الخميس، 2 أبريل 2020

المراسلات.. التكنولوجيا والحب مع رجل ميت!

بوستر الفيلم
من خلال قصة حب يشوبها الكثير من السحر والشغف والغموض التام ينطلق المخرج الإيطالي Giuseppe Tornatore جوزيبي تورناتوري في تقديم شخصيتيه الأهم في فيلمه "المراسلات" The Correspondence، أو La Corrispondenza حسب العنوان الإيطالي الأصلي للفيلم.
ربما نلاحظ، للوهلة الأولى، أن الفيلم غير ناطق باللغة الإيطالية، بل بالإنجليزية، وهي من الأمور الغريبة التي لجأ إليها المخرج من دون بيان السبب في ذلك، كما أن معظم مشاهد الفيلم تم تصويرها في المملكة المتحدة، ما بين لندن، وأدنبرة، وفي القليل منها على إحدى الجزر الإيطالية، لكن رغم لجوء المخرج إلى فعل ذلك- استبدال اللغة وأماكن التصوير بالإنجليزية بدلا من الإيطالية التي كانت من الأحرى أن يكون بها الفيلم- سنلحظ أن الفيلم من الأفلام التي لا بد لها أن تذكرنا بسحر الحكايات، وتولدها من خلال المشاعر العميقة وشغفها لدرجة قبول إحدى الفتيات الحياة مع شخص ميت لا يمكن لها أن تلمسه، أو تتحدث إليه بشكل مباشر من خلال حكاية شديدة الغموض برع المخرج في حبكها وشد خيوطها لجذب المشاهد إلى الشاشة حتى اللحظات الأخيرة من خلال السيناريو الذي كتبه.
من دون مقدمات أو محاولة التمهيد يغرقنا تورناتوري معه في قلب الحدث الذي يريد الحديث عنه مباشرة- قصة حب شديدة الاشتعال بين عالم فيزياء فلكية "إيد فيرم" الذي أدى دوره الممثل الإنجليزي Jeremy Irons جيريمي أيرنز، و"إيمي ريان" التي أدت دورها الممثلة الأوكرانية الأصل، الفرنسية الجنسية Olga Karylenko أولجا كوريلينكو- حيث نراهما في المشهد الأول في غرفة أحد الفنادق يقبلان بعضيهما بعمق وشغف؛ ليودعها "إيد" محاولا اللحاق بطائرته التي ستنقله إلى أدنبرة.
سنعرف فيما بعد أن "إيد" من أشهر علماء الفيزياء الفلكية، وقد تعرف على إيمي- طالبة الدراسات العليا في علم الفيزياء الفلكية- في إحدى المؤتمرات التي كان يحاضر فيها، ورغم أنه يكبرها بحوالي الثلاثين عاما- فهي في عمر ابنته- ورغم أنه لديه أسرة وزوجة في أدنبرة إلا أنه يقع في عشقها، ويدخلان في علاقة حب سرية ست سنوات كاملة، اكتفيا فيها بلقاءات متقطعة كل عدة شهور إما من خلال المؤتمرات التي يحضرها هنا وهناك، أو من خلال بيته الصيفي في إيطاليا حيث كانا يقضيان بعض أوقات حبهما هناك.
إن المشهد الأول الذي يصور مدى عشق كل منهما للآخر، والذي ركز عليه المخرج في مشاهد ما قبل التيترات Avant Titre كان هو المشهد الوحيد الذي جمع بين كل من الشخصيتين العاشقتين لبعضهما البعض؛ وبالتالي لن نراهما مجتمعين طيلة أحداث الفيلم، الذي استمر قرابة الساعتين، مرة أخرى، ولعل أهمية المشهد تعود- فضلا عن تصوير مدى عمق العلاقة العشقية وسحرها- إلى السؤال المهم والمحوري الذي سأله "إيد" "لإيمي" أثناء قبلاتهما الحارة حينما سألها: هل تعتقدين أن هنالك شيئا لا نعرفه عن بعضنا البعض، أسرار، ألغاز لا زلنا نخفيها عن بعضنا؟
رغم أهمية السؤال وغرابته وعدم منطقيته أو مناسبته في هذه اللحظات العشقية إلا أنه يظل مُعلقا في ذهن المشاهد حتى الثلث الأخير من الفيلم، ولعل المخرج في اعتماده على هذا التساؤل منذ البداية يمتلك من الخبرة والذكاء في كتابة السيناريو ما يجعل المشاهد راغبا في معرفة سبب هذا التساؤل؛ ومن ثم متابعا لأحداث الفيلم بشغف حتى نهايته، لا سيما أن إيمي لم تهتم بالإجابة على تساؤله المتحير، وذكرته بينما تتشمم رائحته بعمق أنه لم يحضر لها- كالعادة- سترة من ستراته الداخلية التي تحب ارتدائها أثناء غيابه عنها لشهور؛ كي تظل رائحة جسمه الخاصة عالقة بها، وتشعرها بوجوده حتى لقائهما التالي.
يؤكد المخرج أن وسائل التكنولوجيا الحديثة من الممكن لها- رغم ضررها بالمشاعر الإنسانية- أن تكون جسرا مهما للتواصل بين البشر والمحبين، بل وتعميق العلاقة بينهما من خلال تقديمه حياة كل من بطليه اللذين لا يلتقيان سوى كل عدة أشهر، لكنهما يظلان على تواصل يومي يكاد أن يأكل اليوم كله من خلال برنامج "سكايب" Skype، ورسائل البريد الإليكتروني، والرسائل النصية على الموبايل، والأقراص المضغوطة المُسجلة، والمُكالمات الهاتفية فضلا عن الرسائل التي يرسلها إليها من خلال البريد العادي.
يختفي "إيد" فجأة ويغلق هاتفه، ورغم محاولات إيمي المتوالية للتوصل إليه إلا أنها لا تستطيع التواصل معه، لكنها تستلم رسالة منه فيها قرص مضغوط مُسجل عليه فيديو يحادثها فيه، ويؤكد لها من خلالها أنهما سيلتقيان قريبا، ورغم أنه مشغول ولا يستطيع الرد على الهاتف، إلا أنه لم ينس أن اليوم هو الثامن عشر من يناير، وهو ما يعني أنهما قد مرّ على علاقة حبهما ست سنوات كاملة، كما يرسل لها نسخة من مفاتيح منزله الصيفي في إيطاليا؛ لأنه يدرك جيدا أنها لا بد أن تكون قد فقدتها كعادتها التي يعرفها. هنا تحاول الاتصال به مرة أخرى سعيدة؛ لحرصه على تذكر كل التفاصيل بينهما، لكن الهاتف كان لم يزل مغلقا؛ فتترك له رسالة صوتية بينما تقف أمام زجاج النافذة.
ربما كان هذا المشهد من المشاهد المهمة التي تؤكد على براعة المخرج في التعبير من خلال الصورة، أو تقديم ما نطلق عليه بلاغة الصورة؛ ففي اللحظة التي ترسل له رسالتها المسجلة على هاتفه المغلق من أمام زجاج نافذتها نرى إحدى أوراق الشجر الذابلة تطير في الهواء لتستقر فترة على الزجاج أمامها في إيحاء من المخرج لانتهاء شيء ما، وهو ما حاول تورناتوري تأكيده بتثبيت الكاميرا على الورقة الذابلة، ثم القطع على إيمي التي تتأملها مندهشة.
يختفي "إيد" تماما رغم أن رسائله النصية والإليكترونية ما زالت مستمرة يوميا، وحينما تذهب إيمي إلى أحد المؤتمرات التي سيحاضر فيها، والتي اتفقا على اللقاء معا هناك؛ ليقضيا فترة من فترات حبهما القليلة تصلها رسالة نصية منه يخبرها فيها أنه يشعر بالغيرة لحضورها المؤتمر؛ لأنه لن يكون حاضرا، ويود لو لم تكن حاضرة من دونه. تظن إيمي أنه يمازحها لكنها تستمع إلى رئيس المؤتمر الذي يرثي "إيد" عالم الفيزياء الفلكية الذي منعه موته في الخامس عشر من يناير من الحضور!
تقع إيمي في حيرة غير مصدقة ما قاله رئيس المؤتمر؛ فكيف يكون "إيد" قد مات رغم كل رسائلة اليومية وفيديوهاته التي تصلها يوميا، وكيف يكون قد مات في الخامس عشر من يناير رغم رسالته التي وصلتها والفيديو الذي أرسله في الثامن عشر ليخبرها أنه لا يمكن أن ينسى تفاصيل حياتهما، وأنهما في هذا اليوم يكونا قد أتما ست سنوات مع بعضهما البعض؟! إنه ما زال على تواصل يومي معها كعادتيهما ولم يختلف في الأمر أي شيء سوى إغلاقه لهاتفه فقط. تخرج إيمي من قاعة المؤتمر غير مصدقة محاولة الاتصال به، لكن هاتفه ما زال مغلقا، تتصل بتليفون بيته الثابت لكن صوت زوجته يجعلها تلتزم الصمت وتنهي المكالمة لتقع مغشيا عليها.
مع اكتشاف المشاهد لموت "إيد" يقع في حيرة كبيرة مشاركا لإيمي حيرتها التي لا تجد جوابا عليها؛ مما يغلف الفيلم بإطار من الغموض والإثارة رغم قصة الحب الانسيابية وسحرها. هنا يدخل الفيلم في إطار من التشويق الذي يجعل المشاهد منتبها مشدودا إلى مقعده لمعرفة سر تواصل "إيد" اليومي معها رغم موته كما أعلن الجميع. كما تحاول إيمي معرفة الحقيقة؛ فتذهب إلى أدنبرة، حيث يقيم مع أسرته، لمحاولة التواصل معه، وأمام منزله تحاول الاتصال بهاتفه المغلق يائسة، لكنها حينما ترى أسرته تخرج من المنزل الذي توقفت أمامه مراقبة طويلا تحاول أن تدق الجرس عله يرد عليها لكن ما من مجيب، فتصلها رسالة من "إيد" يقول لها: إنه يعرف أنها ستذهب إلى أدنبرة لرؤيته والبحث عنه، ويطلب منها الاتجاه إلى عنوان لمقابلة أحد الأشخاص الذي يؤكد لها موت "إيد" بالفعل نتيجة إصابته بسرطان في الدماغ عانى منه في الشهور القليلة الماضية، ويعطيها هذا الصديق ظرفا فيه رسالة من "إيد" وقرص مضغوط عليه فيديو وخاتما كان ملكا لأبيه ويخبرها في الرسالة أن ترتدي الخاتم دائما لأنه كان حليف نجاح أبيه ونجاحه هو أيضا.
المخرج الإيطالي جوزيبي تورناتوري
هنا تبدأ إيمي في الدخول إلى دائرة مفرغة لا يمكنها الخروج منها؛ فتظل تدور في إطار "إيد" ورسائله البريدية والإليكترونية والنصية المتتالية التي لا تنتهي، والتي تشعرها دائما بأنه ما زال على قيد الحياة؛ نظرا لأن جميع الرسائل والفيديوهات على مدى اليوم تعرف عنها كل تحركاتها وتنقلاتها، بل ويقوم دائما بتوجيهها لاختيار القرارات السليمة التي لا بد لها أن تتخذها، أي أن "إيد" قد تحول إلى كائن سحري لا يمكنها الخلاص منه، أو لقائه رغم حاجتها إليه وعشقها له، وهو ما يجعلها تعيش داخل عالمه الإليكتروني بشكل كامل وكأنها انفصلت عن العالم الواقعي المعيش، ورغم أنه قال لها مؤكدا: حينما تضيقين ذرعا من وجودي غير المرئي والملموس معك؛ يمكنك أن ترسلي رسالة إليكترونية فيها اسمك أحد عشر مرة إلا أنها لا تلجأ لذلك، بل تتذكر فكرته التي كان يحدثها عنها التي تؤكد أن هذه الأكوان المختلفة والمتعددة تحتوي أحد عشر شخصا من كل منا، أي أن هناك إيمي وعشرة شخصيات أخرى مشابهة لها تماما في غيرها من الأكوان؛ الأمر الذي كان يجعلها تبتسم وتقول له: إذن إذا ما كان أشباهك الأحد عشر متزوجين جميعا؛ فأنا سيكون لدي من وقت الفراغ المجموع منهم ما يجعلني أعيش معك بشكل دائم.
الممثل الإنجليزي جيريمي أيرنز
لا تستسلم إيمي لتصديق واقع موت "إيد" الذي يراسلها طوال أوقات اليوم، وحينما تصلها رسالة منه للذهاب إلى المنزل الصيفي في إيطاليا؛ للاحتفال معه بعيد ميلاده في إبريل؛ تتجه بالفعل إلى هناك بعدما يكون قد أرسل لها نسخة جديدة من المفاتيح التي تضيعها دائما، وهناك تجد رسالة منه فيها قرصا مضغوطا عليه فيديو يحتفل فيه معها بعيد ميلاده، وجهاز لاب توب جديد كهدية منه إليها بدلا من جهازها الخرب الذي لا بد أن تضربه كي يعمل بشكل جيد، لكنه في إحدى فيديوهاته التي تصلها من خلال جارتها في إيطاليا يخبرها بأنه على علم بما كانت تخفيه عنه، وأنها على قطيعة كاملة مع أمها وترفض الرد على مكالماتها المتتالية؛ لأنها تظن أن أمها كانت تتمنى موتها هي بدلا من أبيها حينما مات الأب في حادث مروري كانت إيمي تقود فيه السيارة ولم ينج، ويؤكد لها "إيد" أنه يعتقد أن هذا الشعور بالذنب هو ما يدفعها للتمثيل في العديد من الأفلام السينمائية الكثير من المشاهد الخطرة التي قد تؤدي إلى موتها، كما يخبرها بأنه زار أمها وتحدثت معه بود لفترة طويلة؛ الأمر الذي أغضب إيمي وجعلها تلقي بالقرص المدمج في المدفأة، لكنها حاولت إنقاذه في اللحظات الأخيرة قبل ذوبانه.
أثناء عودة إيمي الغاضبة من إيطاليا ترسل رسالة إليكترونية إلى "إيد" وقد كتبت فيها اسمها إحدى عشر مرة؛ لرغبتها في اختفائه من عالمها. هنا تتوقف بالفعل كل مراسلات "إيد" اليومية؛ الأمر الذي يصيبها بالجنون؛ فتحاول استعادته مرة أخرى. ترسل له رسالة ثانية فيها اسمه إحدى عشر مرة لكن الاتصالات لا تعود بينهما؛ الأمر الذي يجعلها تعاود الاتصال على هاتفه فترد ابنته لتنهي إيمي المكالمة. تسافر إيمي إلى أدنبرة مرة أخرى، وتراقب ابنة "إيد" التي توبخها في بداية الأمر، لكنها تخبرها فيما بعد أن أباها في الشهور الأخيرة من مرضه حكى لها كثيرا عن إيمي ومدى عشقه وشغفه بها؛ الأمر الذي جعلها تحسدها؛ لأنها لا تتصور أن تجد يوما رجلا من الممكن له أن يعشقها مثل هذا العشق العميق الذي كان يشعر به أبوها تجاه إيمي، لكنها تخبرها في نهاية الأمر أنها لا تستطيع مساعدتها في شيء بعد انقطاع الرسائل عنها إلا أن تعطيها كاميرته الخاصة، كما أخبرتها أن "إيد" قضى شهوره الأخيرة محاولا التنبؤ بكل لحظة من حياتها القادمة؛ ليكون معها ويساندها، وأنه قد درس حالاتها من كل جوانبها؛ لأنه أراد أن يكون خالدا معها حتى بعد موته، ولا يشعرها بالفقد أو الحزن والألم.
إن انقطاع المراسلات عن إيمي بعدما أرسلت رسالتها يبدو كنوع من العقاب القاسي الذي حول حياتها بالكامل إلى شكل من أشكال الجحيم في الميثولوجيا اليونانية؛ لذلك حاولت البحث عنه، وتتبع كل ما يمكن أن يخص حياته من مواقف وأشخاص وأصدقاء؛ كي تعود إلى أوهام وجوده غير الحقيقي الذي كان يشعرها بالرضى ويساعدها على الاتزان في عالمها رغم عدم التواصل الفعلي.
الممثلة الأوكرانية الأصل الفرنسية الجنسية أولجا كوريلينكو
تقابل إيمي صديقه الطبيب الذي لازمه في أشهره الأخيرة، وتعرف منه أن "إيد" قضى لحظاته الأخيرة بالكامل من حياته في تصوير مئات الساعات من الفيديوهات، وكتابة آلاف الرسائل البريدية، وتسجيل آلاف غيرها من الرسائل الإليكترونية المشفرة، بل عمل على تغيير نظام الإيميل الذي يخصه كي يقوم بإرسال العديد من الرسائل لها في الكثير من المناسبات، كما عمل على تجنيد كل من حوله؛ كي يقوموا بإيصال رسائله لها في الكثير من الأوقات، وأنها حينما أرسلت رسالتها له التي كان فيها اسمها إحدى عشر مرة توقف النظام بالكامل، ووصلت الجميع رسالة باسمه تطلب منهم إعادة كل ما لديهم إلى محاميه وعدم إرساله إليها. هنا حاولت أن تذهب للمحامي لأخذ كل الرسائل، لكن الطبيب أكد لها أن المحامي لن يفعل ذلك إلا في حالة ما وصلته رسالة من "إيد" يطلب منه ذلك، كما أخبرها أنه يرى "إيد" مجرد أناني لم يحب من حوله بقدر حبه لنفسه؛ الأمر الذي سبب الألم لأسرته بالكامل، بل وجعلها هي الأخرى تعيش في مثل هذا الألم والمتاهة.
لا تفقد إيمي الأمل وحينما تمسك أحد الدفاتر الذي كان يكتب فيه "إيد" تلاحظ أن الصفحة البيضاء مطبوع عليها ما كُتب في الصفحة التي قبلها؛ فتستخدم القلم الرصاص لتظليل الصفحة وترى ما طُبع عليها، وهنا تتأكد أنها قد أخطأت في محاولاتها لاسترجاع رسائل "إيد؛" لأنه كان لا بد لها أن ترسل له رسالة فيها اسمه عشر مرات فقط لاستعادة المراسلات، وليس إحدى عشر مرة، فهو النسخة الحادية عشرة.
حينما تفعل إيمي ذلك تعود المراسلات بينها وبين حبيبها مرة أخرى، ويعمل على تشجيعها للمضي قدما في رسالة الدكتوراة الخاصة بها في الفيزياء الفلكية، ويبدو أن المخرج كان من الذكاء ما جعله يذكر أن اسم أطروحتها هو: "من النجم الزائر للسوبرنوفا: حوار مع نجم ميت"، وهو شكل من أشكال الربط بين علاقتيهما التي كان يبدو فيها كأستاذ في الفيزياء الفلكية نجما عاليا، وهو ما يلخص محتوى حياتها معه بعد موته، أي أن هذه الحياة كانت حوارا مع نجم ميت بالفعل.
حينما تحصل إيمي على رسالة الدكتوراة يهنئها "إيد" برسالة جديدة، ويطلب منها الذهاب إلى عنوان المحامي الموجود في الرسالة؛ لاستلام هدية نجاحها، وهناك يطلب منها المحامي التوقيع على أوراق ملكيتها للبيت الصيفي في إيطاليا؛ حيث أوصى "إيد" بانتقال ملكية البيت إليها.
أولجا كوريلينكو
رغم سحرية وجمال قصة العشق التي صورها المخرج الإيطالي تورناتوري بين شخص ميت وامرأة عاشقة له تتتبع خطاه في كل لحظة رغم يقينها من موته، ورغم غموض أحداث الفيلم إلى أن يتكشف لنا هذا الغموض لحظة بعد الأخرى، إلا أن هذه الأحداث السحرية الجميلة كادت أن تفقد جاذبيتها في الربع الأخير من الفيلم؛ نظرا لأن شغف المخرج بحكايته، وتفاصيلها الدقيقة جعلها تميل إلى الإملال والرغبة في الاستمرار، ووقوع المخرج في فخ المط والتطويل؛ الأمر الذي دفع المشاهد لرغبته في انتهاء الحدث بعدما تكشفت أمامه كل الخيوط، لكننا نفاجأ بأن المخرج يصر على الاستمرار سواء في عرض تفاصيل جهدها في الحصول على رسالة الدكتورة، أو شفائها من عقدتها بالذنب حينما وافقت على أداء دور في أحد الأفلام يكاد أن يتشابه تماما مع ما حدث لها مع أبيها يوم وفاته.
كما أن اعتماد المخرج على شخصية مُهتمة بالبحث العلمي مثل إيمي جعل من غير المقنع للمشاهد أن يكون لها اهتمام آخر بالتمثيل في الأفلام السينمائية التي تهتم بالحركة والمغامرات والقتل؛ الأمر الذي أكسب الشخصية شيئا من الضعف وغير المنطقية التي لن يتقبلها المشاهد بسهولة؛ فالشخصيات التي تهتم بالعلم والبحث لاسيما في مجال صعب وجاف مثل الفيزياء الفلكية لا يمكن أن يكون لها مثل هذا الاهتمام الثاني، لكن رغم هذا الضعف البسيط في تركيب الشخصية العاشقة استطعنا تقبل الأمر، لا سيما أن قصة الحب التي تحدث عنها الفيلم كانت من الشاعرية والسحر ما جعل المشاهد يندمج معها، كما أن المخرج كان لديه من الاهتمام بكل الخيوط ما جعله لا ينسى المُجسم النحتي لأحد الفنانين، وهو المجسم الذي تم صبه على جسد إيمي في الربع الأول من الفيلم لصناعته، والذي وافقت على فعله بمجرد معرفتها بموت حبيبها؛ الأمر الذي جعلها تبكي كثيرا داخل المجسم مما أدى إلى تشويهه. نقول إن اهتمام تورناتوري بكل الخيوط جعله يعود إلى المُجسم مرة أخرى في المشهد ما قبل الأخير؛ حيث تذهب إلى معرض الفنان وتسمعه يتحدث عن أن المجسم المشوه كان أكثر جمالا وسحرا وجاذبية من المجسم السليم؛ نظرا لتعبيره عن الألم والحزن الذي يشعر به الإنسان.
يؤكد الفيلم الإيطالي "المراسلات" للمخرج جوزيبي تورناتوري على أن مشاعر الحب العميقة لا يمكن لها أن تموت مع موت صاحبها لا سيما مع وجود التكنولوجيا الحديثة التي من الممكن لها أن تساعد على استمرار الحب والمساندة، خلافا لما هو مألوف للكثيرين منا ممن يظنون أن التكنولوجيا قد نجحت في القضاء على المشاعر الإنسانية، وتجميدها، وإقصائها تماما، ومن ثم أعلنت موتها!



محمود الغيطاني
مجلة الشارقة الثقافية


عدد إبريل 2020م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق