السبت، 31 يوليو 2021

إحسان عبد القدوس.. كاتبٌ عابر للطبقات!

إحسان عبد القدوس
لم يكن إحسان عبد القدوس مُجرد روائي مر في تاريخ الرواية العربية، وانبتّ أثره بمُجرد رحيله كما يحدث مع الكثيرين من الروائيين الذين، بمُجرد رحيلهم، يتناساهم القراء وكأنهم لم يكونوا بيننا يوما، بل ترك عبد القدوس بأثره الروائي على العديد من الأجيال التي عاصرته، والتالية له، حتى أن أعماله الروائية والقصصية ما زالت تُطبع حتى اليوم وتتسابق دور النشر على امتلاك حقوق نشرها؛ نظرا لما تحققه من إقبال كبير من قبل القراء الذين ما زالوا يرون فيما كتبه من أعمال قصصية وروائية طزاجة تجعلنا نظن فيها وكأنما الروائي قد انتهى منها لتوه!

لكن، هل كان الأثر الروائي الذي تركه عبد القدوس يستحق أن يخلده بمثل هذا الشكل حتى الآن لدرجة أن تُقبل عليه أجيال جديدة مُختلفة في الثقافة، والرؤية تجاه الحياة؟

انشغل إحسان عبد القدوس بعوالمه الروائية باكرا، ولم يكن يعنيه سواها، حتى أنه قد اختلف مع أمه، فاطمة اليوسف؛ التي كانت ترغب له في أن يكون صحفيا، ويدير مُؤسسة "روز اليوسف"- أشهر المُؤسسات الصحفية المُستقلة المصرية التي قامت بإنشائها- في حين أنه كان مُنجذبا إلى الكتابة الأدبية. لكن رغم هذا الخلاف بينهما حرص عبد القدوس على التوفيق بين ما يجتذبه، ويرغبه، وبين رغبة أمه في أن يكون صحفيا، وهو ما نجح فيه إلى حد بعيد، بل لا ننكر أن الكتابة للصحافة قد تركت بأثرها إلى حد ما على كتابته الأدبية التي مالت إلى سهولة التلقي، واللغة البسيطة التي من المُمكن أن يفهمها أي قارئ مهما كانت درجة تعليمه، وهو ما اجتذب الشريحة الأكبر من القراء.

لكن، ليس معنى تأثير اللغة الصحفية على الأعمال الروائية التي كتبها إحسان عبد القدوس، أن أعماله الروائية كانت ساذجة، أو ذات لغة سطحية؛ فهو نفسه قد عمد إلى تبسيط لغته كي تصل إلى القطاع الأكبر من القراء، أي أنه كان يكتب وعينه على الجماهيرية الواسعة كي تصل كتابته لأكبر شريحة من شرائح المُجتمع، وهو المُجتمع الذي كان يعمل الروائي على تأمله بعمق، لاجئا إلى تشريحه نفسيا واجتماعيا، واضعا يده على انهياراته، ومُشكلاته المُتفشية فيه، وسُرعان ما يصوغ رؤيته تجاهه في رواية جديدة كاشفة، صادمة، حريصة على تعرية ما يدور في المُجتمع من حوله، وكأنه يُطلق بوق الإنذار بأن ثمة خلل ما هنا لا بد من الانتباه إليه والعمل على إصلاحه.

لا يمكن إنكار الأثر العظيم الذي تركه إحسان عبد القدوس على أجيال سابقة لنا، وتالية علينا كذلك، فهو من الكتاب الذين امتلكوا أدواتهم الفنية؛ الأمر الذي جعله يكتب بانسيابية وثقة مُطلقة حتى لكأنه يتحدى ذاته، أو يضع موهبته الروائية على المحك والاختبار الدائم، لذلك نراه يذكر في أحد حواراته مع الصحفية ماجدة الجندي بأنه كان يستكمل كتابة الرواية أثناء نشرها بشكل مُسلسل في الصحافة؛ الأمر الذي يُدلل على مدى ثقته في موهبته التي لن تخذله في أي لحظة، ولنتأمل سؤال الجندي له: صحيح يا أستاذ إحسان، كنت بتكتب رواياتك حلقة بحلقة أثناء نشرها؟ فيرد عليها: زمان من كُتر ثقتي بنفسي كنت بعمل كدا، الأول أفكر في القصة، تفكيري دا مُمكن ياخد سنة، بعدين أسجل القصة على شكل نقط قصيرة على ورق، ثم أبدأ في الكتابة، وعلشان روز اليوسف كانت دايما محتاجة لمواد، كنت بعد رابع فصل في القصة أبدأ في نشرها، يعني أكتب الفصل الخامس مع نشر الفصل الأول، وهكذا"!

إن هذه الثقة المُفرطة في الموهبة، أو المقدرة على الكتابة الإبداعية لا يمكن لها أن تتأتى من فراغ، فهو يُدرك جيدا ما يفعله، ويثق تمام الثقة في كتابته حتى أنه كان يضعها في اختبار دائم، وهو الاختبار الذي أكد فيه لنفسه المقدرة على الفعل والاستمرار. إذن، فالرجل كان في تحدي دائم لنفسه- مُتجاهلا تحديه للآخرين- وهو ما جعله يستمر في عالمه الخاص، المُغلق في معنى من معانيه، على مفاهيم الحرية، والمرأة، والمُشكلات التي تعاني منها الطبقات، لا سيما الطبقة البرجوازية، والبرجوازية الصاعدة، وصولا إلى الطبقة الأرستقراطية التي نشأ فيها.

لكن، هل معنى ذلك أن عبد القدوس لم يكتب سوى عن طبقته التي يعرفها وعاش فيها فقط؟

إن تأمل العالم الإبداعي الذي قدمه إحسان عبد القدوس يؤكد لنا أنه كان روائيا عابرا للطبقات، بمعنى أنه قد تأمل جميع الطبقات الاجتماعية المصرية وعمل على تفكيكها بمفهومه الفني؛ الأمر الذي جعله يتناول مُشكلات هذه الطبقات كافة، مُنبها إلى خطورة ما يتحدث عنه في كل طبقة منها، وهو ما أكد عليه الروائي عينه في حواره مع ماجدة الجندي في قوله: "أنا أحب أعايش البشر في كل المُجتمعات، والقصة أنا اكتسبت فن كتابتها من اجتماعي بالناس في كل الطبقات والأوساط مُنذ صغري، بمعنى إن أنا مليش شلة أقعد معاها، دا أنا يوم في الحسين، ويوم تلاقيني في سميراميس مع أولاد الذوات، أدرس دول، وأدرس دول، دي هواية، هوايتي أشوف دول عايشين ازاي، ودول عايشين ازاي، حتى لما كنت أروح أوروبا، مكنتش أروح رسمي وأقابل مسؤولين وأعمل أحاديث، لا، أنا مش بتاع الكلام دا، أنا أحب اتعرف على الناس، وأمشي في الشوارع، وأقعد على القهاوي، أشوف الناس ازاي عايشين، يعني أول مرة سافرت باريس كنت أنام ساعتين اثنين كل 48 ساعة، وبقية الوقت بشوف وأعيش، ونتيجة دا كله تخطر أفكار".

لعله في الأعمال الروائية التي قدمها عبد القدوس ما يُدلل على صدق حديثه الذي جعله الروائي العابر للطبقات، والقادر على التعبير عنها جميعا من دون الانغلاق على طبقته الأرستقراطية فقط التي نشأ فيها، ولنتأمل "في بيتنا رجل" التي تحدث فيها عن الطبقة المتوسطة، ثم "لا أنام" المُعبرة عن الطبقة الأرستقراطية، بل لم يقتصر تأمله للمُجتمعات البشرية وما تعاني منه من مُشكلات خطيرة قد تعصف بها على المُجتمع المصري فقط، بل تعدى ذلك إلى المُجتمع الأوروبي، والمُجتمع الإفريقي في "ثقوب في الثوب الأسود"، أي أن عبد القدوس كان الروائي القادر على التعبير عن العديد من المُجتمعات المُختلفة، والطبقات المُتباينة، ساعده في ذلك اعتماده على اللغة الوصفية الدقيقة التي تهتم بدقائق الأمور، فضلا عن اهتمامه بالتحليل النفسي لشخصياته حتى أنه يتعمق داخل كل شخصية لاستخراج تناقضاتها الكامنة فيها واستعراضها للقارئ.

هذه التناقضات التي كان حريصا على بيانها داخل شخصياته، والتي تترتب عليها ردود أفعالهم في الحياة ليست بعيدة عن الروائي ذاته الذي كان من المُمكن لنا أن نُطلق عليه- ظاهريا- ملك التناقضات!

فلقد نشأ إحسان عبد القدوس بين أب مصري يعمل مُمثلا في مجال المسرح ويكتب له أيضا، وبين أم لبنانية تعمل أيضا في مجال المسرح، لكنها لم تلبث أن استشعرت بأن مجال المسرح غير مُناسب لها، أو أنها زهدته، وسُرعان ما اتجهت إلى عالم الصحافة والثقافة الواسعين، كما أنه تربى في بيت جده العالم الأزهري المُتشدد للتقاليد ومفاهيم العيب والحرام، وفي نفس الوقت كان يذهب إلى المجالس الثقافية التي تعقدها أمه فيرى الكثير من الفكر والليبرالية، والتقدمية المُختلفة تماما عما يراه في بيت جده الأزهري، وهو ما ترك بأثره على إحسان نفسه، وبدت لنا حياته من حيث الشكل الظاهري مُتناقضة؛ فالروائي الأكثر تحررا وتقدمية وليبرالية، في التوقيت الذي عاش فيه، والمُنادي دائما بضرورة حرية المرأة واكتسابها إرداتها الحرة- كما كتب دائما في كل ما قدمه- لم يكن نصيرا للمرأة العاملة؛ لأنه كان يرى أن المرأة مكانها البيت من أجل تربية أبنائها، والاهتمام بهم وبزوجها وتوفير كل أسباب الراحة لهم!

لكن، إذا ما تأملنا حياة عبد القدوس بروية لاستطعنا فهم السبب وراء ذلك، إن ارتباط إحسان القوي بأمه- روز اليوسف- وحبه الجم لها؛ جعلاه يراها دائمة الانشغال عنه رغم حاجته إليها، ورغم أنه كان يراها امرأة قوية وأسطورية، لكنه كان يشعر بافتقادها كأم؛ لانشغالها الدائم في عملها الصحفي، وهو الأمر الذي جعله يرى أن الزوجة مكانها البيت، أي أنه كان يقوم بعملية تعويض حينما رأى أن زوجته- لولا- لا بد لها أن تكون ربة منزل لترعاه وترعى أطفالهما، حتى لا يعاني أولادهما مما عاناه من إحساس الحرمان من اهتمام ورعاية الأم، ومن هنا لا يمكن لنا القول بأنه كان مُتناقضا فيما يدعو إليه في كتاباته في مُقابل حياته الواقعية.

أخلص عبد القدوس كثيرا لما يقدمه من فن روائي تبعا لرؤيته الفنية والاجتماعية والثقافية التي يستند إليها، وهو ما جعله يصطدم بالرئيس جمال عبد الناصر بسبب مجموعته القصصية "البنات والصيف" التي كانت تُعبر عن العديد من الحكايات الخاصة بالفتيات، والتي تُعد بمثابة التفسخ الاجتماعي للعديد من الطبقات، لكن عبد القدوس أكد له أن الواقع فيه أكثر مما ذكره هو في مجموعته، وأن الواقع الفني لا يمكن له أن يتغير إلا بتغير الواقع الاجتماعي الفعلي، أي أن الواقع الفني هو المرآة الحقيقية لما يدور في المُجتمع، وعليه فليس من المنطقي مُطالبة الواقع الفني بالتغير في حين أن الواقع الاجتماعي الذي يعبر عنه الفن ما زال كما هو، وإلا سيكون الأمر بمثابة الانفصال الحقيقي بين الفن وما يدور في الواقع.

فاطمة اليوسف
إن هذا الإخلاص للفن الذي يكتبه عبد القدوس قد جعله مثار النقد الدائم سواء من قبل السُلطة، أو من قبل رجال الدين، أو حتى المُجتمع المُحيط به؛ فالجميع يرونه جرئيا فيما يقدمه، خارجا عن الأطر الاجتماعية، ولا يعنيه سوى الجنس، والتفسخات الاجتماعية التي يحرص على التعبير عنها، حتى أن الكاتب عباس محمود العقاد قد أطلق على ما يقدمه عبد القدوس توصيف "أدب الفراش"!

لكننا نستطيع فهم انحياز الروائي هنا إلى المرأة في كل ما يكتبه، ومن ثم فهو لا يعبر فيما يذهب إليه سوى عن عالمها ومشاعرها، ورغباتها، حتى لكأنه يفكر بالنيابة عنها، ويشعر بدلا منها. يعود الأمر في ذلك إلى أن إحسان قد نشأ في بيئة تغلب عليها النساء، كما أنه قد تأثر تأثرا كبيرا بحبه الجم لأمه روز اليوسف، وعمته كذلك، ولقد كان لكل منهما أكبر الأثر عليه في حياته؛ الأمر الذي جعله مُنحازا إلى عالم المرأة ومُشكلاتها، وما تعاني منه في المُجتمع المُحيط بها.

إن جرأة إحسان وصراحته فيما يتناوله من مُشكلات في أعماله الروائية، لم تقتصر على الأدب فقط، بل انسحبت بدورها على الصحافة التي برع فيها حتى أنه أسس مدرسة صحفية تخصه- خاصة في روز اليوسف، وصباح الخير- كما رفع مبيعات جريدة الأخبار إلى المليون نسخة، يوميا، حينما تولى رئاسة تحريرها. هذه الصراحة المُطلقة هي ما رأيناه في كتاباته الصحفية السياسية التي جمعها فيما بعد في كتابه "على مقهى في الشارع السياسي".

كتب عبد القدوس بطلاقة في الشأن السياسي، ولم يكن يعنيه سوى الإصلاح فقط، فإذا ما كانت كتاباته الروائية التي تتعمق في عالم المرأة كان هدفها الحقيقي هو الإصلاح الاجتماعي، فلقد كانت كتاباته السياسية هدفها الأهم هو الإصلاح السياسي، وهو ما جعله يصطدم اصطداما قويا مع القصر الملكي حينما كتب عن قضية الأسلحة الفاسدة في حرب 1948م؛ الأمر الذي كشف القصر، والكثيرين من ضباط الجيش الذين تعاقدوا على هذه الصفقة؛ مما وضع الجميع في حرج!

لكن، لم يتوقف الأمر هنا على الاصطدام بالقصر الملكي فقط، بل تعداه إلى الاصطدام الحقيقي مع مجلس قيادة الثورة بعد 1952م. صحيح أن عبد القدوس كان مُقربا من السُلطة السياسية بعد الثورة، حتى أن جمال عبد الناصر كان يستشيره في العديد من الأمور، وهو ما جعل إحسان يطلب من الرئيس عبد الناصر الحفاظ على حياة الملك فاروق وعدم الإضرار به. وصحيح أن قربه الشديد من الرئيس عبد الناصر كان يجعله ينادي الرئيس بقوله: "جيمي" إلا أن هذا القرب كان مُجرد قرب ظاهري فقط، سُرعان ما انهار وكأنه لم يكن بمُجرد ما انتقد إحسان عبد القدوس النظام السياسي، وكتب مُطالبا بعودة الجيش إلى ثكناته وترك الحياة السياسية، هنا انقلب عبد الناصر عليه وكأنه لم يكن يعرفه من قبل، وتم اعتقال إحسان عبد القدوس، وتحول "جيمي" إلى سيادة الرئيس، ليتأكد إحسان بأنه لا يمكن أن تكون هناك ثمة صداقة مع السُلطة؛ فهي سُرعان ما تنقلب تبعا لمصالحها واهتماماتها!

إن صدق إحسان فيما كتبه في المجال السياسي عرضه غير مرة للاعتقال، بل وتعرض أيضا لمحاولات الاغتيال التي نجا منها!

ثمة سؤال لا بد من وروده على ذهن من يتابع إحسان عبد القدوس، وهو: لم انخرط الرجل في كتابة القصة القصيرة والرواية، والعمل في الصحافة فقط؟ ألم يكن من الأحرى به الكتابة للمسرح لا سيما وأنه قد نشأ بين أبوين يعملان في هذا المجال؟

إذا ما تأملنا كل الرصيد الإبداعي الذي تركه إحسان عبد القدوس سيتبين لنا أنه لم يكتب في مجال المسرح سوى "لا أستطيع أن أفكر وأنا أرقص" فقط، ورغم أنه كان راغبا في أن تكون مُنتمية إلى مجال المسرح إلا أنه كان مُتشككا فيما كتبه، غير قادر على التأكيد بأنها مسرحية. يؤكد ذلك ما كتبه في مُقدمة هذا الكتاب: "هذه هي أول قصة في قالب مسرحي أجرؤ على نشرها، ربما لأني وُلدت في المسرح من أم وأب من أهل المسرح، وقضيت طفولتي وصباي بين كواليس المسارح، ونشأ في نفسي نوع من الرهبة من الإقدام على أي عمل مسرحي، رغم كثرة ما خطر على بالي من عبور مسرحية، ولا أدري أي نوع من المسرحيات هذه التي أقدمها اليوم، هل هي مسرحية استعراضية، أو فكرية، وهل هي دراما، أو كوميدية مُضحكة. كل ما أعلمه أن الذي حرك إحساسي بها ليس وضعا مُحددا نعيش فيه، ولكنها صورة للتاريخ  كله كما يمكن أن يوحي بها التاريخ، وإذا كان فيما رسمته من مشاهد بعض الغرابة، فهي لا تصل إلى غرابة مسرحيات بيكيت أو باقي كتاب المسرح الحديث، أو ما يُسمى اللامعقول، بل لا أدري، هل هذه مسرحية؟"!

لعل هذا التشكك فيما كتبه عبد القدوس، والعجز عن تجنيس هذه الكتابة هو ما جعل جل الناشرين ينشرونها تحت عنوان مجموعة قصصية، وليس مسرحية؛ فالكاتب نفسه لم يكن يعرف تصنيف هذه الكتابة، كما أنه امتلك خشية كبيرة من الكتابة المسرحية؛ لأنه نشأ بين الكواليس، وخبرها جيدا، وفهم أسرارها؛ الأمر الذي أكسبه الرهبة من الكتابة المسرحية.

لكن، هل اقتصر إبداع عبد القدوس على مجالي الرواية والصحافة فقط؟

إن الأثر الإبداعي الواسع لإحسان عبد القدوس امتد به إلى مجال الكتابة السينمائية كسيناريست للكثير من الأفلام، وإذا ما كنا قد ذهبنا إلى القول: بأن عبد القدوس هو الروائي العابر للطبقات حينما حرص على تشريح جميع الطبقات الاجتماعية وما تعاني منه من مُشكلات، فهو أيضا الكاتب العابر للفنون؛ حيث كتب في الرواية والقصة القصيرة، والسينما، بل لا يخفى علينا بأن عبد القدوس قد كتب الكثير من السيناريوهات للشاشة مُباشرة، حيث كان فيلم "الله معنا" للمُخرج أحمد بدرخان 1955م من أول السيناريوهات التي كتبها الروائي للشاشة من دون الاعتماد على أي عمل أدبي، وهو الفيلم الذي كتب مُخرجه على أفيشاته: "تمشيا مع العهد الجديد"، قاصدا به عهد الثورة!

جمال عبد الناصر
تحولت الكثير من الأعمال الروائية التي كتبها إحسان إلى السينما، ولعله لا يمكن لنا إنكار فضل السينما على ما كتبه الروائي؛ حيث عرفته قاعدة عريضة وأوسع من الجمهور، كما لا يخفى علينا أن الأعمال الروائية التي كتبها الروائي كانت أقرب إلى التصوير السينمائي، وكأنما الروائي كان يكتب أعمالا روائية بتقنية السينما؛ الأمر الذي سهل انتقالها من وسيط إلى وسيط آخر بسهولة، وهو ما جعل المُخرجين يقبلون على ما يقدمه من أعمال روائية حتى أنه لم ينافسه في هذا المجال- تحويل أعماله الروائية إلى أعمال سينمائية- إلا نجيب محفوظ من حيث الكثرة العددية.

يذكر الناقد محمود قاسم في كتابه "السينما والأدب في مصر 1927- 2000م" إلى أن قائمة الأفلام المأخوذة عن أعمال إحسان عبد القدوس الروائية قد بلغت 43 فيلما فقط، ولكن بالبحث اتضح لنا أن قائمة الأفلام السينمائية المأخوذة عن أعمال إحسان عبد القدوس السينمائية بلغت 59 فيلما منها ما هو من إنتاج التليفزيون، ومنها ما هو مُنتج سينمائيا.

أي أن عبد القدوس كان الأغزر، من حيث الوفرة العددية، في تحويل أعماله الروائية إلى أعمال سينمائية، كما كان يمتلك من الجرأة والشجاعة على تحويل أعماله الروائية إلى الوسيط السينمائي بنفسه، أي أنه لم يخش كتابة السيناريوهات، أو الحوارات لأعماله الروائية- رغم اقتناعنا أن تحويل العمل الروائي إلى الوسيط السينمائي قد يؤدي إلى تشويه الأصل وتغييره بالإضافة إليه والحذف منه- فكان عبد القدوس يعمل على هذا التغيير بنفسه مُختلفا في ذلك عن نجيب محفوظ الذي كان يرفض رفضا تاما كتابة أعماله الروائية كسيناريست، ويكتفي بكتابة سيناريوهات لروايات غيره من الروائيين.

لعل هذه الجرأة التي تميز بها عبد القدوس في تشويه أعماله الإبداعية من أجل انتقالها للوسيط السينمائي كانت من الأمور التي أحجم عنها الكثيرون من الروائيين؛ مما يُدلل على فرط ثقته فيما يكتبه، ويقدمه، بل ومقدرته على إعادة إنتاج ما سبق أن كتبه بشكل آخر قد يختلف كثيرا، أو قليلا عما كان.

إن فضل، وأهمية ما كتبه إحسان عبد القدوس في تاريخ الثقافة المصرية والعربية سواء على المستوى الإبداعي، أو الصحفي، أو السينمائي لا يمكن إنكاره على الكثير من الأجيال، ومنها الأجيال الجديدة الناشئة، ولعل الأفلام السينمائية المأخوذة عن أصوله الأدبية لا زالت من أهم كلاسيكيات السينما المصرية والعربية حتى اليوم؛ مما يُدلل على أهمية وقيمة الرجل في التاريخ الثقافي العربي، وهو ما يجعلنا نطلق التوصيف على مداه لنقول: إنه الكاتب العابر للأجيال!

 

 

محمود الغيطاني

 النص العربي للمقال المنشور بالإنجليزية في مجلة "بانيبال" اللندنية

العدد 71- صيف 2021م



 

الأحد، 11 يوليو 2021

المغارة الثانية.. مُجتمع ينضح بالعُنف!

مع تأمل المُجتمع الجزائري من الداخل- أي خلافا للصورة التي يتم تصديرها لرؤيته من الخارج- سيتبين لنا أن ثمة عُنف هادر يجتاح هذا المُجتمع بسياقات وأشكال مُختلفة عن بعضها البعض، وإن كانت جميعها تصب في خانة المُجتمع المُمارس للعنف وكأنه لا يمكن لهم الحياة من دونه. هذا العُنف الذي تمثل لنا بشكل فاضح في سنوات العشرية السوداء على سبيل المثال هو الذي جعل مجموعات كبيرة مُتناحرة على السلطة باسم الدين تلجأ إلى الحياة داخل الجبال والغابات بعيدا عن المدينة والمُجتمع راغبين في الانزواء والاختفاء عن يدي السُلطة من أجل مُمارسة عنفهم على هذا المُجتمع، بل والتربص بالسُلطة من أجل تقويضها ومحاولة التحكم في الجميع حينما تحين لهم اللحظة المُناسبة؛ فكانوا يغيرون على المُجتمع المدني كثيرا ليعملون فيه العُنف والقتل والإرهاب باسم الدين، وسرعان ما يعودوا مرة أخرى إلى سكنى الجبال والغابات محاولين الاختفاء عن السُلطة السياسية التي تطاردهم، أي أن المُجتمع المدني هنا كثيرا ما عانى من هذه الغارات التي تشنها الجماعات الإسلامية المُسلحة باسم الدين، وليس أدل على ذلك من العدد الضخم للضحايا من المدنيين الذين كانوا فريسة لهذا العُنف الدموي الذي استمر عشر سنوات حتى توصلت السُلطة السياسية إلى حلّ المُصالحة بعودة هؤلاء المواطنين إلى صفوف المُجتمع المدني للتعايش فيه في مُقابل إسقاط جرائمهم التي اقترفوها ضد الجميع، في صفقة مُهينة ومُخزية من الحُكم مع هؤلاء المُسلحين الذين قتلوا الآلاف من الجزائريين من دون أي ذنب؛ وبالتالي هبط هؤلاء المُسلحون بالفعل وتعايشوا مع المُجتمع الجزائري وباتوا جزءا لا يتجزء منه، رغم جرائمهم التي لا تُغتفر!

لكن، هل كان هبوط العناصر المُسلحة من الجبال والتلال والغابات من أجل الاندماج حلا ناجعا بالفعل استفاد منه المُجتمع الجزائري؟

إن هبوط هؤلاء المُسلحين بما يحملونه من أفكار أيديولوجية تميل إلى اليمين المُتطرف باسم الدين كان بمثابة هبوط وباء على المُجتمع الجزائري؛ ومن ثم بدأ هذا الوباء في الانتشار ليصيب النسبة الأكبر من هذا المُجتمع لا سيما على المستوى الثقافي؛ فرأينا النسبة الأكبر منه تتحول باتجاه اليمين وأيديولوجيته، وبات من الطبيعي تبني الفكر الديني لهؤلاء الهابطين حينما نشروا أفكارهم من حولهم؛ فرأينا المرأة الجزائرية التي اتجهت إلى الحجاب بوفرة غير طبيعية لم تكن متوافرة من قبل- سواء عن اقتناع، أو بسبب إرغام ذويها، أو بسبب نظرة المُجتمع الذي بات يرى في المرأة السافرة عُهر لا يمكن اغتفاره- كما بدأت النسبة الأكبر من هذا المُجتمع تتجه نحو التدين- ولو على المستوى الظاهري- وبات من الطبيعي مُعاداة الثقافة- باعتبارها أفكار ضد الدين، أو أمور لا قيمة لها في مُقابل الفكر الديني- أي أن هبوط المُسلحين من الجبال- باعتبارهم مُجتمع خاص له مُعتقداته وأفكاره- للاختلاط بالمُجتمع المدني والتعايش معه لم يكن هو الحل الناجع كما رأت السُلطة حينها، بل كان بداية لأسلمة الجزائر، أو سحب أيديولوجية سُكان الجبال وتعميمها على المدنيين لتصبح النسبة الغالبة من الجزائريين مُجرد مُجتمع يدين بأيديولوجية يمينية- سواء تظاهرا أو تقية، أو اقتناعا بهذه الأيديولوجية-.

لكن، هل انتهى العُنف في الجزائر بعد سنوات العشرية السوداء، أم استمر هذا العُنف من خلال سياقات، وأدوات، وأساليب مُختلفة في شكلها، مُتطابقة في مضمونها، تبدو بعيدة عن العُنف من الخارج، وإن كانت تعمل على تآكل المُجتمع من داخله في نهاية الأمر؟

إن تأمل ما حدث من الداخل هو ما تتناوله الروائية الجزائرية وسيلة سناني في روايتها "المغارة الثانية"، وهي الرواية التي تؤكد على إعادة تدوير العُنف والفساد بأشكال وصيغ مُختلفة بعد هذا التصالح الذي حدث، وكأنما الفارق الوحيد بين ما كان، وما هو كائن الآن مُجرد تماهي المُسلحين في نسيج المُجتمع ليصعد الجميع إلى الجبال وأفكار من يسكنونها، لكن هذه المرة على الأرض وبموافقة ومُباركة الجميع والسُلطة معا!

تسعى الروائية إلى تأكيد ذلك من خلال شخصية ناصر الرجل المهووس بإكمال اللوحات الناقصة، أو المشاهد والمواقف التي يراها من حوله باعتبارها مُجرد لوحات؛ ومن ثم فهو يسعى إلى إكمالها تبعا لرؤيته الشخصية- الفاسدة- وإقناع الأشخاص الموجودين في هذا المشهد بما يراه ليصبح في النهاية راضيا عن الأمر مهما كان فساده في حقيقة الأمر! لذلك تبدأ روايتها بتقديمه على لسانه حينما تكتب: "من أنا بالضبط، وما غايتي من وراء الأمر؟ لا يهم من أنا، أما غايتي من وراء الأمر فهي هوس لا أكثر ولا أقل. هوسي الدائم في إكمال اللوحات الناقصة في الحياة وتشكيلها بالصورة التي أراها عليها، عدا ذلك لا يهمني إن أتى آخر وأعاد بناءها على الصورة التي يريد. ولأجل ذلك فأنا هنا، وما أفعله الآن مع هذه اللوحة هو ما فعلته مع العديد من اللوحات التي أصرّيت على إكمالها"، أي أن ناصر هنا حريص على تشيئ كل ما يدور من حوله، ومن ثم تمسي الحياة كلها ومواقفها مُجرد لوحات إما أن تنال إعجابه، أو يتدخل فيها من أجل إكمالها نظرا لأنه يراها ناقصة، وإن كان في حقيقة الأمر يعمل على إفسادها، وليس إيصالها إلى مستوى الكمال كما يدعي.

إنه في هذه الرغبة العارمة التي تُسيطر عليه مُصاب بهوس عُصابي لا بد من علاجه حتى لا تنفلت منه الأمور؛ لا سيما أن الأمر بدأ في التطور معه فنقرأ: "صرت أيضا أراقب عدد الحبات التي أقتنيها من خُضر وفواكه، أو أي شيء أستعمله. أخضعه لحساب عدده، فإذا لم يكن عدده زوجيا، أسعى جاهدا لإكماله أو لرمي العدد الفردي الزائد. لست أدري ما علاقة العدد الزوجي بإكمال اللوحات الناقصة، لكني مُصرّ عليه. عندما كنت أصعد الدرج إلى البيت، أعد عدد الدرجات فأجدها دائما على العدد تسع عشرة؛ فأود لو أني أستطيع إضافة درجة أخرى أو حذف واحدة ليصبح العدد زوجيا. عندما أمشي في الطريق إلى مكان ما أعد خطواتي، وعندما أقترب من الوصول إلى بوابة المكان أباشر في احتمالات توزيع خطواتي على عدد زوجي حتى أخطو خطوة الانتصار عند بوابة المكان. صار الجميع يعرف هوسي ويعمل حسابا له. حتى بائع الفواكه يزن المطلوب ثم ينتظرني لأعد حبات الفاكهة، وفي حالة ما إذا وجدتها بعدد فردي أترك له حبة وأنصرف، فصار يسميني البركة. بسبب هذا الهوس صرت أخاف أن أقدم على ارتكاب أبشع الجرائم، تزعجني رؤية شخص برجل واحدة مبتورة، أريد لو يقوم بتركيب رجل أخرى اصطناعية أو تُبتر رجله الأخرى"! إذن فالهوس العُصابي لناصر، هنا، قد وصل إلى حده الأقصى؛ حتى أنه من المُمكن له أن يرتكب جُرما في حق أي إنسان لمُجرد رغبته في إكمال المشهد/ اللوحة كما يراها في خياله هو، رافضا ما هو واقعي وموجود بالفعل.

ألا يتشابه الأمر هنا تماما مع جماعات الإسلام السياسي الذين يتخيلون الحياة والمُجتمع من حولهم على صورة نموذجية يتبنونها في خيالهم ويسعون بكافة الطُرق من أجل إكمالها؛ لأنهم يرون أن هذه هي الصورة المثالية التي لا بد أن يكون كل ما يحيطهم عليها؟ إنه نفس المفهوم، لكن مع التغير الطفيف في الأسلوبية، والمُعطيات، وطريقة التنفيذ؛ فناصر يسعى إلى إفساد ما يحدث من حوله- باعتباره يكمله- والمُنتمون للإسلام السياسي- الذين كانوا يسكنون الجبال- يسعون إلى إفساد ما يحدث حولهم أيضا باعتبارهم يكملون الصورة كما ينبغي لها أن تكون.

يصادف ناصر عائشة التي يراها لوحة ناقصة لا بد له من إكمالها؛ لذلك يسعى إليها بكل إصرار من أجل إكمال لوحته كما يحب أن تكون، أو كما يتخيلها: "ثم رحت أدقق في عائشة، آآآآآي، لم أصدق ما كانت تراه عيناي، لقد جلبت نظري بقوة إلى أن تأكدت بعدها أنها إحدى الجهات الناقصة في إحدى لوحاتي. وبعد أن دققت في تفاصيلها فهمت أنها من العوالق التي تبحث عن مُستقر لها بعد أن يجتثها كل واحد تحاول الالتصاق به ويرميها بعيدا كمُخاط الأنف ما إن يقذف في مخرجي الأنف حتى نعاود قذفه خارجه". لقد رأى ناصر في عائشة شيئا ما يعتقد أنه ناقص؛ لذلك كان عليه إكمال اللوحة كما يراها بالتعرف عليها وإقناعها بفعل ما يريده هو، أو التخطيط لحياتها بشكل جديد ومُختلف عما هي عليه.

يصف ناصر هنا شخصية عويشة- كما تُعرف بين من هم قريبين منها- أو عائشة بالشخصية التافهة، السطحية، سهلة الانقياد؛ لذلك فهو قادر على تشكيل حياتها مرة أخرى تبعا لما يراه هو؛ لذلك حينما يخبرها بأن كل ما يقرأه يحتفظ به في رأسه ليتخلص من الكتب بسهولة، تطلب منه أن يمنحها ما لا يريده من هذه الكتب، لكنه يقول لها: "لكني أتصور نوعية الكتب التي تقرئينها، روايات رومانسية، وأشعار في جنة الخُلد المفقودة وغيرها وغيرها"، لترد عليه: "أممم، نعم أحب الروايات كثيرا، ما همي بكتب الفلسفة والسياسة وغيرها؟ أصدع رأسي دون فائدة، أبحث عن الكتب التي تحقق لي مُتعتي، أما الأخرى التي تجعلني أفكر فلا حاجة لي بها، زمني ليس زمن تفكير. ظُلمت من اللحظة الأولى التي قُذفت فيها إلى هذه الأرض. فما دخلي أنا في التفكير؟ أحب اصطياد المُتعة، التمتع بالسلام والسلام". أي أنها تعترف بسطحيتها وعدم رغبتها في التفكير أو إجهاد نفسها بأي شيء سوى المُتعة فقط، ولعلنا نلاحظ هنا أن وسيلة سناني تحاول أن تبث لنا الحقائق والوقائع بين ثنايا سردها بشكل مُتقطع، أي أنها لا تقذف لنا بالوقائع دفعة واحدة، ولعل هذا يتضح في قول عائشة لناصر: "ظُلمت من اللحظة الأولى التي قُذفت فيها إلى هذه الأرض. فما دخلي أنا في التفكير؟".

إن هذه الجملة لا بد لها من أن تُثير تساؤل المُتلقي عن شكل الظُلم الذي تتحدث عنه، وكيفية حدوثه لها، وهو ما ستفضي لنا به فيما بعد بعدما مهدت له من خلال جملتها، لكن الروائية هنا لا تتعجل في سرد الظُلم الواقع على عائشة بل تعمل على إكمال مشهد ناصر أولا قبل الانتقال إلى تاريخ عائشة وبيان ما حدث معها؛ لذلك سنعرف أن اللوحة الناقصة التي رآها ناصر حينما قابل عائشة لم تكن تخص عائشة في المقام الأول، بل كانت صورة أخرى راسخة في ذهنه لأحد الكتاب الكبار والمشهورين، وحينما رأى عائشة بزغت هذه الصورة الناقصة التي يختزنها في ذهنه إلى مُقدمة تفكيره؛ ومن ثم رأى أن عائشة هي الأداة المُثلى من أجل إكمال هذه اللوحة، أي أنه يتخذ منها مُجرد أداة/ شيء صالح لإكمال مشهده الذي يراه في ذهنه فقط: "عندما لمحت الأستاذ من بهو النافذة الكبيرة لشقتي بالطابق الخامس وهو يدخل للمرة الألف إلى الخطوط الجوية الجزائرية تخيلت عويشة تدخلها معه في المرة القادمة وهي تتعثر من حين لآخر في تنورتها الطويلة التي لم تسع قصر قامتها فتلامس الأرض والحذاء العالي الكعب؛ فتمتد يد الأستاذ إلى كتفها لتستدركها. نفس الحركة سيفعلها معها عندما يقطعان الطريق في المرة القادمة. تعرفت على نصف لوحتي هذا لأول مرة في أحد المطاعم بناحية سيدي فرج، وكعادتي لا أقع في فخ الشخصيات التي أراها غارقة في اللطف الزائد في بناء كاريزمتها؛ فغالبية الجزائريين لا يتمثلون اللطف كثيرا في مظهرهم، بل يمارسوه مُباشرة إن وُجد في أعماقهم، كان يكلم صديقي الكولونيل وأنا أصغى إليه وإلى حركاته المُتأنية. كانت زوجته تقحم نفسها عنوة في بعضا الأحاديث لتعلن عن حضورها، ثم تمد يدها إلى كأس النبيذ أمامها، فيتوقف الأستاذ عند جُملها ويعقب بدقة ليتم تصحيح كلامها أمامنا. الأستاذ لم يكن سهلا أبدا، حريص على كل منافذ الدخول والخروج، لا يتعثر، ينساب مثل الماء. بحسب ما عرفني به صديقي الكولونيل فهو الكاتب المشهور الذي لم يقرأ له حرفا واحدا، لكن يكفي لذلك أنه يرى وجهه على التلفاز واسمه تحت بالبنط العريض، ويرى صوره حتى على مجلات الموضة، فمجلات الفكر لم تعد تسع حضوره الكبير".

إذن فلقد كانت سناني هنا حريصة على سد الفجوات قبل الانتقال لاستعراض ماضي وحياة عائشة؛ حتى لا تترك لنا مجالا للتساؤل عن حقيقة اللوحة التي يرغب ناصر في إكمالها، إنه يريد إكمال/ إفساد حياة الكاتب المشهور منذ رآه، كما أنه لا يمكن له إكمال هذه اللوحة إلا من خلال عائشة التي رآها بالصدفة، وتربص بها حتى باتت صديقته ومُجرد أداة طيعة في يده يوجهها كيفما شاء، وبالفعل ينجح في دفعها في طريق الكاتب المشهور لتصير عشيقته وتكتمل اللوحة كما تخيلها.

هنا نعرف ماضي عويشة/ عائشة وشكل الظُلم الواقع عليها سابقا حينما تقول لناصر: "أنا لست لقيطة بالتصور الذي في رأسك، ويا ليتني كنت كذلك؛ فلربما كان الأمر أرحم، أنا ابنة اغتصاب مشهود، لا يزال الطرف المُغتصب فيه يعيش حتى اليوم ويتألم، أنا يا ناصر من مُخلفات الإرهاب، شظية من شظاياه قُذف بها إلى هنا"، ليرد عليها: "أها، إرهابي اغتصب أمك في بيتها. تقريبا، لكن ليس في بيتها، ولم أولد هنا، هي أُخذت عنوة، وقُتل زوجها في تعد عليهما، حدث هذا من الأمير الذي أعجبته أمي وجعلها ملكا له من ليلتها الأولى هناك. لقد اغتصبها؛ فكنت أنا، لقد حكت لي كل تفاصيل الواقعة". إنه الظُلم الذي سبق أن صرحت به عائشة من قبل ولم تعمل على تفصيله، تعود الكاتبة الآن بعدما أكملت المشهد الأول لتفصيل المشهد الثاني، وهو حياة عائشة التي كانت نتيجة اغتصاب أحد الإرهابيين الذين يسكنون الجبال، والذي رأى أمها ذات مرة في موسم جني الزيتون؛ فاختطفها رغبة فيها، وباتت ملكا له يمارس معها الجنس كيفما شاء باسم الدين.

ألا نلاحظ هنا أن ما قام به الأمير/ زعيم المُسلحين الإرهابيين الذين يسكنون الجبال يكاد أن يتطابق بشكل كامل مع ما يقوم به ناصر؟

كل منهما يرى المشهد أمامه مُجرد لوحة غير مُكتملة، وعليه أن يكملها هو كما يحب أن يراها؛ لذلك فكل منهما له أدواته، وأسبابه، وطرقه، وأسلوبه من أجل إكمال المشهد الناقص تبعا لما يراه هو: ناصر يرى أن حياة الكاتب ناقصة ولا بد من اكتمالها بزج عائشة فيها ليكتمل المشهد، وأمير الإرهابيين يرى وجود أم عائشة مع زوجها داخل قريتهما مشهدا ناقصا لا بد من إكماله باختطافها إلى أعلى الجبال حيث يعيش؛ لتكون ملكا له يمارس معها الجنس كيفما شاء: "كنا نتفقد شجر الزيتون شجرة شجرة، وطيف يحاول نزع الأعشاب التي أحاطت به لكي يسهل جنيه، فإذا بصوت يأتي من أعلى الهضبة بلغة عربية فصحى، صوت مصنوع للخُطب كذاك الذي نسمعه لدى الدعاة في القنوات التليفزيونية قبل ظهور شر هؤلاء بقليل: يا قدها الجميل، تخلصوا منه، وآتوني بها. انقض عليه أربعة مُلتحين يشبهون الجرذان، لم أجد نفسي إلا وأنا أمزق جسدي بصراخ وصل إلى كل غابات الزيتون المُتناثرة حول القرية، لكن من يجرؤ على نجدتنا؛ فالكل قد فهم أن خاتمتنا لا جدوى من تأجيلها أمام وصولهم إلينا، بل إن الجميع سيترك محصوله مُبعثرا على الأرض ويهرع إلى بيته". إذن فكل منهما يكاد أن يتطابق، وكل منهما يرى الحياة عبارة عن مشاهد لا بد له من إكمالها، أو العمل على تصحيحها تبعا لرؤيته التي تخصه وما يؤمن به، أي أن ناصر هو الوجه الآخر لأمير الإرهابيين؛ ومن ثم يكون كل منهما إرهابيا بطريقته، ومُمارسا للعنف بأسلوبه، ومُفسدا للمُجتمع من حوله بطريقة تفكيره التي تخصه.

لذلك نلاحظ أن حْمامة/ أم عائشة ترفض أمومتها لها، ولا يمكنها التسليم ببنوة عائشة لها؛ فترفضها دائما راغبة في الابتعاد عنها لنراها تقول: "وأنت يا عويشة من أين لك خال إن لم تكن لك أم؟ أنا أمك لأنك كنت داخل رحمي فقط، لكنك لست من بويضتي، يستحيل. لا تخجلي من تفاصيل الحكايات، أنا لا أتحفظ في الكلام معك في أي شيء، تعلمين أني رفضت أن أكون أمك. وإذا كان هناك طفل واحد في العالم تكوّن من نطفة دون بويضة فهو أنت، وإذا كان هناك واحد في العالم دون أم بيولوجية فهو أنت. هذا الجسد الهزيل الذي هو جسدك تنقصه بويضة أنثى، يستحيل أن تكون بويضتي استقبلت نطاف ذلك العفن أبيك. ما ألعنك من بنت تشبه أباها. إلى حد الآن لا مشاعر لي نحوك. الشيء الوحيد الذي يعجبني فيك منذ وُجدت في هذه الحياة هو لحظة ولادتك التي لم أشعر بها أبدا، لقد خرجت بسرعة حتى أنك سحبت معك الكيس المُحاط بالجنين"، مع التغاضي عن الخطأ في التعبير الذي لا بد له أن يؤدي إلى التباس المعنى والخيال الذي سيرتسم في مُخيلة المُتلقي حينما يقرأ: "الكيس المُحاط بالجنين"، لأن التعبير الصحيح هو "المُحيط"؛ حيث من المُستحيل أن يحاط الكيس بالجنين، لكننا نلاحظ أن هذه الكراهية والرفض من قبل الأم تصرّ عليهما دائما، فهي بالفعل لا تريد الفتاة، وغير راغبة فيها، ولا تشعر تجاهها بأي إحساس أمومي؛ فتقول لها: "أنت لست ابنتي، قلتها لك عدة مرات، لست مسؤولة عن وجودك في هذه الحياة، وضعوك غصبا في رحمي ثم خرجت، فليتصرفوا فيك، لا علم لي بهذا العالم وأعماله، أعمالي واضحة من البداية، لن أتحمل عبئا لم أشارك في التخطيط له. دعوني حرة أعمالي".

إن رفض الأم لأمومتها تجاه ابنتها هو ما يجعلها بالفعل تتخلى عنها حينما تهاجم الشرطة الجبل من أجل اعتقال المُسلحين؛ ففي الحين الذي تتعقب فيه الشرطة المُسلحين تهرب الأم ومعها الفتاة في الاتجاه المُعاكس، ورغم أنه كان لا بد لهما أن يسلما نفسيهما لأقرب مخفر شرطة من أجل إعادة تسكينهما في المُجتمع، إلا أن الأم رأت أنها لن تسلم نفسها؛ لأنها في الحقيقة ليست منهم، ولا علاقة لها بهم، كما أنها لديها أسرتها وبيتها اللذين لا بد لها من التوجه إليهما، أما عن عائشة فلقد طلبت منها أن تسلم نفسها لأقرب مخفر ليتصرفوا هم في إعادة تأهيلها اجتماعيا: "نعم يا عويشة، لا تتبعيني، سأتركك في أول بلدة سنمر عليها. اذهبي إلى مركز أمن هناك، أما أنا فسوف أكمل إلى قريتي. نحن الآن على مشارف قرية صغيرة، وها هو الطريق الذي ستتوقف فيه المواصلات التي ستأخذنا إلى أكبر بلدة في هذه الجهة، وهي دائرة كبيرة، إن شئت أن تذهبي إلى مركز الشرطة هناك، وأنا سآخذ المواصلات من هناك إلى قريتي مُباشرة. قولي لهم ما شئت، أنك أتيت معي، وأني الآن في القرية الفلانية؛ فلا مانع لدي، وإن اقترحوا عليك العيش معي قولي لهم هي لا تريد ذلك"!، وهو ما ستصر الأم بالفعل على تنفيذه وتتخلى عن صغيرتها في أقرب محطة: "مشت الحافلة، وصلنا إلى محطة مُسافرين لبلدة كبيرة، قالت لي أمي: اخرجي من المحطة واسألي عن مركز للأمن، أما هي فأخذت حافلة أخرى توصلها إلى قريتها. حفظت اسم القرية جيدا، ودعتها بعيوني وهي تصعد حافلتها، ثم انصرفت. لم أحاول الذهاب معها، أو في إمكانية الاتصال بها بعدها؛ فأنا أعرف أن قرارها لا رجعة فيه. أحب هذه المرأة، ولا ألوم نفورها مني"!

إذن، فلقد تم تدمير حياة عائشة منذ كانت نطفة من دون أي ذنب لها في ذلك سوى أن ثمة رجل/ الأب رأى المشهد أمامه غير مُكتمل وأراد إكماله كما يحلو له، أو كما يراه هو ويؤمن به في قرارة نفسه، وهو ما سيفعله ناصر أيضا في حياة الكاتب الكبير من إفساد حياته؛ نظرا لأنه راغب في إكمال المشهد كما يحلو له، ومن ثم سنرى في النهاية مُجرد مُجتمع فاسد يتقبل الفساد ويراه أمرا طبيعيا لا بد من الحياة فيه حتى الرمق الأخير منه.

لذلك فإن مُجتمع المدينة الذي يحيا فيه ناصر وغيره من الناس، لا يختلف كثيرا عن مُجتمع الجبال الذي يحيا فيه أمير المُسلحين ومن معه، بل يكاد المُجتمعان أن يتطابقا تماما وكأنهما مُجتمعا واحدا مع الاختلاف في الأسلوب والجغرافيا فقط، وهذا ما تؤكد عليه الروائية في روايتها حينما تقول عائشة: "لم أتعب كثيرا في إعادة ترتيب أموري داخل هذا العالم الغريب عني، لأني فهمت بسرعة أنه النموذج الآخر للعالم الذي كنت قد عشته في الغابة، هو أوسع منه فقط. لا أحد سينزع من رأسي أننا داخل امبراطورية عدوها الوحيد هو اشتمام رائحة امبراطور صغير يريد بسط جناحيه، لتشتعل الحرب، هذا الدرس أحفظه جيدا، ولا أحد قادر على نزعه من رأسي. عدا أن هذه المدينة الجديدة عليّ تخزني فرحا وضوءا كاللعب والألبسة الجديدة التي يراها الطفل لأول مرة، فإنه لا تعقيد في نظامها، فهمته من الأيام الأولى، هو عالم مُكبر عن المغارة التي كنت فيها مُدة خمسة عشر عاما من الجوع والبرد. لكل شيء ومن كل شيء، هنا لا برد ولا جوع، وهذا جيد للانطلاق على الأقل مُمتلئة بهذه المدينة".

لعل هذا الاقتباس الأخير الذي تعترف فيه عائشة بأنها وجدت مُجتمع المدينة مُجرد صورة مُصغرة من مُجتمع الجبال والغابات ما يجعلنا نعود مرة أخرى إلى عنوان العمل الروائي الذي قدمته الروائية الجزائرية وسيلة سناني لنفهم أن المقصود بالمغارة الثانية هنا هو هذا المُجتمع المدني الذي انتقلت إليه عائشة، فالمغارة الأولى هي التي كانت تعيش فيها، وحينما هبطت إلى المُجتمع المدني بعد قرار السُلطة بالتصالح مع المُسلحين اكتشفت أن هذا المُجتمع يكاد أن يكون بمثابة المغارة الثانية التي تتشابه في كل شيء مع مغارتها الأولى التي نشأت فيها منذ ولادتها!

رغم أن قرار التصالح مع المُسلحين وإعادة توطينهم وإسقاط جرائمهم عنهم كان قرارا سياسيا في المقام الأول، لكنه كان القرار المرفوض اجتماعيا من شريحة كبيرة من الجزائريين، ولعل هذه الشريحة في رفضها لقرار التصالح كان لديها نظرة صائبة إلى حد كبير؛ لأن المُسلحين حينما هبطوا من الجبال لم يتخلوا عن أفكارهم، ولا تكفيرهم للمُجتمع، ولا أيديولوجيتهم، ولا انتهاجهم للعُنف، بل تحول كل هذا إلى الداخل كتقية من المُجتمع وإن ظلوا يمارسونه بأشكال مُجتمعية جديدة ومُختلفة؛ ومن ثم نجحوا في فرض قدر كبير من أيديولوجيتهم على أرض الواقع بالتسلل إلى ثقافة وضمير الإنسان الجزائري الذي تحول إلى مسخ بسبب هذا التصالح. هذا الرفض المُجتمعي للمُسلحين نلحظه في قول الكاتب لعائشة حينما كانا في مؤتمر ثقافي في إحدى دول الخليج: "ونحن في طريقنا نحو الطاولة التي عيّن فيها مكان جلوسنا تمتم الأستاذ مُعلقا عكس ما رأيته يقوم به، قال: هل رأيت هذا الجرذ؟ قلت: من؟ مولانا الكبير، مُفتي إحدى الجماعات الإرهابية في الجزائر في فترة الإرهاب. ثم واصل دون أهمية كبيرة في باله: كان عليهم أن يخلصوا عليهم، لكنهم كما ترين، معنا أينما ذهبنا، كم من كاتب ومثقف مات بفتوى منه، ناهيك عن الآخرين من أبناء بلدته، لكن الرئيس اختار لنا هذا المصير معهم. لو كنت مكان المواطنين الذين أُخذ منهم أرواح أهاليهم لخلصت عليه برصاصة وانتهيت، أو بفخ مُفاجئ عند أحد المُنعرجات وكفى. كدت أن أقول له: ولماذا ذهبت إليه بالأحضان إذن؟ لكني صمت كعادتي"!

سنعرف أن هذا الإرهابي الذي يتحدث عنه الكاتب المشهور مع عائشة لم يكن سوى أبيها الذي اختطف أمها واغتصبها في الجبال، لكن لأنه لم يرها في حياته منذ ولادتها سوى مرتين اثنتين؛ فإنه لم يعرفها حينما قابلها في الخليج مع الكاتب المشهور، لكنها تعرفت عليه والتزمت الصمت.

ليس معنى ما قاله الكاتب المشهور لعائشة من رفضه للتصالح مع الإرهابيين أنه من المواطنين الصالحين، ولعل الجملة الأخيرة من الاقتباس السابق تُدلل على مدى النفاق والكذب الذي يعيش فيه الكاتب؛ فرغم كرهه الشديد لهذه الجماعة ورفضه لها، إلا أنه ذهب إليه بالأحضان كما قالت عائشة في نهاية الاقتباس. هذا النفاق والازدواجية التي سادت قطاع كبير من المُجتمع الجزائري- حتى أنها وصلت للنُخبة منه مُمثلة في كتابه- تؤكد عليه سناني في روايتها في أكثر من موضع ليكون الكاتب مُجرد نموذج للعديد من النماذج الأخرى في هذا المُجتمع، وهو ما نقرأه في قولها لناصر قاصدة الكاتب: "لقد اكتشفت من أحاديثه أن من كان يلعنهم في العلن أمام أصدقائه صار يُصادقهم في الخفاء ويتجنب مُعاداتهم"، وهو ما تعود لتؤكده مرة أخرى بقولها: "فهمت الآن أنه قادر على فعل أي شيء من أجل الحصول على المال ولو كان قليلا، لم يعد هناك من شيء يقف أمامه بعد أن شعر أنه ضيّع سنوات في الحرمان"!

أي أن الفساد في أعلى الجبال هو نفسه الفساد أسفل الجبال وإن اختلفت الغاية والطريقة، كما أن العُنف يكاد أن يكون واحدا وإن اختلف الشكل المُمارس هذا العُنف من خلاله، فإذا كان سكان الجبال يمارسون العُنف الجسدي المُباشر بالاختطاف والقتل، فالآخرين من المُجتمع المدني يمارسون العُنف بإفساد حياة الآخرين من حولهم بمُمارسة النفاق، والكذب، والضغائن، وحياكة المُؤامرات على بعضهم البعض! إنه نفس العُنف ولكن بأشكال مُختلفة.

صحيح أن الكاتب في لحظة تطهر منه أمام عائشة يحاول أن يشرح لها السبب في مثل هذا النفاق والازدواجية التي يعيش فيها بقوله: "رُبينا على الحرمان أنا وإخوتي من خبز بسيط، ربما الحال هو حال كل الجزائريين أيام الثورة، لكنني تحسسته أكثر من الآخرين؛ لأن حرماني لم يتوقف عند العادي، أنا كنت أرى أمي وهي تتعب، ووالدي لا يزال معنا. ثم ذهب إلى فرنسا مع بداية الثورة ليعمل، لكنه لم يرسل لنا فرنكا واحدا نسد به جوعنا، ليس لصعوبة الأمر فقد كان يأتي من فترة لأخرى، ولم يكن يترك لنا مصروفا نأكل منه خُبزنا ونُغطي به بردنا". نقول صحيح أن الكاتب هنا يجد المُبرر لأفعاله الشائنة، وهي الأفعال التي تجعله رغم ما سبق أن قاله من قبل عن الإرهابي/ أبيها بأنه كان لا بد أن يُقتل أو يتم القضاء عليه، لكنه في ذات الوقت يقبل أن يكتب رواية عن حياة هذه الإرهابي محاولا فيها تجميل حياته، والدفاع عنه باعتباره قد ضل طريقه إلى هذا الاتجاه من دون وعي منه، ويؤكد في روايته على أن هذا الإرهابي إنما يحمل داخله فنانا عاشقا للشعر، بل والأدهى أن عائشة هي من ستتولى الترويج الإعلامي لهذه الرواية التي تتحدث عن تجميل أبيها الذي كان السبب في شقائها لمُجرد أن أحد الخليجيين مُتحمس لمثل هذا المشروع وطلب من الروائي القيام به، ووعده بأنه سيقوم بتمويل الأمر ويدفع لكل من الكاتب وعائشة من ماله الخاص، وهو ما نقرأه في حديث الرجل الخليجي للكاتب: "ماذا أقول لك يا أستاذنا الكبير، إن الشيخ عمار أبو إبراهيم من المخدوعين الذين وُرطوا في الانتماء إلى القتلة بالجزائر، لكنه والله من خيرة أبنائها وصفوة أئمتها، وكم يحزنني هذا الماضي الذي يلتصق به إكراها رغم محاولات رئيسكم، أطال الله في عمره، في الصُلح بين أبناء شعبكم"! كما يعاود الرجل الخليجي في موضع آخر قوله للكاتب: "لذلك فيهمني كثيرا أن نسعى لإعادة وميضه إلى جمهوره الذي خسر البعض منه، أريد تبييض صفحته، وأدبكم الرفيع في القيم الإنسانية الراقية خير وسيط لذلك. وأنت تعلم أن عملا كهذا تلزمه رواية مثلا عن حضرة الإمام، والشعر لن يكفيه، وستُجازى على ذلك بإذن الله تعالى، فالعمل ليس سهلا، كما أنه يأخذ من جهدكم، ومن الآن سنوفر لكم ما يجب توفيره. قال الأستاذ: لا تقلقوا، سأبدأ الكتابة من اليوم واعتبروها جاهزة بعد ستة أشهر"! إنه الفساد على جميع الأصعدة.

هذا المُبرر الذي يسوقه الكاتب من أجل أفعاله لا يمكن لنا قبوله في نهاية الأمر؛ لأنه لا يمكن أن يكون الفقر والحرمان سببا في فساد المُجتمع، وخديعته، ونفاق الآخرين، بل وتجميل من تسببوا في مقتل الآلاف من الجزائريين من دون أي جريرة ارتكبوها إلا لأنهم كانوا مُختلفين عن هؤلاء الإرهابيين في مُعتقداتهم، وتفكيرهم الأيديولوجي.

لكن، هل ينحصر هذا الفساد في الكاتب الذي يزيف الوعي وينافق الآخرين فقط، لا، إن الخطر الأكبر في ناصر ومن هم على شاكلته ممن يرون أن المشهد أمامهم غير مُكتمل، ولا بد لهم أن يكملونه كيفما يرون، أو كيفما يتلقون من أوامر، وهو ما سنعرفه حينما تسافر عائشة والكاتب إلى الخليج لمدة عشرة أيام حيث تتواصل السُلطة مع ناصر من أجل إحداث شغب عام، غير حقيقي، لا بد أن يخطط له تحت قيادتها، ويستخدم في صناعة هذا الشغب من يراه مُناسبا ليكون أداة في يده وفي يد السُلطة من دون أن يعرفوا أنهم مُجرد أداة من أجل تدمير كل شيء، وزعزعة نظام الحُكم؛ نظرا لطمع هؤلاء- العاملين في السُلطة- في الصعود إلى مواقع قيادية أكثر نفوذا وأهمية؛ فينجح ناصر بالفعل في التخطيط للأمر، ويختار من يراهم مُناسبين كأدوات لمثل هذا الأمر: "عادوا إليّ لمُراجعة القضية، فقلت لهم أعتقد أن الحل في أن نترك العنان يفيض إلى مستوى مُعين، وأن نحكم الأمر جيدا، سنستعين بمجموعة ممن يُقال عنهم نُخبة، تكون هي القائدة، وتسبقهم كمشة من مواليها إلى الشارع بعد إشعال الفتيل. بعدها ستأتي البقية التي بوسعنا التحكم فيها. لكن الإقدام على هكذا اختراق سيجعلكم مثل كمشة تعصرها هذه الجماهير بين يديها، عليكم إحكام الأمر جيدا قبل القدوم على الفرقعة التي ستنقذ المجد لسنوات أخرى. لقد اخترقتم عقولهم إلى أن صاروا دهماء مُستعدة لفعل أي شيء بنقرة زر من بعيد، لكن الحذر مطلوب"!

إن هذا الاقتباس السابق يجعلنا نفكر بعمق فيما يحدث من مؤامرات داخل المُجتمع الجزائري، وهي المُؤامرات التي تحيكها السُلطة نفسها ضد نفسها من أجل إيهام الآخرين من المواطنين بأن ثمة خطر يحيق بالجميع لا بد من التصدي له بتكاتف المواطن مع هذه السُلطة الظالمة له في المقام الأول، وهنا يصبح المواطن الجزائري سهل القياد، مُدجن، مُطيع لهذه السُلطة في كل شيء تأمره به. هل يختلف الأمر هنا عما كان يفعله المُسلحون قبل لجوء الحكومة إلى التصالح؟! إنه نفس العُنف المُمارس على المُجتمع وإن اختلفت أدواته، والأشخاص الذين يمارسونه، أي أن هذا المُجتمع في جوهره يخرج من دائرة عُنف إلى دائرة أكثر عُنفا منها، حتى لكأنما هذا العُنف مُجرد شيء يومي وعادي يتنفسه الجزائري ببساطة، أو أنه قد دخل في نسيج تكوينه الفسيولوجي وبات غير قادر على الحياة من دونه!

إذن، فلقد نجح ناصر في رسم اللوحة الكاملة التي رآها ناقصة ومُختلفة مع ما يراه هو وغيره ممن هم في مواقع السلطة، وهو ما يصفه حينما ينجح في إثارة الشغب الذي اتفق عليه مع رجال السُلطة: "اجتمعوا، تحدثوا، خططوا، ثم تجمعوا في اليوم المعلوم، احتشدوا هنا أمامي في ساحة أودان، لمدة ساعة قاموا بحركاتهم، سمعت أصواتهم، التحق من أراد الالتحاق بهم أيضا، أتت الشرطة، ضربتهم، فرقتهم، جرتهم إلى سيارتها، أُدي المشهد، أُسدل الستار. يوم تجمعهم كنت هنا في هذه الشرفة الكبيرة، أطل على التجمع، كان مثل لوحة، تجمهر قليل، سيارات شرطة بانتظار انطلاق الهجوم"، أي أنه نجح بالفعل في رسم اللوحة كما يحلو له أن يرسمها، ومن ثم تمت مُمارسة العنف بأشكاله المُختلفة على المواطن الجزائري الذي يعاني من هذا العنف منذ سنوات طويلة.

تقدم لنا الروائية الجزائرية وسيلة سناني عملا روائيا يتأمل في المُجتمع الجزائري وما يدور فيه من فساد، وزيف، وازدواجية، وعُنف يتم مُمارسته بأشكال مُختلفة، وإن كانت تؤدي في النهاية إلى تدمير المُجتمع الجزائري، وهي في مثل هذا التأمل لما يدور من حولها في الجزائر تؤكد أن الضحية الوحيدة لمثل هذه المُمارسات هو المواطن الجزائري الذي لا ذنب له في كل هذه الألاعيب سواء باسم الدين، أو باسم السياسة والسُلطة، هذا المواطن الذي ينسحب من هذه الحياة إما من خلال القتل- كما فعلت الجماعات الدينية المُسلحة بآلاف من الجزائريين- أو من خلال فقدانه لعقله والحياة في عالم آخر لا نعرف عنه شيئا كما حدث تماما لزوج حْمامة/ أم عائشة الذي سنعرف في الصفحة الأخيرة من الرواية أنه قد نجا من القتل على أيدي المُسلحين، لكنه مات بطريقته الخاصة بعد اختطاف زوجته حيث فقد عقله: "بعد انتهاء عامي الدراسي قررت خالتي أن تزور قريتها، وبما أن عمي الحسين سيذهب معها أيضا؛ فأنا لن أبقى وحدي، وفي جميع الأحوال سأذهب معهم. رحبت بالفكرة كثيرا؛ لأني، رغم كل شيء، اشتقت لتلك المرأة التي تُعتبر أمي، أريد رؤيتها ولو من بعيد. وصلنا القرية، اقتربنا من البيت، أشارت خالتي إلى البيت: وصلنا، هذا هو. وجدنا رجلا عند الباب، كان يحمل نعليه في يديه تاركا رجليه للأرض. طرقت خالتي الباب وهي تحاول التعرف على ملامحه التي غابت عنها، لم تحاول أن تكلمه في شيء، لا يبدو عليه ما يسمح بالتواصل معه. فتحت أمي الباب، سلمت علينا، نظرت مع نظراتنا إلى الرجل ثم قالت: هذا طيف، لم يمت، جُن فقط"!

أي أن الضحية الأولى والأخيرة لهذا العُنف الذي ينضح به المُجتمع الجزائري هو المواطن الجزائري ذاته، وهو ما تحذر منه الروائية بروايتها التي تتأمل في عُمق هذا المُجتمع من الداخل بدلا من النظر إليه من خلال صورته الخارجية التي يحرص على تصديرها إلى العالم.

إلا أنه من اللافت للنظر لجوء الروائية وسيلة سناني- في روايتها- إلى المحكية/ اللهجة الجزائرية في كتابة الحوار، وهي من الأمور التي تجعل الرواية في نهاية الأمر حبيسة بيئتها، وتنحو بها نحو المزيد من المحلية، بمعنى أن اللجوء إلى اللهجة الجزائرية في الحوار سيجعل الرواية مفهومة للجزائريين فقط، أو أبناء دول المغرب الكبير، في حين أن باقي الناطقين بالعربية غير قادرين على فهم العمل الروائي؛ مما يجعله حبيس محليته؛ نظرا لصعوبة فهم اللهجات المغاربية في الأقطار العربية الأخرى، اللهم من يفهمها، وهذا من الأمور النادرة، كما لا يفوتنا أن الروائية رغم لجوئها إلى اللهجة الجزائرية في حوارها إلا أن الحوار كان شديد التفاوت ما بين اللهجة في أحيان، وما بين الحوار الفصيح في أحيان أخرى من دون أن توضح لنا الروائية السبب في لجوئها أحيانا إلى اللهجة، ثم عروجها إلى الحوار الفصيح في مواضع أخرى، أي أن التفاوت في الحوار ما بين اللهجة والحوار الفصيح كان من دون أي مُبرر مُقنع، وهو ما يقلل من قيمة الحوار في العمل الروائي.

لكن يبقى أن الروائية لم تهتم بمراجعة روايتها على المستوى اللغوي وتدقيقها، وهو ما تورطت معها فيه دار النشر التي نشرت لها روايتها؛ فلم تهتم بتدقيق العمل بدروها؛ لذلك رأينا الكاتبة تكتب "سلوكاتها" بدلا من سلوكها"، و"سلوكاتي" بدلا من "سلوكي"، و"نظارة" التي تقصد بها "نضارة" مُستخدمة لحرف الظاء بدلا من الضاد، كما تتجاهل الكاتبة وجود حرف الجزم الذي لا بد له من حذف حروف العلة بعده في: "لم تأتي" بدلا من "لم تأت"، وكتابتها: "ألم يروا لك أنه اُغتصب مثلا"، ولعلنا نلاحظ في هذه الجملة أن الكتابة الصحيحة لا بد أن تكون "ألم يروِ لك"، ولا نعلم لم أتت الكاتبة بالألف بعد الواو، كذلك كتابتها: "ألقيت ملابسي على كل مكان" بدلا من قولها "في كل مكان"، وقولها: "يدور في رأسهم" مُستخدمة الإفراد بدلا من الجمع في الجملة السابقة بدلا من "رؤوسهم" فالجمع لا يمكن أن يكون له رأسا واحدة.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة

5 يوليو 2021م