
إن اهتمام كوري إيدا
بالعلاقات الإنسانية لا سيما الأسرية منها ليست بالجديدة عليه؛ فهو الاتجاه الذي
يتخذه المخرج لنفسه كمسار في معظم أفلامه السينمائية، وهو ما سبق أن رأيناه من قبل
في فيلمه After the Storm بعد العاصفة 2016م، كذلك في فيلمه Like
father, like Son الابن كالأب
2013م، ربما نلاحظ في فيلمنا الحالي اهتمامه بالعلاقات الدافئة بين البشر، أي
العاطفة التي تربط بين الأشخاص وبعضهم البعض، لا سيما على مستوى تكوين الأسرة؛ وهو
الأمر الذي سيجعل المشاهد يغض البصر عن الأخلاقيات غير القانونية التي ينتهجها
أبطال الفيلم/ العائلة في مقابل علاقاتهم الأسرية المُتخمة بالكثير من الدفء
والترابط والعاطفة- حتى لو كانت ظاهرية أحيانا-.
يبدأ الفيلم على مشهد مُهم
وطريف للطفل شوتا- قام بدوره Jyo
Kairi جوي كايراي-
وأبيه أوسامو- قام بدوره الممثل الياباني Lily Franky لي لي فرانكي- اللذين يقومان بسرقة الطعام من أحد المتاجر الكبرى
من خلال تغطية الأب على الابن الذي يضع حصيلته من السرقة في حقيبته الصغيرة
المحمولة على الظهر بإسقاط سرقاته فيها ثم حملها على ظهره مرة أخرى، وهو من
المشاهد المُهمة التي تبدأ في رسم العالم الفيلمي والتي تُدلل على العلاقة القوية
من التفاهم بالإشارات بين الابن والأب، حتى أنهما ليسا في حاجة إلى الحديث بقدر
احتياجهما للنظرات والإشارات بينهما البعض.
نعرف فيما بعد أن الابن والأب
يقومان بسرقة احتياجاتهما واحتياجات الأسرة من الطعام فقط، أي أنهما لا يقومان
بسرقة أشياء ثمينة ليسا في حاجة إليها، بل مجرد الطعام من أجل إطعام الأفواه
الجائعة من الأسرة التي تتكون من الجدة الطاعنة في السن، وحفيدتها، وأم شوتا الذين
ينتظرونهما للعودة بحصيلتيهما من الطعام كي يسدوا جوع أمعائهم الفارغة.

تتكون الأسرة من الجدة هاتسو-
قامت بدورها الممثلة اليابانية Kirin Kiki كارين كيكي-
التي تعيش على معاشها التقاعدي وتنفق منه على الأسرة بالكامل رغم أنه لا يكفي
شيئا، وحفيدتها آكي- قامت بدورها الممثلة اليابانية Mayu Matsuoka مايو ماتسوكا- التي تعمل كبائعة جنس في أحد محلات الجنس، ونوبويو-
قامت بدورها الممثلة اليابانية Sakura Ando ساكورا
أندو- زوجة الأب أوسامو التي تعمل في مغسلة أحد الفنادق وتسرق ما تجده في جيوب ملابس
الزبائن، والتي يعمل زوجها بدوره كعامل بناء غير مثبت- باليومية-، والطفل الصغير
شوتا، ورغم أن أفراد الأسرة جميعا يعملون في العديد من المهن المتواضعة إلا أنهم
لا يستطيعون توفير متطلباتهم للبقاء على قيد الحياة؛ الأمر الذي يضطرهم إلى سرقة
طعامهم من المتاجر، ويعيشون في منزل شديد الضيق والصغر بغرفه المفتوحة على بعضها
البعض حتى أنه لا يوجد فيه أي خصوصية لأي منهم، فهو عبارة عن غرفة واحدة، تقريبا،
ينامون فيها جميعا متجاورين على أرضها.

في المنزل ترحب الأسرة
بالكامل بالفتاة الصغيرة، ويبدأون في التعامل معها بدفء وحميمية وكأنها فرد من
أفراد الأسرة، ويعطيانها المزيد من الطعام، ويعرفان أن اسمها يوري- قامت بدورها
الطفلة Miyu sasaki ميو ساساكي-.
تهتم الجدة هاتسو بالطفلة
وتقوم بإطعامها والتفتيش في جسدها فتلاحظ أن ثمة الكثير من الندوب على ذراعيها وكأنها
حروق، وحينما تسألها عن السبب فيها تخبرها الفتاة أنها وقعت، رغم أن الجدة تثق من
كون هذه الندوب آثار حرق وتعذيب للفتاة. حينما تنتهي الطفلة من طعامها تصر الزوجة
نوبويو على إعادة الطفلة إلى منزلها مرة أخرى حتى لا يتم اتهامهم باختطافها، لكنها
حينما تذهب مع الزوج في البرد الشديد من أجل إعادة الطفلة يسمعان صوت أبويها
يتشاجران بصوت عالٍ بينما تقول الأم: إنها لم يكن لديها الرغبة في إنجابها، حينما
يشكك الزوج في نسبها إليه!

يسوق المخرج العديد من
القوانين الخاصة بهذه الأسرة التي من الممكن أن تتناقض وتتعارض مع قوانين المجتمع،
لكننا من خلال مشاهدة منطق الأسرة وفقرها المدقع الذي لم يجعل الحياة بينهم تخلو
من الكثير من الدفء والعواطف؛ نستطيع التعايش مع منطقهم الخاص ضاربين بالمنطق
المجتمعي عرض الحائط. نلاحظ ذلك حينما تقول آكي قلقة: يبدو الأمر كأننا خطفناها،
فترد عليها نوبويو: لم نقم بحبسها، ولم نطلب فدية، أي أنها ترغب فقط في العناية
بها ومنحها المزيد من العناية والحب بدلا من أمها التي لا ترغبها وتقوم بتعذيبها.
كما نلاحظ أيضا قول أوسامو حينما يسأله الابن حول سرقتهما من المتاجر، يرد بهدوء
وكأن الأمر طبيعيا: ما يوجد في المتاجر لم يصبح ملكا لأحد بعد، كما أن المتاجر لا
تُفلس!

يبدو هذا الحب والتآلف بين
الفتاة والأسرة الفقيرة حينما تسأل نوبويو للجدة قائلة: هل تعتقدين أنها اختارتنا؟
لترد الجدة: عادة لا يمكنك اختيار والديك. والحقيقة التي يقدمها لنا المخرج هنا أن
الطفلة اختارت أن تكون هذه الأسرة هي أسرتها هروبا من أم لا ترغبها وتقوم بتعذيبها
في مقابل أسرة يحنو جميع أفرادها عليها ويعاملونها بالكثير من الرعاية والحب.


إن الحلم بمنزل آدمي وحياة
مُستقرة آمنة هو ما يجعل أوسامو ينطلق في أحلامه التي يُدرك جيدا أنها لا يمكن لها
التحقق في مجتمع قاس رأسمالي من دون قلب كمجتمع العاصمة طوكيو التي يسيطر عليها
رأس المال منحيا العواطف تماما من نفوس الجميع فيها.
هذه التفاصيل اليومية الصادقة
والتأكيد على أهمية المشاعر والروابط الأسرية الدافئة هي ما يعمل المخرج على
التأكيد عليها حينما نرى نوبويو تأخذ الطفلة يوري وتذهب مع الجدة من أجل سرقة
ملابس جديدة لها، وحينما تحاول جعلها تقيس الثياب نرى الطفلة خائفة، وترفض الثياب
الجديدة؛ فتسألها نوبويو عن السبب في رفضها؛ لتقول لها يوري: ألن تضربينني لاحقا؟
هنا ندرك من خلال المزيد من التفاصيل اليومية والحياتية أن أمها كانت تشتري لها
الملابس ثم تقوم بتعذيبها فيما بعد؛ الأمر الذي جعل نوبويو- الشاعرة بمشاعر
الأمومة الصادقة مع الطفلة- تأخذها في حضنها حينما تعودان إلى المنزل لتقول لها
بينما تحرق ثيابها القديمة: سبب ضربهم لك ليس لأنك سيئة، إذا ضربوك قائلين بأنهم
يحبونك؛ فهذه كذبة، لو أنهم يحبونك فعلا، فهذا ما سيفعلونه، ثم تعتصرها في حضنها؛
لتشعرها بالمزيد من الحب والاهتمام.

سنعرف فيما بعد أن الابن شوتا
ليس ابنهم في حقيقة الأمر، وأنهما اختطفاه حينما كان صغيرا من سيارة أبويه وعاملاه
باعتباره ابنهما، بل اهتما بتعليمه القراءة والكتابة أيضا، كما سنعرف أن أوسامو
ونوبويو ليسا زوجا وزوجة، بل ارتبطا ببعضهما عاطفيا حينما كانت نوبويو متزوجة،
وحينما اكتشف زوجها الأمر قاما بقتله باعتبارهما كانا يدافعان عن نفسيهما؛ لأنهما
إذا لم يقوما بقتله؛ لقتلهما هو، ثم قاما بدفنه معا، أي أن جميع أفراد الأسرة التي
تبدو لنا مُتماسكة عاطفيا ويخاف أفرادها على بعضهم البعض لا تربطهم أي علاقة دم مُطلقا
رغم كل هذه المشاعر الدافئة، وهو الأساس الذي بنى عليه المخرج فيلمه للتأكيد على
أن المشاعر هي التي تبني مفهوم الأسرة وليس آصرة الدم.
![]() |
المخرج الياباني هيروكازو كوريدا |
هنا يقدم المخرج مبررات هذه
الأسرة في الحياة، وهي مبررات مقنعة إل درجة بعيدة رغم عدم قبولها اجتماعيا؛ فحينما
يسأل المحقق أوسامو: ألا تشعر بالندم لجعلك الأطفال سارقين؟ يرد عليه بثقة مُطمئنة:
لم أعرف أي شيء آخر أعلمهم إياه. إن إجابة أوسامو المطمئنة هي بمثابة إدانة
للمجتمع بالكامل في اليابان، ومؤسسات الرعاية الاجتماعية؛ فهذه الأسرة وأفرادها لم
يجدوا من يلتفت إليهم أو يشعر بوجودهم وكأنهم بالفعل لا وجود مادي لهم، وهو ما
دفعهم في النهاية لانتهاج هذا الأسلوب في معيشتهم كي يستمروا على قيد الحياة.
![]() |
الممثل الياباني جوي كايراي |
سنلاحظ أيضا من خلال إجابة
نوبويو ثمة اتهام قاس للمجتمع الذي لا يمكنه رعاية أطفاله، بل يتجاهلونهم، أو
يرفضونهم، بل ويعملون على تعذيبهم أحيانا، وإخبارهم أنهم لا يريدونهم. أي أنها
كانت بالفعل صادقة ومُهاجمة لمجتمعها باعتبار أن الأم ليست من تلد في الحقيقة، بل
هي من تشعر بالحب والدفء تجاه الأطفال؛ لذلك كانت دموعها تنهمر على خديها حينما
احتضنت يوري بقوة وحرقت ملابسها القديمة التي كانت تذكرها بتعذيب أمها الحقيقية
لها.
إن الفيلم الياباني Shoplifting للمخرج الياباني هيروكازو كوري إيدا من الأفلام المهمة التي تحمل
داخلها الكثير من العاطفة والمشاعر الدافئة التي لا بد منها من أجل تكوين أسرة
سعيدة ومُكتملة وحقيقية، ورغم أن أفراد الأسرة بالكامل لم يكن يربط بينهم أي رابط
نسب حقيقي، إلا أننا كمشاهدين رأيناهم أسرة مُكتملة ونموذجية لما يجب أن تكون عليه
الأسرة في ترابطها وحبهم لبعضهم البعض، وخوفهم على مستقبل كل منهم رغم عدم وجود أي
مُستقبل لهم من الممكن له أن يبدو في الأفق، كما لا يفوتنا أنه رغم مشاعره الدافئة
فهو من الأفلام القاسية التي تذكرنا بالعالم الروائي للروائي الفرنسي فيكتور هيجو
حيث يسود الفقر الشديد، والاحتياج، والظلم الاجتماعي، والإهمال وعدم الشعور
بالكثير من الأنفس المُهملة رغم وجود مشاعر دافئة داخلها؛ الأمر الذي جعلهم يسرقون
من أجل استمرار حياتهم فقط، وهو من ناحية أخرى فيلم شديد القسوة، شديد الإيلام،
يمعن في تعرية المجتمع الرأسمالي الياباني بوحشيته حيث لا يعنيه الكثير من أفراده
الفقراء؛ ومن ثم يتعامل معهم باعتبارهم مجرد أشباح حقيقية لا وجود لهم بينهم.
![]() |
الممثل الياباني لي لي فرانكي |
محمود الغيطاني
مجلة الشارقة الثقافية
عدد مايو 2020م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق