الخميس، 23 أبريل 2020

وطن ضيق.. شاعرية اللغة وامتلاك أدوات السرد

المجموعة القصصية وطن ضيق

ربما كانت اللغة في الآونة الأخيرة من الأمور التي بدأ يختلف حولها الكثيرون من الساردين ممن يمارسون مجال السرد الأدبي؛ فنرى البعض منهم يقول: إن اللغة ليست بالأهمية التي يوليها بعض النقاد كل هذا الاهتمام، وهم يقصدون هنا بعدم أهمية اللغة، عدم الاهتمام بالسلامة اللغوية من حيث قواعد اللغة، أو وجود مفردات متنوعة وثرية في المعجم الأدبي للكاتب، وهم يبررون هذا التقليل من شأن اللغة بقولهم: إن القارئ سيصله المعنى الذي يريد الكاتب أن يقوله بأي شكل من الأشكال؛ ومن ثم فاللغة التي يكتب بها الكاتب لا يعوّل عليها كثيرا.
هذا الحديث ومحاولة التقليل من شأن اللغة رأيته لدى العديدين من الروائيين وكتاب القصة في الكثير من الدول العربية، ورغم وجود كتاب آخرين يرون أن السلامة اللغوية من جوهر الكتابة الأدبية إلا أن الاتجاه الأول لا بد من التوقف أمامه قليلا؛ فاللغة هي الوسيط الأول والوحيد والجوهري لأي روائي أو قاص، أو حتى كاتب مقال، أي أنه لا يمكن له التعبير عما يفكر فيه ويرغب في إيصاله للقارئ إلا من خلال هذه الأداة الأولى والجوهرية؛ وبالتالي لا بد أن يكون الاهتمام بها وتجويدها من الضرورة بالنسبة لمن يتناول عملية الكتابة، فإذا كانت أداة المخرج الأولى في إيصال أفكاره السينمائية هي الصورة، ومن دون الاهتمام بهذه الصورة والتجويد فيها لا يمكن له أن يتميز أو ينقل لنا ما يفكر فيه بشكل جيد؛ فالأمر قياس بالنسبة للكتابة التي لا يمكن لها أن تكتمل، أو نعرف جمالياتها إلا من خلال اللغة؛ وبالتالي يكون التقليل من شأنها بمثابة هدم لعملية الكتابة من الأساس، وعجز حقيقي عن إيصال الأفكار والمعاني التي يريد الكاتب أن ينقلها للقارئ.
إذا افترضنا مثلا أن الكاتب لا يمتلك من المفردات الثرية في معجمه الكتابي سوى القليل فقط من المفردات التي يظل يدور في فلكها؛ سيؤدي ذلك إلى تحول أسلوبه السردي إلى أسلوب فقير جاف، أقرب إلى التقريرية ولغة الصحافة المباشرة التي لا إيحاء ولا ثراء ولا جمال فيها، وبالتالي تصبح جملته السردية ذات وجه واحد فقط، وهو وجه مباشر لا يمكن له أن يحتمل أكثر من المعنى المباشر أو الأول بينما الأدب حمّال أوجه، خلافا للسارد الذي يمتلك معجما لغويا أكثر ثراء، والذي تحتمل لغته السردية الكثير من التأويلات والتخييلات؛ نظرا لأن مفرداته فيها من الثراء ما يسمح بذلك.
كذلك الأمر بالنسبة للكاتب الذي يرى أن السلامة اللغوية ليست بالأهمية التي تجعله يهتم بها. إن هذا السارد إنما يذهب هذا المذهب بسبب عجزه الحقيقي عن إتقان قواعد اللغة، أو تذوقها والشعور بها؛ لأنه لو كان يتقنها جيدا لأيقن أن عدم السلامة اللغوية تجعل من المفعول فاعلا، وتجعله يخرب في اللغة التي يكتب بها فتصبح مهلهلة لا جماليات فيها؛ تؤدي إلى توقف القارئ غير مرة عن متابعة كتابته نظرا للقلق الذي يشعر به نتيجة كثرة الأخطاء الكتابية أو اللغوية؛ وبالتالي فمن السهل جدا الانصراف الكامل عن متابعة القراءة بسبب هذه الأخطاء الكثيرة والمتكررة.
كما أن إتقان اللغة وثراء المفردات يساعد الكاتب كثيرا على تجويد نصه، والإتيان بالتشبيهات الصحيحة بدلا من اللجوء إلى التشبيهات الفقيرة التي لا يمكن لها أن تعبر عن المعنى الحقيقي الذي يرغبه الكاتب؛ ومن ثم يؤدي الأمر إلى الكثير من الالتباس وتكوين صورة ذهنية في خيال القارئ لا علاقة لها بالصورة التي يرغب السارد في إيصالها، وغير ذلك الكثير من المشكلات التي يؤدي إليها الجهل باللغة التي هي الأداة الأولى للكاتب، والتي يمكن تفاديها بالاهتمام الحقيقي بها؛ مما يؤدي إلى تحويل أسلوب السرد إلى شكل أكثر ثراء، بل وأكثر شاعرية؛ الأمر الذي يجعل القارئ مقبلا على القراءة بشكل فيه الكثير من المتعة الحقيقية التي هي جوهر الفنون الأدبية بالنسبة للجميع؛ حيث الأدب في مجمله شكل من أشكال المتعة التي لا يمكن نفيها عنه.
هذه الإشكالية اللغوية التي ابتدعها بعض الكتاب ممن لا يتقنون اللغة، أو يحاولون التقليل من شأنها هي ما فكرنا فيه حينما قرأنا المجموعة القصصية "وطن ضيق" للقاص الفلسطيني أحمد عبد الحميد عيسى؛ حيث لاحظنا الاهتمام الكبير من الكاتب باللغة التي هي أداته الأولى، بل واستمتاعه باستخدامها؛ الأمر الذي جعل من أسلوبه السردي شكلا من أشكال المتعة المتخم بالكثير من الشاعرية؛ نظرا لامتلاكه معجما لغويا شديد الثراء يحتمل الكثير من التأويلات، وهو ما يجعلنا نقول في نهاية الأمر: إن الكاتب يمتلك أسلوبا مرهفا في التعامل مع اللغة؛ مما أكسبه أسلوبية سردية تخصه في هذه المجموعة؛ حيث الأسلوب في وجه من وجوهه هو كيفية التعامل مع اللغة، أو إمكانية تطويعها.
هذه الشاعرية أو الأسلوبية هي من نلمحه في قصته "بين السحاب" منذ المفردة الأولى: "حملتها رغم سنى عمرها الستة، إلى غصن شجرة عال عليها، فاختطفت حبة تين وابتلعت نصفها، أنزلتها فابتسمت، لتظهر أسنانها والفراغ بينها، مضحك كما عودتنا عندما يمتزج مع لثغة حروفها، قالت لي: تركتُ لك نصفها. مسحتُ على شعرها الأسود الجميل في حنان، ترهقني أكثر حين تبتسم، حين تحنو عليّ وأنا الأقدر منها- نظريا- على ذلك، فتشعرني بالضياع، أتيه بها ولا أملك إلا أن أترك دمعتي تسقط في صمت، أحاذر أن تراها". ربما كانت الشاعرية التي يمتلكها أسلوب الكاتب في هذه القصة سببه هو الموضوع الذي يتحدث فيه؛ حيث يتحدث عن صغيرته التي اكتشف إصابتها بالسرطان، وانتظار فقدانها بين الفينة والأخرى. إن هذا الانتظار الدائم والقلق لفقدان الصغيرة أكسب أسلوبه الكثير من الشجن والمشاعر اللذين أكسباه الكثير من الشاعرية فنراه يقول: "احتضنتها بكل الحب، حتى ظنت أني أعتصرها، هربتُ منها إلى منزلي الحزين، إلى مرآتي التي تشهد دموعي كل ليلة، بكيتُ، تركت لدموعي العنان، نسمة، زهرتي الحبيبة التي تذبل أمامي، نسجتُ من شوقي أغنية حروفها صامتة، دندنتُ لنفسي بلحن حزين، أحاذر أن يسمعه غيري، حتى وجدتها- فجأة- صارت خلفي، قالت لي: هل سأموت يا أبي؟ أنظر بعين ملتاعة، كانت تعرف؟ كنت متيقنا من هذا، لا شك شعرت بدموعي كل ليلة، منذ خرجتُ بها من غرفة الطبيب، منذ اكتشفنا مرضها الخبيث، منذ فقدتُ بعضا من روحي، ما أصعب تلك اللحظة على نفسي!".
من خلال هذا السرد المغرق في الشجن والشاعرية يكتب عبد الحميد عيسى قصته، ولأن طفلته تريد إخباره بأنها ليست حزينة؛ لأنها حينما تموت سيكون بإمكانها أن تلمس السحاب، يعمل الأب الحزين على تحقيق أمنيتها ليرى سعادتها ترتسم على وجهها: "فتحتُ لها باب سطح المنزل، دخلت وتبعتني، لتجد سحابة كبيرة من القطن تتدلى أمامها، نظرتْ حولها إلى النجوم التي خبا بريقها أو كاد، مدت يديها على اتساعهما، لتلمس السحابة، فانتشت.. شعرتُ برجفة خفيفة في أوصالها تمتد لأوصالي وأنا أجلس على ركبتي أمامها، وعدتها أن تحتضن سحابة كل ليلة، وقلتُ وقد جفت دموعي: لكن لا تموتي". من خلال هذا الاقتباس الأخير يعمل القاص على إنهاء قصته التي تتميز بالكثير من الشاعرية الأسلوبية؛ حيث ساعده الموضوع الذي يتحدث فيه، وفيض المشاعر، وانتقاء المفردات التي تساعده على إيصال المعنى للقارئ الذي لا بد له أن يتأثر به، يتضافر مع ذلك اللغة التي يمتلكها وعمق مفرداته وثراءها.
هذا الثراء والمقدرة اللغوية والأسلوبية نراها أيضا في قصة "ليلة واحدة"؛ حيث نلاحظ لغة سردية متماسكة، معبرة، فيها الكثير من الإيحاء من خلال استخدام القليل من المفردات التي تؤدي المعنى وتصل إليه مباشرة فيكتب: "تراقصت أمامي، مشرقة كألف شمس، رمت نفسها في حضني، ألقت بدلالها عليّ، طلبت مني احتواءها، راوغتني بشفتيها، أرادت أن أقبلها، أن أرتمي أمام أنوثتها صاغرا، احتضنتها، مررت بشفتي على ثغرها، أغمضت عيني، قاومت شعورا جارفا بترك نفسي أمام رغباتي، دفعتها أمامي دفعا إلى السيارة، أجلستها في مقعد القيادة، وجلست أنا بجوارها فانطلقتْ"، من خلال هذا الاقتباس الذي بدأ به القاص قصته نلمح اللغة اللاهثة المتقطعة السريعة التي تؤدي المعنى بإيجاز من دون أي تزيد، ولعل مقدرة القاص على هذه الأسلوبية تعود في نهاية الأمر إلى اتقانه للغتة ويقينه بأنها الوسيط الأول والوحيد الذي لا بد من الاهتمام به وعدم الاستهانة؛ كي يكون قادرا على التميز وإيصال ما يرغبه إلى القارئ.
يؤكد لنا القاص من خلال سرده أن السارد يشعر نحوها بالكثير من التشكك وأنها خانته مع شخص آخر؛ لذا فهو يُعد العدة كي يتخلص منها ويقضي عليها، لكننا نكتشف في نهاية السرد أنها لم تكن تخونه وأن ظنونه مجرد توهمات يتوهمها هو ويصدقها: "في يدي حبل غليظ لا تراه هي، وفي جيبي خنجر لا تلحظه، وفي عقلي شكوك تزن مثل الأرض وما عليها، ليس كل ما يلمع ذهبا، عرفت هذا يا ليلى.. بالأمس رأيته معها، كان طويلا نحيفا، نظرته تحمل كل الشر الكامن في أعماق النفس، رأيته يدخل فيها، يقتحم كيانها، كانا في وضع حميمي، الشك في أعماقي استحال حقيقة واقعة، والحقيقة أصبحت صورة لا تقبل أي شك، لم يكن أمرا يمكن مواجهته، لم أتمكن ليلتها من النوم، أو مغادرة غرفتي، حطمت المرآة الوحيدة في حمامي، وصممت على الانتقام، لست أنا من تخونينني يا فتاة، لست أنا من تلعبين مع غيره بعد أن قضيت معه أوقات فراغك". هنا يتأكد للقارئ أن ثمة خيانة فعلية حدثت وتأكد منها السارد؛ ومن ثم فهو يُعد العدة للانتقام منها، لكن المؤلف كان يمتلك من أدوات السرد ما يجعله يثبت لنا بعدما انسقنا خلفه وصدقناه فيما ذهب إليه إلى أن نكتشف أن كل ما سرده كان مجرد وهما توهمه، وهو في هذه الأسلوبية أو الآلية السردية إنما يتشابه مع آليات السينما التي نُطلق عليها "الانقلاب"، أو "التويست"، أي إيهام المشاهد بصدق كل ما ذهب إليه الفيلم ثم لا يلبث أن يحدث الانقلاب الذي يفاجئنا ويؤكد أن المخرج قد غرر بنا وجعلنا نصدق ما ذهب إليه في حين أنه كان يتلاعب بنا وبمتابعتنا للحدث؛ فنراه يكتب: "أرفع ذراعي، بكل ما أوتيت من قوة، يكبلني من الخلف شيء ما، أنظر في مرآة سيارتي، إنه صديقها، ذاته من سمحت له بلمسها، ذاته النحيل الطويل، يكبلني من الخلف. نظرة عتاب في عينيه كأنه يعرفني! تنظر لنا في دهشة، في هلع تنقل بصرها بيني وبين المقعد الخلفي، ترعبها نظراتي. أخيرا أحرر ذراعي، أهم بفعلها. صراخ وصرير.. تجاوزت الحمقاء الشارع لتضربنا بسيارة مسرعة. انقلاب، أصوت مدوية، صراخ المارة، طنين يرهق أذني. بعض الأيادي تسحبني، أرقدوني بجوارها، فنهضت في لهفة، أنظر إليها، أستغيث بنفسي من نفسي. عيناها مغمضتان، الدماء تغطي صدرها، الضحكة انطفأت من وجهها، الحياة فارقتها. بكيتُ، ضربتُ الأرض بقدمي، أحسستُ بفعلتي، وبعجزي وضعفي، يصرخون: لقد أصيب. أبحث عنهم فلا أرى غير نفسي، ركضت رغم دمائي عائدا إلى السيارة، أفتش عنه، ذلك النحيل، فلا أراه رغم زجاج النافذة المكسور، ولا يراني". هنا يؤكد لنا القاص أنه يتلاعب بالسرد وبالقارئ معا، بل هو يرى أن عملية السرد في حد ذاتها مجرد ملعبا للمتعة واللهو؛ فهو يتلاعب من خلالها بنا، ويلهو بالسرد القصصي مستمتعا متملكا أدواته التي تساعده على فعل ذلك بسهولة.
التلاعب بالسرد ورغبة القاص في التأكيد على امتلاكه لأدواته السردية من خلال هذا التلاعب نلحظه في قصته "بطولة على الطريق"؛ حيث نكتشف في نهاية القصة المغزى منها والمفارقة التي أراد الكاتب أن يسوقها لنا: "سريعا كنت أنطلق غير آبه بالحد الأعلى من السرعة المسموح بها داخل المدينة، وكانت هي بجواري تغوص بمقعدها وهي تشعر بالنشوة إذ ترى المدينة تصغر خلفها ويبدو كل شيء خلفنا وكأننا تركناه، بصقناه إلى الأبد. لما دخلنا في طريق غير ممهد، اضطررتُ لتقليل السرعة، وخففت صوت المذياع قليلا، فصرخت بجواري أن توقف. نظرتُ إلى ما أثار انتباهها، كانت قطة صغيرة مسكينة قد انزلقت داخل حفرة بجانب الطريق ولم تستطع الخروج فلم تكن تسمع إلا صوت موائها الذي يثير الشجن. أوقفتُ السيارة وانحنيت إلى الحفرة محاذرا أن تتسخ أطرافي، كانت بعض السيارات قد توقفت خلفي وانتظرني أصحابها في صبر يشاهدون عملية الإنقاذ المحدودة التي أقوم بها. بعد محاولات استطعت إنقاذا لقطة، جلستُ على مقعد القيادة منتفخ الأوداج. دستُ على دواسة الوقود بكل قوتي.. سمعت صوتا غريبا أسفل العجلات. تذكرتُ الآن أنني وضعت القطة أمام السيارة تماما، ولم تكن منْ بجواري قد انتبهت وهي تهتف بي: هيا يا بطلي. ولم يشاهد الناس خلفي ما حدث فقد كانوا منهمكين بالتصفيق".
ربما حرصنا على اقتباس القصة بالكامل كما كتبها القاص للتدليل على مقدرته على صياغة قصة قصيرة مُحكمة تحمل في نهايتها المفارقة التي لم يكن ينتظرها القارئ، وهذا هو الشكل الحقيقي والنموذجي للقصة القصيرة بالفعل؛ حيث الجمل القصيرة اللاهثة، والمفردات الثرية المعبرة، والاقتصاد في استخدام اللغة، ثم الحدث السريع الذي يشبه اللقطة الفوتوغرافية الذي يؤدي بنا إلى مفارقة لم نكن ننتظرها كقراء ليتركنا الكاتب في فراغنا الخاص الذي صنعه لنا وأدخلنا فيه لإعادة تأمل الحدث والمشهد مرة أخرى من خلال مخيلتنا الخاصة.
هذه القدرة السردية على صياغة قصة قصيرة مكتملة نراها في قصة "حلم قصير جدا" حيث ينجح القاص من خلال القليل جدا من الكلمات في صياغة قصة نموذجية فيها الكثير من الأسلوبية الناضجة: "دخل بيته فوجدها بانتظاره، تزينت كأنها عروس، قبّلها من جبينها ونظر إلى الابتسامة التي تزين وجنتيها: لِمَ أراكِ سعيدة هكذا؟ يقولها وهي بين ذراعيه، فتحوطه بذراعيها كأنها تطير: مفاجأة بانتظارك. ينظر إلى مكتبه، رضَّاعة طفل صغير فارغة جديدة، وبداخلها كارت لف فيها بعناية، يقفز بكل شوقه للأطفال إليها، يفتحها، يقرأ ما فيها: أبي الحبيب: أنا قادم إليك. بجانبها ورقة لتحليل الدم، وعند خانة هرمون الحمل علامة الإيجاب. يقفز غير مصدق، يحتضن الورقة وزوجته وحتى رضاعة الصغير.. هاتفٌ يوقظه كأنه كان في حلم: عذرا نحن من المختبر، لقد أخطأنا التحليل". هكذا تنتهي القصة بشكل برقي وقد اكتملت تماما بشكل فيه من النضج السردي الكثير من دون أي شكل من أشكال التزيد؛ مما يجعل القصة محكمة البناء.
القاص الفلسطيني أحمد عبد الحميد عيسى
الإحكام السردي في بناء القصة القصيرة هو ما نراه مرة أخرى في قصة "بالطبشور الأحمر": في أي ركعة هو؟ نسي بسرعة كعادته، لم يعد يتذكر، وفكر بسرعة في حل يريحه من عناء إعادة الصلاة كل مرة. أحضر طبشورا أحمر، وقرر أن يكتب رقم كل ركعة على الأرض بعد كل سجود. بعد السجود الأول، كتب رقم واحد ثم اعتدل وهو يبتسم. في السجود الثاني، لمح بطرف عينه رقم واحد المرتسم بالطبشور على الأرض. استغرب وجود الرقم، فكر بسرعة: لماذا الرقم واحد؟ رأى سجادة الصلاة أمامه، فازداد دهشة: ماذا يفعل هنا أصلا؟ نظر حوله، أحس بغربة المكان. ثم تذكر ما كان يفعله فعاد إليه وآثار الطبشور الأحمر لم تزل بعد". من خلال هذه القصة يتضح لنا مدى مقدرة القاص على امتلاك أدوات السرد القصصي لكتابة قصة محكمة تمتلك كل آليات القصة القصيرة؛ فلم يذهب القاص هنا إلى إخبارنا بشكل مباشر إلى أن الرجل كان مصابا بالزهايمر، وأنه ينسى كل شيء، أي أنه لم يلجأ إلى الشرح؛ الأمر الذي قد يجعل قصته مهلهلة وتفقد الكثير من جمالياتها وآليات سردها، بل اعتمد على السرد نفسه الذي أوحى لنا، من خلال صياغته، بالمعنى الذي يتحدث فيه القاص.
المقدرة السردية نراها في قصة "تفاصيل" التي يعمل من خلالها القاص على إيهامنا بالأحداث التي يسوقها متحدثا عنها كواقع لا شك فيه، بينما ينتهي السرد القصصي كلحظة إشراق يؤكد فيها أن ما قرأناه وصدقناه كان مجرد وهم نجح الكاتب في إيهامنا به؛ نتيجة تدخينه لسيجارة مخدرة، وهو في هذا الفعل يحاول أن يستعرض أمامنا كقراء مقدرته السردية التي نجح من خلالها في التلاعب بنا إلى أن كشف الحقيقة هو في نهاية السرد، يبدأ الكاتب قصته فيكتب: "كانت مطاردة جنونية عبر شوارع المخيم وأزقته. كنت في حال تشبه الانهيار الكامل، خارج من إغماءة، أمشي الهوينى وأنا مستند للجدار عندما استوقفتني. قالت لي: يريدون أن يصبح قبطانا مثلهم وقد حلمت دوما أن يصبح طبيبا، ابني المسكين الذي يصدق أي شيء. نظرت إليها، حجمها كبير جدا، كل شيء فيها متضخم، ليست كما رأيتها آخر مرة. والدة صديقي أيمن، التي تخطط له كل شيء، تعطيه مصروفه وتخبره فيما ينفقه، تشتري له ملابس كثيرة وتختار له قميصه كل يوم، حتى أنا تخبره ألا يصادقني، إلا إذا احتاجتني لأقنعه بأمر ما، تماما كما يحدث اليوم"، من خلال هذا الاقتباس يتبين لنا أن الأمر طبيعيا وليس ثمة غرابة في الموضوع سوى أنه يرى أم صديقه كأنها تضخمت، لكنه يظن أنها ربما جاءت لقتله فأطلق لساقيه العنان وهرب منها بينما هي تجري خلفه راغبة في اللحاق به مما أكد له شكه في أنها تريد قتله؛ لأنه بالأمس كان في بيتها عند صديقه أيمن وحينما كان يبدل ملابسه دخلت نورا الصغيرة بنت السادسة عشرة لتقدم له الشاي فلم يحاول التواري عنها وظل عاريا أمامها راغبا فيها بينما أسرعت بالهروب من أمامه خجلة.
تدور مطاردة غير طبيعية بينه وبين أم صديقه إلى أن يتجه باتجاه باب الجامعة وهناك يسد أبوه عليه الطريق وينزل من سيارة جديدة فتلحق به، ويعطيه أبوه مفاتيح السيارة مخبرا له أنه وأم أيمن قد اختاراها له معا وأنها كانت ترغب في إخباره بذلك. هنا يكشف لنا القاص حقيقة ما حدث حينما يكتب: "قلت لأخي بعدما رجعت: لماذا لم تلتقطني عندما أُغمى عليّ؟ فقال أخي: لأني كنت منشغلا بإطفاء سيجارة مشتعلة سقطت من بين أناملك".
نلاحظ هنا أن القاص لم يحاول أيضا إخبارنا بأن السارد كان مخدرا، أو أنه تناول سيجارة مخدرة وأن كل ما حدث كان بسبب هذه السيجارة، بل ترك السرد يخبرنا بذلك من دون تزيد أو محاولة لإفساد فنية السرد وجعله مباشرا.
في قصة "الثمن" ينجح الكاتب في تصوير مدى التناقض الذي يفكر من خلاله الرجال تجاه النساء من دون أي ضجيج أو افتعال، أو مباشرة، أو صوت عال من جانب القاص، فالرجل يرى أن من حقه كل شيء في حين أن المرأة ليس من حقها أي شيء. هذه النظرة الذكورية التي يتعامل من خلالها الرجل مع المرأة يعبر عنها القاص بشكل فني هادئ فيه الكثير من الجمال من خلال موقف بسيط حينما يكتشف أحدهم خطابا أسفل وسادة زوجته، ولأنه قد تقدم به العمر ولم تعد لديه المقدرة أو الصبر على القراءة يأخذ الخطاب لحبيبته كي تقرأه له، وفي الخطاب يكتشف أن زوجته توجه الخطاب لرجل مجهول كانت الزوجة تراه كل يوم في الحافلة وهي ما زالت صغيرة فتعلقت به وشعرت أنها تحبه، ثم تُحدث الرجل المجهول عن حياتها وكيف تزوجها زوجها وكأنها مجرد جارية اشتراها بنقوده، وكيف كان يعاملها بكل سادية وقسوة طوال فترة زواجهما حتى الآن، ثم تخبر الرجل المجهول أنها ما زالت تحلم به وتحبه حتى اليوم، لكنها ستظل مخلصة لبيتها وزوجها، أما قلبها ومشاعرها فهما ليسا ملكها، ورغم أن كل هذه المشاعر لن تصل إليه إلا أنها سعيدة بالاحتفاظ بها في داخلها، هنا وحينما تنتهي الرسالة يتضح لنا مغزى القصة حينما نقرأ: "وهكذا تنتهي الرسالة والألم يرتسم قويا في ملامحه، كيف تفعل هذا به من أمنّها على بيته وشرفه؟ كيف تخونه مع أول رجل تلقاه في حافلة؟ صار يبكي كالأطفال وهو يدفن رأسه في صدرها، مسحت دمعته في حنان وقالت: واحبيبي، فماذا ستفعل الآن؟ سأقتلها، وأقتل حبيبها معها. في لهفة وخوف عليه تحسست شعره في حنو وقالت: لا، أرجوك لا تفعل، لا أريد أن أخسرك بعد حب دام عشرين عاما". بهذا الاقتباس الدال الذي أعطى القصة معناها الحقيقي والمدهش ينتهي السرد؛ ليتبين لنا أن الزوجة لم تخن زوجها خيانة حقيقية أو فعلية، بل هي تخاطب رجلا لا يعرفها ولا تعرفه، كما أن الخطاب كتبته لنفسها وليس لترسله إلى هذا الرجل الذي لم تعد تعرف عنه شيئا، بل هي لم تعرف عنه أي شيء سوى أنه كان شخصا ما يركب الحافلة التي تركبها دائما، بينما في المقابل نرى أن الزوج هو الخائن الحقيقي ومرتبط بامرأة أخرى منذ عشرين عاما، ورغم ذلك يرى أن زوجته هي الخائنة وهي من تستحق القتل في نظرة ذكورية عقيمة وكريهة ومنفرة نراها حولنا يوميا، ونجح القاص في التعبير عنها بشكل فني ناضج.
إذا كان السرد الفلسطيني يكاد يقع أسيرا للقضية الفلسطينية ومشكلاتها اليومية، ومجازر الاحتلال والمطالبة بالتحرر، والكثير من المشاهد الدموية التي يسببها الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، مثله في ذلك مثل الكثير من السرد الجزائري الذي لا يستطيع التحرر من تاريخ المقاومة للاحتلال الفرنسي للجزائر؛ فيظل كلا السردين أسيرين حقيقيين لهاتين القضيتين إلا فيما ندر لدى بعض الكتاب من الجهتين، فنحن نلاحظ أن القاص أحمد عبد الحميد عيسى كان من ضمن القلة من الكتاب الذين استطاعوا التحرر من هذه القضية التي قد تؤثر بالسلب على السرد الفلسطيني وتحوله إلى مجرد بكائيات لا تنتهي؛ وبالتالي انطلق إلى الإنساني والعام الذي يهم الجميع، وحينما كان يميل إلى الخاص المتمثل في القضية الفلسطينية كان يستخدمه من دون أي مباشرة أو بكائيات لا داع لها حتى لا يفسد سرده القصصي، هذا الانطلاق من الخاص إلى العام غير المفسد للسرد نراه جليا في قصته "لعبة الكبار" وهي القصة التي تنطلق من الخصوصية الفلسطينية حيث مجموعة من أطفال أحد المخيمات الذين يرغبون في الإيقاع بالعدو الإسرائيلي الذي كثيرا ما يهاجم قريتهم ويقتل أهلهم، وبالتالي يفكرون من خلال زعيمهم "عامر" في حفر العديد من الخنادق حول القرية حتى إذا ما أتى الإسرائيليون للهجوم عليهم يقعون في هذه الخنادق ثم يقوم الصغار برجمهم بالحجارة ليتخلصوا منهم، وبالفعل يقوم الصغار بحفر الكثير من الخنادق حول القرية وانتظار هجوم العدو عليهم، ولكن رغم هذه المشاعر الوطنية التي يشعر بها الصغار تجاه وطنهم، ورغم هذه المسؤولية التي يحاولون تحملها بدلا من الكبار الذين قُتل منهم الكثيرين، أو زُج بغيرهم إلى المعتقلات الإسرائيلية، إلا أنهم يفاجئون بأمر لم يصدقونه: "ربضوا وراء جدار، وفي جعبتهم حجارة صغيرة ستكون أسلحتهم لمواجهة قادمة. أمامهم، رأوا مجموعة من رجال المخيم، يحملون العصي والهراوات، كاد الصغار يقفزون من مكانهم فرحا، لكن عامر أشار لهم بالصمت، فقد كانت مجموعة أخرى من نفس المخيم تقترب، من زاوية أخرى، وفي أيديهم ذات الأسلحة الفتاكة في ظن الصغار. صمتٌ مريب، ثم ارتفع السلاح، أمام أعين الصغار، في مواجهة بعضهم البعض. ذُهل الصغار، ولم يدر أي منهم، عن سبب ما، مهما كان، يدعو آباءهم وأعمامهم لمواجهة بعضهم بعضا، وفي هذا الوقت العصيب بالذات. بدأت الأرض تتساقط تحت أقدام الكبار، في حفرة صغيرة مضحكة، وقعوا أرضا، على الطرفين، اقترب عامر ورفاقه بسرعة منهم، في أيديهم حجارتهم الصغيرة، التي كانوا يعدونها للحظة مختلفة، يتساءلون: هل نفعلها؟ لم يُجب عامر، اقترب من الحفرة بحذر، أغمض عينيه، أشاح برأسه بعيدا عنهم. ومد يده على امتدادها، ليعطي إشارة البدء".
بهذا المقطع تنتهي القصة التي تحمل الكثير من السخرية المريرة مما يدور حولنا في العالم العربي؛ فبينما يفكر الصغار في حماية وطنهم والذود عنه، نرى الكبار في معظم الدول العربية يخونون ويتقاتلون مع بعضهم البعض بدلا من التقاتل مع العدو الذي هو أولى بالقتال؛ لذلك كان من الطبيعي والمثير للسخرية المريرة أن يتصرف الأطفال مثل هذا التصرف بالهجوم على الكبار الذين يتقاتلون معا بدلا من التقاتل مع العدو. نلحظ هنا أن القاص انطلق بالفعل من الخاص لكنه أراد التعبير من خلاله عن العام الذي نراه في منطقتنا العربية المتقاتلة مع بعضها البعض بينما تترك العدو الأول لها يمرح ويثير الفساد ويسفك المزيد من الدماء بينما يبدأ العرب معه الكثير من التحالفات، أي أننا نعمل على هدم أوطاننا بأيدينا وبمساعدة أعداءنا بدلا من الوقوف جبهة واحدة في مواجهته.
في المجموعة القصصية "وطن ضيق" للقاص الفلسطيني أحمد عبد الحميد عيسى ثمة قاص يعرف كيف ينسج السرد القصصي بإحكام ونضح من خلال لغة سليمة متماسكة ثرية المفردات أدت إلى أسلوبية شاعرية تخصه وحده، كما أنه يُدلل لنا من خلال سرده على امتلاكه آليات السرد القصصي من خلال استعراضه كيفية التلاعب الفني أثناء سرد الكثير من القصص ليدلل على وجود العديد من الساردين المختلفين والمتميزين في السرد الفلسطيني وإن لم يحاول أحدهم الانتباه إليهم أو الإشارة لهم.



محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب
عدد إبريل 2020م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق