السبت، 23 مارس 2024

خيمة 56: كوميديا الرغبة!

في الفيلم السوري الروائي القصير "خيمة 56" للمُخرج سيف شيخ نجيب ثمة محاولات عارمة لاقتناص الحياة، والاستمتاع بها قدر المُستطاع رغم الظروف المأساوية التي تُحيط بجميع شخصيات الفيلم، رغبة في التمسك بالمعنى الإنساني، والحاجات الأساسية التي إذا ما تم تجريد الإنسان منها، أو حرمانه من مُمارستها أدى ذلك لانهياره على المستويين النفسي، والجسدي، محاولة للتأكيد على أن المرء لا يمكنه الحياة من دون مشاعر، أو مُمارسته للحب حتى لو كان كل ما يحيط به هو الدمار الكامل لكل شيء.

ربما كانت الظروف المأساوية التي يحيا فيها الشعب السوري، والدمار الذي يحيط بهم، وحرمانهم من كل مُقتضيات الحياة الإنسانية، واضطرارهم إلى الحياة في مُخيمات بائسة لا تتوافر فيها سُبل الحياة البسيطة سببا قويا في تأمل هذا المأزق الذي لا يمكن وصفه بالحياة؛ ومن ثم تعاون المُخرج مع السيناريست سندس برهوم من أجل تأمل حياة هؤلاء البشر، وما يعانونه، وكيفية الحياة في ظل هذه الظروف، وطرح الأسئلة عن كيفية مُمارستهم لحقوقهم الطبيعية والبسيطة اليومية، وهل من المُمكن لهم التخلي عن مشاعرهم رغم هذا الخراب المُحيط بهم؟ الأمر الذي أدى إلى إنتاج هذا الفيلم باعتباره صرخة حقيقية في وجه ظروفهم، ومحاولة للتعبير عن هذه المُعاناة الغارقين فيها، وهذا هو دور الفن الحقيقي؛ التعبير عن الحياة، لا سيما المظلومين، ومن يعانون، وأثر أفعال البشر على شركائهم في هذا الكوكب الذي يعاني أغلب سُكانه لصالح قلة نادرة تستمتع بالسطوة، والقوة الغاشمة، والمال.


انطلق الفيلم- مثله في ذلك مثل أي شكل فني من تساؤل بسيط- كيف يحيا سُكان المُخيمات حياتهم الطبيعية رغم حرمانهم من كل مُقتضيات الحياة؟ وكيف يمارس الأزواج في مثل هذه المُخيمات حقوقهم الزوجية، والتعبير عن مشاعرهم لبعضهم البعض رغم أن الجميع في هذه المُخيمات يراقب الجميع، فضلا عن وجود الأطفال بينهم، وعدم امتلاك رفاهية انفراد الأزواج ببعضهم نظرا لعدم وجود مكان للعزلة، فهم يحيون في العراء؟ ما الذي يفعلونه بأطفالهم من أجل العزلة لدقائق يمارسون فيها مشاعرهم الضاغطة عليهم حد الانفجار- لا سيما أن كبت المشاعر الجنسية أشبه بقنبلة موقوتة لا بد لها من الانفجار في نهاية الأمر- هل سيمارسون الجنس أمام أطفالهم، أم سيؤدي الكبت والحرمان في نهاية الأمر إما إلى التحرشات الجنسية، أو المزيد من الانهيار لا سيما أن كل الدراسات تؤكد على أن الحرمان من الفعل الجنسي لا بد أن يؤدي بصاحبه إلى المزيد من التوتر، والقلق، وعدم السيطرة على أفعاله، مما يفضي إلى الاكتئاب في نهاية الأمر، بل والإصابة بالعديد من الأمراض منها الشيخوخة، وربما الهذيان الجنسي؟

الجنس في جوهره هو حاجة أساسية مثلها مثل غيرها من الحاجات الأساسية للإنسان، إذا ما تم حرمانه منها تؤدي بالضرورة إلى الاضطراب السلوكي، وعدم التركيز، والشعور بعدم قيمة الحياة، واللامُبالاه. وسيطرة الرغبة على المرء من شأنها أن تفقده الاهتمام بأي شيء آخر سواها، فيظل يدور في فلكها مُسيطرة عليه، غير قادر على التفكير في غيرها؛ ومن ثم لا بد من تفريغها بأي طريقة تفاديا لانفجارها بأي شكل- سواء بالمُمارسة الطبيعية، أو بمُمارسة الاستمناء- وبما أن الفيلم يتعرض لمجموعة من الأزواج داخل المُخيم؛ فهم في حاجة إلى بعضهم البعض للتعبير عن مشاعرهم، وتفريغ طاقاتهم الجنسية التي لا بد أن تسيطر عليهم، لكن وجود الأطفال مع كل زوجين داخل الخيمة التي يعيشان فيها، فضلا عن تجسس الجميع على بعضهم البعض، ومُراقبتهم لبعضهم، وعدم امتلاك السبيل للانفراد، أو وجود مكان يمكن الذهاب إليه، كل ذلك أدى إلى تحويل المُخيم إلى قنبلة من الرغبات على وشك الانفجار في أي وقت، وهو ما من شأنه أن يهدد السلام الاجتماعي بينهم كمُجتمع صغير، فضلا عن الشعور بالاكتئاب الذي تشعر به جميع الشخصيات، والقلق والتوتر نتيجة لكبت الرغبات.


إنهما القلق والتوتر اللذان عبر عنهما المُخرج بضرب أحد الأزواج لزوجته، تنفيسا عن توتره الشديد، فضلا عن سب أبو سعيد- قام بدوره المُمثل السوري علاء الزعبي- لزوجته صبا طوال الوقت- قامت بدورها المُمثلة السورية نورا يوسف- وعدم مقدرته على التعامل معها بطبيعية، بالإضافة إلى سبه لأطفاله، والشعور اتجاههم بالضيق والتذمر- وربما الكراهية المُؤقتة- لأنه يرى أنهم السبب الأساس الذي يمنعه من مُمارسة الجنس مع الزوجة؛ مما يزيد من توتره وقلقه، وبالتالي يصب هذا الغضب، وطاقته المكبوتة على الزوجة والأطفال.

يفتتح المُخرج فيلمه باستعراض الكاميرا السريع للمُخيم، لكنه سُرعان ما ينتقل إلى مشهد صبا التي يظهر وجهها من ثقب في جدار الخيمة بينما زوجها خلفها مُمارسا معها للجنس، إلا أنها حينما تلحظ طفلهما يقترب من الخيمة؛ تدفع زوجها سريعا، مُخبرة إياه بأن الطفل قادم؛ الأمر الذي يؤدي إلى حرمانهما من استكمال علاقتهما الجنسية.


إذن، فالمُخرج هنا يدخل في موضوعه الراغب في الحديث عنه بشكل مُباشر، أي أنه يقتحم العالم الفيلمي الذي أنشأ من أجله فيلمه من دون أي مُقدمات أو فلسفات- سيطرة الرغبة على شخصياته الفيلمية وأثر حرمانهم منها على سلوكهم مع بعضهم البعض- لذا حينما تدفع صبا زوجها أبو سعيد بعيدا عنها خشية دخول طفلهما عليهما في الخيمة ورؤيته لهما، يخرج أبو سعيد إلى باب الخيمة وحينما يمر طفله من أمامه يسأله بنفور عن مقصده، ولكن حينما يرد عليه الطفل بأنه ذاهب إلى رفقائه من الأطفال كي يلعب معهم يضربه أبو سعيد ويسبه- فلقد كان مُجرد مروره بالقرب من الخيمة سببا في قطع علاقته الجنسية مع الزوجة، ومن ثم المزيد من الكبت والحرمان- الطفل هنا يبدو كعدو يؤدي إلى حرمانه من رغبته.

إن سيف نجيب هنا إنما يصور لنا ببلاغة فنية، فيها الكثير من الاقتصاد البعيد عن الثرثرة أثر الحرمان من الرغبة على السلوك الشخصي- القلق والتوتر والعنف- فضلا عن دخوله إلى قلب عالمه الفيلمي مُباشرة من دون الكثير من الاستعراضات التي لا داعي لها- فالطفل الذي مر بالقرب من الخيمة كان سببا في خشية الأم، وبالتالي أدى ذلك إلى الحرمان.


إذن، فوضع المُشاهد في قلب الحدث مُنذ المشهد الأول كان هدفا أساسيا للمُخرج للتعريف بالعالم الفيلمي، ومن أجل استكمال هذا العالم المُتخم بالرغبات المكبوتة التي هي على وشك الانفجار سينتقل بنا إلى مشهد آخر نرى فيه أميرة وزوجها- قامت بدورها المُمثلة السورية صفاء سُلطان- يمارسان مُتعتهما في خيمة تربية الأغنام واقفين محاولين التستر بين الحيوانات، بينما يتلصص عليهما أحد شباب المُخيم المُراهقين، وهو ما يُعبر عن مُعاناة جميع الشخصيات في التواصل خفية، بعيدا عن أعين الآخرين- لاحظ أن الرغبة مُسيطرة على الجميع حتى المُراهق.

الرغبة في التعبير عن المأزق الذي تحيا فيه الشخصيات الفيلمية، وتقديم مُفردات العالم الفيلمي تتبدى لنا في المشاهد التأسيسية للفيلم؛ حيث نرى أبو سعيد بعد نوم الأطفال في المساء مع زوجته النائمة إلى جوار الصغيرة، فيطلب منها هامسا مُمارسة الجنس إلا أنها ترفض الانصياع له بسبب الطفلة، أي أن ثمة حرمان، أو رغبة ناقصة طوال الوقت من شأنها أن تجعل هذه الرغبة مُسيطرة سيطرة كاملة وتامة على شخصيات الفيلم- الذكورية منها والأنثوية- وبالتالي العجز عن التفكير في أي شيء آخر.


إنه شكل من أشكال الجحيم الذي تعيش فيه الشخصيات الفيلمية، وهو ما يعبر عنه المُخرج ببلاغة في مشهد زوجات المُخيم المُجتمعات بينما يسيطر الحديث عن الرغبة وكيفية تفريغها على حديثهن؛ فنستمع إلى صبا تقول لجارتها أميرة: شربيه كافور- تقصد في ذلك زوج أميرة كي تضعف لديه الرغبة الجنسية- لكن أميرة ترد عليها: كافور؟! هاد قد الطور ما يحوّق فيه شي.

إن الحرمان من التواصل والتعبير عن المشاعر والرغبة يتجسد لنا بشكل صادق في قول أميرة لصبا: نفسي مرة واحدة من يوم ما جينا هنا ألبس له تفريعة، أرقص له، أدلع عليه، أعمل كيف النسوان، أرتمي بحضنه، ما في، ما في. نفسي أنام معاه على ريحة طيبة بدل ريحة الزبل اللي عششت في خشمي. لترد عليها صبا: استحي عاد الله لا يشبعش. لترد أميرة مُؤكدة: ما راح أشبع.


ألا يؤكد لنا حوار الزوجات هنا على المأساة الحقيقية التي يحيا فيها الجميع نتيجة للحرمان الجنسي الذي يعانون منه؟ إن الحرمان من التواصل مع الأزاواج أدى إلى تحول الحياة إلى مُجرد رغبة مكبوتة، مُسيطرة، خانقة، قادرة على تجريدهم من إنسانيتهم، وعدم التفكير في أي شيء آخر، أو فعل أي شيء سواها، أي أنهم قد داروا جميعا في فلكها وعجزوا عن الابتعاد عن التركيز والتفكير الدائم فيها.

إن حرمان الإنسان من حاجاته الأساسية لا بد أن يؤدي به إما إلى الانهيار الكامل والاستسلام- ومن ثم يفقد إنسانيته ومشاعره الطبيعية- أو محاولة الخروج من المأزق الذي يجد نفسه فيه بالتفكير في كيفية حل هذه الأزمة التي يعاني منها؛ لذا فإن صبا حينما ترى الأطفال أمام الخيمة يؤسسون لخيمة من أوراق الكرتون كي يختبئوا داخلها، ثم يأتي غيرهم من رفقائهم كي يهدمونها عليهم؛ تبدأ في التفكير، ومن ثم تُسرع لصديقتها أميرة مُخبرة إياها بفكرتها من أجل حل الأزمة التي يعاني منها سُكان المُخيم- مأساة الرغبة- حيث تفتق تفكيرها عن المُطالبة ببناء خيمة خاصة للأزواج بحيث يدخلها كل زوجين في ليلة- كل حسب دوره- من أجل قضاء مُتعتهما والليلة كاملة فيها: بدنا نطالب بخيمة إلنا، كل يوم واحدة تاخدها هي وجوزها، ويقعدوا ليلة كاملة.

تدفع الزوجات أزواجهن للمُطالبة ببناء الخيمة الزوجية- خيمة 56- في المُخيم، وهو ما ينساق إليه الأزواج سُعداء من أجل تفريغ رغباتهم مع زوجاتهم، ويبدأون بالمُطالبة بالأمر من المسؤول عن المُخيم، مُعبرين له عن مأزقهم وحاجتهم الماسة التي يشعرون بها.


تتبدى لنا هنا براعة السيناريست سندس برهوم في كتابة فيلمها بالتعاون مع المُخرج، فهي تتحدث عن إشكالية شائكة، شديدة الحساسية في المُجتمعات العربية- رغم أنها حق طبيعي وأساسي- فضلا عن أنها قد اختارت المُجتمع الذي تتحدث عنه في مُخيم للاجئين- أي أن الأمر قد يثير الكثيرين من المُتحفظين الذين لا يرون في الجنس حقا أساسيا، أو أنهم يوقنون من ضرورته التي لا غنى عنها، لكنهم يحاولون الهروب منه بتشدقاتهم التي لا معنى لها- فضلا عن فهمها للسيكولوجية الذكورية العربية، وهو ما عبرت عنه ببراعة حينما رأينا أبو سعيد يرفض فكرة الخيمة- رغم أنه الرجل الأول الذي رأيناه مُنذ بداية أحداث الفيلم الذي تسيطر الرغبة على تفكيره- فنراه حينما تقول له صبا: إن شاء الله بهمتكم أنتوا والرجال تجيبوا لنا إياها الخيمة. ليرد عليها مُستنكرا رافضا: نعم؟! فتقول: خيمة 56. لكنه يقول: بدك إيانا نفوت على هالخيمة قدام العالم وهما بيعرفوا ليش فايتين عليها؟! هادا بعدكش، ولو فاهماها كنتي تفكري بشيء أحسن من هادا الحكي. لتسأله مُستنكرة: إشي تاني مثل إيش يعني؟! نطلب يعطونا غرفة خاصة إلنا ولولادنا؟! شو؟ هلأ طمني، وافقوا؟ ليقول: شو بيعرفني؟ أصلا أنا لا روحت ولا جيت، ولا حكيت مع حدا. لتقول مُندهشة: لا روحت، ولا جيت، ولا سويت إشي، يعني راضيك وضعنا هيك؟! فيقول: اسمعي، هاي السيرة متحكيش فيها شيلة، عم تفهمي؟ ولا حرف بدي أسمع منك، لا تفتحي لي الموضوع، وبعدين أنت يا شاطرة لو فهمانة كنتي بتظبطيها هون مثل كل هالخلق والعالم. لتقول بينما تخرج من تحت وسادتها كيلوتا أحمر مُغرية إياه: قلت لك قدام لولاد لا.

أي أن السيناريو هنا إنما يعبر عن الازدواجية الذكورية، والعقلية العربية؛ فهو رغم سيطرة الرغبة عليه سيطرة كاملة حتى أنه لا يستطيع التفكير في أي شيء آخر سواها، يرفض الحل المُقترح في تخصيص خيمة للأزواج لمُجرد أن الآخرين سيكونون على علم بأنه يمارس الجنس مع زوجته في هذه الليلة، ورغم أن مُمارسة الجنس مع الزوجة شيء طبيعي ومنطقي، ويمارسه الجميع باعتباره حقا من حقوق الحياة الطبيعية بين أي زوجين إلا أنه يرفض دخوله وزوجته إلى الخيمة المُقترحة بينما الآخرين يعرفون ما يقومان به!


ألا يؤكد لنا ذلك على مقدرة السيناريست والمُخرج في التعبير عن الذهنية العربية التي تحاول إنكار حقها في الفعل الطبيعي في العلن، مُفضلة في ذلك الخفاء، والظلام، والإنكار أمام الآخرين، وكأنهم ملائكة- وفقا للمفهوم الأسطوري الديني- أو أنهم ُمُجردين تماما من الرغبة التي تأكلهم وتكاد أن تحيلهم إلى رماد من فرط اشتعالها؟!

إنها الرغبة المُشتعلة في الجميع لدرجة أن صبا حينما تبدأ في تنظيم أدوار الأزواج الذين سيدخلون الخيمة، تختلف الزوجات مع بعضهن البعض على أدوارهن، وتطلب أميرة دورا عاجلا، وحينما تسألها صبا: امتى يواتيكي؟ ترد عليها أميرة بدلال حالم، ورغبة مُستعرة: يواتيني؟ يواتيني كل يوم، وكل ساعة، وكل دقيقة، وكل ثانية. أي أن الرغبة تلتهم الجميع، مما يجعلهم غير قادرين على التركيز في أي شيء آخر سواها.

يبدأ جميع سُكان المُخيم بالفعل في التعاون من أجل بناء الخيمة، ونرى الزوجات في مشهد مُهم من مشاهد الفيلم بينما يحضرن الخيمة، ويعملن على تزيينها قدر استطاعتهن، وقد انطلقت الأغاني من حولهن، وبدت عليهن السعادة وكأنهن في ليلة عرسهن الأولى.

في مشهد من المشاهد المُعبرة عن ازدواجية الذهنية العربية- لا سيما الذكورية منها- نرى أبو سعيد جالسا أمام خيمته في الليلة الأولى بعد بناء الخيمة، بينما أميرة وزوجها داخل الخيمة، شاعرا بالحسد على ما يفعلانه، ويسأل صبا عن دورهما، إلا أنها تخبره مازحة بأنها لم تضع اسميهما في الدور لأنه لم يكن موافقا على الأمر مُنذ بداية اقتراح الفكرة؛ مما يؤدي إلى غضبه وثورته عليها، لكنها حينما تخبره بأن دورهما سيكون بعد عشرة أيام؛ يشعر بالسعادة البالغة، وترتسم الابتسامة العريضة على وجهه، وهو ما ينعكس على سلوكه تجاه ابنته الصغيرة، فقبل سؤاله لزوجته كان متوترا، شاعرا بالقلق، يتعامل مع الصغيرة برفض وعنف- السبب في الحرمان من المُتعة- ولكن بمُجرد معرفته بدوره ترتسم البسمة على وجهه، بل ويحتضن الصغيرة مُقبلا إياها.


لكن، لأن المآسي لا تأتي فرادى، تهب عاصفة شديدة على المُخيم في الليلة التي من المُفترض أن يذهب كل من أبي سعيد وصبا إليها؛ مما يؤدي إلى هدم الخيمة نتيجة الرياح والأمطار؛ فيتجه إلى زوجته وقد ارتسمت على وجهه كل علامات الحزن والأسى ليقول: خيمة 56 خلاص طيرها الهوا، خرا على حظك يا أبو سعيد.

إنها الكوميديا السوداء التي تشعرنا بالمزيد من الأسى على أحوال أهل المُخيم جميعا، فهم محرومون من كل وسائل الحياة ومُتعتها، وحينما توفرت لهم وسيلة للمُتعة الوحيدة التي من المُمكن لهم الحصول عليها، تواطأت عليهم الطبيعة مع حُكامهم الذين حرموهم من الحياة من أجل المزيد من السُلطة والمال، وبالتالي انهارت الخيمة تحت وطأة الرياح الشديدة.

لا يستسلم سُكان المُخيم للمأساة التي حلت بهم، ويبدأون مرة أخرى في بناء الخيمة، لنرى صبا وأبا سعيد في الليلة الموعودة داخل الخيمة، وبينما يمارسان حقهما في المُتعة تسقط إحدى الشموع التي تحيط بهم من أجل الإنارة على الثياب، ونتيجة لانهماكهما في النهل من مُتعتهما المحرومين منها لا ينتبهان إلى الشمعة التي اشتعلت في الخيمة بكاملها، لينتقل المُخرج على مشهد جميع سُكان المُخيم يحاولون إطفاء النيران وإنقاذ الخيمة، وحينما تأتي النيران على الخيمة التي تحولت إلى رماد تنتقل الكاميرا بالتبادل على مشهد النيران، ووجوه سُكان المُخيم المُتأملين للنيران بحسرة بالغة، وحزن عميق، لينتقل إلينا شعور المأساة التي يعيش فيها هؤلاء البشر.


هنا يغلق المُخرج فيلمه بتيترات النهاية وقد استحكمت المأساة على الجميع في تأكيد لنا على أن سعيهم من أجل نيل أقل حقوقهم في الحياة يشبه المأساة السيزيفية التي كلما وصلوا فيها إلى القمة ينهارون مرة أخرى إلى أسفل الجبل، لكن بمُجرد انتهاء تيترات النهاية يستكمل المُخرج فيلمه بمشهد مُضاف يؤكد من خلاله على أن سُكان المُخيم لم يستسلموا لقدرهم المُعاكس لهم، ومن ثم بدأوا مرة ثالثة في بناء الخيمة متعاونين جميعا في الفعل- أي أن الحاجات الأساسية للإنسان من شأنها أن تجعل الجميع في حالة من التعاون من أجل الوصول إليها- فضلا عن التأكيد بأن سُكان المُخيم لم يستسلموا للموت، بل ظلت طاقاتهم- رغباتهم- تحركهم من أجل الانتصار للحياة، والحق فيها، بالإضافة إلى ما في مفهوم الجنس العميق من إحالات لمعنى الحياة في مفهوم مُناقض للموت، وبما أن ما يعيشونه داخل المُخيم لا يحمل في جوهره سوى معنى الموت، والاستسلام، والثبات، والفناء، فإن الرغبة العارمة في مُمارسة الجنس هي المعنى المُقابل في التمسك بالحياة، والسعادة، والبهجة، والبقاء.


إن الفيلم السوري "خيمة 56" للمُخرج سيف شيخ نجيب من أفضل الأفلام المُعبرة عن الرغبة في الحياة، وعدم الاستسلام للخراب، والحروب، والتشريد، وتجريد الإنسان من إنسانيته، ورغم أن الفيلم يتحدث عن الرغبة الجنسية التي تُمثل حاجة أساسية للإنسان إلا أنه تناولها بشكل فيه قدر كبير من الكوميديا، لكنها الكوميديا المأساوية التي تؤدي إلى انهيار الحلم كلما تعاون سُكان المُخيم على الوصول إليه، إلا أنهم لا يستسلمون، ويبدأون من الصفر مرة أخرى من أجل التمسك بحقهم الطبيعي والأساسي في الحياة، أي أن الفيلم في مفهومه الأعمق لم يكن مُجرد التعبير عن الرغبة في الجنس بقدر تعبيره عن الرغبة في البقاء وسط كل هذا الخراب الذي يحيون فيه.

 

محمود الغيطاني

 مجلة "سومر" العراقية

عدد مارس 2024م

 

 

 

الجمعة، 15 مارس 2024

في مزاج للحب: التضحية بالذات مُقابل التوازن الأخلاقي!

في قصة تتحدث عن العشق والخيانة كان من المُمكن لها أن تكون شديدة الحسية والإثارة الجنسية مع أي مُخرج يتناولها فنيا يقدم لنا المُخرج الصيني Wong Kar-Wai وونج كار واي فيلمه الجيد In the Mood for Love في مزاج للحب من خلال اعتماده على المشاعر المُرهفة، وأحاسيس الحب البريئة المُعذبة، والحرمان من التواصل الجسدي مع من نحبهم، حتى أن عالم الرومانسية المُفرطة الذي رأيناه في فيلمه كان شديد المثالية، يقترب من فكرة الحب في جوهرها، أكثر من اقترابه من أرض الواقع، أي أنه اعتمد على الفكرة التي جعلته يحلق في عوالم من العشق؛ ليقدم لنا لوحة فنية مُكتملة نجح من خلالها في استخدام كل عناصر السينما وفنياتها التي لا بد لها أن تجلب لفيلمه النجاح والاقتراب من الاكتمال.

يحاول المُخرج- الذي كتب السيناريو أيضا- التركيز على مفهوم الوحدة القاسي الذي يكاد أن يقتل صاحبه في مدينة مُزدحمة لاهية مثل هونج كونج 1962م، والأثر القاسي للوقت في تعميق هذا الشعور بالوحدة، وهو في محاولته لتعميق أثر الوقت نلاحظ هوسه، الذي يكاد أن يكون مرضيا- بمُتابعة الوقت دائما بالتركيز من خلال الكاميرا على الساعات في كل مكان يصور فيه، باعتبار أن الساعة هي مُكون أساسي من مكونات الكادرات التي يقدمها للتدليل على أهمية الوقت في حياة الجميع، وما يفعله بنا- هل نتذكر هوسه بالوقت والساعات ودقات عقارب الساعة في الجزء الأول من هذه الثلاثية Days of being Wild أيام الجموح؟

إن هذا التركيز على أثر الوقت في حياتنا كان من أهم المُؤثرات التي عملت على تعميق المعنى الذي يذهب إليه من خلال القصة التي قدمها لنا، وكيف يستطيع الوقت أن يُعمق المشاعر، أو يعمل على قتلها وذبولها، أو من ناحية ثالثة تحويلها إلى ألم عميق في الروح لا يمكن لصاحبه التخلص منه، بل يدفنه داخله ليظل دائما يرزح تحت ضغط هذا الألم الذي لا يستطيع التخلص منه، فيتحول إلى نزف مُستمر لا يمكن له أن ينتهي.


يبدأ وونج فيلمه بهذه الكلمات التي كانت بمثابة التقديم على الشاشة: إنها لحظة من القلق، جعلت وجهها يحمر خجلا، منحته فرصة للاقتراب أكثر، لكنه لم يستطع أن يقترب، خانته الشجاعة؛ فاستدارت وانصرفت. مع مُتابعة أحداث الفيلم سيتأكد لنا مدى الارتباط العميق بين هذه الكلمات الافتتاحية وأحداثه.

لا يلبث وونج الدخول في أحداث فيلمه؛ فنرى في المشهد الأول سو لي- قامت بدورها المُمثلة الإنجليزية الجنسية الصينية الأصل Maggie Cheung ماجي تشانج- التي تتفق مع صاحبة مبنى سكني على استئجار إحدى غرفه للانتقال إليها في الوقت الذي يصل فيه إلى نفس المبنى تشاو- قام بدوره المُمثل الصيني Tony leung توني ليونج- ليتفق على استئجار غرفة مُجاورة لغرفة سو لي.


نعرف فيما بعد أن كل منهما متزوج، لكن زوجيهما مشغولان طيلة الوقت في العمل والعديد من السفريات خارج هونج كونج لا سيما اليابان. يعمل تشاو صحفيا في إحدى الصحف، ويكتب الروايات التي تهتم بفنون الدفاع الذاتي، ويكاد يقضي أغلب وقته وحيدا؛ بسبب عمل زوجته الذي يجعلها مُنشغلة عنه، كما تعمل سو لي كسكرتيرة في إحدى الشركات وتعاني من الوحدة العميقة كذلك بسبب عمل زوجها الذي يتطلب منه السفر إلى اليابان مُعظم الوقت.

أي أن المُخرج قد قدم لنا مُنذ بداية الفيلم شخصيتين متزوجتين تشعران بالوحدة العميقة، وجعلهما تتجاوران في السكن مُمهدا في ذلك لنشأة علاقة عاطفية بينهما، وكأنه يهيئ كل الظروف من أجل نشأة هذه العلاقة ومُباركتها بينهما.

لا يفوتنا حرص المُخرج على تصوير المُجتمع في هونج كونج في هذه الفترة من الوقت، لا سيما أنه يعمل على التركيز على الآفات الاجتماعية التي تعاني منها العديد من المُجتمعات في الأماكن المُكتظة بالسُكان، والتي تؤدي بسُكانها إلى السُكنى المتجاورة التي لا تترك لأي منهم مساحة من الخصوصية. نلاحظ هذا طوال أحداث الفيلم حيث الجميع يراقبون تحركات والتفاتات وتنفس بعضهم البعض؛ الأمر الذي يؤدي إلى تحويل هذا المُجتمع إلى ساحة من الثرثرة والنميمة، بل والتدخل في حياة الآخرين باعتبار أن هذا التدخل هو حق للجميع لا يمكن التذمر منه! نرى ذلك حينما تقول إحدى الجارات للأخرى قاصدة سو لي: زوجها دائما بعيدا، من المُحزن رؤيتها وحيدة، وقول أخرى قاصدة: هل تتأنق هكذا للخروج لتناول المكرونة؟ أي أن الآخرين يعطون لأنفسهم الحق في كل شيء حتى طريقة ملبس غيرهم!


إن محاولة التعبير عن مُجتمع ثرثار مُتلصص مُتدخل في شؤون الغير لا يقدمها المُخرج من خلال بعض المواقف فقط التي نرى فيها الجيران يتدخلون في شؤون غيرهم، بل هو يعتمد اعتمادا ذكيا على التعبير البصري من خلال الاستخدام الماهر والمُتقن للكاميرا التي نراها تكاد أن تكون كائنا حيا مُتربصا ومُتجسسا على الجميع طيلة الوقت؛ فيؤطر لقطاته من خلال فتحة في جدار، أو التصوير في الحارات والأزقة والأماكن الضيقة حيث تتابع الكاميرا شخصياته، أو من خلال النوافذ، والممرات، والمداخل، ودرج السلم الضيق في محاولة عمدية منه للتأكيد على أن الجميع يتابعون بعضهم البعض، ويتلصصون عليهم؛ الأمر الذي جعل الكاميرا نفسها تتلصص على شخصيات الفيلم في تأكيد منه على مفهوم التلصص الذي يسود الفيلم.

بالتأكيد لا يمكن إنكار أن مُجتمع بمثل هذا الشكل تصبح أي علاقة فيه خارج إطار الزواج أمرا مُستحيلا لا يمكن له أن يتم، أو هو مُجرد مشروع فضيحة ضخمة لا بد لها أن تسود بين الجميع، أي أن المُخرج هنا يحرص على وضع الكثير من العقبات أمام أي احتمالية لعلاقة عاطفية بين الاثنين.


يتقابل كل من تشاو وسو لي كثيرا بحُكم جيرتهما القريبة، إما أثناء دخولهما أو خروجهما، أو على سلالم البناية، أو أثناء شرائهما للمكرونة من البائع؛ فيتبادلا التحية الرسمية بينهما بينما يشعر كل منهما بوحدة الآخر. لكنه يطلب منها ذات مرة أن يلتقيا في أحد المطاعم للحديث مع بعضهما البعض؛ فتوافق.

حينما يلتقيا يبرر لها تشاو السبب في طلبه للقائها أنه تعجبه حقيبة يدها التي تحملها كثيرا؛ لذلك فهو يرغب منها أن تشتري له واحدة مثلها تماما كي يهديها لزوجته في عيد ميلادها الذي اقترب، لكنها تخبره أن هذه الفكرة ليست بالفكرة الصائبة لا سيما أنهما جيران، وهذا قد يدفع زوجته للتشكك في علاقة ما بينهما، فيسألها: ألا يصنعون منها ألوانا أخرى؟ فتخبره أنها لا بد لها من سؤال زوجها عن هذا الأمر لأنه هو من اشتراها لها أثناء إحدى رحلاته في العمل، أي أن هذا النوع من الحقائب لا يباع في هونج كونج، لكنها في ذات الوقت تسأله عن المكان الذي ابتاع منه ربطة عنقه؛ لأنها تعجبها وترغب في ابتياع واحدة لزوجها، فيخبرها أنه لا يعرف؛ لأن زوجته هي من اشترتها له أثناء رحلة من رحلات عملها، أي أنها لا تباع في هونج كونج!

هنا تخبره سو لي بأنها تعرف أن زوجته تمتلك حقيبة مُشابهة تماما لحقيبتها، كما يخبرها أنه يعلم بأن زوجها يمتلك ربطة عنق مُشابهة لربطته، ويعترفا معا أنهما يدركان بأن كل من زوجيهما على علاقة مع بعضهما البعض، وأنهما يخونانهما؛ الأمر الذي يسبب لهما الكثير من الألم بسبب هذه الخيانة.


لا يفوتنا أن المُخرج وونج كار واي لا يترك أمامنا شيئا للمُصادفة أو المُفاجآت غير المتوقعة، وهو يفعل ذلك بشكل من البساطة والبديهية الذكية، والإتقان ما يجعله يقترب بفيلمه إلى الكمال؛ فقبل أن يسوق لنا هذا اللقاء بين الزوجين لاحظنا أن ثمة العديد من المُؤشرات التي تؤكد لنا وجود خيانة تجاه كل منهما من الزوجين، منها مثلا حينما عاد زوج سو لي ذات مرة من سفره وأحضر معه أرزا من اليابان قدم منه لجميع سُكان البناية السكنية أثناء اجتماعهم للغداء في الردهة؛ فيطلب تشاو من سو لي أن تخبر زوجها برغبته في أن يأتي له منه، وحينما يفعل يحاول تشاو شكره وسؤاله عن المال المُدان له به مُقابل هذا الأرز، لكن زوج سو لي يخبره أن زوجته قد دفعت له، أي أن ثمة معرفة وعلاقة بين زوج سو لي وزوجة تشاو، وفي الوقت الذي يذهب فيه تشاو إلى مقر عمل زوجته من أجل اصطحابها للعشاء ذات ليلة يؤكد له موظف الاستقبال أنها قد انصرفت مُبكرا في حين أنها مُعتادة على العودة المُتأخرة للبيت دائما أثناء نومه، ولما يدعوه صديقه لتناول إحدى الوجبات يخبره بأنه قد رأى زوجته في الشارع في الليلة الماضية بصحبة أحد الرجال، أي أن المُخرج قد مهد جيدا وبشكل مُتقن لمُلاحظة الزوج لخيانة زوجته له فضلا عن مُلاحظته لحقيبة يدها المُشابهة لحقيبة سو لو؛ الأمر الذي جعله يتيقن بأن زوجته تخونه، وعلى علاقة بزوج سو لي.


كما أنه قد وضع أمام سو لي العديد من المُلاحظات التي تجعلها تتشكك في زوجها، منها غياب زوجة تشاو في نفس التوقيت الذي يغيب فيه زوجها، كذلك ربطة عنق زوجها المُتطابقة مع ربطة عنق تشاو، بالإضافة إلى المشهد المُهم الذي تقول فيه لرئيسها في العمل: تلك الرابطة تبدو جيدة عليك، فيرد عليها هل لاحظت؟ إنها تبدو مثل القديمة تماما، لكنها تقول: الأشياء تُلاحظ لو تنتبه إليه. إن هذه الجملة الأخيرة كانت بمثابة جميلة محورية ومُفتاح رئيس لتفسير العديد من الأمور؛ فالنساء بالفعل لديهن المقدرة على الانتباه إلى التفاصيل الصغيرة أكثر من غيرهن؛ لذلك فهي مُوقنة بأن زوجها يخونها مع زوجة تشاو.

يتقارب الزوجان المُنكسران والمجروحان، بسبب الخيانة، من بعضهما البعض، وتكثر لقاءاتهما، بل ويبدآن في مُمارسة لعبة تتمثل في أن كل واحد منهما يتخيل الآخر زوجه، ويحاولان توقع كيف يتعامل زوجاهما مع بعضهما البعض في حالة من حالات التقمص وتخيل ما يدور بينهما، وهو ما نراه مثلا حينما نراهما يسيران معا ليلا فتقول له سو لي مُتقمصة دور زوجته: الوقت مُتأخر ألن تشتكي زوجتك؟ فيرد عليها مُتقمصا دور زوجها: إنها مُعتادة على هذا، إنها لا تهتم. وماذا عن زوجك؟ فترد عليه: يجب أن يكون نائما حتى الآن. لكن سو تشعر بالكثير من الألم والجرح حينما تصل إلى هذه النقطة؛ ومن ثم لا تستطيع الاستمرار في التقمص قائلة: لا أستطيع قول هذا؛ فيرد عليها: أفهم ذلك، ومع هذا فهو يحدث. وحينما يلتقيان في أحد المطاعم نرى سو تطلب منه أن يختار لها الطعام الذي تتناوله زوجته، بينما تختار هي له الطعام الذي يفضله زوجها في حالة كاملة من تبادل الأدوار والإمعان في التعذيب والضغط على المشاعر.


ربما نلاحظ أن المُخرج حريص تماما من خلال الكادرات التي تنقلها الكاميرا على التركيز كثيرا على المشاهد التي تبدو فيها كفيّ كل من تشاو وسو لي اللتين تحملان خاتم الزواج والاقتراب منها في لقطات قريبة تبدو عفوية، وإن كان يقصدها المُخرج ويقدمها غير مرة؛ للتأكيد على قدسية علاقة الزواج التي لا يجب لأحد أن يتخلى عنها. هذه القدسية هي ما تجعل الزوجين المفجوعين حريصين كل الحرص على عدم التورط في أي شكل من أشكال العلاقات العاطفية أو الجنسية مع بعضهما البعض مثلما يفعل زوجاهما، وهو ما تؤكد عليه سو لي حينما تقول له: نحن لن نكون مثلهما، رغم أنها تعرف أن زوجته في نفس اللحظة مع زوجها حينما تقول له: زوجتك في اليابان، ماذا تعتقد أنهما يفعلان الآن؟

تتوثق العلاقة بين تشاو وسو لي وتعرف أنه يكتب مُسلسلا عن فنون الدفاع الذاتية، وتبدأ في مُساعدته في الكتابة، وذات ليلة حينما كان جميع السُكان في الخارج تدخل إلى غرفته لتساعده في الكتابة، لكن الجيران يعودون فجأة ويبدأون في لعب الورق في الردهة الخارجية؛ الأمر الذي يجعلها عالقة في غرفة تشاو غير قادرة على الخروج منها؛ فيخرج تشاو لابتياع الأرز لهما لسد جوعهما، لكن المُخرج هنا يعمل على تصوير المُجتمع الثرثار الذي يتدخل في شؤون الجميع بذكاء؛ فالجيران يسألون بعضهم البعض عن سبب دخولهم أو خروجهم، وعن سبب تأخرهم أو تبكيرهم؛ لذلك نرى أحدهم يسأله: هل ستتناول كل هذه الكمية من الأرز وحدك؟ كما نلاحظ أنها حينما يدخل الجيران لغرفهم وتستطيع الخروج من غرفة تشاو تقابل إحدى جاراتها أمام باب غرفتها والتي تقول لها: أراك عدت مُتأخرة، كما إني لم أرك وأنت تغادرين في الصباح.

إن هذه الحالة من الرقابة الثقيلة والمُقيدة لتنفس الجميع هو ما يدفع مالكة المبنى السكني لأن تقول لها: لقد كنت في الخارج مُؤخرا كثيرا، من حقك التمتع بنفسك؛ فأنت ما زلت شابة، لكن لا تبالغي، متى سيعود زوجك؟ لا تدعيه يسافر كثيرا مُستقبلا، الزوجان يجب أن يقضيا وقتا معا. إن هذه القيود والتلصص الدائم يجعلهما يشعران بالكثير من القلق رغم عدم وجود أي علاقة بينهما اللهم إلا أنهما يتعاطفان مع بعضهما البعض ويحاولان علاج جروحهما التي تسبب فيها زوجيهما؛ لذلك يخبرها تشاو أنه مُضطر إلى استئجار إحدى الغرف في أحد الفنادق من أجل لقائها فيه ومُساعدته في الكتابة.


تتردد سو لي كثيرا في الذهاب إلى تشاو في الفندق حينما يخبرها، لكنها في النهاية لا تستطيع الامتناع عن الذهاب إليه، وفي إحدى المرات التي يمارسان فيها لعبة التقمص وكأنها تُحادث زوجها تقول له: أخبرني بأمانة، هل لديك عشيقة؟ فيرد عليها: أنت مجنونة، من أخبرك أن لي عشيقة؟ فتقول: لا يهم من، هل لك عشيقة أم لا؟ وحينما يجيبها بالإيجاب تصفعه، لكن تشاو يقول لها: هذا ليس برد فعل، لو اعترف لك بشكل تام؛ فعليك أن تدعيه وشأنه، لكنها ترد باكية: ما كنت أتوقع أن يعترف بمثل هذه السهولة، وتبدأ بالبكاء الحاد قائلة: لم أكن أتوقع أن أشعر بالكثير من الأذى هكذا.

إذن، فنحن أمام زوجين يشعران بدرجة عميقة من الأذى والجرح بسبب ما يقترفه زوجاهما تجاههما؛ لذلك فهما مُتقاربان بشكل كبير رغم أنهما لا يرغبان في أن يكونا مثلهما ويرتكبان فعل الخيانة مع وجود كل العوامل المُمهدة لذلك، سواء الوحدة لكليهما، أو مُبرر الخيانة التي لا بد لها أن تُرد، أو وجودهما وحدهما في غرفته، أو الفندق، أي أن كل السُبل لا بد لها أن تمهد لفعل الخيانة الذي يمتنعان عنه ويحاولا جاهدان الابتعاد عن طريقه؛ لأنهما لا يمكن لهما أن يكونا مثلهما.

لكن مع وجود فلسفة الزمن والوقت التي ينتهجها المُخرج، والتي يؤكد من خلالها على أثر الزمن على كل شيء، سواء بالسلب أم بالإيجاب؛ فإنهما يشعران بالكثير من المشاعر اللاهبة تجاه بعضهما البعض، صحيح أنهما يعملان على كبت هذه المشاعر وعدم الاعتراف بها، لكنها تبدو ظاهرة وواضحة للعيان على وجهيهما، ومن خلال نظراتهما العاشقة لبعضهما البعض، وهو الأمر الذي لا يستطيع تشاو إخفائه أو احتماله؛ ومن ثم يخبرها أنه قد قرر السفر إلى سنغافورة، وحينما تسأله حزينة عن السبب في هذه الرغبة يقول: اعتقدت أننا لن نكون مثلهما، لكني كنت مخطئا، أنت لن تتركي زوجك؛ لذا فأنا أفضل أن أسافر، فتقول: أنا لم أفكر أنك ستقع في حبي، ليرد عليها: وأنا أيضا لم أفكر في هذا، المشاعر يمكن لها أن تزحف، اعتقدت إني كنت مُسيطرا على نفسي، لكني أكره مُجرد التفكير في عودة زوجك إلى البيت، أتمنى أن يبقى غائبا.

المُمثل الصيني توني ليونج

إن هذ الكبت الكبير لمشاعر كل منهما حتى لا تنفلت منهما ويقعا في نفس الخيانة التي وقع فيها زوجاهما- رغم مثاليتها المُفرطة والتي قد تبدو غير مُقنعة- من أجل مُجرد الحفاظ على التوازن الأخلاقي، أو التقاليد والقيم- رغم أن الطرف الآخر يفعل عكسها- يسوقها لنا المُخرج بشكل فيه من الفنية ما يجعل من فيلمه مُجرد مجموعة من اللوحات الفنية التي يضمها إلى بعضها البعض من أجل رؤية لوحة فنية ضخمة من العذاب والمشاعر الرومانسية العميقة اللاهبة والمكبوتة.

نجح المُخرج في إكمال هذه اللوحة الفنية من خلال المُوسيقى التصويرية التي لا تنمحي من الذهن ببساطة، ولفترة طويلة حتى بعد انتهاء الفيلم، واستخدامه الذكي والمُتقن للألوان والظلال القاتمة التي تتناسب مع الحالة النفسية والشعورية لكل من بطليه، حيث لعبت هذه الأدوات دورا لا يمكن له أن يقل أهمية عن دور المُمثلين في نقل الحالة العشقية والأزمة التي يعيشانها والتعبير عنها، أي أن وونج هنا يحاول الاستفادة من كل التقنيات والروافد الفنية والسينمائية التي من المُمكن لها مُساعدته في تقديم فيلم شديد الاكتمال، فضلا عن حرص المُخرج دائما على تصويرهما في الشوارع المُظلمة الخالية من البشر تماما تحت الأمطار الغزيرة؛ للتدليل على أن مُجرد العلاقة البرئية بينهما لا يمكن لها أن تكون أمام الآخرين في مثل هذا المُجتمع، وبالتالي لا بد لهما أن يكونا في الظلام والشوارع الخالية دائما.

المُخرج الصيني وونج كار واي
ينتقل تشاو إلى سنغافورة للعمل في فرع الجريدة هناك، وهنا ينتقل المُخرج إلى التأكيد على أن القدر يعمل على فساد هذه المشاعر ولا يرغب لها أن تكتمل أو تستمر حينما تلحقه بعد عام إلى سنغافورة، وتذهب إلى غرفته في الفندق الذي يقيم فيه وتظل تنتظره لفترة طويلة لكنه لا يعود إلى الغرفة؛ فتترك له سيجارة عليها بصمات طلاء شفتيها كدلالة على وجودها، كما تهاتفه في الجريدة لكنه حينما يرد عليها تمتنع عن الجواب وتعود أدراجها إلى هونج كونج.

هذه الرغبة من المُخرج في التأكيد على أن هذه العلاقة لا يمكن لها أن تستمر من أجل الإيغال في ألم الفراق يعود مرة أخرى في التأكيد عليه حينما يعود تشاو إلى هونج كونج عام 1966م، ويتوجه إلى البناية السكنية القديمة التي فارقها جميع سُكانها ليحاول رؤيتها، لكنه حينما يطرق باب الغرفة التي كانت تقيم فيها يؤكد له الساكن الجديد بأن جميع سُكان البناية قد غادروها وأتى سكان جُدد، حتى أن صاحبة البناية نفسها قد سافرت إلى ابنتها في الولايات المُتحدة، وحينما يسأله عمن يسكن غرفة صاحبة البناية الآن يخبره بأنها سيدة وحيدة مع ابن لها شديد اللطف؛ فيغادر البناية وحيدا، في حين ينتقل المُخرج في المشهد التالي إلى أن السيدة التي تسكن في الغرفة مع ولدها هي سو لي التي لم يعلم تشاو شيئا عن وجودها.

ينتهي وونج كار واي من فيلمه على مشهد تشاو في كمبوديا صاعدا إلى تلة ليهمس إلى أحد الثقوب في إحدى الأشجار بأسراره ثم يغلق هذا الثقب، إيمانا منه بالأسطورة التي تؤكد على أن القدماء حينما كانوا يرغبون في التخلص من أسرارهم التي لا يريدون لغيرهم أن يعرفوا عنها شيئا؛ فعليهم قولها في إحدى ثقوب الأشجار ثم إغلاقها، وهكذا يكون الشخص قد دفن سره إلى الأبد.

المُمثلة الإنجليزية الجنسية الصينية الأصل ماجي تشانج

يؤكد المُخرج الصيني وونج كار واي من خلال فيلمه "في مزاج للحب" على أن بعض العلاقات لا يمكن لها أن تستمر رغم جمالها ونقائها وبراءتها بسبب تقاليد المُجتمعات، وتوازنها الأخلاقي، رغم وجود آخرين يقيمون العديد من العلاقات غير الشرعية التي تدمر المُجتمع، وتدمر بالضرورة الأشخاص القريبين منهم، وهو في ذلك يميل إلى الذكريات والمشاعر المكبوتة التي حرص عليها طوال فيلمه بدلا من تحول الفيلم إلى شكل من أشكال العلاقات الجنسية الحميمة التي كان من المُمكن أن يتجه إليها الفيلم مع أي مُخرج آخر، لا سيما أن كل السُبل لذلك مُمهدة تماما؛ لذلك يغلق المُخرج فيلمه بكتابته على الشاشة: إنه يتذكر تلك السنوات المُنصرمة كما لو أنه ينظر إليها من خلال لوح زجاج مُترب، إن الماضي شيء يمكن له أن يُرى، لكنه لا يُمس، وكل شيء يُرى بصورة مشوشة غامضة.

لا يمكن إنكار أن هذه الدرجة العالية من الإتقان الفني وتقديم العديد من اللوحات الفنية التشكيلية في كل كادر من كادرات الفيلم تعود في المقام الأول إلى التعاون الدائم بين المُخرج وونج كار واي والمصور الاسترالي Christopher Doyle كريستوفر دويل الذي يمتلك من الحساسية في استخدامه للكاميرا باعتبارها كائنا حيا ما لا يتأتى للكثيرين من المصورين السينمائيين، لا سيما أنه كان يحرص على تقديم كل كادر مُستخدما الظلال والألوان التي توحي بالكثير من الإيحاءات، أو حرصه على وجود أحد الشخصيات في نصف الشاشة فقط بينما نرى النصف الآخر وقد غطاه ظهر أحدهما، أو جدار أو ستارة ما، فضلا عن استخدام الحركة البطيئة Slow Motion في الكثير من مشاهد الفيلم، وهي الحركة المُوحية بالكثير من المعاني التي ترتبط بالموضوع الرومانسي، وتوحي بالكثير من إيحاءات الرومانسية والعشق والألم والحزن. أي أن وجود المصور هنا كان من أهم الخيارات التي ساعدت المُخرج على تقديم فيلم لم يترك فيه أي أداة فنية من أدوات السينما إلا وعمل على استغلالها واستخدامها من أجل الصعود بفيلمه إلى درجة غير هينة من الاكتمال؛ فالمُخرج هنا يرغب من المُشاهد التعاطف مع البطلين بدلا من الشعور بالحزن عليهما أو رفضهما؛ لذلك فنحن لن نرى الزوجين الخائنين أمام الكاميرا مُطلقا بل هما غائبين طوال الوقت رغم حضورهما القوي في تحريك الحدث والعمل على تنمية مشاعر الزوجين الآخرين.

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد مارس 2024م

 

السبت، 9 مارس 2024

الصيد: مُجتمع من الغوغاء وجريمة يختلقها طفل!

كان المُخرج والسيناريست الدانماركي Thomas Vinterberg توماس فينتربرج من أهم المُخرجين الذين تعاونوا مع المُخرج الدانماركي Lars Von Trier لارس فون ترير من أجل تأسيس جماعة الدوجما السينمائية- دوجما 95- في أوروبا عام 1995م، وقد كان أول أفلام هذه الحركة السينمائية المُهمة والمُختلفة عن غيرها من السينمات الأخرى فيلم The Celebration الاحتفال للمُخرج توماس فينتربرج عام 1998م، لكن، رغم أن فينتربرج كان من المُؤسسين المُهمين والأوائل مع لارس فون، إلا أنه كان الأقل التزاما بالشروط العشرة التي وضعوها كجماليات للسينما التي يطمحون إليها، صحيح أنه كان يلتزم ببعضها من خلال أفلامه، لكنه لم يطبقها تماما كما وضعوها منذ البداية.

في فيلمه The Hunt الصيد، أو Jagten حسب عنوان الفيلم الأصلي في لغته الدانماركية نلاحظ أن فينتربرج يلتزم في هذا الفيلم مثلا باستخدام الإضاءة الطبيعية فقط من دون اللجوء إلى إضاءة الاستوديوهات أو استخدام أي لمبات إضاءة، كما يستخدم الكاميرا المحمولة المُتحركة التي لا بد لها من إعطاء إيحاء بحياة الكاميرا وتوترها تبعا للمشهد الذي يتم تصويره، ولجأ إلى التصوير أيضا في الأماكن الطبيعية والحقيقية، لكنه لا يلتزم مثلا بشرط عدم اللجوء إلى الموسيقى التصويرية والاعتماد على الأصوات الطبيعية الحية فقط، أو الضجيج المُحيط، بل لجأ إلى استخدام الموسيقى في فيلمه، صحيح أنه لم يعتمد عليها اعتمادا كبيرا، بل كان مُقتصدا في استخدامها والاعتماد عليها، لكنه خالف قاعدة من أهم القواعد التي تميز سينما الدوجما عن غيرها من السينمات الأخرى.

إذن، فتوماس فينتربرج- كمُؤسس رئيس لجماعة دوجما 95- أهم الحركات السينمائية الأوروبية- لم يكن مُلتزما بالشروط التي وضعوها لهذه الحركة السينمائية، بل كان التزامه بها مُتراوحا طيلة الوقت في أفلامه التي قدمها.


في بلدة صغيرة يعيش رجالها أوقات لهوهم على صيد الغزلان بالبنادق في الغابة المُحيطة بهم، وتناول الكحوليات في تجمعات وسهرات ذكورية كبيرة تخلو من النساء- حيث مُعظم أهل البلدة يعرفون بعضهم البعض ويرتبطون بعلاقات صداقة وثيقة؛ نظرا لصغر البلدة- نعرف أن شبابها من الذكور لا يمكن لهم مُشاركة رجالها في الصيد إلا حينما يبلغ الشاب منهم سن الرشد، ويُمنح رخصة للصيد؛ فيقومون جميعا بالاحتفال الصاخب به وإهدائه بندقية من أجل مُشاركتهم في الأمر- دلالة على أنه قد بات رجلا.

إن مُجتمعا بمثل هذا الشكل هو في حقيقته مُجتمع مُفرط في ذكوريته، بالغ العُنف، قابل للانفجار في أي لحظة؛ لأن بذور العُنف والشراسة كامنين داخله يتحينان اللحظة المُناسبة لهذا الانفجار. هذا الأمر قد يحدث فجأة لمُجرد شائعة لا دليل عليها، ولا يمكن التأكد من صحتها حتى لو أكدت الشرطة براءة من تم توجيه الشائعة إليه؛ فالمُجتمع هنا قد وجد ضالته التي يمكن صب بركان عنفه الكامن داخله عليها؛ وبالتالي سيظل المُتهم مُذنبا للأبد ليصبوا عليه غضبهم، وسبابهم، وعنفهم الجسدي الدامي، وعدائهم الذي قد يوصلهم في النهاية إلى قتله رغم براءته.


إنها سمات المُجتمعات الذكورية العنيفة التي قد تُمارس العنف على أقرب الناس إليها؛ لمُجرد تفريغ شحناتهم المقموعة داخلهم، كما يبدو الأمر من ناحية أخرى- وهذا هو الأهم- أن المُجتمعات مهما تقدمت في طور مدنيتها وتحضرها وتقدمها تظل النسبة الغالبة منها في طور القطيع والغوغاء؛ حيث يستطيعون إشاعة وبث الفوضى واللاقانون، وعدم احترام أي شيء- حتى لو أكد القانون عدم وجود جريمة- والاتفاق على إدانة شخص بريء إذا ما اتفقوا على ذلك محاولين عزله عن المُجتمع، أو مُمارسة عنفهم الجسدي عليه، أو حتى مُحاولة قتله في اعتقاد منهم أنهم يفعلون الصواب، ويحاولون حماية المُجتمع رغم أنهم لا يقومون سوى بسلوك غوغائي لا يمكن تقبله، يعمل على تقويض المُجتمع في حقيقة أمره.


يؤكد فينتربرج على هذا المُجتمع الذكوري منذ اللقطة الأولى في فيلمه حينما نرى لوكاس وثيو وبرون وغيرهم من رجال البلدة من الأصدقاء مُجتمعين أمام إحدى البحيرات للسباحة عاريين تماما.

يعمل توماس فينتربرج على التأسيس لعالمه الفيلمي منذ اللقطات الأولى فنرى لوكاس- قام بدوره المُمثل الدانماركي Mads Mikkelsen مادس ميكلسن- من أقرب الأصدقاء لصديقه ثيو- قام بدوره المُمثل الدانماركي Thomas Bo Larsen توماس بو لارسن- لذلك نراه طوال الوقت معه في منزله بين أسرته.

إن طول علاقة الصداقة بين كل من لوكاس وثيو، ونشأتهما معا منذ الصغر؛ تجعل كل منهما يعرف خصال، وردود أفعال، وكل شيء عن الآخر، حتى أن ثيو حينما يسأل لوكاس عن علاقته مع طليقته ويخبره لوكاس أن كل شيء على ما يرام يقول له ثيو: أعرفك حينما تكذب؛ أنت ترمش.

إذن، فثمة صداقة متينة بين الرجلين يهتم المُخرج ببيانها للمُشاهد من أجل المشاهد التالية في فيلمه؛ حيث المُفارقة بين الصديقين فيما بعد حينما تتطور الأحداث، صحيح أن لوكاس لديه صداقات مع جميع رجال القرية، وهي علاقات صداقة قوية لا سيما مع برون- قام بدوره المُمثل الدانماركي Lars Ranthe لارس رانثاي- لكن علاقة الصداقة التي تربطه بثيو تختلف كثيرا، وهي والأكثر متانة وقدما.

نعرف أن لوكاس مُطلق من زوجته التي تحتفظ بحضانة الأبناء، بل وتمنعه كثيرا من رؤية أبنائه إلا نادرا. ابنه الأكبر ماركوس- قام بدوره المُمثل الدانماركي lasse fogelstrøm لاس فوجلستروم- يرغب في الحياة معه، وتكاد أمه أن توافق على ذلك، كما نعرف أنه كان يعمل مُدرسا في إحدى المدارس التي أُغلقت، لكنه وجد عملا جديدا كمُدرس في روضة أطفال المدينة لأبناء أصدقائه جميعا، وهو من الشخصيات التي يعشقها الأطفال ويرتبطون به ارتباطا شديدا حتى أنهم ينتظرون قدومه يوميا إلى الروضة، وهذا ما أكده المُخرج في غير مشهد من مشاهد الفيلم للدلالة على أهمية العلاقة التي تربطه بأطفال البلدة بالكامل، وأنهم لا يستطيعون قضاء يومهم من دون وجود لوكاس.


يرتبط لوكاس بعلاقة صداقة قوية بكلارا- قامت بدورها المُمثلة الدانماركية Annika Wedderkopp أنيكا ويدركوب- ابنة الخمس سنوات، وابنة صديقه الأقرب ثيو. وهي الطفلة التي يريها أخوها المُراهق، على لوحه الإليكتروني، صورا بورنوغرافية لفتيات وأعضاء ذكورية ضخمة؛ مما يجعل خيالها ينشط في هذا الاتجاه؛ لذلك حينما نرى لوكاس ذات مرة مُنهمكا في اللعب مع الأطفال في الروضة بينما تتابعهم كلارا، تضع قلادة على شكل قلب في ورقة وتطويها لتكتب عليها اسمها، ثم تنخرط بين الأطفال وتضعها في جيب لوكاس ثم تقبله في فمه.

ينهض لوكاس مُستدعيا كلارا ويخبرها بأمر القلادة، لكنها تنكر بأنها من وضعتها له في جيبه، وحينما يخبرها بأن اسمها مكتوبا عليها تؤكد له أنها ليست صاحبة القلادة وربما أراد أحدهم أن يصنع منه أضحوكة، هنا يلومها لأنها قبلته في فمه ويحاول أن يشرح لها بأن الصغار لا يجب عليهم فعل ذلك؛ فتستاء منه وتخبره بأنه يكذب؛ ومن ثم ينطلق خيالها ضده بشكل انتقامي مُتضافرا مع الصورة البورنوغرافية التي رأتها على لوح أخيها الإليكتروني؛ لذلك حينما تراها جريث/ مُديرة الروضة- قامت بدورها المُمثلة الدانماركية Susse Wold سوسة وولد- في نهاية اليوم تجلس في الظلام وحيدة مُنتظرة قدوم أحد والديها لاصطحابها؛ تخبرها كلارا بأنها تكره لوكاس؛ فترد عليها مُندهشة: اعتقدت أنكما أصدقاء، فتقول لها: لا، أبدا، إنه غبي، وليس جميلا، ولديه قضيب؛ فتضحك جريث قائلة: كباقي الرجال، كأبي وشقيقك تورستن، لكن الطفلة تقول: نعم، ولكنه قوي كأداة ضغط؛ فتسألها جريث بقلق: ماذا حدث؟ لترد الفتاة: أعطاني هذا القلب، لكني لا أريده.


ثمة مُلاحظات مُهمة هنا لا بد من التوقف أمامها هنيهة: أولها مُلاحظة حوار الطفلة مع جريث؛ فهي حينما تحاول تبرير كرهها للوكاس نلاحظ أنها لا تجد المُبرر المُقنع الذي من المُمكن أن يدفعها لكرهه؛ وبالتالي نراها تقول بكلمات مُتقطعة محاولة التفكير بين كل واحدة منها: إنه غبي، وليس جميلا، وحينما لا تجد جملة جديدة أكثر إقناعا لهذه الكراهية التي تدعيها تقول: ولديه قضيب، أي أن الفتاة حينما حاولت البحث عن مُبرر أقوى في ذهنها، أو مُخيلتها لم تجد شيئا، لكنها تذكرت الصورة البورنوغرافية التي أراها لها أخوها، وهي صورة صادمة لفتاة في الخامسة؛ ومن ثم فقد أسقطت هذه الصورة التي تملأ خيالها على لوكاس من أجل كراهيته، أو تبرير الكراهية لجريث، أما المُلاحظة الثانية فهي: إمعان الفتاة في الكذب الذي يشعله ويقويه خيالها الخصب؛ ومن ثم نراها تدعي أن لوكاس هو من أعطاها قلادة القلب رغم أنها كانت ملكها هي، وهي من وضعتها له في جيبه كهدية، أو كدليل على حبها له، لكنه حينما قام بتأنيبها على تقبيلها له في الفم تغيرت مشاعرها تجاهه بالغضب، وهي المشاعر التي أطلقت عليها الكراهية.

إذن، فخيال الأطفال الجامح من المُمكن له أن يؤدي بهم إلى ادعاء أمور لم تحدث؛ ومن ثم تُحدث الكثير من الكوارث بسبب هذه الادعاءات. تشعر جريث بالكثير من القلق بسبب ما قالته كلارا ولا تستطيع التوقف عن التفكير فيه مُعتقدة أن لوكاس قد تحرش بالفتاة جنسيا وأخرج لها قضيبه؛ لذلك تستدعيه في اليوم التالي وتخبره أن أحد الأطفال قد أخبرها بأنه قد رأى قضيبه، وهو الأمر الذي يشعره بالكثير من الدهشة والصدمة، لكنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه أو فعل أي شيء سوى النفي، وهنا تطلب منه جريث أن يأخذ إجازة في الأيام القادمة إلى أن تقوم بحل الأمر.


تستدعي جريث أحد الأطباء النفسيين الذي يتحدث مع كلارا؛ فتنفي في البداية كل ما قالته، لكنه مع محاولة الضغط على الفتاة تعود وتؤكد ما قالته، وبأنها قد رأت قضيب لوكاس بالفعل! هنا تخبر جريث أم الفتاة/ أجنيس- قامت بدورها المُمثلة الدانماركية Anne Louise Hassing آن لويز هاسينج- بالأمر، كما تخبر جميع أهالي البلدة في اجتماع مجلس الآباء بأن لوكاس قد تحرش جنسيا بالفتاة وعليهم أن يتأكدوا من وجود أي علامات تحرش لدى أطفالهم كالتبول في الفراش، أو الشعور بالصداع؛ لأنه ربما تحرش بآخرين ولا يعلم أحد!

لا تكتفي جريث بما فعلته من دون وجود أي دليل، بل تُهاتف طليقة لوكاس وتخبرها بأنه مُتحرش جنسي بالأطفال؛ الأمر الذي يجعل ابنه ماركوس يُهاتفه باكيا ويخبره بما سمعه، لكن الأب يؤكد له أن الأمر مُجرد كذبة، وعليه ألا يصدق ما يُقال.


في هذا التوقيت كان لوكاس قد بدأ يرتبط عاطفيا بزمليته الأجنبية في الروضة ناديا- قامت بدورها المُمثلة السويدية Alexandra Rapaport ألكسندرا رابابورت- ولما تتشكك في لحظة أنه قد فعل ذلك بالفعل حينما يجمع جميع أهل البلدة على الأمر ويحكموا عليه اجتماعيا من دون وجود أي دليل مُعتمدين في ذلك على الهراءات التي اختلقتها الطفلة فقط؛ تقوم بسؤاله، لكنه ينفعل غاضبا ويقوم بطردها من منزله وإخبارها بأنه لا يريد رؤيتها مرة أخرى ما دامت تصدق أنه مُتحرش جنسي بالأطفال.

يتجه لوكاس إلى منزل ثيو من أجل الحديث معه، لكن ثيو يخبره في نهاية الأمر بأنه سيطلق رصاصة على رأسه إذا ما كان قد لمس ابنته بالفعل- لا بد أن نلاحظ هنا أن ثيو الذي يعرف لوكاس جيدا لطول صداقتيهما، ويعرف الأوقات التي يكذب فيها والأوقات التي يكون صادقا فيها لم ينتبه إلى كلام صديقه، بل اعتمد على كلام الفتاة فقط؛ ومن ثم تخلى عن لوكاس وصدق أنه من المُمكن له أن يعتدي على ابنته-

تتحول القرية بالكامل إلى عداء لوكاس والعمل على نبذه اجتماعيا فيما عدا صديقه برون الذي يصدقه ويشد من أزره، ويصل ابنه ماركوس للحياة معه، وحينما يتجه ماركوس إلى السوبر ماركت يخبرونه هناك بأن أباه غير مُرحب به في السوبر ماركت؛ لذا على الشاب أن يخبر أباه بذلك حتى لا يذهب للتسوق مرة أخرى. يعود ماركوس غاضبا إلى البيت لكنه يرى أباه وقد اقتيد مع ضباط الشرطة إلى القسم لاستجوابه.

حينما لا يجد الفتى مُفتاح باب المنزل؛ يتجه إلى منزل ثيو ليسأله عن نسخة بديلة للمُفتاح، لكنه يؤكد له أنه لا يمتلك أي نسخة، وحينما يدخل الشاب للحديث مع ثيو طالبا منه عدم التخلي عن أبيه، يرى كلارا ويحاول سؤالها عما رأت والسبب في أنها تكذب، لكن والديها يثوران عليه ويمنعانه من الحديث معها، هنا ينفعل الشاب؛ فيطرده ثيو وغيره من رجال القرية الذين كانوا ضيوفا في البيت، بل ويقومون بالاعتداء على ماركوس بدنيا.


يذهب ماركوس إلى منزل برون الذي يرحب به ويطمئنه على أبيه ويؤكد له أنه سيخرج ولا يمكن أن يُدان؛ لأن الأطفال يتحدثون عن أريكة وسرداب ما، وحينما فتش رجال الشرطة المنزل لم يجدوا أي سرداب في المنزل. في اليوم التالي يتم إطلاق سراح لوكاس الذي لا يوجد ضده أي دليل اتهام على الإطلاق؛ لذلك فهو بريء، لكن رغم هذه البراءة التي تؤكدها الشرطة، إلا أن المُجتمع بالكامل قد تحول إلى مجموعة من الغوغاء الذين يصدقون ما يرغبون في تصديقه، ويكذبون ما يحلو لهم؛ لذلك يصرون على إدانة لوكاس وعزله اجتماعيا، والتعامل معه باشمئزاز، وعنف لفظي وجسدي أيضا في إشارة من المُخرج بأن المُجتمعات في أغلبها مجموعة من الغوغاء التي لا يمكن لها أن تحترم القانون، أو تحاول أن تُعمل عقلها من أجل الوصول إلى النتائج الصحيحة أو الحقائق، وتصل بهم غوغائيتهم إلى أن يقوموا بخنق كلبته وإلقائها أمام باب بيته كشكل من أشكال الانتقام والإرهاب له.

يتجه لوكاس إلى السوبر ماركت من أجل ابتياع بعض المُشتريات، لكنهم يرفضون إعطائه أي شيء، بل ويقومون بالاعتداء البدني العنيف عليه، ويقومون بحمله وإلقائه في الخارج، لكنه يمتلك من الصبر والشخصية القوية القادرة على المُواجهة؛ ما يجعله ينهض ويدخل مرة أخرى ليلكم الرجل الذي ضربه برأسه في أنفه، ثم يُصرّ على أن يأخذ مُشترياته ويدفع ثمنها.


إن اليوم الذي تم فيه الاعتداء على لوكاس كان ليلة عيد الميلاد، وحينما يعود إلى بيته غارقا في دمائه بسبب الضرب يقوم بغسل وجهه وارتداء بدلة فاخرة، ويتجه إلى الكنيسة التي يجتمع فيها جميع سكان البلدة الصغيرة مُحتفلين ليواجههم بشجاعة مُتحدية.

ربما كان مشهد الكنيسة من المشاهد المُهمة والدالة في الفيلم؛ ومن ثم كان المُخرج حريصا على تقديمها لبيان أثرها على لوكاس، والتأكيد على غوغائية المُجتمع وتخلي ثيو عن صديقه الأقرب؛ فحينما دخل لوكاس الكنيسة التفت الجميع إليه مُندهشين باشمئزاز، كما أنه حينما حاول الجلوس على أحد المقاعد قامت السيدة التي كانت تجلس بجواره بخوف واشمئزاز وكأنها تحاول تجنب أحد الأمراض المُعدية، وظل ثيو ينظر إلى صديقه نظرات طويلة صامته. لكن حينما بدأ الاحتفال ودخل أطفال الروضة من أجل تقديم أغنية دينية ومنهم كلارا، ظل لوكاس ينظر لثيو نظرات طويلة مُتأملة لائمة حزينة وقد اغرورقت عيناه بالدموع، لكنه لم يستطع امتلاك زمام نفسه أو رباطة جأشه؛ وبالتالي قام مُتجها إلى ثيو ليصيح فيه غاضبا سائلا إياه: هل ترغب في الحديث معي، في أن تقول أي شيء؟ ثم يطلب منه أن ينظر في عينيه جيدا ويخبره إذا ما كان يرى فيهما شيئا- في إشارة منه إلى أن ثيو يعرفه إذا ما كان يكذب- يزداد انفعال لوكاس الذي يرى الجميع يظلمونه بهذا الشكل ويحكمون عليه بما يرغبونه ويعتقدونه؛ فيقوم بضرب ثيو بقسوة حتى ينزف وجهه ويخرج من الكنيسة.


حينما يجتمع أهل البلدة في منزل ثيو للاحتفال بعيد الميلاد يشعر بالكثير من الذنب والحنين إلى صديقه؛ لذلك يأخذ طعاما وزجاجة من الكحول ويتجه إلى منزل لوكاس الذي كان نائما؛ فيوقظه طالبا منه أن يتناول الطعام ويخرج زجاجة الكحول من جيبه كي يشربا مع بعضهم البعض. يطلب منه لوكاس الانصراف لكنه يخبره بأنه يرغب في البقاء والشرب معه، مما يُدلل على أنه قد صدق صديقه في أنه لم يعتد على ابنته أو يتحرش بها.

بعد هذا المشهد مُباشرة يكتب المُخرج على الشاشة بعد مرور عام؛ لنرى لوكاس يهبط من سيارة ومعه ناديا وابنه ماركوس عائدين إلى البلدة مرة أخرى في إشارة إلى أنه قد غادرها، بينما يستقبله جميع سكان القرية بترحاب- في إشارة إلى أنهم تأكدوا من براءته من هذه التُهمة الشائنة- ونعرف أنهم يستعدون للاحتفال ببلوغ ماركوس سن الرجال، وحصوله على رخصة صيد، وبأنه قد بات رجلا مثلهم يحق له مُشاركتهم في الصيد، ويهديه برون بندقية صيد مُؤكدا له أن أباه هو من اشتراها له، بل ويطلبون منه مُشاركتهم الشراب ما دام قد بات رجلا.

الممثل الدانماركي مادس ميكلسن

ينتقل المُخرج إلى الغابة حيث نرى لوكاس وماركوس وبرون وغيرهم من رجال البلدة في رحلة صيد الغزلان، لكن أثناء تجول لوكاس في الغابة تنطلق فجأة رصاصة بجانب رأسه مُباشرة، وحينما ينحني مُتجها ببصره إلى مكان انطلاقها يرى ظل أحدهم واقفا ومن خلفه ضوء الشمس الذي يحجب الرؤية الواضحة عن وجه من أطلق الرصاص الذي ينصرف حينما يراه لوكاس، ويغلق المُخرج فيلمه على هذه اللقطة!

إن مشهد النهاية الذي حرص عليه المُخرج الدانماركي توماس فينتربرج يكاد أن يكون مُلخصا بليغا لكل أحداث الفيلم الذي بلغ الساعتين من الزمن؛ فرغم أننا رأينا جميع أهل البلدة يستقبلون لوكاس مُرحبين به بعد عام، ورغم أنهم يحتفلون ببلوغ ابنه مبلغ الرجال في إشارة إلى أنهم قد تأكدوا من براءة لوكاس، إلا أن قانون القطيع والغوغاء ما زال مُستمرا لم ينته بعد، فهناك من يُصرّ على إدانة لوكاس رغم تأكد الجميع من براءته ورغم أن القانون قد برأه منذ البداية، وربما كان من حاول قتله هو صديقه ثيو- هل نذكر تهديد ثيو له بأنه سيطلق رصاصة على رأسه من أجل ابنته؟- صحيح أننا لم نر وجه من حاول قتله، ولم نعرفه، إلا أن ثيو لم يظهر بين الرجال الذاهبين في رحلة الصيد مع ابنه ماركوس، فإذا ما أضفنا التهديد السابق من المُمكن أن يكون هو من قام بهذا الفعل.

المُخرج الدانماركي توماس فينتربرج

إن الفيلم الدانماركي الصيد للمُخرج توماس فينتربرج من الأفلام المُهمة والحساسة والواعية التي تعمل على نقد المُجتمع الأوروبي لا سيما الدانماركي مُؤكدا من خلال فيلمه على أن المُجتمعات مهما بلغت درجتها من التحضر والتقدم، فإنها تحمل داخلها غوغائيتها وفوضويتها اللتين تعملان على تصديق ما ترغبه، ومُحاكمة الآخرين حسب الأهواء، وعدم احترام القانون، بل والتأكيد على أن الأطفال من المُمكن جدا لهم أن يكذبوا- وهم في الغالب يكذبون ويؤلفون الحكايات والقصص- لكن الآباء دائما ما يرون أن أطفالهم لا يمكن لهم الكذب أبدا؛ الأمر الذي يؤدي إلى الكثير من الكوارث بسبب هذه المُخيلة والكذب المُقنع. كما لا يفوتنا المشهد الذي قالت فيه كلارا لأمها: لم يفعل شيئا، لقد اختلقت هذا، هذا كل شيء، الآن كل الأطفال يتحدثون عن هذا، هذا ليس مُمكنا، لكن الأم ترد عليها: عزيزتي: إنه صعب الفهم، لكن يمكنه أن يحدث، عقلك يفضل أن ينسى ما حدث، إنه ليس من الجيد أن نُعيد التفكير، ولكنه حصل، ونحن سعيدون جدا أنك قلت لنا هذا! أي أنه رغم تأكيد الفتاة لأمها أنها قد اختلقت الحكاية وأنا كذبت، لكن الأم، التي لم تر أي شيء، تُصرّ على حدوث الأمر وتؤكد لابنتها أنه قد حدث بالفعل وأنها فقط تحاول أن تنسى ما حدث لها في إشارة من المُخرج وتأكيد منه على سيطرة التفكير الغوغائي على الجميع.

إن البطل الرئيس في فيلم الصيد للمُخرج توماس فينتربرج هو المُمثل الدانماركي مادس ميكلسن الذي أدى دوره بإتقان وبراعة وفهم جعله من أفضل الأدوار التي من المُمكن رؤيتها على الشاشة لشخص مُتهم مظلوم غير قادر على إثبات براءته من هذه التُهمة الشائنة، كما أدت الفتاة أنيكا ويدركوب دورها بطبيعية وتلقائية رغم صغر عمرها بشكل لا يمكن أن نشك فيه أنها تؤدي دورا أمام الكاميرا وتقوم بتمثيله، كذلك المُمثل لاس فوجلستروم الذي أدى دور ابن لوكاس المُراهق، أي أن الفيلم كان يتضمن مُباراة حقيقية في الأداء بين جميع المُمثلين؛ ما جعل الفيلم شديد التلقائية والصدق في كل ما رأيناه، كما أن السيناريو المُهم الذي شارك المُخرج في كتابته كان من السيناريوهات البليغة التي تعمل على انتقاد السلوك الاجتماعي للمُجتمع بشكل قاسٍ فيه الكثير من السخرية مما يحدث من حولنا.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة الشارقة الثقافية

عدد مارس 2024م