في الفيلم السوري الروائي القصير "خيمة 56" للمُخرج سيف شيخ نجيب ثمة محاولات عارمة لاقتناص الحياة، والاستمتاع بها قدر المُستطاع رغم الظروف المأساوية التي تُحيط بجميع شخصيات الفيلم، رغبة في التمسك بالمعنى الإنساني، والحاجات الأساسية التي إذا ما تم تجريد الإنسان منها، أو حرمانه من مُمارستها أدى ذلك لانهياره على المستويين النفسي، والجسدي، محاولة للتأكيد على أن المرء لا يمكنه الحياة من دون مشاعر، أو مُمارسته للحب حتى لو كان كل ما يحيط به هو الدمار الكامل لكل شيء.
ربما كانت الظروف المأساوية التي يحيا فيها الشعب السوري، والدمار الذي يحيط بهم، وحرمانهم من كل مُقتضيات الحياة الإنسانية، واضطرارهم إلى الحياة في مُخيمات بائسة لا تتوافر فيها سُبل الحياة البسيطة سببا قويا في تأمل هذا المأزق الذي لا يمكن وصفه بالحياة؛ ومن ثم تعاون المُخرج مع السيناريست سندس برهوم من أجل تأمل حياة هؤلاء البشر، وما يعانونه، وكيفية الحياة في ظل هذه الظروف، وطرح الأسئلة عن كيفية مُمارستهم لحقوقهم الطبيعية والبسيطة اليومية، وهل من المُمكن لهم التخلي عن مشاعرهم رغم هذا الخراب المُحيط بهم؟ الأمر الذي أدى إلى إنتاج هذا الفيلم باعتباره صرخة حقيقية في وجه ظروفهم، ومحاولة للتعبير عن هذه المُعاناة الغارقين فيها، وهذا هو دور الفن الحقيقي؛ التعبير عن الحياة، لا سيما المظلومين، ومن يعانون، وأثر أفعال البشر على شركائهم في هذا الكوكب الذي يعاني أغلب سُكانه لصالح قلة نادرة تستمتع بالسطوة، والقوة الغاشمة، والمال.
انطلق الفيلم- مثله في ذلك مثل أي شكل فني من تساؤل بسيط- كيف يحيا سُكان المُخيمات حياتهم الطبيعية رغم حرمانهم من كل مُقتضيات الحياة؟ وكيف يمارس الأزواج في مثل هذه المُخيمات حقوقهم الزوجية، والتعبير عن مشاعرهم لبعضهم البعض رغم أن الجميع في هذه المُخيمات يراقب الجميع، فضلا عن وجود الأطفال بينهم، وعدم امتلاك رفاهية انفراد الأزواج ببعضهم نظرا لعدم وجود مكان للعزلة، فهم يحيون في العراء؟ ما الذي يفعلونه بأطفالهم من أجل العزلة لدقائق يمارسون فيها مشاعرهم الضاغطة عليهم حد الانفجار- لا سيما أن كبت المشاعر الجنسية أشبه بقنبلة موقوتة لا بد لها من الانفجار في نهاية الأمر- هل سيمارسون الجنس أمام أطفالهم، أم سيؤدي الكبت والحرمان في نهاية الأمر إما إلى التحرشات الجنسية، أو المزيد من الانهيار لا سيما أن كل الدراسات تؤكد على أن الحرمان من الفعل الجنسي لا بد أن يؤدي بصاحبه إلى المزيد من التوتر، والقلق، وعدم السيطرة على أفعاله، مما يفضي إلى الاكتئاب في نهاية الأمر، بل والإصابة بالعديد من الأمراض منها الشيخوخة، وربما الهذيان الجنسي؟
الجنس في جوهره هو حاجة أساسية مثلها مثل غيرها من الحاجات الأساسية للإنسان، إذا ما تم حرمانه منها تؤدي بالضرورة إلى الاضطراب السلوكي، وعدم التركيز، والشعور بعدم قيمة الحياة، واللامُبالاه. وسيطرة الرغبة على المرء من شأنها أن تفقده الاهتمام بأي شيء آخر سواها، فيظل يدور في فلكها مُسيطرة عليه، غير قادر على التفكير في غيرها؛ ومن ثم لا بد من تفريغها بأي طريقة تفاديا لانفجارها بأي شكل- سواء بالمُمارسة الطبيعية، أو بمُمارسة الاستمناء- وبما أن الفيلم يتعرض لمجموعة من الأزواج داخل المُخيم؛ فهم في حاجة إلى بعضهم البعض للتعبير عن مشاعرهم، وتفريغ طاقاتهم الجنسية التي لا بد أن تسيطر عليهم، لكن وجود الأطفال مع كل زوجين داخل الخيمة التي يعيشان فيها، فضلا عن تجسس الجميع على بعضهم البعض، ومُراقبتهم لبعضهم، وعدم امتلاك السبيل للانفراد، أو وجود مكان يمكن الذهاب إليه، كل ذلك أدى إلى تحويل المُخيم إلى قنبلة من الرغبات على وشك الانفجار في أي وقت، وهو ما من شأنه أن يهدد السلام الاجتماعي بينهم كمُجتمع صغير، فضلا عن الشعور بالاكتئاب الذي تشعر به جميع الشخصيات، والقلق والتوتر نتيجة لكبت الرغبات.
إنهما القلق والتوتر اللذان عبر عنهما المُخرج بضرب أحد الأزواج لزوجته، تنفيسا عن توتره الشديد، فضلا عن سب أبو سعيد- قام بدوره المُمثل السوري علاء الزعبي- لزوجته صبا طوال الوقت- قامت بدورها المُمثلة السورية نورا يوسف- وعدم مقدرته على التعامل معها بطبيعية، بالإضافة إلى سبه لأطفاله، والشعور اتجاههم بالضيق والتذمر- وربما الكراهية المُؤقتة- لأنه يرى أنهم السبب الأساس الذي يمنعه من مُمارسة الجنس مع الزوجة؛ مما يزيد من توتره وقلقه، وبالتالي يصب هذا الغضب، وطاقته المكبوتة على الزوجة والأطفال.
يفتتح المُخرج فيلمه باستعراض الكاميرا السريع للمُخيم، لكنه سُرعان ما ينتقل إلى مشهد صبا التي يظهر وجهها من ثقب في جدار الخيمة بينما زوجها خلفها مُمارسا معها للجنس، إلا أنها حينما تلحظ طفلهما يقترب من الخيمة؛ تدفع زوجها سريعا، مُخبرة إياه بأن الطفل قادم؛ الأمر الذي يؤدي إلى حرمانهما من استكمال علاقتهما الجنسية.
إذن، فالمُخرج هنا يدخل في موضوعه الراغب في الحديث عنه بشكل مُباشر، أي أنه يقتحم العالم الفيلمي الذي أنشأ من أجله فيلمه من دون أي مُقدمات أو فلسفات- سيطرة الرغبة على شخصياته الفيلمية وأثر حرمانهم منها على سلوكهم مع بعضهم البعض- لذا حينما تدفع صبا زوجها أبو سعيد بعيدا عنها خشية دخول طفلهما عليهما في الخيمة ورؤيته لهما، يخرج أبو سعيد إلى باب الخيمة وحينما يمر طفله من أمامه يسأله بنفور عن مقصده، ولكن حينما يرد عليه الطفل بأنه ذاهب إلى رفقائه من الأطفال كي يلعب معهم يضربه أبو سعيد ويسبه- فلقد كان مُجرد مروره بالقرب من الخيمة سببا في قطع علاقته الجنسية مع الزوجة، ومن ثم المزيد من الكبت والحرمان- الطفل هنا يبدو كعدو يؤدي إلى حرمانه من رغبته.
إن سيف نجيب هنا إنما يصور لنا ببلاغة فنية، فيها الكثير من الاقتصاد البعيد عن الثرثرة أثر الحرمان من الرغبة على السلوك الشخصي- القلق والتوتر والعنف- فضلا عن دخوله إلى قلب عالمه الفيلمي مُباشرة من دون الكثير من الاستعراضات التي لا داعي لها- فالطفل الذي مر بالقرب من الخيمة كان سببا في خشية الأم، وبالتالي أدى ذلك إلى الحرمان.
إذن، فوضع المُشاهد في قلب الحدث مُنذ المشهد الأول كان هدفا أساسيا للمُخرج للتعريف بالعالم الفيلمي، ومن أجل استكمال هذا العالم المُتخم بالرغبات المكبوتة التي هي على وشك الانفجار سينتقل بنا إلى مشهد آخر نرى فيه أميرة وزوجها- قامت بدورها المُمثلة السورية صفاء سُلطان- يمارسان مُتعتهما في خيمة تربية الأغنام واقفين محاولين التستر بين الحيوانات، بينما يتلصص عليهما أحد شباب المُخيم المُراهقين، وهو ما يُعبر عن مُعاناة جميع الشخصيات في التواصل خفية، بعيدا عن أعين الآخرين- لاحظ أن الرغبة مُسيطرة على الجميع حتى المُراهق.
الرغبة في التعبير عن المأزق الذي تحيا فيه الشخصيات الفيلمية، وتقديم مُفردات العالم الفيلمي تتبدى لنا في المشاهد التأسيسية للفيلم؛ حيث نرى أبو سعيد بعد نوم الأطفال في المساء مع زوجته النائمة إلى جوار الصغيرة، فيطلب منها هامسا مُمارسة الجنس إلا أنها ترفض الانصياع له بسبب الطفلة، أي أن ثمة حرمان، أو رغبة ناقصة طوال الوقت من شأنها أن تجعل هذه الرغبة مُسيطرة سيطرة كاملة وتامة على شخصيات الفيلم- الذكورية منها والأنثوية- وبالتالي العجز عن التفكير في أي شيء آخر.
إنه شكل من أشكال الجحيم الذي تعيش فيه الشخصيات الفيلمية، وهو ما يعبر عنه المُخرج ببلاغة في مشهد زوجات المُخيم المُجتمعات بينما يسيطر الحديث عن الرغبة وكيفية تفريغها على حديثهن؛ فنستمع إلى صبا تقول لجارتها أميرة: شربيه كافور- تقصد في ذلك زوج أميرة كي تضعف لديه الرغبة الجنسية- لكن أميرة ترد عليها: كافور؟! هاد قد الطور ما يحوّق فيه شي.
إن الحرمان من التواصل والتعبير عن المشاعر والرغبة يتجسد لنا بشكل صادق في قول أميرة لصبا: نفسي مرة واحدة من يوم ما جينا هنا ألبس له تفريعة، أرقص له، أدلع عليه، أعمل كيف النسوان، أرتمي بحضنه، ما في، ما في. نفسي أنام معاه على ريحة طيبة بدل ريحة الزبل اللي عششت في خشمي. لترد عليها صبا: استحي عاد الله لا يشبعش. لترد أميرة مُؤكدة: ما راح أشبع.
ألا يؤكد لنا حوار الزوجات هنا على المأساة الحقيقية التي يحيا فيها الجميع نتيجة للحرمان الجنسي الذي يعانون منه؟ إن الحرمان من التواصل مع الأزاواج أدى إلى تحول الحياة إلى مُجرد رغبة مكبوتة، مُسيطرة، خانقة، قادرة على تجريدهم من إنسانيتهم، وعدم التفكير في أي شيء آخر، أو فعل أي شيء سواها، أي أنهم قد داروا جميعا في فلكها وعجزوا عن الابتعاد عن التركيز والتفكير الدائم فيها.
إن حرمان الإنسان من حاجاته الأساسية لا بد أن يؤدي به إما إلى الانهيار الكامل والاستسلام- ومن ثم يفقد إنسانيته ومشاعره الطبيعية- أو محاولة الخروج من المأزق الذي يجد نفسه فيه بالتفكير في كيفية حل هذه الأزمة التي يعاني منها؛ لذا فإن صبا حينما ترى الأطفال أمام الخيمة يؤسسون لخيمة من أوراق الكرتون كي يختبئوا داخلها، ثم يأتي غيرهم من رفقائهم كي يهدمونها عليهم؛ تبدأ في التفكير، ومن ثم تُسرع لصديقتها أميرة مُخبرة إياها بفكرتها من أجل حل الأزمة التي يعاني منها سُكان المُخيم- مأساة الرغبة- حيث تفتق تفكيرها عن المُطالبة ببناء خيمة خاصة للأزواج بحيث يدخلها كل زوجين في ليلة- كل حسب دوره- من أجل قضاء مُتعتهما والليلة كاملة فيها: بدنا نطالب بخيمة إلنا، كل يوم واحدة تاخدها هي وجوزها، ويقعدوا ليلة كاملة.
تدفع الزوجات أزواجهن للمُطالبة ببناء الخيمة الزوجية- خيمة 56- في المُخيم، وهو ما ينساق إليه الأزواج سُعداء من أجل تفريغ رغباتهم مع زوجاتهم، ويبدأون بالمُطالبة بالأمر من المسؤول عن المُخيم، مُعبرين له عن مأزقهم وحاجتهم الماسة التي يشعرون بها.
تتبدى لنا هنا براعة السيناريست سندس برهوم في كتابة فيلمها بالتعاون مع المُخرج، فهي تتحدث عن إشكالية شائكة، شديدة الحساسية في المُجتمعات العربية- رغم أنها حق طبيعي وأساسي- فضلا عن أنها قد اختارت المُجتمع الذي تتحدث عنه في مُخيم للاجئين- أي أن الأمر قد يثير الكثيرين من المُتحفظين الذين لا يرون في الجنس حقا أساسيا، أو أنهم يوقنون من ضرورته التي لا غنى عنها، لكنهم يحاولون الهروب منه بتشدقاتهم التي لا معنى لها- فضلا عن فهمها للسيكولوجية الذكورية العربية، وهو ما عبرت عنه ببراعة حينما رأينا أبو سعيد يرفض فكرة الخيمة- رغم أنه الرجل الأول الذي رأيناه مُنذ بداية أحداث الفيلم الذي تسيطر الرغبة على تفكيره- فنراه حينما تقول له صبا: إن شاء الله بهمتكم أنتوا والرجال تجيبوا لنا إياها الخيمة. ليرد عليها مُستنكرا رافضا: نعم؟! فتقول: خيمة 56. لكنه يقول: بدك إيانا نفوت على هالخيمة قدام العالم وهما بيعرفوا ليش فايتين عليها؟! هادا بعدكش، ولو فاهماها كنتي تفكري بشيء أحسن من هادا الحكي. لتسأله مُستنكرة: إشي تاني مثل إيش يعني؟! نطلب يعطونا غرفة خاصة إلنا ولولادنا؟! شو؟ هلأ طمني، وافقوا؟ ليقول: شو بيعرفني؟ أصلا أنا لا روحت ولا جيت، ولا حكيت مع حدا. لتقول مُندهشة: لا روحت، ولا جيت، ولا سويت إشي، يعني راضيك وضعنا هيك؟! فيقول: اسمعي، هاي السيرة متحكيش فيها شيلة، عم تفهمي؟ ولا حرف بدي أسمع منك، لا تفتحي لي الموضوع، وبعدين أنت يا شاطرة لو فهمانة كنتي بتظبطيها هون مثل كل هالخلق والعالم. لتقول بينما تخرج من تحت وسادتها كيلوتا أحمر مُغرية إياه: قلت لك قدام لولاد لا.
أي أن السيناريو هنا إنما يعبر عن الازدواجية الذكورية، والعقلية العربية؛ فهو رغم سيطرة الرغبة عليه سيطرة كاملة حتى أنه لا يستطيع التفكير في أي شيء آخر سواها، يرفض الحل المُقترح في تخصيص خيمة للأزواج لمُجرد أن الآخرين سيكونون على علم بأنه يمارس الجنس مع زوجته في هذه الليلة، ورغم أن مُمارسة الجنس مع الزوجة شيء طبيعي ومنطقي، ويمارسه الجميع باعتباره حقا من حقوق الحياة الطبيعية بين أي زوجين إلا أنه يرفض دخوله وزوجته إلى الخيمة المُقترحة بينما الآخرين يعرفون ما يقومان به!
ألا يؤكد لنا ذلك على مقدرة السيناريست والمُخرج في التعبير عن الذهنية العربية التي تحاول إنكار حقها في الفعل الطبيعي في العلن، مُفضلة في ذلك الخفاء، والظلام، والإنكار أمام الآخرين، وكأنهم ملائكة- وفقا للمفهوم الأسطوري الديني- أو أنهم ُمُجردين تماما من الرغبة التي تأكلهم وتكاد أن تحيلهم إلى رماد من فرط اشتعالها؟!
إنها الرغبة المُشتعلة في الجميع لدرجة أن صبا حينما تبدأ في تنظيم أدوار الأزواج الذين سيدخلون الخيمة، تختلف الزوجات مع بعضهن البعض على أدوارهن، وتطلب أميرة دورا عاجلا، وحينما تسألها صبا: امتى يواتيكي؟ ترد عليها أميرة بدلال حالم، ورغبة مُستعرة: يواتيني؟ يواتيني كل يوم، وكل ساعة، وكل دقيقة، وكل ثانية. أي أن الرغبة تلتهم الجميع، مما يجعلهم غير قادرين على التركيز في أي شيء آخر سواها.
يبدأ جميع سُكان المُخيم بالفعل في التعاون من أجل بناء الخيمة، ونرى الزوجات في مشهد مُهم من مشاهد الفيلم بينما يحضرن الخيمة، ويعملن على تزيينها قدر استطاعتهن، وقد انطلقت الأغاني من حولهن، وبدت عليهن السعادة وكأنهن في ليلة عرسهن الأولى.
في مشهد من المشاهد المُعبرة عن ازدواجية الذهنية العربية- لا سيما الذكورية منها- نرى أبو سعيد جالسا أمام خيمته في الليلة الأولى بعد بناء الخيمة، بينما أميرة وزوجها داخل الخيمة، شاعرا بالحسد على ما يفعلانه، ويسأل صبا عن دورهما، إلا أنها تخبره مازحة بأنها لم تضع اسميهما في الدور لأنه لم يكن موافقا على الأمر مُنذ بداية اقتراح الفكرة؛ مما يؤدي إلى غضبه وثورته عليها، لكنها حينما تخبره بأن دورهما سيكون بعد عشرة أيام؛ يشعر بالسعادة البالغة، وترتسم الابتسامة العريضة على وجهه، وهو ما ينعكس على سلوكه تجاه ابنته الصغيرة، فقبل سؤاله لزوجته كان متوترا، شاعرا بالقلق، يتعامل مع الصغيرة برفض وعنف- السبب في الحرمان من المُتعة- ولكن بمُجرد معرفته بدوره ترتسم البسمة على وجهه، بل ويحتضن الصغيرة مُقبلا إياها.
لكن، لأن المآسي لا تأتي فرادى، تهب عاصفة شديدة على المُخيم في الليلة التي من المُفترض أن يذهب كل من أبي سعيد وصبا إليها؛ مما يؤدي إلى هدم الخيمة نتيجة الرياح والأمطار؛ فيتجه إلى زوجته وقد ارتسمت على وجهه كل علامات الحزن والأسى ليقول: خيمة 56 خلاص طيرها الهوا، خرا على حظك يا أبو سعيد.
إنها الكوميديا السوداء التي تشعرنا بالمزيد من الأسى على أحوال أهل المُخيم جميعا، فهم محرومون من كل وسائل الحياة ومُتعتها، وحينما توفرت لهم وسيلة للمُتعة الوحيدة التي من المُمكن لهم الحصول عليها، تواطأت عليهم الطبيعة مع حُكامهم الذين حرموهم من الحياة من أجل المزيد من السُلطة والمال، وبالتالي انهارت الخيمة تحت وطأة الرياح الشديدة.
لا يستسلم سُكان المُخيم للمأساة التي حلت بهم، ويبدأون مرة أخرى في بناء الخيمة، لنرى صبا وأبا سعيد في الليلة الموعودة داخل الخيمة، وبينما يمارسان حقهما في المُتعة تسقط إحدى الشموع التي تحيط بهم من أجل الإنارة على الثياب، ونتيجة لانهماكهما في النهل من مُتعتهما المحرومين منها لا ينتبهان إلى الشمعة التي اشتعلت في الخيمة بكاملها، لينتقل المُخرج على مشهد جميع سُكان المُخيم يحاولون إطفاء النيران وإنقاذ الخيمة، وحينما تأتي النيران على الخيمة التي تحولت إلى رماد تنتقل الكاميرا بالتبادل على مشهد النيران، ووجوه سُكان المُخيم المُتأملين للنيران بحسرة بالغة، وحزن عميق، لينتقل إلينا شعور المأساة التي يعيش فيها هؤلاء البشر.
هنا يغلق المُخرج فيلمه بتيترات النهاية وقد استحكمت المأساة على الجميع في تأكيد لنا على أن سعيهم من أجل نيل أقل حقوقهم في الحياة يشبه المأساة السيزيفية التي كلما وصلوا فيها إلى القمة ينهارون مرة أخرى إلى أسفل الجبل، لكن بمُجرد انتهاء تيترات النهاية يستكمل المُخرج فيلمه بمشهد مُضاف يؤكد من خلاله على أن سُكان المُخيم لم يستسلموا لقدرهم المُعاكس لهم، ومن ثم بدأوا مرة ثالثة في بناء الخيمة متعاونين جميعا في الفعل- أي أن الحاجات الأساسية للإنسان من شأنها أن تجعل الجميع في حالة من التعاون من أجل الوصول إليها- فضلا عن التأكيد بأن سُكان المُخيم لم يستسلموا للموت، بل ظلت طاقاتهم- رغباتهم- تحركهم من أجل الانتصار للحياة، والحق فيها، بالإضافة إلى ما في مفهوم الجنس العميق من إحالات لمعنى الحياة في مفهوم مُناقض للموت، وبما أن ما يعيشونه داخل المُخيم لا يحمل في جوهره سوى معنى الموت، والاستسلام، والثبات، والفناء، فإن الرغبة العارمة في مُمارسة الجنس هي المعنى المُقابل في التمسك بالحياة، والسعادة، والبهجة، والبقاء.
إن الفيلم السوري "خيمة 56" للمُخرج سيف شيخ نجيب من أفضل الأفلام المُعبرة عن الرغبة في الحياة، وعدم الاستسلام للخراب، والحروب، والتشريد، وتجريد الإنسان من إنسانيته، ورغم أن الفيلم يتحدث عن الرغبة الجنسية التي تُمثل حاجة أساسية للإنسان إلا أنه تناولها بشكل فيه قدر كبير من الكوميديا، لكنها الكوميديا المأساوية التي تؤدي إلى انهيار الحلم كلما تعاون سُكان المُخيم على الوصول إليه، إلا أنهم لا يستسلمون، ويبدأون من الصفر مرة أخرى من أجل التمسك بحقهم الطبيعي والأساسي في الحياة، أي أن الفيلم في مفهومه الأعمق لم يكن مُجرد التعبير عن الرغبة في الجنس بقدر تعبيره عن الرغبة في البقاء وسط كل هذا الخراب الذي يحيون فيه.
محمود الغيطاني
مجلة "سومر" العراقية
عدد مارس 2024م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق