الخميس، 23 أبريل 2020

وطن ضيق.. شاعرية اللغة وامتلاك أدوات السرد

المجموعة القصصية وطن ضيق

ربما كانت اللغة في الآونة الأخيرة من الأمور التي بدأ يختلف حولها الكثيرون من الساردين ممن يمارسون مجال السرد الأدبي؛ فنرى البعض منهم يقول: إن اللغة ليست بالأهمية التي يوليها بعض النقاد كل هذا الاهتمام، وهم يقصدون هنا بعدم أهمية اللغة، عدم الاهتمام بالسلامة اللغوية من حيث قواعد اللغة، أو وجود مفردات متنوعة وثرية في المعجم الأدبي للكاتب، وهم يبررون هذا التقليل من شأن اللغة بقولهم: إن القارئ سيصله المعنى الذي يريد الكاتب أن يقوله بأي شكل من الأشكال؛ ومن ثم فاللغة التي يكتب بها الكاتب لا يعوّل عليها كثيرا.
هذا الحديث ومحاولة التقليل من شأن اللغة رأيته لدى العديدين من الروائيين وكتاب القصة في الكثير من الدول العربية، ورغم وجود كتاب آخرين يرون أن السلامة اللغوية من جوهر الكتابة الأدبية إلا أن الاتجاه الأول لا بد من التوقف أمامه قليلا؛ فاللغة هي الوسيط الأول والوحيد والجوهري لأي روائي أو قاص، أو حتى كاتب مقال، أي أنه لا يمكن له التعبير عما يفكر فيه ويرغب في إيصاله للقارئ إلا من خلال هذه الأداة الأولى والجوهرية؛ وبالتالي لا بد أن يكون الاهتمام بها وتجويدها من الضرورة بالنسبة لمن يتناول عملية الكتابة، فإذا كانت أداة المخرج الأولى في إيصال أفكاره السينمائية هي الصورة، ومن دون الاهتمام بهذه الصورة والتجويد فيها لا يمكن له أن يتميز أو ينقل لنا ما يفكر فيه بشكل جيد؛ فالأمر قياس بالنسبة للكتابة التي لا يمكن لها أن تكتمل، أو نعرف جمالياتها إلا من خلال اللغة؛ وبالتالي يكون التقليل من شأنها بمثابة هدم لعملية الكتابة من الأساس، وعجز حقيقي عن إيصال الأفكار والمعاني التي يريد الكاتب أن ينقلها للقارئ.
إذا افترضنا مثلا أن الكاتب لا يمتلك من المفردات الثرية في معجمه الكتابي سوى القليل فقط من المفردات التي يظل يدور في فلكها؛ سيؤدي ذلك إلى تحول أسلوبه السردي إلى أسلوب فقير جاف، أقرب إلى التقريرية ولغة الصحافة المباشرة التي لا إيحاء ولا ثراء ولا جمال فيها، وبالتالي تصبح جملته السردية ذات وجه واحد فقط، وهو وجه مباشر لا يمكن له أن يحتمل أكثر من المعنى المباشر أو الأول بينما الأدب حمّال أوجه، خلافا للسارد الذي يمتلك معجما لغويا أكثر ثراء، والذي تحتمل لغته السردية الكثير من التأويلات والتخييلات؛ نظرا لأن مفرداته فيها من الثراء ما يسمح بذلك.
كذلك الأمر بالنسبة للكاتب الذي يرى أن السلامة اللغوية ليست بالأهمية التي تجعله يهتم بها. إن هذا السارد إنما يذهب هذا المذهب بسبب عجزه الحقيقي عن إتقان قواعد اللغة، أو تذوقها والشعور بها؛ لأنه لو كان يتقنها جيدا لأيقن أن عدم السلامة اللغوية تجعل من المفعول فاعلا، وتجعله يخرب في اللغة التي يكتب بها فتصبح مهلهلة لا جماليات فيها؛ تؤدي إلى توقف القارئ غير مرة عن متابعة كتابته نظرا للقلق الذي يشعر به نتيجة كثرة الأخطاء الكتابية أو اللغوية؛ وبالتالي فمن السهل جدا الانصراف الكامل عن متابعة القراءة بسبب هذه الأخطاء الكثيرة والمتكررة.
كما أن إتقان اللغة وثراء المفردات يساعد الكاتب كثيرا على تجويد نصه، والإتيان بالتشبيهات الصحيحة بدلا من اللجوء إلى التشبيهات الفقيرة التي لا يمكن لها أن تعبر عن المعنى الحقيقي الذي يرغبه الكاتب؛ ومن ثم يؤدي الأمر إلى الكثير من الالتباس وتكوين صورة ذهنية في خيال القارئ لا علاقة لها بالصورة التي يرغب السارد في إيصالها، وغير ذلك الكثير من المشكلات التي يؤدي إليها الجهل باللغة التي هي الأداة الأولى للكاتب، والتي يمكن تفاديها بالاهتمام الحقيقي بها؛ مما يؤدي إلى تحويل أسلوب السرد إلى شكل أكثر ثراء، بل وأكثر شاعرية؛ الأمر الذي يجعل القارئ مقبلا على القراءة بشكل فيه الكثير من المتعة الحقيقية التي هي جوهر الفنون الأدبية بالنسبة للجميع؛ حيث الأدب في مجمله شكل من أشكال المتعة التي لا يمكن نفيها عنه.
هذه الإشكالية اللغوية التي ابتدعها بعض الكتاب ممن لا يتقنون اللغة، أو يحاولون التقليل من شأنها هي ما فكرنا فيه حينما قرأنا المجموعة القصصية "وطن ضيق" للقاص الفلسطيني أحمد عبد الحميد عيسى؛ حيث لاحظنا الاهتمام الكبير من الكاتب باللغة التي هي أداته الأولى، بل واستمتاعه باستخدامها؛ الأمر الذي جعل من أسلوبه السردي شكلا من أشكال المتعة المتخم بالكثير من الشاعرية؛ نظرا لامتلاكه معجما لغويا شديد الثراء يحتمل الكثير من التأويلات، وهو ما يجعلنا نقول في نهاية الأمر: إن الكاتب يمتلك أسلوبا مرهفا في التعامل مع اللغة؛ مما أكسبه أسلوبية سردية تخصه في هذه المجموعة؛ حيث الأسلوب في وجه من وجوهه هو كيفية التعامل مع اللغة، أو إمكانية تطويعها.
هذه الشاعرية أو الأسلوبية هي من نلمحه في قصته "بين السحاب" منذ المفردة الأولى: "حملتها رغم سنى عمرها الستة، إلى غصن شجرة عال عليها، فاختطفت حبة تين وابتلعت نصفها، أنزلتها فابتسمت، لتظهر أسنانها والفراغ بينها، مضحك كما عودتنا عندما يمتزج مع لثغة حروفها، قالت لي: تركتُ لك نصفها. مسحتُ على شعرها الأسود الجميل في حنان، ترهقني أكثر حين تبتسم، حين تحنو عليّ وأنا الأقدر منها- نظريا- على ذلك، فتشعرني بالضياع، أتيه بها ولا أملك إلا أن أترك دمعتي تسقط في صمت، أحاذر أن تراها". ربما كانت الشاعرية التي يمتلكها أسلوب الكاتب في هذه القصة سببه هو الموضوع الذي يتحدث فيه؛ حيث يتحدث عن صغيرته التي اكتشف إصابتها بالسرطان، وانتظار فقدانها بين الفينة والأخرى. إن هذا الانتظار الدائم والقلق لفقدان الصغيرة أكسب أسلوبه الكثير من الشجن والمشاعر اللذين أكسباه الكثير من الشاعرية فنراه يقول: "احتضنتها بكل الحب، حتى ظنت أني أعتصرها، هربتُ منها إلى منزلي الحزين، إلى مرآتي التي تشهد دموعي كل ليلة، بكيتُ، تركت لدموعي العنان، نسمة، زهرتي الحبيبة التي تذبل أمامي، نسجتُ من شوقي أغنية حروفها صامتة، دندنتُ لنفسي بلحن حزين، أحاذر أن يسمعه غيري، حتى وجدتها- فجأة- صارت خلفي، قالت لي: هل سأموت يا أبي؟ أنظر بعين ملتاعة، كانت تعرف؟ كنت متيقنا من هذا، لا شك شعرت بدموعي كل ليلة، منذ خرجتُ بها من غرفة الطبيب، منذ اكتشفنا مرضها الخبيث، منذ فقدتُ بعضا من روحي، ما أصعب تلك اللحظة على نفسي!".
من خلال هذا السرد المغرق في الشجن والشاعرية يكتب عبد الحميد عيسى قصته، ولأن طفلته تريد إخباره بأنها ليست حزينة؛ لأنها حينما تموت سيكون بإمكانها أن تلمس السحاب، يعمل الأب الحزين على تحقيق أمنيتها ليرى سعادتها ترتسم على وجهها: "فتحتُ لها باب سطح المنزل، دخلت وتبعتني، لتجد سحابة كبيرة من القطن تتدلى أمامها، نظرتْ حولها إلى النجوم التي خبا بريقها أو كاد، مدت يديها على اتساعهما، لتلمس السحابة، فانتشت.. شعرتُ برجفة خفيفة في أوصالها تمتد لأوصالي وأنا أجلس على ركبتي أمامها، وعدتها أن تحتضن سحابة كل ليلة، وقلتُ وقد جفت دموعي: لكن لا تموتي". من خلال هذا الاقتباس الأخير يعمل القاص على إنهاء قصته التي تتميز بالكثير من الشاعرية الأسلوبية؛ حيث ساعده الموضوع الذي يتحدث فيه، وفيض المشاعر، وانتقاء المفردات التي تساعده على إيصال المعنى للقارئ الذي لا بد له أن يتأثر به، يتضافر مع ذلك اللغة التي يمتلكها وعمق مفرداته وثراءها.
هذا الثراء والمقدرة اللغوية والأسلوبية نراها أيضا في قصة "ليلة واحدة"؛ حيث نلاحظ لغة سردية متماسكة، معبرة، فيها الكثير من الإيحاء من خلال استخدام القليل من المفردات التي تؤدي المعنى وتصل إليه مباشرة فيكتب: "تراقصت أمامي، مشرقة كألف شمس، رمت نفسها في حضني، ألقت بدلالها عليّ، طلبت مني احتواءها، راوغتني بشفتيها، أرادت أن أقبلها، أن أرتمي أمام أنوثتها صاغرا، احتضنتها، مررت بشفتي على ثغرها، أغمضت عيني، قاومت شعورا جارفا بترك نفسي أمام رغباتي، دفعتها أمامي دفعا إلى السيارة، أجلستها في مقعد القيادة، وجلست أنا بجوارها فانطلقتْ"، من خلال هذا الاقتباس الذي بدأ به القاص قصته نلمح اللغة اللاهثة المتقطعة السريعة التي تؤدي المعنى بإيجاز من دون أي تزيد، ولعل مقدرة القاص على هذه الأسلوبية تعود في نهاية الأمر إلى اتقانه للغتة ويقينه بأنها الوسيط الأول والوحيد الذي لا بد من الاهتمام به وعدم الاستهانة؛ كي يكون قادرا على التميز وإيصال ما يرغبه إلى القارئ.
يؤكد لنا القاص من خلال سرده أن السارد يشعر نحوها بالكثير من التشكك وأنها خانته مع شخص آخر؛ لذا فهو يُعد العدة كي يتخلص منها ويقضي عليها، لكننا نكتشف في نهاية السرد أنها لم تكن تخونه وأن ظنونه مجرد توهمات يتوهمها هو ويصدقها: "في يدي حبل غليظ لا تراه هي، وفي جيبي خنجر لا تلحظه، وفي عقلي شكوك تزن مثل الأرض وما عليها، ليس كل ما يلمع ذهبا، عرفت هذا يا ليلى.. بالأمس رأيته معها، كان طويلا نحيفا، نظرته تحمل كل الشر الكامن في أعماق النفس، رأيته يدخل فيها، يقتحم كيانها، كانا في وضع حميمي، الشك في أعماقي استحال حقيقة واقعة، والحقيقة أصبحت صورة لا تقبل أي شك، لم يكن أمرا يمكن مواجهته، لم أتمكن ليلتها من النوم، أو مغادرة غرفتي، حطمت المرآة الوحيدة في حمامي، وصممت على الانتقام، لست أنا من تخونينني يا فتاة، لست أنا من تلعبين مع غيره بعد أن قضيت معه أوقات فراغك". هنا يتأكد للقارئ أن ثمة خيانة فعلية حدثت وتأكد منها السارد؛ ومن ثم فهو يُعد العدة للانتقام منها، لكن المؤلف كان يمتلك من أدوات السرد ما يجعله يثبت لنا بعدما انسقنا خلفه وصدقناه فيما ذهب إليه إلى أن نكتشف أن كل ما سرده كان مجرد وهما توهمه، وهو في هذه الأسلوبية أو الآلية السردية إنما يتشابه مع آليات السينما التي نُطلق عليها "الانقلاب"، أو "التويست"، أي إيهام المشاهد بصدق كل ما ذهب إليه الفيلم ثم لا يلبث أن يحدث الانقلاب الذي يفاجئنا ويؤكد أن المخرج قد غرر بنا وجعلنا نصدق ما ذهب إليه في حين أنه كان يتلاعب بنا وبمتابعتنا للحدث؛ فنراه يكتب: "أرفع ذراعي، بكل ما أوتيت من قوة، يكبلني من الخلف شيء ما، أنظر في مرآة سيارتي، إنه صديقها، ذاته من سمحت له بلمسها، ذاته النحيل الطويل، يكبلني من الخلف. نظرة عتاب في عينيه كأنه يعرفني! تنظر لنا في دهشة، في هلع تنقل بصرها بيني وبين المقعد الخلفي، ترعبها نظراتي. أخيرا أحرر ذراعي، أهم بفعلها. صراخ وصرير.. تجاوزت الحمقاء الشارع لتضربنا بسيارة مسرعة. انقلاب، أصوت مدوية، صراخ المارة، طنين يرهق أذني. بعض الأيادي تسحبني، أرقدوني بجوارها، فنهضت في لهفة، أنظر إليها، أستغيث بنفسي من نفسي. عيناها مغمضتان، الدماء تغطي صدرها، الضحكة انطفأت من وجهها، الحياة فارقتها. بكيتُ، ضربتُ الأرض بقدمي، أحسستُ بفعلتي، وبعجزي وضعفي، يصرخون: لقد أصيب. أبحث عنهم فلا أرى غير نفسي، ركضت رغم دمائي عائدا إلى السيارة، أفتش عنه، ذلك النحيل، فلا أراه رغم زجاج النافذة المكسور، ولا يراني". هنا يؤكد لنا القاص أنه يتلاعب بالسرد وبالقارئ معا، بل هو يرى أن عملية السرد في حد ذاتها مجرد ملعبا للمتعة واللهو؛ فهو يتلاعب من خلالها بنا، ويلهو بالسرد القصصي مستمتعا متملكا أدواته التي تساعده على فعل ذلك بسهولة.
التلاعب بالسرد ورغبة القاص في التأكيد على امتلاكه لأدواته السردية من خلال هذا التلاعب نلحظه في قصته "بطولة على الطريق"؛ حيث نكتشف في نهاية القصة المغزى منها والمفارقة التي أراد الكاتب أن يسوقها لنا: "سريعا كنت أنطلق غير آبه بالحد الأعلى من السرعة المسموح بها داخل المدينة، وكانت هي بجواري تغوص بمقعدها وهي تشعر بالنشوة إذ ترى المدينة تصغر خلفها ويبدو كل شيء خلفنا وكأننا تركناه، بصقناه إلى الأبد. لما دخلنا في طريق غير ممهد، اضطررتُ لتقليل السرعة، وخففت صوت المذياع قليلا، فصرخت بجواري أن توقف. نظرتُ إلى ما أثار انتباهها، كانت قطة صغيرة مسكينة قد انزلقت داخل حفرة بجانب الطريق ولم تستطع الخروج فلم تكن تسمع إلا صوت موائها الذي يثير الشجن. أوقفتُ السيارة وانحنيت إلى الحفرة محاذرا أن تتسخ أطرافي، كانت بعض السيارات قد توقفت خلفي وانتظرني أصحابها في صبر يشاهدون عملية الإنقاذ المحدودة التي أقوم بها. بعد محاولات استطعت إنقاذا لقطة، جلستُ على مقعد القيادة منتفخ الأوداج. دستُ على دواسة الوقود بكل قوتي.. سمعت صوتا غريبا أسفل العجلات. تذكرتُ الآن أنني وضعت القطة أمام السيارة تماما، ولم تكن منْ بجواري قد انتبهت وهي تهتف بي: هيا يا بطلي. ولم يشاهد الناس خلفي ما حدث فقد كانوا منهمكين بالتصفيق".
ربما حرصنا على اقتباس القصة بالكامل كما كتبها القاص للتدليل على مقدرته على صياغة قصة قصيرة مُحكمة تحمل في نهايتها المفارقة التي لم يكن ينتظرها القارئ، وهذا هو الشكل الحقيقي والنموذجي للقصة القصيرة بالفعل؛ حيث الجمل القصيرة اللاهثة، والمفردات الثرية المعبرة، والاقتصاد في استخدام اللغة، ثم الحدث السريع الذي يشبه اللقطة الفوتوغرافية الذي يؤدي بنا إلى مفارقة لم نكن ننتظرها كقراء ليتركنا الكاتب في فراغنا الخاص الذي صنعه لنا وأدخلنا فيه لإعادة تأمل الحدث والمشهد مرة أخرى من خلال مخيلتنا الخاصة.
هذه القدرة السردية على صياغة قصة قصيرة مكتملة نراها في قصة "حلم قصير جدا" حيث ينجح القاص من خلال القليل جدا من الكلمات في صياغة قصة نموذجية فيها الكثير من الأسلوبية الناضجة: "دخل بيته فوجدها بانتظاره، تزينت كأنها عروس، قبّلها من جبينها ونظر إلى الابتسامة التي تزين وجنتيها: لِمَ أراكِ سعيدة هكذا؟ يقولها وهي بين ذراعيه، فتحوطه بذراعيها كأنها تطير: مفاجأة بانتظارك. ينظر إلى مكتبه، رضَّاعة طفل صغير فارغة جديدة، وبداخلها كارت لف فيها بعناية، يقفز بكل شوقه للأطفال إليها، يفتحها، يقرأ ما فيها: أبي الحبيب: أنا قادم إليك. بجانبها ورقة لتحليل الدم، وعند خانة هرمون الحمل علامة الإيجاب. يقفز غير مصدق، يحتضن الورقة وزوجته وحتى رضاعة الصغير.. هاتفٌ يوقظه كأنه كان في حلم: عذرا نحن من المختبر، لقد أخطأنا التحليل". هكذا تنتهي القصة بشكل برقي وقد اكتملت تماما بشكل فيه من النضج السردي الكثير من دون أي شكل من أشكال التزيد؛ مما يجعل القصة محكمة البناء.
القاص الفلسطيني أحمد عبد الحميد عيسى
الإحكام السردي في بناء القصة القصيرة هو ما نراه مرة أخرى في قصة "بالطبشور الأحمر": في أي ركعة هو؟ نسي بسرعة كعادته، لم يعد يتذكر، وفكر بسرعة في حل يريحه من عناء إعادة الصلاة كل مرة. أحضر طبشورا أحمر، وقرر أن يكتب رقم كل ركعة على الأرض بعد كل سجود. بعد السجود الأول، كتب رقم واحد ثم اعتدل وهو يبتسم. في السجود الثاني، لمح بطرف عينه رقم واحد المرتسم بالطبشور على الأرض. استغرب وجود الرقم، فكر بسرعة: لماذا الرقم واحد؟ رأى سجادة الصلاة أمامه، فازداد دهشة: ماذا يفعل هنا أصلا؟ نظر حوله، أحس بغربة المكان. ثم تذكر ما كان يفعله فعاد إليه وآثار الطبشور الأحمر لم تزل بعد". من خلال هذه القصة يتضح لنا مدى مقدرة القاص على امتلاك أدوات السرد القصصي لكتابة قصة محكمة تمتلك كل آليات القصة القصيرة؛ فلم يذهب القاص هنا إلى إخبارنا بشكل مباشر إلى أن الرجل كان مصابا بالزهايمر، وأنه ينسى كل شيء، أي أنه لم يلجأ إلى الشرح؛ الأمر الذي قد يجعل قصته مهلهلة وتفقد الكثير من جمالياتها وآليات سردها، بل اعتمد على السرد نفسه الذي أوحى لنا، من خلال صياغته، بالمعنى الذي يتحدث فيه القاص.
المقدرة السردية نراها في قصة "تفاصيل" التي يعمل من خلالها القاص على إيهامنا بالأحداث التي يسوقها متحدثا عنها كواقع لا شك فيه، بينما ينتهي السرد القصصي كلحظة إشراق يؤكد فيها أن ما قرأناه وصدقناه كان مجرد وهم نجح الكاتب في إيهامنا به؛ نتيجة تدخينه لسيجارة مخدرة، وهو في هذا الفعل يحاول أن يستعرض أمامنا كقراء مقدرته السردية التي نجح من خلالها في التلاعب بنا إلى أن كشف الحقيقة هو في نهاية السرد، يبدأ الكاتب قصته فيكتب: "كانت مطاردة جنونية عبر شوارع المخيم وأزقته. كنت في حال تشبه الانهيار الكامل، خارج من إغماءة، أمشي الهوينى وأنا مستند للجدار عندما استوقفتني. قالت لي: يريدون أن يصبح قبطانا مثلهم وقد حلمت دوما أن يصبح طبيبا، ابني المسكين الذي يصدق أي شيء. نظرت إليها، حجمها كبير جدا، كل شيء فيها متضخم، ليست كما رأيتها آخر مرة. والدة صديقي أيمن، التي تخطط له كل شيء، تعطيه مصروفه وتخبره فيما ينفقه، تشتري له ملابس كثيرة وتختار له قميصه كل يوم، حتى أنا تخبره ألا يصادقني، إلا إذا احتاجتني لأقنعه بأمر ما، تماما كما يحدث اليوم"، من خلال هذا الاقتباس يتبين لنا أن الأمر طبيعيا وليس ثمة غرابة في الموضوع سوى أنه يرى أم صديقه كأنها تضخمت، لكنه يظن أنها ربما جاءت لقتله فأطلق لساقيه العنان وهرب منها بينما هي تجري خلفه راغبة في اللحاق به مما أكد له شكه في أنها تريد قتله؛ لأنه بالأمس كان في بيتها عند صديقه أيمن وحينما كان يبدل ملابسه دخلت نورا الصغيرة بنت السادسة عشرة لتقدم له الشاي فلم يحاول التواري عنها وظل عاريا أمامها راغبا فيها بينما أسرعت بالهروب من أمامه خجلة.
تدور مطاردة غير طبيعية بينه وبين أم صديقه إلى أن يتجه باتجاه باب الجامعة وهناك يسد أبوه عليه الطريق وينزل من سيارة جديدة فتلحق به، ويعطيه أبوه مفاتيح السيارة مخبرا له أنه وأم أيمن قد اختاراها له معا وأنها كانت ترغب في إخباره بذلك. هنا يكشف لنا القاص حقيقة ما حدث حينما يكتب: "قلت لأخي بعدما رجعت: لماذا لم تلتقطني عندما أُغمى عليّ؟ فقال أخي: لأني كنت منشغلا بإطفاء سيجارة مشتعلة سقطت من بين أناملك".
نلاحظ هنا أن القاص لم يحاول أيضا إخبارنا بأن السارد كان مخدرا، أو أنه تناول سيجارة مخدرة وأن كل ما حدث كان بسبب هذه السيجارة، بل ترك السرد يخبرنا بذلك من دون تزيد أو محاولة لإفساد فنية السرد وجعله مباشرا.
في قصة "الثمن" ينجح الكاتب في تصوير مدى التناقض الذي يفكر من خلاله الرجال تجاه النساء من دون أي ضجيج أو افتعال، أو مباشرة، أو صوت عال من جانب القاص، فالرجل يرى أن من حقه كل شيء في حين أن المرأة ليس من حقها أي شيء. هذه النظرة الذكورية التي يتعامل من خلالها الرجل مع المرأة يعبر عنها القاص بشكل فني هادئ فيه الكثير من الجمال من خلال موقف بسيط حينما يكتشف أحدهم خطابا أسفل وسادة زوجته، ولأنه قد تقدم به العمر ولم تعد لديه المقدرة أو الصبر على القراءة يأخذ الخطاب لحبيبته كي تقرأه له، وفي الخطاب يكتشف أن زوجته توجه الخطاب لرجل مجهول كانت الزوجة تراه كل يوم في الحافلة وهي ما زالت صغيرة فتعلقت به وشعرت أنها تحبه، ثم تُحدث الرجل المجهول عن حياتها وكيف تزوجها زوجها وكأنها مجرد جارية اشتراها بنقوده، وكيف كان يعاملها بكل سادية وقسوة طوال فترة زواجهما حتى الآن، ثم تخبر الرجل المجهول أنها ما زالت تحلم به وتحبه حتى اليوم، لكنها ستظل مخلصة لبيتها وزوجها، أما قلبها ومشاعرها فهما ليسا ملكها، ورغم أن كل هذه المشاعر لن تصل إليه إلا أنها سعيدة بالاحتفاظ بها في داخلها، هنا وحينما تنتهي الرسالة يتضح لنا مغزى القصة حينما نقرأ: "وهكذا تنتهي الرسالة والألم يرتسم قويا في ملامحه، كيف تفعل هذا به من أمنّها على بيته وشرفه؟ كيف تخونه مع أول رجل تلقاه في حافلة؟ صار يبكي كالأطفال وهو يدفن رأسه في صدرها، مسحت دمعته في حنان وقالت: واحبيبي، فماذا ستفعل الآن؟ سأقتلها، وأقتل حبيبها معها. في لهفة وخوف عليه تحسست شعره في حنو وقالت: لا، أرجوك لا تفعل، لا أريد أن أخسرك بعد حب دام عشرين عاما". بهذا الاقتباس الدال الذي أعطى القصة معناها الحقيقي والمدهش ينتهي السرد؛ ليتبين لنا أن الزوجة لم تخن زوجها خيانة حقيقية أو فعلية، بل هي تخاطب رجلا لا يعرفها ولا تعرفه، كما أن الخطاب كتبته لنفسها وليس لترسله إلى هذا الرجل الذي لم تعد تعرف عنه شيئا، بل هي لم تعرف عنه أي شيء سوى أنه كان شخصا ما يركب الحافلة التي تركبها دائما، بينما في المقابل نرى أن الزوج هو الخائن الحقيقي ومرتبط بامرأة أخرى منذ عشرين عاما، ورغم ذلك يرى أن زوجته هي الخائنة وهي من تستحق القتل في نظرة ذكورية عقيمة وكريهة ومنفرة نراها حولنا يوميا، ونجح القاص في التعبير عنها بشكل فني ناضج.
إذا كان السرد الفلسطيني يكاد يقع أسيرا للقضية الفلسطينية ومشكلاتها اليومية، ومجازر الاحتلال والمطالبة بالتحرر، والكثير من المشاهد الدموية التي يسببها الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، مثله في ذلك مثل الكثير من السرد الجزائري الذي لا يستطيع التحرر من تاريخ المقاومة للاحتلال الفرنسي للجزائر؛ فيظل كلا السردين أسيرين حقيقيين لهاتين القضيتين إلا فيما ندر لدى بعض الكتاب من الجهتين، فنحن نلاحظ أن القاص أحمد عبد الحميد عيسى كان من ضمن القلة من الكتاب الذين استطاعوا التحرر من هذه القضية التي قد تؤثر بالسلب على السرد الفلسطيني وتحوله إلى مجرد بكائيات لا تنتهي؛ وبالتالي انطلق إلى الإنساني والعام الذي يهم الجميع، وحينما كان يميل إلى الخاص المتمثل في القضية الفلسطينية كان يستخدمه من دون أي مباشرة أو بكائيات لا داع لها حتى لا يفسد سرده القصصي، هذا الانطلاق من الخاص إلى العام غير المفسد للسرد نراه جليا في قصته "لعبة الكبار" وهي القصة التي تنطلق من الخصوصية الفلسطينية حيث مجموعة من أطفال أحد المخيمات الذين يرغبون في الإيقاع بالعدو الإسرائيلي الذي كثيرا ما يهاجم قريتهم ويقتل أهلهم، وبالتالي يفكرون من خلال زعيمهم "عامر" في حفر العديد من الخنادق حول القرية حتى إذا ما أتى الإسرائيليون للهجوم عليهم يقعون في هذه الخنادق ثم يقوم الصغار برجمهم بالحجارة ليتخلصوا منهم، وبالفعل يقوم الصغار بحفر الكثير من الخنادق حول القرية وانتظار هجوم العدو عليهم، ولكن رغم هذه المشاعر الوطنية التي يشعر بها الصغار تجاه وطنهم، ورغم هذه المسؤولية التي يحاولون تحملها بدلا من الكبار الذين قُتل منهم الكثيرين، أو زُج بغيرهم إلى المعتقلات الإسرائيلية، إلا أنهم يفاجئون بأمر لم يصدقونه: "ربضوا وراء جدار، وفي جعبتهم حجارة صغيرة ستكون أسلحتهم لمواجهة قادمة. أمامهم، رأوا مجموعة من رجال المخيم، يحملون العصي والهراوات، كاد الصغار يقفزون من مكانهم فرحا، لكن عامر أشار لهم بالصمت، فقد كانت مجموعة أخرى من نفس المخيم تقترب، من زاوية أخرى، وفي أيديهم ذات الأسلحة الفتاكة في ظن الصغار. صمتٌ مريب، ثم ارتفع السلاح، أمام أعين الصغار، في مواجهة بعضهم البعض. ذُهل الصغار، ولم يدر أي منهم، عن سبب ما، مهما كان، يدعو آباءهم وأعمامهم لمواجهة بعضهم بعضا، وفي هذا الوقت العصيب بالذات. بدأت الأرض تتساقط تحت أقدام الكبار، في حفرة صغيرة مضحكة، وقعوا أرضا، على الطرفين، اقترب عامر ورفاقه بسرعة منهم، في أيديهم حجارتهم الصغيرة، التي كانوا يعدونها للحظة مختلفة، يتساءلون: هل نفعلها؟ لم يُجب عامر، اقترب من الحفرة بحذر، أغمض عينيه، أشاح برأسه بعيدا عنهم. ومد يده على امتدادها، ليعطي إشارة البدء".
بهذا المقطع تنتهي القصة التي تحمل الكثير من السخرية المريرة مما يدور حولنا في العالم العربي؛ فبينما يفكر الصغار في حماية وطنهم والذود عنه، نرى الكبار في معظم الدول العربية يخونون ويتقاتلون مع بعضهم البعض بدلا من التقاتل مع العدو الذي هو أولى بالقتال؛ لذلك كان من الطبيعي والمثير للسخرية المريرة أن يتصرف الأطفال مثل هذا التصرف بالهجوم على الكبار الذين يتقاتلون معا بدلا من التقاتل مع العدو. نلحظ هنا أن القاص انطلق بالفعل من الخاص لكنه أراد التعبير من خلاله عن العام الذي نراه في منطقتنا العربية المتقاتلة مع بعضها البعض بينما تترك العدو الأول لها يمرح ويثير الفساد ويسفك المزيد من الدماء بينما يبدأ العرب معه الكثير من التحالفات، أي أننا نعمل على هدم أوطاننا بأيدينا وبمساعدة أعداءنا بدلا من الوقوف جبهة واحدة في مواجهته.
في المجموعة القصصية "وطن ضيق" للقاص الفلسطيني أحمد عبد الحميد عيسى ثمة قاص يعرف كيف ينسج السرد القصصي بإحكام ونضح من خلال لغة سليمة متماسكة ثرية المفردات أدت إلى أسلوبية شاعرية تخصه وحده، كما أنه يُدلل لنا من خلال سرده على امتلاكه آليات السرد القصصي من خلال استعراضه كيفية التلاعب الفني أثناء سرد الكثير من القصص ليدلل على وجود العديد من الساردين المختلفين والمتميزين في السرد الفلسطيني وإن لم يحاول أحدهم الانتباه إليهم أو الإشارة لهم.



محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب
عدد إبريل 2020م.

الخميس، 2 أبريل 2020

المراسلات.. التكنولوجيا والحب مع رجل ميت!

بوستر الفيلم
من خلال قصة حب يشوبها الكثير من السحر والشغف والغموض التام ينطلق المخرج الإيطالي Giuseppe Tornatore جوزيبي تورناتوري في تقديم شخصيتيه الأهم في فيلمه "المراسلات" The Correspondence، أو La Corrispondenza حسب العنوان الإيطالي الأصلي للفيلم.
ربما نلاحظ، للوهلة الأولى، أن الفيلم غير ناطق باللغة الإيطالية، بل بالإنجليزية، وهي من الأمور الغريبة التي لجأ إليها المخرج من دون بيان السبب في ذلك، كما أن معظم مشاهد الفيلم تم تصويرها في المملكة المتحدة، ما بين لندن، وأدنبرة، وفي القليل منها على إحدى الجزر الإيطالية، لكن رغم لجوء المخرج إلى فعل ذلك- استبدال اللغة وأماكن التصوير بالإنجليزية بدلا من الإيطالية التي كانت من الأحرى أن يكون بها الفيلم- سنلحظ أن الفيلم من الأفلام التي لا بد لها أن تذكرنا بسحر الحكايات، وتولدها من خلال المشاعر العميقة وشغفها لدرجة قبول إحدى الفتيات الحياة مع شخص ميت لا يمكن لها أن تلمسه، أو تتحدث إليه بشكل مباشر من خلال حكاية شديدة الغموض برع المخرج في حبكها وشد خيوطها لجذب المشاهد إلى الشاشة حتى اللحظات الأخيرة من خلال السيناريو الذي كتبه.
من دون مقدمات أو محاولة التمهيد يغرقنا تورناتوري معه في قلب الحدث الذي يريد الحديث عنه مباشرة- قصة حب شديدة الاشتعال بين عالم فيزياء فلكية "إيد فيرم" الذي أدى دوره الممثل الإنجليزي Jeremy Irons جيريمي أيرنز، و"إيمي ريان" التي أدت دورها الممثلة الأوكرانية الأصل، الفرنسية الجنسية Olga Karylenko أولجا كوريلينكو- حيث نراهما في المشهد الأول في غرفة أحد الفنادق يقبلان بعضيهما بعمق وشغف؛ ليودعها "إيد" محاولا اللحاق بطائرته التي ستنقله إلى أدنبرة.
سنعرف فيما بعد أن "إيد" من أشهر علماء الفيزياء الفلكية، وقد تعرف على إيمي- طالبة الدراسات العليا في علم الفيزياء الفلكية- في إحدى المؤتمرات التي كان يحاضر فيها، ورغم أنه يكبرها بحوالي الثلاثين عاما- فهي في عمر ابنته- ورغم أنه لديه أسرة وزوجة في أدنبرة إلا أنه يقع في عشقها، ويدخلان في علاقة حب سرية ست سنوات كاملة، اكتفيا فيها بلقاءات متقطعة كل عدة شهور إما من خلال المؤتمرات التي يحضرها هنا وهناك، أو من خلال بيته الصيفي في إيطاليا حيث كانا يقضيان بعض أوقات حبهما هناك.
إن المشهد الأول الذي يصور مدى عشق كل منهما للآخر، والذي ركز عليه المخرج في مشاهد ما قبل التيترات Avant Titre كان هو المشهد الوحيد الذي جمع بين كل من الشخصيتين العاشقتين لبعضهما البعض؛ وبالتالي لن نراهما مجتمعين طيلة أحداث الفيلم، الذي استمر قرابة الساعتين، مرة أخرى، ولعل أهمية المشهد تعود- فضلا عن تصوير مدى عمق العلاقة العشقية وسحرها- إلى السؤال المهم والمحوري الذي سأله "إيد" "لإيمي" أثناء قبلاتهما الحارة حينما سألها: هل تعتقدين أن هنالك شيئا لا نعرفه عن بعضنا البعض، أسرار، ألغاز لا زلنا نخفيها عن بعضنا؟
رغم أهمية السؤال وغرابته وعدم منطقيته أو مناسبته في هذه اللحظات العشقية إلا أنه يظل مُعلقا في ذهن المشاهد حتى الثلث الأخير من الفيلم، ولعل المخرج في اعتماده على هذا التساؤل منذ البداية يمتلك من الخبرة والذكاء في كتابة السيناريو ما يجعل المشاهد راغبا في معرفة سبب هذا التساؤل؛ ومن ثم متابعا لأحداث الفيلم بشغف حتى نهايته، لا سيما أن إيمي لم تهتم بالإجابة على تساؤله المتحير، وذكرته بينما تتشمم رائحته بعمق أنه لم يحضر لها- كالعادة- سترة من ستراته الداخلية التي تحب ارتدائها أثناء غيابه عنها لشهور؛ كي تظل رائحة جسمه الخاصة عالقة بها، وتشعرها بوجوده حتى لقائهما التالي.
يؤكد المخرج أن وسائل التكنولوجيا الحديثة من الممكن لها- رغم ضررها بالمشاعر الإنسانية- أن تكون جسرا مهما للتواصل بين البشر والمحبين، بل وتعميق العلاقة بينهما من خلال تقديمه حياة كل من بطليه اللذين لا يلتقيان سوى كل عدة أشهر، لكنهما يظلان على تواصل يومي يكاد أن يأكل اليوم كله من خلال برنامج "سكايب" Skype، ورسائل البريد الإليكتروني، والرسائل النصية على الموبايل، والأقراص المضغوطة المُسجلة، والمُكالمات الهاتفية فضلا عن الرسائل التي يرسلها إليها من خلال البريد العادي.
يختفي "إيد" فجأة ويغلق هاتفه، ورغم محاولات إيمي المتوالية للتوصل إليه إلا أنها لا تستطيع التواصل معه، لكنها تستلم رسالة منه فيها قرص مضغوط مُسجل عليه فيديو يحادثها فيه، ويؤكد لها من خلالها أنهما سيلتقيان قريبا، ورغم أنه مشغول ولا يستطيع الرد على الهاتف، إلا أنه لم ينس أن اليوم هو الثامن عشر من يناير، وهو ما يعني أنهما قد مرّ على علاقة حبهما ست سنوات كاملة، كما يرسل لها نسخة من مفاتيح منزله الصيفي في إيطاليا؛ لأنه يدرك جيدا أنها لا بد أن تكون قد فقدتها كعادتها التي يعرفها. هنا تحاول الاتصال به مرة أخرى سعيدة؛ لحرصه على تذكر كل التفاصيل بينهما، لكن الهاتف كان لم يزل مغلقا؛ فتترك له رسالة صوتية بينما تقف أمام زجاج النافذة.
ربما كان هذا المشهد من المشاهد المهمة التي تؤكد على براعة المخرج في التعبير من خلال الصورة، أو تقديم ما نطلق عليه بلاغة الصورة؛ ففي اللحظة التي ترسل له رسالتها المسجلة على هاتفه المغلق من أمام زجاج نافذتها نرى إحدى أوراق الشجر الذابلة تطير في الهواء لتستقر فترة على الزجاج أمامها في إيحاء من المخرج لانتهاء شيء ما، وهو ما حاول تورناتوري تأكيده بتثبيت الكاميرا على الورقة الذابلة، ثم القطع على إيمي التي تتأملها مندهشة.
يختفي "إيد" تماما رغم أن رسائله النصية والإليكترونية ما زالت مستمرة يوميا، وحينما تذهب إيمي إلى أحد المؤتمرات التي سيحاضر فيها، والتي اتفقا على اللقاء معا هناك؛ ليقضيا فترة من فترات حبهما القليلة تصلها رسالة نصية منه يخبرها فيها أنه يشعر بالغيرة لحضورها المؤتمر؛ لأنه لن يكون حاضرا، ويود لو لم تكن حاضرة من دونه. تظن إيمي أنه يمازحها لكنها تستمع إلى رئيس المؤتمر الذي يرثي "إيد" عالم الفيزياء الفلكية الذي منعه موته في الخامس عشر من يناير من الحضور!
تقع إيمي في حيرة غير مصدقة ما قاله رئيس المؤتمر؛ فكيف يكون "إيد" قد مات رغم كل رسائلة اليومية وفيديوهاته التي تصلها يوميا، وكيف يكون قد مات في الخامس عشر من يناير رغم رسالته التي وصلتها والفيديو الذي أرسله في الثامن عشر ليخبرها أنه لا يمكن أن ينسى تفاصيل حياتهما، وأنهما في هذا اليوم يكونا قد أتما ست سنوات مع بعضهما البعض؟! إنه ما زال على تواصل يومي معها كعادتيهما ولم يختلف في الأمر أي شيء سوى إغلاقه لهاتفه فقط. تخرج إيمي من قاعة المؤتمر غير مصدقة محاولة الاتصال به، لكن هاتفه ما زال مغلقا، تتصل بتليفون بيته الثابت لكن صوت زوجته يجعلها تلتزم الصمت وتنهي المكالمة لتقع مغشيا عليها.
مع اكتشاف المشاهد لموت "إيد" يقع في حيرة كبيرة مشاركا لإيمي حيرتها التي لا تجد جوابا عليها؛ مما يغلف الفيلم بإطار من الغموض والإثارة رغم قصة الحب الانسيابية وسحرها. هنا يدخل الفيلم في إطار من التشويق الذي يجعل المشاهد منتبها مشدودا إلى مقعده لمعرفة سر تواصل "إيد" اليومي معها رغم موته كما أعلن الجميع. كما تحاول إيمي معرفة الحقيقة؛ فتذهب إلى أدنبرة، حيث يقيم مع أسرته، لمحاولة التواصل معه، وأمام منزله تحاول الاتصال بهاتفه المغلق يائسة، لكنها حينما ترى أسرته تخرج من المنزل الذي توقفت أمامه مراقبة طويلا تحاول أن تدق الجرس عله يرد عليها لكن ما من مجيب، فتصلها رسالة من "إيد" يقول لها: إنه يعرف أنها ستذهب إلى أدنبرة لرؤيته والبحث عنه، ويطلب منها الاتجاه إلى عنوان لمقابلة أحد الأشخاص الذي يؤكد لها موت "إيد" بالفعل نتيجة إصابته بسرطان في الدماغ عانى منه في الشهور القليلة الماضية، ويعطيها هذا الصديق ظرفا فيه رسالة من "إيد" وقرص مضغوط عليه فيديو وخاتما كان ملكا لأبيه ويخبرها في الرسالة أن ترتدي الخاتم دائما لأنه كان حليف نجاح أبيه ونجاحه هو أيضا.
المخرج الإيطالي جوزيبي تورناتوري
هنا تبدأ إيمي في الدخول إلى دائرة مفرغة لا يمكنها الخروج منها؛ فتظل تدور في إطار "إيد" ورسائله البريدية والإليكترونية والنصية المتتالية التي لا تنتهي، والتي تشعرها دائما بأنه ما زال على قيد الحياة؛ نظرا لأن جميع الرسائل والفيديوهات على مدى اليوم تعرف عنها كل تحركاتها وتنقلاتها، بل ويقوم دائما بتوجيهها لاختيار القرارات السليمة التي لا بد لها أن تتخذها، أي أن "إيد" قد تحول إلى كائن سحري لا يمكنها الخلاص منه، أو لقائه رغم حاجتها إليه وعشقها له، وهو ما يجعلها تعيش داخل عالمه الإليكتروني بشكل كامل وكأنها انفصلت عن العالم الواقعي المعيش، ورغم أنه قال لها مؤكدا: حينما تضيقين ذرعا من وجودي غير المرئي والملموس معك؛ يمكنك أن ترسلي رسالة إليكترونية فيها اسمك أحد عشر مرة إلا أنها لا تلجأ لذلك، بل تتذكر فكرته التي كان يحدثها عنها التي تؤكد أن هذه الأكوان المختلفة والمتعددة تحتوي أحد عشر شخصا من كل منا، أي أن هناك إيمي وعشرة شخصيات أخرى مشابهة لها تماما في غيرها من الأكوان؛ الأمر الذي كان يجعلها تبتسم وتقول له: إذن إذا ما كان أشباهك الأحد عشر متزوجين جميعا؛ فأنا سيكون لدي من وقت الفراغ المجموع منهم ما يجعلني أعيش معك بشكل دائم.
الممثل الإنجليزي جيريمي أيرنز
لا تستسلم إيمي لتصديق واقع موت "إيد" الذي يراسلها طوال أوقات اليوم، وحينما تصلها رسالة منه للذهاب إلى المنزل الصيفي في إيطاليا؛ للاحتفال معه بعيد ميلاده في إبريل؛ تتجه بالفعل إلى هناك بعدما يكون قد أرسل لها نسخة جديدة من المفاتيح التي تضيعها دائما، وهناك تجد رسالة منه فيها قرصا مضغوطا عليه فيديو يحتفل فيه معها بعيد ميلاده، وجهاز لاب توب جديد كهدية منه إليها بدلا من جهازها الخرب الذي لا بد أن تضربه كي يعمل بشكل جيد، لكنه في إحدى فيديوهاته التي تصلها من خلال جارتها في إيطاليا يخبرها بأنه على علم بما كانت تخفيه عنه، وأنها على قطيعة كاملة مع أمها وترفض الرد على مكالماتها المتتالية؛ لأنها تظن أن أمها كانت تتمنى موتها هي بدلا من أبيها حينما مات الأب في حادث مروري كانت إيمي تقود فيه السيارة ولم ينج، ويؤكد لها "إيد" أنه يعتقد أن هذا الشعور بالذنب هو ما يدفعها للتمثيل في العديد من الأفلام السينمائية الكثير من المشاهد الخطرة التي قد تؤدي إلى موتها، كما يخبرها بأنه زار أمها وتحدثت معه بود لفترة طويلة؛ الأمر الذي أغضب إيمي وجعلها تلقي بالقرص المدمج في المدفأة، لكنها حاولت إنقاذه في اللحظات الأخيرة قبل ذوبانه.
أثناء عودة إيمي الغاضبة من إيطاليا ترسل رسالة إليكترونية إلى "إيد" وقد كتبت فيها اسمها إحدى عشر مرة؛ لرغبتها في اختفائه من عالمها. هنا تتوقف بالفعل كل مراسلات "إيد" اليومية؛ الأمر الذي يصيبها بالجنون؛ فتحاول استعادته مرة أخرى. ترسل له رسالة ثانية فيها اسمه إحدى عشر مرة لكن الاتصالات لا تعود بينهما؛ الأمر الذي يجعلها تعاود الاتصال على هاتفه فترد ابنته لتنهي إيمي المكالمة. تسافر إيمي إلى أدنبرة مرة أخرى، وتراقب ابنة "إيد" التي توبخها في بداية الأمر، لكنها تخبرها فيما بعد أن أباها في الشهور الأخيرة من مرضه حكى لها كثيرا عن إيمي ومدى عشقه وشغفه بها؛ الأمر الذي جعلها تحسدها؛ لأنها لا تتصور أن تجد يوما رجلا من الممكن له أن يعشقها مثل هذا العشق العميق الذي كان يشعر به أبوها تجاه إيمي، لكنها تخبرها في نهاية الأمر أنها لا تستطيع مساعدتها في شيء بعد انقطاع الرسائل عنها إلا أن تعطيها كاميرته الخاصة، كما أخبرتها أن "إيد" قضى شهوره الأخيرة محاولا التنبؤ بكل لحظة من حياتها القادمة؛ ليكون معها ويساندها، وأنه قد درس حالاتها من كل جوانبها؛ لأنه أراد أن يكون خالدا معها حتى بعد موته، ولا يشعرها بالفقد أو الحزن والألم.
إن انقطاع المراسلات عن إيمي بعدما أرسلت رسالتها يبدو كنوع من العقاب القاسي الذي حول حياتها بالكامل إلى شكل من أشكال الجحيم في الميثولوجيا اليونانية؛ لذلك حاولت البحث عنه، وتتبع كل ما يمكن أن يخص حياته من مواقف وأشخاص وأصدقاء؛ كي تعود إلى أوهام وجوده غير الحقيقي الذي كان يشعرها بالرضى ويساعدها على الاتزان في عالمها رغم عدم التواصل الفعلي.
الممثلة الأوكرانية الأصل الفرنسية الجنسية أولجا كوريلينكو
تقابل إيمي صديقه الطبيب الذي لازمه في أشهره الأخيرة، وتعرف منه أن "إيد" قضى لحظاته الأخيرة بالكامل من حياته في تصوير مئات الساعات من الفيديوهات، وكتابة آلاف الرسائل البريدية، وتسجيل آلاف غيرها من الرسائل الإليكترونية المشفرة، بل عمل على تغيير نظام الإيميل الذي يخصه كي يقوم بإرسال العديد من الرسائل لها في الكثير من المناسبات، كما عمل على تجنيد كل من حوله؛ كي يقوموا بإيصال رسائله لها في الكثير من الأوقات، وأنها حينما أرسلت رسالتها له التي كان فيها اسمها إحدى عشر مرة توقف النظام بالكامل، ووصلت الجميع رسالة باسمه تطلب منهم إعادة كل ما لديهم إلى محاميه وعدم إرساله إليها. هنا حاولت أن تذهب للمحامي لأخذ كل الرسائل، لكن الطبيب أكد لها أن المحامي لن يفعل ذلك إلا في حالة ما وصلته رسالة من "إيد" يطلب منه ذلك، كما أخبرها أنه يرى "إيد" مجرد أناني لم يحب من حوله بقدر حبه لنفسه؛ الأمر الذي سبب الألم لأسرته بالكامل، بل وجعلها هي الأخرى تعيش في مثل هذا الألم والمتاهة.
لا تفقد إيمي الأمل وحينما تمسك أحد الدفاتر الذي كان يكتب فيه "إيد" تلاحظ أن الصفحة البيضاء مطبوع عليها ما كُتب في الصفحة التي قبلها؛ فتستخدم القلم الرصاص لتظليل الصفحة وترى ما طُبع عليها، وهنا تتأكد أنها قد أخطأت في محاولاتها لاسترجاع رسائل "إيد؛" لأنه كان لا بد لها أن ترسل له رسالة فيها اسمه عشر مرات فقط لاستعادة المراسلات، وليس إحدى عشر مرة، فهو النسخة الحادية عشرة.
حينما تفعل إيمي ذلك تعود المراسلات بينها وبين حبيبها مرة أخرى، ويعمل على تشجيعها للمضي قدما في رسالة الدكتوراة الخاصة بها في الفيزياء الفلكية، ويبدو أن المخرج كان من الذكاء ما جعله يذكر أن اسم أطروحتها هو: "من النجم الزائر للسوبرنوفا: حوار مع نجم ميت"، وهو شكل من أشكال الربط بين علاقتيهما التي كان يبدو فيها كأستاذ في الفيزياء الفلكية نجما عاليا، وهو ما يلخص محتوى حياتها معه بعد موته، أي أن هذه الحياة كانت حوارا مع نجم ميت بالفعل.
حينما تحصل إيمي على رسالة الدكتوراة يهنئها "إيد" برسالة جديدة، ويطلب منها الذهاب إلى عنوان المحامي الموجود في الرسالة؛ لاستلام هدية نجاحها، وهناك يطلب منها المحامي التوقيع على أوراق ملكيتها للبيت الصيفي في إيطاليا؛ حيث أوصى "إيد" بانتقال ملكية البيت إليها.
أولجا كوريلينكو
رغم سحرية وجمال قصة العشق التي صورها المخرج الإيطالي تورناتوري بين شخص ميت وامرأة عاشقة له تتتبع خطاه في كل لحظة رغم يقينها من موته، ورغم غموض أحداث الفيلم إلى أن يتكشف لنا هذا الغموض لحظة بعد الأخرى، إلا أن هذه الأحداث السحرية الجميلة كادت أن تفقد جاذبيتها في الربع الأخير من الفيلم؛ نظرا لأن شغف المخرج بحكايته، وتفاصيلها الدقيقة جعلها تميل إلى الإملال والرغبة في الاستمرار، ووقوع المخرج في فخ المط والتطويل؛ الأمر الذي دفع المشاهد لرغبته في انتهاء الحدث بعدما تكشفت أمامه كل الخيوط، لكننا نفاجأ بأن المخرج يصر على الاستمرار سواء في عرض تفاصيل جهدها في الحصول على رسالة الدكتورة، أو شفائها من عقدتها بالذنب حينما وافقت على أداء دور في أحد الأفلام يكاد أن يتشابه تماما مع ما حدث لها مع أبيها يوم وفاته.
كما أن اعتماد المخرج على شخصية مُهتمة بالبحث العلمي مثل إيمي جعل من غير المقنع للمشاهد أن يكون لها اهتمام آخر بالتمثيل في الأفلام السينمائية التي تهتم بالحركة والمغامرات والقتل؛ الأمر الذي أكسب الشخصية شيئا من الضعف وغير المنطقية التي لن يتقبلها المشاهد بسهولة؛ فالشخصيات التي تهتم بالعلم والبحث لاسيما في مجال صعب وجاف مثل الفيزياء الفلكية لا يمكن أن يكون لها مثل هذا الاهتمام الثاني، لكن رغم هذا الضعف البسيط في تركيب الشخصية العاشقة استطعنا تقبل الأمر، لا سيما أن قصة الحب التي تحدث عنها الفيلم كانت من الشاعرية والسحر ما جعل المشاهد يندمج معها، كما أن المخرج كان لديه من الاهتمام بكل الخيوط ما جعله لا ينسى المُجسم النحتي لأحد الفنانين، وهو المجسم الذي تم صبه على جسد إيمي في الربع الأول من الفيلم لصناعته، والذي وافقت على فعله بمجرد معرفتها بموت حبيبها؛ الأمر الذي جعلها تبكي كثيرا داخل المجسم مما أدى إلى تشويهه. نقول إن اهتمام تورناتوري بكل الخيوط جعله يعود إلى المُجسم مرة أخرى في المشهد ما قبل الأخير؛ حيث تذهب إلى معرض الفنان وتسمعه يتحدث عن أن المجسم المشوه كان أكثر جمالا وسحرا وجاذبية من المجسم السليم؛ نظرا لتعبيره عن الألم والحزن الذي يشعر به الإنسان.
يؤكد الفيلم الإيطالي "المراسلات" للمخرج جوزيبي تورناتوري على أن مشاعر الحب العميقة لا يمكن لها أن تموت مع موت صاحبها لا سيما مع وجود التكنولوجيا الحديثة التي من الممكن لها أن تساعد على استمرار الحب والمساندة، خلافا لما هو مألوف للكثيرين منا ممن يظنون أن التكنولوجيا قد نجحت في القضاء على المشاعر الإنسانية، وتجميدها، وإقصائها تماما، ومن ثم أعلنت موتها!



محمود الغيطاني
مجلة الشارقة الثقافية


عدد إبريل 2020م