قاضٍ يمكن لك أن تعرضي عليه قصتك، والحُكم على طيبتك كإنسانة من عدمها، لن يكون لدي أي مُشكلة في ذلك، لأني لا أنظر إليك من خلال زجاج مطلو بالميول والتجارب الجنسية، أنا عذراء، أنا طاهر!

ربما كان هذا الاعتراف الذي اضطر إليه سليجمان حينما اتهمته جو بأنه لا يهتم بما ترويه له يجعلنا نتوقف أمامه هنيهة لتأمله، لا سيما أنه يحمل في داخله تناقضا ما مع ما سبق أن رأيناه في الجزء الأول، لا سيما في قوله: "أنا عذراء، أنا طاهر"!


لا يمكن إنكار أن سليجمان بدا لنا مُنذ البداية جاهلا بأي معارف جنسية، وهو ما دار في ذهننا بأنه لا بد لم يخبر العلاقات الجنسية من قبل- يتضح ذلك من هدوئه، وعدم استثارته، وعقلانيته في تناول تجاربها الجنسية، وردوده التي لا تهتم بالجنس بقدر ما تهتم بالمعارف الثقافية- لكن الكلمة الأخيرة التي اختتم بها حديثه لا بد لها أن تترك لنا صدى مدوٍ داخل عقولنا مما يجعلنا نتوقف أمامها- أنا طاهر!

سبق أن عرفنا في الجزء الأول أن سليجمان قد أخبر جو بأنه لا ديني، أي لا يؤمن لا بالأديان، ولا بالإله، وهو ما أكده في حواره معها غير مرة، لكننا سنُلاحظ أنه على طول حواراته معها يكاد أن يستخدم مُفردات واصطلاحات تخص الأديان، والثواب والعقاب، والأحكام القيمية والأخلاقية الدينية، فضلا عن أنه رغم عدم كونه مُؤمنا بأي شيء إلا أن اسمه معناه في الديانة اليهودية التي تنتمي إليها أسرته "الرجل السعيد"، وهو ما قدمه ترير في شكل ساخر في الجزء الأول، باعتبار أن لارس فون دائما ما يسخر من الدين وارتباطه دائما بالمُجتمعات حتى لو تخلينا عن هذا الدين، ورغم أن جو قد سبق لها التعليق الساخر على اسمه المُرتبط بالدين إلا أنه أكد لها غير مرة أنه لا يؤمن بالدين ولا بالله، لكن مُفردته الأخيرة التي أنهى به اعترافه لها تضرب باعترافه عرض الحائط وتقلب مفاهيمه عن اللادينية؛ فالرجل بشكل لا شعوري يستخدم مُفردات لغوية لها دلالات دينية لا سيما في الديانتين اليهودية والإسلامية اللتين تريان أن الجنس نقيض الطهارة، وهما الديانتان الوحيدتان تقريبا اللتان تنظران إلى الجنس بمثل هذا الشكل المُتدني الازدرائي وتعملان على التحقير منه رغم أهميته في الحياة الإنسانية، وهي نظرة تتناقض مع مفهوم الديانتين في حد ذاتهما وتضربهما في مقتل، فضلا عن تحقيرهما للمرأة أيضا بشكل كبير لا سيما الديانة اليهودية- ديانة سليجمان والمُخرج نفسه- والتي أخذت منها الديانة الإسلامية مثل هذا التحقير المُقزز، فإلام يرغب ترير بمثل هذا الإسقاط الذي قد لا ينتبه إليه البعض؟


إن ترير هنا يسخر من الأديان سُخرية اعتادها كل من شاهد أفلامه، فهو يعمد دائما إلى السُخرية من فكرة الدين والألوهية باعتبارهما محض هراء لا يؤديان بالإنسان إلا إلى المزيد من الشقاء في حياته، ولعلنا رأينا ذلك في الكثير من الأفلام التي قام بصناعتها منها على سبيل المثال فيلمه Epidemic وباء 1987م، وفيلمه Breaking the Waves كسر الأمواج 1996م الذي سخر فيه بقسوة من مفهوم الله ذاته، وغيرهما من أفلامه التي يتعمد فيه مثل هذه السُخرية، بل ونقاش فكرة الدين والألوهية.

إذن، فلارس فون حينما جعل سليجمان ينطق بمثل هذه المُفردة الخطيرة التي تحمل داخلها الكثير من الدلالات الدينية اليهودية والإسلامية إنما يرغب في إظهار المزيد من التناقض والسُخرية من كون سليجمان اليهودي المُلحد يتلفظ بمُفردات تحمل دلالات دينية رغم لادينيته، أي أن المُخرج ما زال يؤكد على أننا دائما في صراع قاس لا ينتهي مع الاعتقادات الدينية التي يؤصلها داخلنا المُجتمع، ورغم أننا قد نكتسب الجرأة أحيانا في لفظ هذه الاعتقادات ورفضها، إلا أننا نظل مُتعلقين بها بسبب التنشئة الاجتماعية التي تجعلها ساكنة في عقلنا اللاواعي؛ الأمر الذي يجعلها تخرج أحيانا من دون قصد، وبتلقائية قد نندهش نحن منها.

هذا الأمر سنُلاحظه مرة أخرى حينما تنظر جو إلى إحدى الصور المُعلقة على جدار غرفة سليجمان والتي تمثل في حقيقتها أيقونة دينية مسيحية؛ فتسأله: ألم تقل بأنك لا تؤمن بوجود إله؟! ليرد عليها: ولكن مفهوم الدين بحد ذاته أمر مشوق، بالضبط كمفهوم الجنس، ولكنك لن تجديني راكعا على ركبتي أمام أيهما.

ربما كان هذا الرد من سليجمان هو مُجرد رد نظري بحت، أي خاضع للعقل فقط، لأننا سنراه في نهاية الفيلم راكعا بالفعل على ركبتيه أمام رغبته في أن يجرب الجنس مع جو لأول مرة في حياته، وهو ما ينفي حديثه باسم الدين، لأنه بما أنه ركع على ركبتيه للجنس، فلا بد أن يركع للدين بدوره.

حينما تُلاحظ جو الأيقونة المسيحية المُعلقة على جدار غرفة سليجمان تقول له: إنها تنظر إليّ، كأنها أيقونة روسية، أليس كذلك؟ فيرد عليها: نعم، إنها كذلك، إنها نسخة مُتقنة ربما على أسلوب روبليف- فنان روسي- عادة ما يتم ربط الأيقونات بالكنيسة الشرقية. فتسأله: الكنيسة الشرقية؟! ليوضح: توضيح ذلك سيتطلب بعض الخلفية النظرية. فتقول: لا بأس، أريدك أن تحكي لي عن هذه الصورة. فيقول: انقسمت الكنيسة المسيحية عام 1054م بسبب اختلاف العقائد إلى الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية، وأصبحتا ما نُطلق عليه اليوم الكنيسة الأرثوذكسية، والكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وهذه الصورة تمثل بدقة أيقونة الكنيسة الشرقية التي تصوّر عادة العذراء مريم والمسيح الرضيع، ونادرا ما تصور مشهد الصلب الأكثر انتشارا وأهمية في الكنيسة الغربية، وعموما نستطيع القول: إن الكنيسة الغربية هي كنيسة الآلام والمُعاناة، والكنيسة الشرقية هي كنيسة البهجة والسعادة.


إن هذا الاستطراد الثقافي الديني الذي يحرص عليه لارس فون، وهو الاستطراد البعيد تماما عن الحسية وحكايات جو الجنسية في حياتها الشبقية، إنما يؤكد لنا على الرغبة العارمة في الاستعراضات الثقافية داخل أفلام لارس فون، وهو ما يؤكد بدوره ما سبق أن ذهبنا إليه منذ قليل حيث أن مُشاهدة أفلام ترير إنما هي عبارة عن جولة عميقة داخل ذهنه وما يدور فيه من أفكار هادرة؛ فالرجل يقطع من فعل حسي إلى فعل ذهني محض ليحاول في النهاية إيجاد الرابط بينهما، وينجح بالفعل في إيجاد الروابط بين الحسية والذهنية، وبما أن لارس فون حريص على أن يكون فيلمه على شكل كتاب ثقافي- ونجح في ذلك- مُقسما إياه إلى عناوين وفصول عديدة؛ فلقد كان هذا الاستطراد هو المدخل الذي استطاع من خلاله أن يأخذنا معه إلى الفصل السادس من فيلمه- الذي يمثل الفصل الأول من هذا الجزء الثاني من الفيلم- لذلك ستخبره جو بأنها- بما أنهما قد تحدثا عن الكنيستين الشرقية والغربية، والآلام والبهجة والسعادة- فإنها ستحكي له عن جزء من حياتها يشبه ما حكاه لها، ليكتب المُخرج على الشاشة: الفصل السادس: الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية (البطة الصامتة) Chapter Six: The Eastern and The Western Church (The Silent Duck).


تتحدث جو عن أول أورجازم تصل إليه في حياتها، وهو الأورجاوم الذي حصلت عليه في عمر الثانية عشر حينما خرجت في رحلة إلى التلال والحقول من حول المدينة مع رفيقاتها، حيث نراها في هذا العمر نائمة في الحقول بين النباتات، ومن دون أن تلمس نفسها تبدأ في الشعور بموجات الرعشة الجنسية الأولى- تؤكد على أنها الرعشة الأولى رغم أنها حاولت كثيرا فيما قبل مُمارسة العادة السرية لكنها لم تصل إلى هذه الرعشة- التي تشعرها وكأنها تخرج بها بعيدا عن العالم المُحيط إلى عالم آخر من المُتعة الفائقة التي لم تشعر بها من قبل، أو كأنما الشعور بالأورجازم يُشعر الإنسان بأنه يصعد إلى آفاق وعوالم رحبة لا يراها سواه، ولكي ينقل لنا ترير إحساسها بوصولها للرعشة بشكل بصري- فضلا عن اهتزازات جسدها، وتقلصات وجهها التي نراها- يجعل جو/ الطفلة بمُجرد انتشائها يرتفع جسدها في الهواء بعيدا عن الأرض كتأكيد منه على معنى المُتعة الحسية التي يحتفي بها الفيلم، ثم لا تلبث جو أن ترى امرأتين تقفان إلى جوارها وكأنهما تباركانها في عالم روحاني ميتافيزيقي، بينما هالة نورانية تؤطر الكادر بالكامل، وحينما تصف المرأتين لسليجمان يقول لها مُندهشا غير مُصدق: هل تسخرين مني؟! لتسأله: ماذا تقصد؟ ليقول: لقد بلغت نشوتك، ليس فقط نشوتك، بل بلغت نشوة عفوية من تلقاء ذاتها. لترد: نعم، لقد بلغت النشوة رغم أن الطبيب شخصها على أنها نوبة صرع. فيقول: وأثناء تلك النشوة ظهرت لك تلك الرؤيا، ورأيت امرأتين على جانبيك؟! فترد: المرأة التي كانت على الجانب الأيمن كانت ترتدي ملابس أرجوانية وقرمزية، وتتحلى بالكثير من المشغولات الذهبية واللؤلؤ، وكانت تحمل في يدها كأسا ذهبية وتجلس على ظهر حيوان غريب، أما المرأة الأخرى فكانت ترتدي ملابس رومانية، وتحمل رضيعا على ذراعها، وشعرها مجموع في تموجات تحت غطاء رأسها. فيرد: قصتك عبارة عن نسخة تجديفية من قصة تجلي المسيح على الجبل، والذي يُعد من أقدس التجليات في الكنيسة الغربية، حيث أضيئت الطبيعة البشرية للمسيح بالنور الإلهي للخلود- مع حرص المُخرج على عرض لوحات توضيحية على الشاشة لما يقوله سليجمان- العلاقة بينك وبين المرأتين هي نفس العلاقة بين المسيح، وموسى وإيليا، وهذا ما يجعلها قصة تجديفية.

ألا نُلاحظ هنا أن لارس فون إنما يربط بين الاستطرادات الثقافية التي تأتي على لسان سليجمان وبين الحكايات الجنسية التي مرت بها جو في حياتها؟ إنه ينجح في تضفير ذلك بشكل فني شديد الإقناع، وكأنما يصنع لنا بمُتعة، وصبر، وأناة لوحة فسيفسائية من مُنمنات صغيرة لنرى في النهاية الشكل الكامل للفيلم الذي يقدمه، وبالتالي لا بد لنا أن نرى ما يفعله شديد التلقائية، ومن المُستحيل الادعاء أنه قد عمد إلى ذلك أو حاول الزج بثقافته داخل أحداث فيلمه، أي أن حكاية سليجمان لها عن العذراء والمسيح قد أحالاها إلى رؤيتها لهاتين المرأتين اللتين تتشابهان مع قصة تجلي المسيح حينما حصلت على الأورجازم الأول في حياتها، وهو ما يجعلنا نذهب إلى أن لارس فون يذهب إلى مداه الأقصى مرة أخرى في السُخرية من جميع الأديان وحكاياتها الأسطورية!


يعود سليجمان إلى استطراداته ليفسر لها رؤيا ما بعد الأورجازم الأول قائلا: من خلال وصفك فالمرأة التي تشبه العذراء هي فاليريا ميسالينا، زوجة الامبراطور كلاديوس، والأكثر شهرة في التاريخ بالشبق النسوي، والمرأة الأخرى الراكبة مُنفرجة الساقين فوق الحيوان، ليست سوى كبيرة عاهرات بابل، تمتطي نمرود المصور في شكل ثور، وهو ما يجعل جو تؤكد له: أؤكد لك إني طاهرة وخالية من أي معرفة بالأمور الدينية، كما أنك خالٍ من أي تجربة جنسية!

ها هو فون ترير يعود مرة أخرى إلى استخدام المُفردات التي تحمل إحالات دينية، وإن كان قد استخدمها هذه المرة بشكل فيه الكثير من المُفارقة المُثيرة للسُخرية؛ فجو تؤكد على أنها "طاهرة" من أي معرفة دينية لمحاولة إقناعه بأنها لم تختلق هذه القصة نتيجة معرفتها بالدين، كما أن استخدام المُفردة "طاهرة" فيما يخص المعرفة الدينية يحمل مُفارقته باعتبار أن الدين شيء نجس، وبالتالي فعدم معرفتها به يُدلل على طهارتها! إنها السُخرية التي يرغب فيها ترير دائما من كل شيء، وليس من الدين فقط.

تنتقل جو إلى سرد حياتها مع جيروم بعد فقدانها لإحساسها الجنسي، وتؤكد على أن جيروم قد بذل قصارى ما يستطيع، وبنشاط كبير معها كي تستعيد الشعور الجنسي مرة أخرى، فنراه يحاول مُضاجعتها بكافة الطرق، وبالكثير من الاشتياق والنشاط، لكنها كانت كمن تحول إلى جثة هامدة لا تشعر بأي شيء مما يفعله معها، كما نراها في أحد المطاعم حيث يقول لها جيروم: سأعطيك خمسة جنيهات إذا ما وضعت هذه الملعقة في فرجك- يقصد ملعقة الطعام، وليس ملعقة الشاي- وهو الأمر الذي يجعل جو تقبل التحدي ببهجة لتحضر ثمان ملاعق وتصفهم أمامه على المنضدة، وتبدأ في إدخالهم الواحدة تلو الأخرى في فرجها؛ الأمر الذي يجعل الملاعق تبدأ في التساقط منها على الأرض حينما ينهضان للرحيل بينما النادل يقف مُندهشا مما يحدث أمامه.


هنا تؤكد جو على أن حياتها العدمية بعد انحسار الإحساس الجنسي عنها قد أدت بها إلى الحمل من جيروم، وهو ما جعلها حينما حان وقت الولادة راغبة في الولادة القيصرية، مُبررة ذلك بقولها: بوعي أو بدون وعي، كان من المُهم لي أن ألد قيصريا، أعني، كنت آمل أن يعمل فرجي اللعين مرة أخرى، وكان لدي شعور بأن الولادة الطبيعية لن تجعل الأمور أفضل.

إن انحسار الإحساس الجنسي عن جو كان سببه الأساس في العقل اللاواعي لديها هو الحياة الزوجية الرتيبة التي ارتضتها مع جيروم، فضلا عن شعورها بالمشاعر والحب تجاهه، وهو ما يتعارض- من وجهة نظرها- مع الشبق الجنسي، والحسية اللتين تفضلهما على المشاعر التي لا قيمة لها في ذهنها، فضلا عن أن ارتباطها بجيروم قد جعلها تنقطع عن المُمارسات الجنسية المُتعددة مع الكثيرين من الرجال، وبالتالي فإن اكتفاءها برجل واحد فقط للجنس قد أدى بها إلى مثل هذه الصدمة السوداوية في حياتها، والتي جعلتها تعيش في جحيم حقيقي من أجل استعادة رغبتها الجنسية وإحساسها الشبقي، لذلك فبعد إنجابها لمارسيل بدأت مرة أخرى في محاولة استعادة نشاطها الجنسي الشره والشبقي مع جيروم، لكنه لم يعد قادرا على مُجاراتها فيما ترغبه؛ لذلك فقضيبه كان يرتخي في بعض الأحيان غير قادر على الانتصاب من أجل تلبية حاجاتها الجنسية التي لا تنتهي، الأمر الذي جعله يطلب منها ذات صباح أن تعود لمُضاجعة غيره من الرجال باعتبارهم مُساعدين له في تلبية حاجاتها الجنسية التي لا يستطيع تلبيتها وحده!

ألا يذكرنا هذا الطلب الغريب من جيروم بفيلم Breaking the Waves كسر الأمواج 1996م لنفس المُخرج؟

بالفعل هناك ثمة تشابه بين الفيلمين في مثل هذين الموقفين، وإن كانا يختلفان اختلافا جوهريا؛ ففيلم كسر الأمواج حينما طلب الزوج من زوجته مُضاجعة غيره من الرجال ثم سرد تفاصيل المُضاجعة عليه لم يكن سوى رغبة نفسية مرضية من الزوج، لا سيما أن إصابته قد تركته مشلولا تماما، لا يتحرك فيه سوى عينيه فقط، لكن نفس الطلب من جيروم لجو لم يكن بسبب رغبة مرضية منه، بل لأنه لم يعد قادرا على إشباع رغباتها التي تنتهي، فضلا عن أنه يراها تتعذب وتحيا في جحيم حقيقي بسبب عدم مقدرتها على إشباع شبقها الجنسي الذي تتميز به، وبالتالي فقد طلب منها مُضاجعة الآخرين كما كانت تفعل طوال حياتها كشكل من أشكال المُساعدة لها في استعادة اتزانها النفسي من جهة، وكشكل من أشكال المُساعدة له لأنه لم يعد قادرا على تلبية نهمها الذي يزداد مع تقدم الوقت!


لكن، طلب جيروم الغريب من جو، أو سماحه لها بمُضاجعة غيره من الرجال لم يكن حلا للمُشكلة، بل ازداد الأمر تفاقما لأنه بدأ يشعر بالكثير من الغيرة من كل شيء، وأي شيء، وبدأت الحياة بينهما تتحول إلى جحيم حقيقي بسبب هذه الغيرة التي يشعر بها، لا سيما أنه يعرف بأن زوجته حينما تخرج لإعطاء درس في البيانو كانت تمارس الجنس مع غيره أيضا.

يبدأ جيروم في التغيب عن البيت لفترات بعيدة لمُمارسه أعماله التي لا تعرف جو عنها شيئا، وأثناء هذا الغياب بدأت جو تسعى حثيثا إلى استعادة حياتها وشعورها الجنسي بشكل نقي كما كان من قبل، وهو ما جعلها تسير خلف حسيتها لتكتشف آفاقا لم تكن تعرفها من قبل: كان يتعين عليّ إحداث تغيير، وبطريقة ما، كان مصدر الإلهام يقف تحت نافذتي طوال هذا الوقت، قررت الذهاب إلى مناطق لم أحلم من قبل بالذهاب إليها، على سبيل المثال، مُمارسة الجنس مع رجل لا يتحدث لغتي، بدأ الأمر يثيرني جدا، أن أتخيل وضعا جنسيا يكون فيه التواصل اللفظي مُستحيلا.

إنها الحسية في عالمها الأكثر نقاء، فهي لا يعنيها التواصل اللغوي، أو أي شكل من أشكال التواصل إلا التواصل الحسي الجنسي فقط، وهو ما جلعها تتأمل الرجال السود البشرة الذين يقفون دائما أسفل نافذة منزلها؛ الأمر الذي جعلها تستدعي مُترجما يعرف اللغات الإفريقية، وتشير إلى أحد هؤلاء الرجال طالبة من المُترجم أن يتواصل معه، ويسأله عما إذا كان يوافق على أن يضاجعها؛ فيعطيه الرجل الأسود عنوانا وموعدا للمُضاجعة!

لكنها في اليوم الذي تذهب فيه إلى الفندق الرخيص الذي حدده الرجل الأسود تُفاجأ بأنه قد اصطحب معه أخاه لتكون بين رجلين أسودين في نفس الوقت. تستسلم جو تماما للتجربة وتدع الرجلين يعريانها ليتعريا بدورهما بينما يتحدثان إلى بعضهما البعض بلغة لا تفهمها، ومن ثم يجعلانها تجلس على قضيب أحدهما بينما يدخل الثاني قضيبه في مُؤخرتها في نفس الوقت في وضع "الساندويتش"، لكنهما بعد فترة قصيرة من بدء مُضاجعتها معا يلقيانها على الفراش ليقفا أمام بعضهما البعض ويبدآن في الحديث بشكل غاضب بينما قضيباهما المُنتصبان في مواجهة بعضهما البعض، أي أن الرجلان قد اختلفا على أحقية كل منهما باختياره للفتحة التي يرغب في ملئها بقضيبه.


ربما لا بد لنا من التوقف أمام هذا المشهد الذي قدمه ترير بشكل فيه الكثير من البراعة؛ حيث نرى جو عارية على الفراش في عمق الكادر تماما، بينما في مقدمة الكادر الرجلان الأسودان بقضيبيهما المُنتصبان متواجهان ويتحدثان بلغة غير مفهومة وكأنهما يتشاجران على شيء ما في الوقت الذي تنظر فيه جو إلى قضبانهما المُنتصبة غير قادرة على تحديد موقفها منهما إلى أن تقرر النهوض وارتداء ملابسها للرحيل بينما الرجلان ما زالا يتحادثان لاهيان عنها.

هنا يسألها سليجمان مُندهشا: لماذا غضبا بهذا الشكل؟! لترد: من الواضح أنه كان خلافا شخصيا بينهما، ولكن فيما بعد سمعت أن المُضاجعة في وضع الساندويتش تتطلب قدرا كبيرا من الحساسية؛ حيث يبدو أن الرجلين يشعران ببعضهما عبر الأنسجة الفاصلة.

هنا يعود سليجمان إلى استطرادته وتأملاته الثقافية والأخلاقية والاجتماعية حينما تصفهما جو بكلمة "زنوج"؛ فيقول مستاء: لا ينبغي أن تستخدمي هذه الكلمة؛ فهي غير متوافقة مع ما نسميه مُراعاة مشاعر الآخرين، زنجي؟! فتقول: اعذرني، ولكن في مُحيطي من علامات التقدير تسمية الأشياء بمُسمياتها، كل كلمة نحظرها تنقص حجرا من بناء الديمقراطية، يكشف المُجتمع عجزه عن مواجهة مُشكلة مُعينة عبر إزالة كلماتها من اللغة، لم يعد المُجتمع الحديث بحاجة لحارقي الكتب. فيرد سليجمان: أعتقد أن المُجتمع سيدافع عن نفسه قائلا: إن مُراعاة مشاعر الآخرين تعبير دقيق عن اهتمام الديمقراطية بالأقليات. لكنها ترد: وأنا بدروي أستطيع القول: إن المُجتمع جبان كأبنائه الذين هم في رأيي أغبى من أن يستحقون الديمقراطية، الطبيعة الإنسانية تتجلى في كلمة واحدة، النفاق، نحن نعلي من شأن أولئك الذين يتحدثون بالخير ويضمرون الشر، ونسخر ممن يتحدثون عن الشر ويضمرون الخير، إنه مُجتمع مُؤسس على الكراهية، وكان من الواجب أن يؤسس على الغفران، الكراهية مشاعر بدائية، على الإنسان أن يكون قادرا على مُسامحة جلاده.

ألا يذكرنا هذا الحوار المُهم الذي دار بين كل من سليجمان وجو بفيلم The Idiots البُلهاء 1998م، وفيلمه Dancer in the Dark راقصة في الظلام 2000م، بل وفيلم Dogville دوجفيل 2003م، وفيلمه الهزلي شكلانيا The Boss of it All الرجل الكبير 2006 للمُخرج نفسه؟


إن ترير يحاول الربط بين أفلامه من خلال أفكاره التي لا يمكن له أن يتخلى عنها، وهو في هذا الحوار بين جو وسليجمان إنما يحاكم المُجتمع الذي يراه دائما مُنافقا في كل تصرفاته وردود أفعاله، إنه المُجتمع الذي يبدي غير ما يبطن، الرحيم في ظاهره، والشديد القسوة في جوهره، وبالتالي فهو لا يستحق من ترير سوى السُخرية اللاذعة، والقاسية، التي تتطرف أحيانا إلى حد السادية من المُخرج تجاهه، حتى أنه يرى أن هذا المُجتمع- الفاسد في جوهره- لا يستحق سوى الديكتاتورية في التعامل معه، وليست الديمقراطية!

إنها براجماتية المُجتمع التي يحاول دائما إخفائها، لكنها تخرج، رغما عنه، في ردود أفعاله، وفي الكثير من التفاصل الصغيرة التي هي في حاجة إلى التأمل الطويل له من أجل محاولة تحليل سلوكه الزائف.

تبدأ جو في الانتقال إلى الجانب المُظلم والقصي والمخفي من الحسية الجسدية، أو الرغبات الجنسية في رحلتها من أجل محاولة استعادة شعورها الجنسي وشبقها كما كان من قبل؛ وهو ما يجعلها تذهب إلى رجل يدعى كي- قام بدوره المُمثل الإنجليزي Jamie Bell جيمي بيل- كانت قد سمعت عنه بأنه يمارس السادية على النساء المازوخيات الراغبات في تعذيبهن عاريات وارتباط هذا التعذيب بالمفهوم الجنسي، حيث يمتلك مكانا فيه الكثير من الممرات، وغرفة انتظار تشبه العيادة الطبية، وكلما انتهى من أمر واحدة من زبائنه يخرج من الممر ليأمر إحدى المُنتظرات باتباعه إلى الداخل من أجل إشباع رغبتها. لكنه يرفض التعامل مع جو في البداية لأنه يرى أنها غير مُناسبة، وحينما تصر ببقائها يطلب منها الجلوس على أحد المقاعد ويخبرها بأنه سيقوم بصفعها على وجهها، لكنها رغم إبدائها موافقتها بمُجرد ما يرفع كفه مُستعدا لصفعها تحاول حماية وجهها من كفه؛ الأمر الذي يجعله يقول لها: ألم أقل لك أنك لا تناسبينني، وهو ما يجعلها توافق فيما بعد وتطلب منه أن يصفعها فيصفعها صفعتين قاسيتين ليوافق على تلبية حاجتها.

ربما لا بد من التوقف هنا أمام ذهاب جو لكي من أجل تعذيبها لأهمية هذا الفعل في السياق الفيلمي، ولأهميته تبعا لسيكولوجية جو؛ فجو مُنذ المشهد الأول في الجزء الأول من الفيلم امرأة مُستقلة قائدة، أي أنها يحلو لها أن تكون المُمسكة بزمام الأمور، المُحركة لها، أي أنها تريد أن تكون دائما المُسيطر على الرجل، مُستغلة في ذلك أنوثتها ورغبتها الجنسية الشبقة من جهة، ورغبات الرجال الذين لا يستطيعون مقاومة المُمارسات الجنسية من ناحية أخرى، أي أننا إذا ما تأملنا الأمر لتوصلنا إلى أن جو/ القائد، والرجال/ التابع، أو بمعنى آخر جو/ السادي، والرجال/ المازوخي- ولكن هذا من مفهوم معنوي- فما الذي يدفع جو إلى العكس واختيارها لأن تكون مازوخية- على المستوى المادي الفيزيقي- بتعذيبها على يد كي؟!


إذا ما تأملنا الرحلة الحسية الشهوانية لجو منذ بدايتها، ثم فقدانها لشعورها الجنسي المُفاجئ بسبب الحب- والذي أدى بها إلى أزمة نفسية جحيمية جعلتها غير قادرة على التخلص منها- لاتضح لنا أن تحولها إلى الجانب المازوخي هو في جوهره شكل من أشكال العقاب لنفسها بسبب مشاعر الحب التي تشعر بها تجاه جيروم وتعلقها به، أي أنها تعاقب نفسها على الاستسلام للحُب ومُخالفتها لحسيتها التي كرست حياتها من أجلها. هذا من جانب، ومن جانب آخر فمُمارسة السادية عليها باعتبارها مازوخية هو شكل من أشكال الوصول بالحسية والرغبات الجنسية إلى مداها الأقصى، لكنه الجانب المُظلم من الجنس، أي أنها تسعى لاستعادة حسيتها الجنسية من خلال مُمارسة التعذيب على جسدها، وهو ما يمكن بالفعل أن يعيدها إلى حسيتها القديمة؛ فالأساليب الجنسية التقليدية لم تعد ذات نفع معها لاستعادة شبقها، حيث اعتادت النمط الجنسي، ولكن إذا ما اختلف شكل النمط الجنسي فالشهوة ستعود أكثر اشتعالا، إلا أنها مع اشتعالها ستؤدي إلى الكثير من الدمار لصاحبها الذي يسير خلفها نحو المجهول؛ حيث الجنس شديد السخاء في عطائه، لكنه يجرف صاحبه إلى جوانب شديدة الإظلام، شديدة الدمار كلما حاولنا الاستزادة منه بأنماط جديدة مُختلفة، وهذا ما يفسر لنا استسلام جو لنمط سلوكي لا يتناسب مع سيكولوجيتها القائدة لمحاولة استعادة شبقها الجنسي في شكله النقي!

يوافق كي على تقديم خدماته السادية لجو لكنه يُعدد لها شروط الدخول إلى هذا العالم أولا: دعيني أخبرك بالقواعد، القاعدة الأولى: لن أمارس الجنس معك، وهذا غير قابل للنقاش. فتسأله: إذن، ماذا يعود عليك من هذا؟! ليرد: هذا شأني، ولا أنوي الحديث عن ذلك مرة أخرى. القاعدة الثانية: ليس لدينا هنا كلمة أمان، بمعنى أنك إذا ما دخلت لن يكون هناك أي شيء أو طريقة تجعلني أوقف ما أقوم به من مُخطط أو إجراء، ويجب أن تحضري سوطا صغيرا من الجلد البني المُستعمل، ولا تجلبيه من محلات بيع الألعاب الجنسية، فأنت لن تشاركي في حفلة تنكرية. القاعدة الثالثة: إذا ما وافقت على قبولك؛ فسوف تجلسين هنا تنتظرين، بعبارة أخرى، لن تعرفي متى ستدخلين، سيكون دورك في وقت ما بين الثانية والسادسة مساء. وحينما يهم بالانصراف تخبره بأنه لم يعرف حتى اسمها، ليرد عليها بأنه لا يعنيه معرفة اسمها، وأنه سيختار لها اسما سيكون اسمها في هذا المكان!

المُخرج الدانماركي لارس فون ترير

إنه الانصياع والخضوع الكاملين من أجل استعادة الشعور بالجنس، وهما الانصياع والخضوع اللذان كانت تمارسهما على الرجال فيما قبل في تبادل مُخيف للحاجات والأولويات المُستندة على الجنس، فالتعذيب الجسدي هنا مُرادف جوهري للجنس، أو مُمارسته بشكل مُتطرف من أجل استعادة الشعور به بعد اعتياد المُمارسات التقليدية التي لم تعد تحركها!

تشتري جو بالفعل سوطا لترويض الخيول وتذهب به إلى كي الذي يدخلها إلى غرفة التعذيب ويربطها بقسوة في الأريكة ليكون ظهرها إليه بينما مُؤخرتها على مسند هذه الأريكة لتكون مُرتفعة في متناوله، كما يطلب منها ربط شعرها للخلف حتى إذا ما رغب في صفعها لا يعيقه شعرها، فضلا عن أنه طلب منها عدم ارتداء ملابس داخلية مرة أخرى حينما تتوجه إليه؛ وهو الأمر الذي جعله يقص كيلوتها بالمقص. وحينما هيأ نفسه لجلدها وضع سبابته ووسطاه في فرجها ثم أخرجهما فاركا إياهما في بعضهما البعض ليؤكد لها أنه لن يفعل معها أي شيء هذه المرة وعليها المُغادرة وأعطاها موعدا جديدا؛ لأنها غير مُهيئة.

ألا نُلاحظ هنا أن كي يتعامل معها بشكل فيه قدر هائل من الاحترافية وكأنه طبيب يعرف ما يجب عليه أن يمنحه لمريضه، ومتى عليه أن يمنحه إياه؟

إن هذه المُلاحظة تتأتى لنا من وضعه لسبابته ووسطاه في فرجها وفركه إياهما بعد خروجهما، وهو ما سيتضح لنا في اللقاء الثاني حيث سيقدم على نفس الفعل بعد ربطها مرة أخرى ويدخل سبابته ووسطاه اللذان سيخرجان مُبتلان تماما مما يُدلل على إثارتها الجنسية من ناحية، ومن ناحية أخرى يفسر لنا ذلك المشهد السبب في أنه امتنع عن مُمارسة ساديته بجلدها في المرة الأولى، أي أنه لا يقوم بعمله إلا في حالة إذا ما كانت المرأة التي أمامه في حالة إثارة ومُستعدة للجلد باعتباره فعلا جنسيا في جوهره، كما ستذهب جو فيما بعد إلى ربط هذا الفعل الذي يفعله كي بغمس إصبعيه في فرجها قبل الجلد بما تفعله الجدات العجوزات مع أصص الزرع قبل ريها، حيث يضعن أصابعهن بنفس الطريقة في طين إصيص النبتة لمعرفة إذا ما كانت النبتة في حاجة إلى الري أم لا، أي أن جلد جو كان بمثابة ريها كالنباتات تماما من أجل استعادة نموها الجنسي!

المُمثل الأمريكي شيا لابوف

يجلدها كي اثنتى عشرة جلدة بالسوط على مُؤخرتها التي يتحول لونها إلى لون الدم تماما، لتشكره على خدماته لها، كما يطلب منها أن تأتي له بخمس عشرة قطعة معدنية من فئة واحدة في زيارتها القادمة، وهي الفئات المعدنية التي يضعها داخل قفاز ليقوم بارتدائه في يده، وصفعها صفعة قوية على وجهها؛ الأمر الذي يترك علامات وأخاديد دموية على وجهها بسبب القطع المعدنية، كما يبدأ فيما بعد في تعليمها كيفية ربط الحبال بنوع من أنواع العقد التي يطلق عليها عقدة الدم، ليصنع من هذه الحبال ذات العقد سوطا مُتعدد الرؤوس ومُحلى بالكثير من عقد الدم غير المُنتظمة، ويشرح لها بأن "عقد الدم" هذه تعود أهميتها في أنها ستكون المسؤولة في تقطيع الجلد أثناء الجلد بها!

لكن، أثناء انتظار جو لدورها عند كي من أجل جلدها يستيقظ صغيرها/ مارسيل الذي تركته وحده في المنزل ليهبط من فراشه- تماما كما سبق لنا أن رأينا في فيلمه Antichrist عدو المسيح 2009م، وهو الفيلم الذي كانت بطلته نفس المُمثلة تشارلوت جينسبورج- مُتجها إلى الشرفة المفتوحة بينما تتساقط ندف الثلج في الخارج بحركة بطيئة Slow Motion، وقد انطلقت نفس المُوسيقى التي سبق لنا أن سمعناها في الفيلم السابق حينما سقط الطفل من الشرفة، فنرى الطفل يصعد على المقعد في الشرفة ليطل إلى أسفل- حتى لكأن المُخرج يعيد لنا صياغة نفس المشهد الذي كان في فيلمه السابق، إلا أن الخلاف الوحيد بينهما أنه في فيلم عدو المسيح سقط الطفل خارج الشرفة ليموت بينما أمه التي تراه مُنشغلة في مُمارسة الجنس مع زوجها ولم تنهض لإنقاذ الطفل لأنها كانت في لحظة وصولها للأورجازم، الأمر الذي يدخلها فيما بعد إلى جحيم نفسي دموي، بينما في فيلمنا هذا يدخل الأب/ جيروم إلى المنزل ليفاجأ بالطفل الذي على أهبة السقوط من الشرفة وينجح في إنقاذه.

إن ترير ينجح ببراعة في المزج بين أفلامه السينمائية التي سبق له أن قام بصناعتها، وهو ما نراه جليا في هذا الفيلم.

المُمثل الأمريكي وليام دافو

حينما تعود جو إلى المنزل تُفاجأ بوجود جيروم الذي يلومها على ترك الطفل وحده، لا سيما أنه يعرف جيدا بأنها تخرج من أجل المزيد من مُمارسة الجنس مع الآخرين، وهنا يطلب منها عدم الخروج مرة أخرى هذه الليلة، بل ويؤكد لها أنها إذا ما خرجت مرة أخرى، فلن تراه أو ترى ابنها حينما تعود، لكنها تضرب بكلامه عرض الحائط لتخرج ذاهبة إلى كي، وهناك تقتحم عليه غرفة التعذيب بينما كان مع امرأة أخرى، وتطلب منها الخروج، فيوافق كي مُستاء، وتحاول جو تقبيل كي لكنه يدفعها بعيدا، وحينما يبدأ في ربطها للأريكة تؤكد له أنها في حاجة ماسة إلى قضيبه محاولة جذبه منه، لكنه يبتعد عنها، ليوثق ربطها مُعريا مُؤخرتها ليخبرها بأنها قد ضايقته، وأتت في غير موعدها، وقامت بأفعال ما كان عليها أن تقوم بها، وهو ما سيجعله يحكم عليها بالعقاب الروماني- 40 جلدة- مُستخدما السوط الجديد ذا العقد المُسماة بعقدة الدم.

يبدأ كي في جلد جو على مُؤخرتها بقسوة، ولعل هذا المشهد كان من أكثر مشاهد الفيلم إظلاما وسادية حيث نرى السوط يسقط بقوة على مُؤخرتها ليمزق لحمها مُسببا جروحا وتقرحات غائرة إلى أن ينتهي من الأربعين جلدة بالتمام، وقد تمزقت مُؤخرتها تماما، لكنها كانت تحرك فرجها على الكتب التي أسفله ليحتك بظرها في أغلفة الكتب مما يكسبها نوعا من أنواع اللذة الشبقية الحسية!

هنا يعلق سليجمان مُندهشا: لكنه أخطأ بعض الشيء فيما يتعلق بالعقاب الروماني والأربعين جلدة، صحيح أن العقوبة القصوى كانت أربعين جلدة، ولكنها كانت تُقسم على ثلاث مرات؛ ولهذا جُلد المسيح 39 جلدة فقط لأن العقوبة قُسمت على ثلاث مرات متساوية؛ فصارت 39 وليست 40.

هنا يسألها سليجمان: ولكن ماذا عن العنوان الفرعي الذي اخترتيه لهذا الفصل من حياتك- البطة الصامتة- لتحكي له بأن كي كان ذات ليلة في مزاج مُعتدل ليطلب منها الاستلقاء على الأريكة رافعة مُؤخرتها في وضع الجلد، لكنه يخبرها بأنها سيعلمها طريقة جديدة اسمها البطة الصامتة بأن يضم أصابع كفه للأمام وإلصاقها ببعضها البعض بشكل أشبه بمنقار البطة، ويدخلها بالكامل في فرجها باعتبار أن الكف هنا بديل للقضيب الذكوري.

لكن سليجمان يؤكد لها أنه لم ير في كل ما فعلته في حياتها أي شيء من الشر، بل إنها كانت راغبة في انتزاع حقها الحسي والشبقي من حياتها، فترغب جو في إثنائه عن نظرته إليها بأن أخبرته بأن جيروم قد أتى لها ذات ليلة بخاتم من الألماس ثمنه سبعة آلاف جنيه، لكنها رغم ذلك مارست عليه شكلا من أشكال الشر غير المُبرر بأن أخبرته بأنها ستعلب معه لعبة اسمها سندريلا بأن تقف أمامه مُباشرة بوضع الخاتم أمام عينيه ثم سُرعان ما تلقي بالخاتم في نيران المدفئة؛ الأمر الذي جعله يجن ويحاول إطفاء النيران لإنقاذ الخاتم الذي أعاده مرة أخرى واسترد ثمنه، ليبدأ سليجمان في الحديث عن الألماس وكيفية صناعته ويشبهه بالمرآة.

المُمثل الانجليزي جيمي بيل

إن حديث جو وسليجمان عن الألماس والمرآة يقودهما إلى فصل جديد من حياتها الجنسية، ومن ثم يكتب ترير على الشاشة: الفصل السابع: المرآة Chapter Seven: The Mirror.

تخبر جو سليجمان أن استهلاكها الجنسي المُفرط لنفسها قد أدى بها لوجود تقرحات لا تشفى في فرجها؛ الأمر الذي جعل بظرها ينزف على فترات مُتقطعة أثناء مُمارستها لعادتها السرية، أو مُمارستها للجنس، وهو ما تكرر فيما بعد بوتيرة أكثر اقترابا، كما أن زميلاتها في العمل بدأن يمارسن النميمة عنها بأنها تقابل المزيد من الرجال كل ليلة لمُضاجعتهم، الأمر الذي جعل مُديرتها في الشركة تطلب منها الذهاب إلى أخصائية نفسية للعلاج من إدمان الجنس، وحينما ترفض جو تخبرها مُديرتها بأنها حتى إذا ما تركت العمل معهم فالأمر سيتكرر في العمل التالي، وما يليه لأن الجميع سيخاف منها باعتبارها منبوذة من المُجتمع الذي يحيطها، لأنها امرأة مُتعددة العلاقات.

يسألها سليجمان عن السبب الذي رفضت من أجله الذهاب إلى الأخصائية النفسية؛ فتخبره بأنها لها تجربة سيئة من قبل مع الأخصائيات النفسيات حينما لم تعد تهتم بتناول حبوب منع الحمل، وهو الأمر الذي جعلها تحبل مرة أخرى، لكنها طلبت من الطبيب إنزال الطفل، وبما أنها ما زالت في الفترة القانونية التي تمكنها من الإجهاض فلقد وافق الطبيب بشرط لقائها بالأخصائية النفسية، لكنها حينما ذهبت إلى الأخصائية مُرغمة اختلفت معها لأنها تحاول إقناعها بالاحتفاظ بالطفل، مما جعلها تجهض نفسها بنفسها من خلال خبرتها السابقة في مجال دراسة الطب الذي لم تستكمله.

لعل مشهد إجهاض جو لنفسها من أكثر مشاهد الفيلم قتامة حيث جهزت مجموعة من العيدان المعدنية المُختلفة السُمك من أجل استخدامها في توسيع مهبلها أولا قبل إدخال سلك معدني أشبه بالخطاف إلى مهبلها الذي تمت توسعته وتهيئته لتجذب به الجنين من داخل رحمها، وهو ما صوره ترير بشكل تفصيلي حيث كانت الكاميرا مُحدقة تماما في فرجها الدموي الذي تدخل فيه العيدان الواحد تلو الآخر إلى أن أدخلت الخطاف المعدني الذي خرج بجنين ما زال ينبض وقد غرقت في دمائها.

إن ترير يمارس القسوة والسوداوية بشكل سادي كئيب على مُشاهده، وهو ما يغرق الفيلم في قتامة وسوداوية شديدة لا يمكن احتمالها بسهولة؛ الأمر الذي يحول مشاهد العري والجنس إلى مشاهد مُقززة مُثيرة للكثير من الاكتئاب، بل تحاول جو مُمارسة المزيد من القسوة على سليجمان حينما يطلب منها عدم الاستمرار في موضوع الإجهاض، لكنها تخبره بأن الأطباء قد طوروا أداة ما أسموها "كسارة البندق" من أجل الإجهاض، وهي أداة ذات مقبضين يدخلونها في مهبل المرأة بعد تهيئته وتوسيعة من أجل إمساك رأس الجنين وكسره ثم جذبه إلى الخارج، مما يثير غضب سليجمان كثيرا لأول مرة مُنذ بداية الفيلم.

تعود جو إلى سرد قصتها الأساسية حيث تذهب بالفعل إلى الأخصائية النفسية التي طلبت منها مُديرتها الذهاب إليها، وتجد العديدات من النساء المُدمنات على الجنس مثلها قد ذهبن من أجل محاولة العلاج من شبقهن، لكن جو ترفض أن يطلقوا عليها مُدمنة جنس وتؤكد على أنها شبقية؛ الأمر الذي يجعل الأخصائية تؤكد لها بأنهن يطلقن على أنفسهن هنا مُدمنات للجنس حتى يتم علاجهن، وتبدأ كل واحدة منهن في سرد كيفية محاولتها للشفاء، فتسرد إحداهن بأنها حاولت أن تعالج نفسها من الإفراط في الجنس بأن تمارس عكس ما تطلبه منها الأخصائية عله يشبعها بشكل الصدمة، حيث استغلت سفر زوجها، والاطمئنان على أطفالها، وأجرت الكثير من الاتصالات بالعديدين من الرجال، وذهبت إلى أحد المناطق بجوار خط السكك الحديدية في العراء لتستلقي عارية فوق الفحم بينما اجتمع عدد كبير من الرجال الذين كانت قد تواصلت معهم وبدأت في مُمارسة الجنس معهم جميعا لمُدة ثلاث ساعات متواصلة.

المُمثل السويدي ستيلان سكارسجارد

هنا تسألها الطبيبة عن شعورها بعد هذا العدد الضخم من المُمارسات المُتتالية، وهل شعرت بضرورة اكتفائها من الإفراط في الجنس، لكن المريضة تؤكد أنها لم تكتف من الجنس، وأن التجربة قد باءت بالكثير من الفشل.

تخبر الالأخصائية النفسية جو بأنها لا بد لها من الابتعاد عن أي مُحفز أو مُثير لها يجعلها تفكر في الجنس: إن إدمان الجنس مُختلف بشكل كبير عن إدمان المُخدرات أو الكحول؛ لأنك في إدمان الجنس لا تحتاجين أي مواد خارجية، يمكن التخلص من الإدمان تماما عن طريق الامتناع عن تناول المُخدرات أو الكحول، وهذا ليس بالأمر الهيّن، ولكن الشيء المُختلف في إدمان الجنس هو أن كل إنسان لديه مشاعر جنسية، وهي جزء أصيل من شخصيته، ولو تخلص شخص تماما من المشاعر الجنسية؛ فإنه سيتضرر كثيرا ويصبح إنسانا ناقصا، لأن المشاعر الجنسية تتضمن بداخلها الحنان والتكاتف والتواصل مع الآخرين، وهي مشاعر يصعب تخيل أن إنسانا ما يستطيع الحياة من دون قدر ما منها.

هذه النصيحة من الطبيبة تجعل جو تعود إلى منزلها لإخفاء أي حافز لها من المُمكن له أن يذكرها بالجنس، فتقطع سلك الهاتف، وتتخلص من أي مرآة في المنزل، وتغطي النوافذ بأوراق الجرائد، وتخفي أي شيء من المُمكن أن يذكرها بعضو ذكوري مُنتصب، أي أن محاولتها لإزالة الحافز الجنسي أدت إلى عزلها عن الحياة تماما، وحينما تبدأ في تصفح كتابها الذي تحتفظ فيه بأوراق الشجر التي كانت تقتطعها مع أبيها، تبدأ في تبليل اصبعها بلسانها أثناء تقليب صفحات الكتاب- الإصبع مُحفز جنسي أشبه بالقضيب- الأمر الذي يجعلها تضع إصبعها في فمها وتبدأ في مصه كقضيب ذكوري مُنتصب، ويبدأ عذابها مرة أخرى في الحاجة الجنسية!

حينما تذهب جو إلى الجلسة التالية للعلاج النفسي كان لا بد لها أن تحكي لزميلاتها عن تجربتها في علاج نفسها، فتخبرهن بأنها لم تمارس الجنس مُنذ ثلاثة أسابيع وعدة أيام، وتبدأ في سرد ما فعلته، لكنها في لفتة منها تقع عينيها على المرآة حيث تشاهد فيها نفسها وهي صغيرة مُنعكسة في المرآة؛ الأمر الذي يجعلها تلتفت خلفها لكنها لا ترى شيئا، وحينما تبدأ في سرد تجربتها ترى نفسها في المرآة مرة أخرى؛ الأمر الذي يجعلها تمزق الأوراق التي كتبت فيها تجربتها وتسخر منهن جميعا لتقول: أنا لا أشبهكن، أنا شبقة، وأحب نفسي لكوني كذلك، وقبل أي شيء، أحب كسي، وأحب شهوتي القذرة البذيئة.

إذا ما تأملنا ما سبق؛ لا بد لنا من التوقف أمامه لمحاولة فهمه، فما هو السبب الذي أدى إلى انقلاب جو فجأة مثل هذا الانقلاب، ورفض الاستمرار في العلاج النفسي، بل وسُخريتها وإساءتها لجميع النساء المُشاركات لها في العلاج؟

المُمثلة الانجليزية ميا جوث

إن السبب الحقيقي في مثل هذا الانقلاب هو رؤيتها لنفسها في المرآة، إن رؤيتها لنفسها أكد لها أنها لا يمكن لها إلا أن تكون نفسها، وأنها لا يمكن لها أن تتغير إلى ما يرغبه المُجتمع من حولها؛ فالمُجتمع في حقيقته مُنافق وزائف ويبدي غير ما يبطن، أي أنه في حقيقة الأمر ربما يتمنى أن يكون مثلها في رغبتها الجنسية، ومُمارساتها المُتعددة والمُفرطة، لكنه يلومها، ويبدي استيائه منها ظاهريا فقط، أو انزعاجه وتأففه منها، وبالتالي يعطيها شعورا بالنبذ والرفض؛ الأمر الذي جعلها ترفضه بدورها وتتمسك بأن تظل كما هي، وتمارس حياتها بالشكل الذي تحبه هي، لا بالشكل الذي يفرضه عليها المُجتمع من حولها، لذا تقول جو لسليجمان: لقد أدركت أنه لا مكان لي في المُجتمع، وإني، من جانبي، لم ولن أحفل بهذا المُجتمع، وكان من الأفضل والأيسر لو أدركت ذلك مُبكرا عن ذلك، فجأة انفتحت حواسي كلها على نحو كبير، وقررت الانتقال من الجانب المُحترم المُعلن للمُجتمع إلى جانبه الغامض وحياة الليل. كان الأمر مثل تغيير فريقك في الحرب، تلقي بجيشك القديم وراء ظهرك، وفجأة- في اللحظة التالية- تُبتلع في الجيش الجديد، وما من شيء بينهما!

إذن، فلقد تعاملت جو مع المُجتمع بالمثل وبشكل ضدي تماما، وإذا ما كان المُجتمع- المُنافق كما ترى- قد أبدى مُلاحظاته عليها محاولا لفظها ورفضها وإخراجها من إطاره إذا لم تخضع إليه، فلقد أبدت بدورها رفضها له ولفظته تماما من حياتها، بل وواجهته بعدوانية مثيلة بالخروج منه إلى عالم جديد ومُختلف تماما، وهو عالم الليل!

هنا يلجأ لارس فون إلى استعراض الموجودات والمُفردات السينمائية داخل غرفة سليجمان، وهي المُفردات التي سبق لها أن كانت تُذكر جو بقصص حياتها الجنسية ومن ثم تبدأ في روايتها، وهو ما يذكرنا بما سبق أن ذهبنا إليه في الجزء الأول من الفيلم بأن ترير إنما يعتمد في فيلمه على ما نسميه في السرد الروائي بتيار الوعي في السرد، أي أن وقوع نظر السارد على بعض الأشياء بالمُصادفة، أو بعض المُفردات اللغوية أثناء الحديث سريعا ما تحيله إلى حكاية ما مرت به في حياته، ومن ثم يبدأ في روايتها بناء على تذكره بالصدفة تبعا لما وقعت عليه عينيه وذكره بشيء من حياته، أي أن ترير لا ينكر هذه الأسلوبية في سرده السينمائي، وهو ما رغب في تأكيده باستعراض كل ما سبق له أن ذكر جو بحكاياتها السابقة، بل وزاد في ذلك بأن جعل جو تقول: أنا مُتأكدة أنه من الطبيعي جدا أن تؤثث غرفتك كصومعة راهب، ولكن استخدام هذا الأساس كمصدر إلهام لعناوين فصول هذه القصة لم يكن سهلا بالمرة، ببساطة لم يتبق شيئا يمكن استخدامه. ليرد عليها: أنا آسف لذلك، ولكن يمكنني أن أقدم بعض المُساعدة. ويخبرها أن الإنسان يعتاد الأمور إذا ما رآها أو كانت أمامه كثيرا، لكن على المرء أن يعيد علاقته بالأشياء بأن ينظر إليها نظرة مُختلفة عن المُعتاد، بينما لارس فون يعرض لنا على الشاشة صورة فرج، ثم سُرعان ما يحرك الصورة ليصبح الفرج على الشاشة بشكل عرضي مُتشابها في ذلك مع العين أثناء إغلاقها وفتحها للجفون، وبالتالي تبدأ جو في استخدام هذه التقنية وسُرعان ما تركز بصرها على بقعة الشاي التي أحدثها إلقائها بالفنجال على الأرض حينما استاءت من نفسها لأنها انساقت بمشاعرها خلف جيروم، مما يُدلل على أنها وقعت في الحب وتخلت عن حسيتها.

المُمثلة الفرنسية الانجليزية تشارلوت جينسبورج

إن تأمل جو لبقعة الشاي على أرضية الغرفة يجعلها ترى ما لا يراه الآخرون؛ لذلك تقول له: إن بقعة الشاي مُسدس بخزينة، أيمكنك معرفة أي نوع يمكن أن يكون؟ ليرد: كلا، لا أتذكر أن شيئا كهذا مرّ عليّ في قراءاتي الأدبية. لتقول: ولكن هناك شيء أستطيع أن أتذكره من قراءاتي، إيان فليمنج. ليقول: لا أعرفه. فترد: إذا لم تقرأه فهذا يعني أنك لم تقرأ شيئا على الإطلاق، هذا يمكن أن يكون، مع القليل من الخيال، والتر بي بي كي أوتوماتيك، نفس السلاح الذي استخدمه بوند بعد عطب سلاحه المُفضل ألبيرتا. ليسألها: أتجيدين استعماله؟ لترد: نعم بالطبع. أي أن ترير مع تأكيده لنا بأنه يستخدم أسلوب التداعي الحر في السرد السينمائي، والمُعتمد على مجموعة المُفردات المُحيطة بالسارد، يحاول اختلاق مُفردة جديدة من أجل الاستمرار في أحداث فيلمه، وتنطلق جو في المزيد من حكاياتها الجنسية التي لا بد لها أن توصلنا إلى بداية الجزء الأول، والسبب في إيجاد سليجمان لها مُلقاة في الزقاق مُصابة بالكثير من الرضوض والإصابات، وهنا يكتب لارس على الشاشة: الفصل الثامن: المُسدس Chapter Eight: The Gun.

إن طريقة لارس فون في السرد السينمائي لفيلمه إنما تؤكد لنا أنه يوقن تماما بأنه يسبح في فوضى شاسعة من الأفكار المُتممة لأحداث فيلمه، وأن طريقته في اختيار العناوين لفصول فيلمه، وسوقها لنا بمثل هذه الطريقة إنما تمثل رغبته في ترتيب هذه الفوضى التي يعيها ويشعر بها جيدا، وهي أسلوبية جيدة وناجحة جعلت المُخرج يستطيع ترتيب أفكاره الفيلمية لصناعة مثل هذا الفيلم المُظلم.

تبدأ جو في سرد قصة جديدة من حياتها الجنسية حيث تؤكد لسليجمان أنها بعدما اتخذت قراراها بأن تكون نفسها، وتحيا حياتها كيفما ترى، وبعدما قررت لفظ المُجتمع من حولها ورفضه تماما، اتجهت إلى حياة جديدة عليها، وهي حياة الليل، حيث ذهبت لمُقابلة إل- قام بدوره المُمثل الأمريكي Willem Dafoe وليام دافو- وهو رجل جامع لديون الآخرين التي لا يستطيعون تحصيلها، ومن ثم يأخذ نسبة من الديون في مُقابل هذا العمل، كما أنه يمارس هذا النشاط بشكل إجرامي غير قانوني، لذلك تؤكد له جو بأنها مُناسبة تماما لهذا العمل حيث أنها بلا ضمير- كما أخبرته- كما أنها ذات خبرة واسعة بالرجال، وتمتلك من الأساليب غير النمطية ما تستطيع من خلاله مُمارسة هذا العمل، لكن إل يؤكد لها بأنه يعرف بأنها مُناسبة تماما لهذا العمل، كما أنه كان ينتظر مُنذ مُدة طويلة أن تذهب لمُقابلته من أجل العمل معه، حيث يرى أنها مُناسبة تماما لهذا العمل، كما يؤكد لها بأنه سيوفر لها مُساعدان من الرجال البلطجية من أجل العمل معها، واللذان سيكونان تحت أمرها في أي شيء.

بالفعل تبرع جو في العمل في هذا المجال، وتستطيع استرداد الكثير من الديون التي كُلفت بجمعها من دون استخدام أي شكل من أشكال العنف، أو القتل، فنراها ذات مرة مع مُساعديها لتطلب منهما أن يقيدا أحد الرجال وتعرية مُؤخرته، لتبدأ في استخدام سلك الكهرباء كسوط بعد عقده بعقد الدم- تماما كما كان يفعل معها كي/ السادي- وتبدأ في جلد الرجل على مُؤخرته، حتى أنه حينما يصرخ قبل سقوط السوط بالضربة الأولى، تقول له نفس ما سبق أن قاله لها كي لأول مرة: إن الأمور لا تسير هنا هكذا، عادة لا يصرخ المرء إلا بعد الضربة وليس قبلها. أي أنها نجحت في استعادة قيادتها مرة أخرى، وباتت هي السادية مُتخلية عن مازوخيتها العارضة.

المُمثلة الفرنسية الانجليزية ستايسي مارتن

لكن في إحدى المرات قابلت أحد الرجال الذي يرفض الدفع، والذي لم تجد فيه أي مدخل تستطيع من خلاله الدخول إليه من أجل إرغامه على الدفع، فالرجل شديد الهدوء، مُفرط الثقة في نفسه، ورغم أن مُساعديها قد بدآ في تدمير شقته، ومُقتنياته، إلا أنه كان يجلس مُتابعا إياهما في هدوء كامل، وكأنه يشاهد أحد الأفلام التي لا علاقة لها به؛ لذا تقول له: لا أستطيع إيجاد شائبة فيك، ومن خبرتي أعرف أنه لا يوجد رجل بلا شائبة، لحسن الحظ لديك أداة موثوقة للغاية للكشف عن حقيقتك.

هنا تطلب جو من مُساعديها أن يقوما بتقيده إلى أحد المقاعد، ثم تخلع بنطاله لتخرج عضوه الذكوري المُنكمش، وتبدأ في سرد الكثير من الحكايات والمواقف الجنسية السادية منها، والمثلية، والعادية، وغير ذلك بينما تراقب عضوه الذكوري الذي لا ينتصب، أي أنها رأت أن الأداة الموثوقة للغاية للكشف عن حقيقته هي عضوه الذكوري، لكن رغم كل حكاياتها وجدت أن الرجل لا يتأثر بما تحكيه؛ الأمر الذي أوقعها في الحيرة القريبة من اليأس، لكنها استخدمت آخر حيلها بأن روت عليه بأنه يمشي في حديقة مُتجها إلى منزله، لكنه سمع صوت أرجوحة في الحديقة يجلس عليها طفل صغير، وبأنه اصطحب الطفل معه إلى منزله، وهناك لم يستطع منع نفسه من تعرية الطفل والتعري معه من أجل مُمارسة الجنس معه.

ينتصب قضيب الرجل انتصابا شديدا؛ مما يجعله ينفعل باكيا ليطلب منها التوقف وبأنه سيدفع لهم ما يرغبونه من مال. أي أن الرجل كانت لديه ميول بيدوفيلية- مُمارسة الجنس مع الأطفال- لكن حينما ترى جو الرجل وقد انهار وبدأ يبكي تتأمل قضيبه المُنتصب لبرهة، وسُرعان ما تركع أمامه على ركبتيها وتبدأ في امتصاصه إلى أن يقذف!

يتدخل سليجمان مُندهشا: ماذا فعلت؟! لترد: مصصت له قضيبه. ليتساءل: لماذا؟! إنه خنزير! لكنها توضح: لقد أشفقت عليه، لقد دمرت حياته للتو، لم يعرف أحد سره، وعلى الأرجح هو أيضا لم يكن يعرف، وقد جلس هناك مُكللا بالخزي والعار، وأعتقد إني مصصت له قضيبه كنوع من الاعتذار، ليكن في معلومك، هذا الرجل نجح في كبت رغبته الجنسية ولم يستسلم لها، أو يسمح لها بالظهور حتى أجبرته على ذلك، لقد عاش حياته في إنكار كامل، ولم يؤذ أي إنسان، أعتقد أن هذا أمر يستحق الثناء. لكن سليجمان يرد: مهما حاولت، لا أستطيع إيجاد أي شيء يستحق الثناء في البيدوفيليا. لتشرح: هذا لأنك تفكر ربما في الخمسة بالمئة من هؤلاء الذين اعتدوا فعلا على أطفال، ما تبقى منهم، وهم 95% لم يقوموا بأي شيء خارج أحلامهم وتخيلاتهم، فكر في حجم مُعاناتهم، الرغبة الجنسية هي أقوى طاقة في الإنسان، وعندما تولد برغبة جنسية مُحرمة فإن هذا لا بد أن يكون شديد القسوة والألم، البيدوفيلي الذي يشق طريقه في الحياة مع شعوره بالخزي من رغبته الجنسية، ودون أن يحقق هذه الرغبة يستحق وساما على صدره.

أي أن ترير يذهب إلى التعاطف مع الجميع، مُختلفا في ذلك عن المُجتمع الذي يتظاهر بالفضيلة في كل شيء، ومن ثم يتعاطف مع الرجل ذي الرغبة البيدوفيلية، ويرى أنه يستحق وساما ما دام لما يمارسها من قبل سوى في خياله، وأحلامه، وهو بذلك يذهب إلى الشكل الأنقى من التسامح الإنساني بشكل لا بد أن يدفعنا معه إلى التسامح مع الرجل الذي لم يخرج رغبته إلى الواقع طوال حياته رغم تعذيبها له، لكنه حافظ عليها لنفسه، وكبتها داخله فقط.

يبدأ سليجمان يتحدث معها عن الروائي الألماني توماس مان، وروايته "موت في البندقية" التي كانت تدور أحداثها عن رجل بيدوفيلي، مُؤكدا أن توماس مان ربما كان رجلا لديه رغبات بيدوفيلية لم يستطع مُمارستها، واضطر إلى كبتها، لكنه أخرجها فيما يكتبه من أعمال روائية لا سيما هذه الرواية، وبالتالي كان حصوله على جائزة نوبل يكاد يكون بمثابة تتويجه على كبته لهذه الرغبة- مع حرص ترير على عرض صورة توماس مان على الشاشة.

يخبرها إل ذات مرة بأنها أفضل من عمل معه في جمع الديون، وبأنه فخور بها لأنها لم تفشل في أي مهمة كلفها بها، ولكن بما أن الناس تتقدم في العمر فلا بد لها من أن تُعد خليفة لها من الآن، ويخبرها عن إحدى الفتيات البالغة من العمر خمسة عشر عاما تدعى بي- قامت بدورها المُمثلة الإنجليزية Mia Goth ميا جوث- المُقيمة في إحدى الجمعيات لتربية اليتامى، حيث أنها ابنة لاثنين من المُجرمين، أبوها في السجن، وأمها ماتت من أثر جرعة عالية، لذلك تشعر الفتاة بالكثير من الوحدة، والعزلة، كما أنها لا تختلط بأحد، لكنها تحب لعب كرة السلة كي تشعر بأنها بين الناس، كما أنها لديها تشوها ما في إحدى أذنيها مما يزيد لديها من الشعور بالوحدة والعزلة وعدم الاختلاط بالآخرين. تتمثل خطة إل في أن تتقرب منها جو، وتبدي تجاهها الكثير من الاهتمام والحنان، والحب؛ الأمر الذي سيجعل الفتاة مُمتنة لها، وتابعة لها لا يمكن أن تخونها أو تخالفها في شيء، حتى أنها قد تضحي بذاتها من أجل جو وتُسجن أو تُقتل بدلا منها!

إنها خطة للسيطرة العاطفية الكاملة على الفتاة، واستلابها من أجل أن تكون مُساعدا وفيا لجو في أعمالها، وخليفة لها في أعمالها تتسم بانعدام الضمير تماما. توافق جو على الأمر وتبدأ في مُمارسة خطتها بحضور مُباريات كرة السلة وتشجيع الفتاة، وإبداء الكثير من الاهتمام بها؛ الأمر الذي يجعل الفتاة بالفعل مُتعلقة بجو، بل وتحضر لها جو في عيد ميلادها السادس عشر كتابا عن الأشجار هدية- أي أنها ترغب للفتاة أن تكون صورة أخرى منها، حيث تعشق جو الأشجار وأنواعها نتيجة حكايات أبيها السابقة لها وهي لم تزل بعد صغيرة.

تطلب جو من الفتاة الانتقال معها إلى منزلها والحياة معها، وتنتقل الفتاة بالفعل. في هذه الفترة تحكي جو أن ابتعادها عن المُمارسات الجنسية بسبب التقرحات الدموية الشديدة في فرجها، والتي تمنعها حتى من مُمارسة عادتها السرية قد أدت بها إلى الدخول في العديد من النوبات التشنجية نتيجة انسحاب الجنس من جسدها- لا نعرف مدى دقة المعلومة طبيا- وهو ما يجعل جسدها يتشنج تشنجات شديدة وتصبح غير قادرة على فعل أي شيء بسبب احتياجها للجنس، وحينما تدخل إحدى هذه النوبات التشنجية يسقط الكوب من يدها في الحمام؛ الأمر الذي يجعل بي تحاول مُساعدتها وتأخذها إلى فراشها، لتخبرها بأنها تحبها، لكن حينما ترد عليها جو بأنها تحبها كذلك، تخبرها الفتاة بأنها لا تحبها هذا النوع من الحب، بل تشعر تجاهها بحب حقيقي.

ربما نُلاحظ أن اسم الفتاة هو بي، وهو نفس الاسم الذي كان لصديقة جو أثناء طفولتهما ومُراهقتيهما، والمُصاحبة لها في كل حياتها الجنسية المُبكرة، كما سنُلاحظ أن عمر بي هو السادسة عشر، ويجب ألا ننسى بأن جو قد بدأت حياتها الجنسية الحقيقية بطلبها من جيروم أن يفتض عذريتها وهي في الخامسة عشر- أي نفس العمر تقريبا- كما حرصت جو على أن تُحبب بي في الأشجار، أي أنها تعدها لأن تكون نسخة أخرى منها.

تدخل بي ذات ليلة إلى جو النائمة في فراشها وتبدأ في تعريتها، لكن جو ترفض بسبب فرجها المشوه بالتقرحات الدموية، إلا أن بي تصر مُخبرة إياها بأنها ترغب في رؤية جسدها، وبالفعل تقوم بتعرية جو، ثم لا تلبث أن تتعرى من ملابسها وتدخل الفراش مع جو لتبدأ في تقبيل شفتيها، ومص حلمتيها بعدما ترى تقرحات فرج جو التي تبدأ في البكاء واحتضان جسد بي، أي أن العلاقة بينهما قد تحولت إلى علاقة ارتباط عاطفي- الضعف الذي هربت منه جو سابقا لتقع فيه مرة أخرى لكن هذه المرة مع فتاة مثلها- وارتباط جنسي.

تسأل بي جو ذات مرة عن السبب في أنها بدأت تهتم بها وتحضر مُباريات كرة السلة، فتخبرها جو بالحقيقة وبالخطة التي وضعها إل من أجل التقرب منها، فترى الفتاة أن الأمر يروق لها؛ لأنه لولا هذه الخطة ما كانت قد تعرفت إليها ووقعت في غرامها، كما تطلب منها أن تشاركها في عملياتها، لكن جو ترفض الأمر، إلا أنها في إحدى المرات التي كانت تحاول فيها جو جمع أموال الديون تتجه بي إلى الرجل وقد أخرجت مُسدسا راغبة في تفجير رأسه؛ الأمر الذي يجعل جو تنفعل بغضب عليها مُؤكدة لها أنهم لا يستخدمون الأسلحة في أعمالهم، ولا يقومون بالقتل، كما تأخذ منها المُسدس وتحتفظ به.

إن دخول بي إلى العالم الإجرامي الذي تحيا فيه جو؛ جعل منها مُساعدة لها بالفعل، بل كانت هي من تأتي بعناوين العملاء الذين لا بد من تحصيل الأموال منهم، وذات مرة حينما تصل إلى بيت العميل الجديد تُفاجأ بوجود لوحة معدنية بجوار الباب مكتوب عليها اسم جيروم، لتسأل بي: هل أنت واثقة من أن هذا هو العنوان الصحيح؟ وحينما تجيبها بي بالإيجاب تطلب منها مُضطربة أن تقوم هي بالعملية بدلا منها، وأنها ستنتظرها في المنزل، وتوصيها بعدم استخدام العنف.

بعد عودة بي إليها تخبرها بأنها لم تستخدم العنف، واتفقت معه على جدولة ديونه على ستة أقساط وهو ما وافق عليه بالفعل. لكن تبدأ جو بالشعور بالقلق كلما ذهبت بي إلى جيروم من أجل تحصيل أحد الأقساط، وبات بنتابها شعور بأن هذه ستكون آخر مرة تعود إليها بي مرة أخرى، وبالفعل حينما ذهبت بي من أجل تحصيل القسط السادس لاحظت أن بي لم تقبلها كعادتها، كما أنها لم تعد إليها مرة أخرى، أي أنها وقعت في غرام جيروم.

تحاول جو البحث عن بي، وتذهب إلى منزل جيروم مُتسللة مساء لتراها من خلف النافذة عارية تماما مع جيروم، فتنسحب بهدوء وقد قررت مُغادرة المدينة لأنها لا تستطيع إكمال حياتها فيها مع وجود جيروم وبي. تخرج جو إلى تخوم المدينة في جولة أخيرة قبل مُغادرتها، وتبدأ في صعود تلة عالية لتُفاجأ بوجود شجرة عارية الأوراق، شديدة الانحناء كدليل على مقاومة الرياح، هنا ينتابها إحساس ما بأن هذه الشجرة إنما تمثل روحها، حيث كان أبوها دائما ما يؤكد لها بأن كل شخص منا لديه شجرة تمثل روحه.

إن رؤية هذه الشجرة المُنحنية العارية المقاومة لتيارات الهواء والعواصف، وإحساس جو بأنها شجرة روحها تجعلها تفكر في المقاومة بدورها وعدم الاستسلام، ومن ثم ترغب في استعادة حبيبتها بي من جيروم؛ لذلك تقول لسليجمان: أنا أتفهم هؤلاء الطغاة الذين يرتكبون جرائم القتل، لم يكن هتلر في نهاية المطاف سوى رجل أطلق المُجتمع له العنان. ليرد سليجمان: هذا بالضبط ما كان ينقصنا، أنت تتفهمين العنصريين، وتتساهلين مع مُغتصبي الأطفال، وبالطبع، الآن في النهاية تبدين تعاطفا مع أكبر قاتل جماعي في التاريخ. لكنها ترد: ما أقصده، يقولون: إن قتل إنسان أمر صعب، وأنا أقول: إن عدم قتله أكثر صعوبة خاصة عندما- سواء في حالة الطاغية أو في حالتي- لا يكون لديك ما تخسره؛ بالنسبة للإنسان القتل هو أكثر الأمور طبيعية في العالم، لقد خلقنا مُهيئين لذلك.

لا بد لنا من التوقف هنا أمام ما قالته جو لأهميته، فحديثها عن هتلر وإبداء شيء من التعاطف معه بمثابة أكبر سُخرية قام بها لارس فون في هذا الفيلم، لا سيما أنه قد أبدى تعاطفه فيما قبل مع هتلر في مهرجان كان، وهو الأمر الذي جعل المهرجان يصدر قراره بأن ترير شخص غير مُرحب به في المهرجان، وتم منعه من المُشاركة في المهرجان لعدة سنوات، أي أنه هنا في موقف السُخرية المُتحدي من الجميع بمثل هذا الحديث الذي ساقه على لسان جو، إلا أن الحديث عن القتل يحمل معنى آخر أكثر أهمية لا سيما أن ترير إنما يرى في الإنسان مُجرد قاتل، لاحظ قوله: لقد خلقنا مُهيئين لذلك. أي أن الإنسان بفطرته قاتل، وهو ما حدث في الأسطورة الدينية حينما قتل الأخ أخاه، كما أن هذا القول يحمل وجهة نظر ترير العدوانية والناقدة دائما باتجاه المُجتمع الذي لا يخفي لارس فون شعوره بالاحتقار الدائم تجاهه.

تفكر جو في قتل جيروم واستعادة بي، وهو ما يجعلها تأخذ المُسدس الذي سبق لها أن أخذته من بي، وتعبر الطريق إلى بيت جيروم من خلال مجموعة من الأزقة التي تجعلها تختصر المسافة، لكن أثناء سيرها في الأزقة تسمع صوت بي تضحك صارخة؛ فتختبئ في إحدى الزوايا حيث ترى بي فوق ظهر جيروم الذي يحملها، وسُرعان ما يلقيها أرضا، وبمُجرد مروره من أمام جو تطلق الرصاص على رأسه، لكن الرصاصة لا تخرج، تحاول جو مرة أخرى، إلا أن الرصاصة لا تخرج أيضا فتضع المُسدس في جيب معطفها، إلا أن جيروم ينهال عليها لكما وضربا، وحينما تقع أرضا يبدأ في ركلها إلى أن تصل إلى حالة تامة من الإعياء بسبب ضربه لها بينما بي تقف مُتأملة ما يحدث، وبمُجرد انتهاء جيروم من ضرب جو تخلع بي كيلوتها لتستند بظهرها على أحد صناديق القمامة المواجهة لعيني جو وتفتح ساقيها لجيروم مُخرجة قضيبه مُدلكة إياه. بمُجرد انتصاب قضيب جيروم يدخله في فرج بي ثلاث مرات مُتتالية، ثم سُرعان ما يقلبها على بطنها ليدخل قضيبه في شرجها خمس مرات، تماما كما فعل مع جو حينما كانت مُراهقة، بينما ترير يكتب على الشاشة عدد المرات كما سبق له أن فعل في الجزء الأول.

بمُجرد انتهاء جيروم من فعله مع بي نراها تتوجه إلى جسد جو المُلقى على الأرض لتقف فوقها تماما وتبدأ في التبول عليها، وهو ما يفسر لنا الرائحة النتنة لمعطفها في بداية الجزء الأول، ورفضها أن يقوم سليجمان بغسله.

ينتقل ترير إلى سليجمان وجو التي تتساءل عن عدم خروج الرصاص من المُسدس ليخبرها بأنها قد وضعت المُسدس على وضع الأمان، وكان لا بد لها من سحب الأجزاء لتعميره قبل إطلاق الرصاص عليه. لكنها تؤكد له بأنها ستبدأ في البحث لنفسها عن أسلوب حياة جديد، كما أنها ستتخلص من رغبتها في مُمارسة الجنس تماما، وربما تبحث عن ابنها مارسيل، وتخبره بأنه أول صديق طيب لها في حياتها الجديدة، ثم لا تلبث أن تطلب منه أن يطفئ الأنوار لشعورها بالإعياء والرغبة في النوم.

يخبرها سليجمان بأنه سيتحدث معها في حياتها الجديدة حينما تنهض من نومها، ولكن بعد نومها بفترة قصيرة نرى سليجمان يتسلل إلى غرفتها ليكشف الغطاء عن جسدها مُتحسسا لمُؤخرتها العارية بينما يمسك قضيبه في يده فاركا إياه محاولا إكسابه الانتصاب. تنتبه جو من نومها ليبتسم لها سليجمان بينما يستمر بفرك قضيبه، لكنها تقول بغضب: لا، وتمتد يدها إلى معطفها لإخراج المُسدس الذي تسحب أجزائه، فيقول لها سليجمان، لكنك ضاجعت آلاف الرجال.

إن المشهد الأخير من الفيلم الذي جذبت فيه جو لأجزاء السلاح من المشاهد المُهمة والمُعبرة والمُرتبطة بمفهوم الفيلم الحسي ارتباطا عميقا، فإذا ما كنا قد رأينا بداية الفيلم في جزئه الأول بداية تؤكد على حسيته، أي الاهتمام بالحسية، لا سيما حاسة السمع، قبل أي شيء بوجود شاشة مُظلمة نستمع من خلالها لما يحدث قبل قطع ترير المُفاجئ لنرى ما سبق أن سمعناه أولا، أي أنه يقدم الحسية في هذا المشهد، فإن ختامه للفيلم كان بنفس الآلية والأسلوبية التي بدأ بها فيه في تأكيد وإمعان على معنى الحسية واهتمامه بها، حيث تظلم الشاشة بمُجرد سحب جو لأجزاء السلاح، لنسمع صوت سليجمان الذي يقول مُندهشا: لكنك ضاجعت آلاف الرجال. لكننا نسمع صوت الرصاصة المُنطلقة، ليليه صوت جثة ترتطم بالأرض، ثم صوت جو التي ترتدي حذائها البوت وإغلاق سوستته، ليليه صوت دقات كعبيها على الأرض محاولة الهروب، ثم إغلاقها للباب، وصوت خطواتها الهابطة للدرج، وسُرعان ما نسمع صوت باب القطة- الذي صنعه سليجمان لقطه- يتحرك مما يؤكد لنا بأنها قد فتحت الباب الخارجي للبناية وخرجت حيث أن فتح الباب الخارجي يؤدي إلى تيارات من الهواء التي تحرك باب القط كما سبق أن شرح لها سليجمان. لينتهي الفيلم عند خروجها من البناية، تاركا إيانا في فراغ عميق من الاكتئاب والتساؤل: لم رفضت جو مُضاجعة سليجمان؟!

إذا ما كنا قد ذهبنا فيما قبل إلى أن جو وسليجمان هما في حقيقتيهما وجهان لعملة واحدة، وأن هذه العملة في جوهرها هي لارس فون ترير نفسه، وإذا ما كانت جو تمثل في حقيقتها الوجه الحسي لترير بينما يمثل سليجمان الوجه الفكري والثقافي والذهني له؛ فهذا يعني أن ثمة نزاع وصراع عميق بين حسية ترير وعقلانيته الفكرية، وإذا ما كان العقل لديه يتحاور طوال الفيلم مع حسيته ورغباته؛ فقد كان من الطبيعي أن يندمجا في نهاية الأمر بشكل فيه قدر ما من التصالح، لكن جو رفضت هنا مُضاجعة سليجمان الذي لم يضاجع امرأة قط في حياته، أي أن الأمر هنا يصبح بمثابة رفض الجانب الفكري لترير التصالح مع جانبه الحسي الشهواني ومن ثم رفضه تماما في شكل تنافري، والانتصار في النهاية للجانب الحسي. لكن من جانب آخر قد يوحي هذا الرفض من قبل جو بمعنى آخر: هل رفضها لمُمارسة الجنس معه يؤكد على أنها كانت تختلق حكاياتها الجنسية التي تصبح بمثل هذا المعنى مُجرد أساطير وحكايات مُختلقة؟!

سواء كان التأويل الأول هو الصحيح، أو التأويل الثاني إلا أن ترير قد نجح إلى حد بعيد في صناعة فيلم أشبه بالموسوعة النفسية التأملية في الرغبات الجنسية، فضلا عن أنه فيلم يعصف تماما ويتحدى الأخلاقيات البرجوازية ويسخر منها ليضرب بها عرض الحائط كعادة المُخرج في جميع أفلامه.

 

 

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد سبتمبر 2023م.