الجمعة، 15 مارس 2024

في مزاج للحب: التضحية بالذات مُقابل التوازن الأخلاقي!

في قصة تتحدث عن العشق والخيانة كان من المُمكن لها أن تكون شديدة الحسية والإثارة الجنسية مع أي مُخرج يتناولها فنيا يقدم لنا المُخرج الصيني Wong Kar-Wai وونج كار واي فيلمه الجيد In the Mood for Love في مزاج للحب من خلال اعتماده على المشاعر المُرهفة، وأحاسيس الحب البريئة المُعذبة، والحرمان من التواصل الجسدي مع من نحبهم، حتى أن عالم الرومانسية المُفرطة الذي رأيناه في فيلمه كان شديد المثالية، يقترب من فكرة الحب في جوهرها، أكثر من اقترابه من أرض الواقع، أي أنه اعتمد على الفكرة التي جعلته يحلق في عوالم من العشق؛ ليقدم لنا لوحة فنية مُكتملة نجح من خلالها في استخدام كل عناصر السينما وفنياتها التي لا بد لها أن تجلب لفيلمه النجاح والاقتراب من الاكتمال.

يحاول المُخرج- الذي كتب السيناريو أيضا- التركيز على مفهوم الوحدة القاسي الذي يكاد أن يقتل صاحبه في مدينة مُزدحمة لاهية مثل هونج كونج 1962م، والأثر القاسي للوقت في تعميق هذا الشعور بالوحدة، وهو في محاولته لتعميق أثر الوقت نلاحظ هوسه، الذي يكاد أن يكون مرضيا- بمُتابعة الوقت دائما بالتركيز من خلال الكاميرا على الساعات في كل مكان يصور فيه، باعتبار أن الساعة هي مُكون أساسي من مكونات الكادرات التي يقدمها للتدليل على أهمية الوقت في حياة الجميع، وما يفعله بنا- هل نتذكر هوسه بالوقت والساعات ودقات عقارب الساعة في الجزء الأول من هذه الثلاثية Days of being Wild أيام الجموح؟

إن هذا التركيز على أثر الوقت في حياتنا كان من أهم المُؤثرات التي عملت على تعميق المعنى الذي يذهب إليه من خلال القصة التي قدمها لنا، وكيف يستطيع الوقت أن يُعمق المشاعر، أو يعمل على قتلها وذبولها، أو من ناحية ثالثة تحويلها إلى ألم عميق في الروح لا يمكن لصاحبه التخلص منه، بل يدفنه داخله ليظل دائما يرزح تحت ضغط هذا الألم الذي لا يستطيع التخلص منه، فيتحول إلى نزف مُستمر لا يمكن له أن ينتهي.


يبدأ وونج فيلمه بهذه الكلمات التي كانت بمثابة التقديم على الشاشة: إنها لحظة من القلق، جعلت وجهها يحمر خجلا، منحته فرصة للاقتراب أكثر، لكنه لم يستطع أن يقترب، خانته الشجاعة؛ فاستدارت وانصرفت. مع مُتابعة أحداث الفيلم سيتأكد لنا مدى الارتباط العميق بين هذه الكلمات الافتتاحية وأحداثه.

لا يلبث وونج الدخول في أحداث فيلمه؛ فنرى في المشهد الأول سو لي- قامت بدورها المُمثلة الإنجليزية الجنسية الصينية الأصل Maggie Cheung ماجي تشانج- التي تتفق مع صاحبة مبنى سكني على استئجار إحدى غرفه للانتقال إليها في الوقت الذي يصل فيه إلى نفس المبنى تشاو- قام بدوره المُمثل الصيني Tony leung توني ليونج- ليتفق على استئجار غرفة مُجاورة لغرفة سو لي.


نعرف فيما بعد أن كل منهما متزوج، لكن زوجيهما مشغولان طيلة الوقت في العمل والعديد من السفريات خارج هونج كونج لا سيما اليابان. يعمل تشاو صحفيا في إحدى الصحف، ويكتب الروايات التي تهتم بفنون الدفاع الذاتي، ويكاد يقضي أغلب وقته وحيدا؛ بسبب عمل زوجته الذي يجعلها مُنشغلة عنه، كما تعمل سو لي كسكرتيرة في إحدى الشركات وتعاني من الوحدة العميقة كذلك بسبب عمل زوجها الذي يتطلب منه السفر إلى اليابان مُعظم الوقت.

أي أن المُخرج قد قدم لنا مُنذ بداية الفيلم شخصيتين متزوجتين تشعران بالوحدة العميقة، وجعلهما تتجاوران في السكن مُمهدا في ذلك لنشأة علاقة عاطفية بينهما، وكأنه يهيئ كل الظروف من أجل نشأة هذه العلاقة ومُباركتها بينهما.

لا يفوتنا حرص المُخرج على تصوير المُجتمع في هونج كونج في هذه الفترة من الوقت، لا سيما أنه يعمل على التركيز على الآفات الاجتماعية التي تعاني منها العديد من المُجتمعات في الأماكن المُكتظة بالسُكان، والتي تؤدي بسُكانها إلى السُكنى المتجاورة التي لا تترك لأي منهم مساحة من الخصوصية. نلاحظ هذا طوال أحداث الفيلم حيث الجميع يراقبون تحركات والتفاتات وتنفس بعضهم البعض؛ الأمر الذي يؤدي إلى تحويل هذا المُجتمع إلى ساحة من الثرثرة والنميمة، بل والتدخل في حياة الآخرين باعتبار أن هذا التدخل هو حق للجميع لا يمكن التذمر منه! نرى ذلك حينما تقول إحدى الجارات للأخرى قاصدة سو لي: زوجها دائما بعيدا، من المُحزن رؤيتها وحيدة، وقول أخرى قاصدة: هل تتأنق هكذا للخروج لتناول المكرونة؟ أي أن الآخرين يعطون لأنفسهم الحق في كل شيء حتى طريقة ملبس غيرهم!


إن محاولة التعبير عن مُجتمع ثرثار مُتلصص مُتدخل في شؤون الغير لا يقدمها المُخرج من خلال بعض المواقف فقط التي نرى فيها الجيران يتدخلون في شؤون غيرهم، بل هو يعتمد اعتمادا ذكيا على التعبير البصري من خلال الاستخدام الماهر والمُتقن للكاميرا التي نراها تكاد أن تكون كائنا حيا مُتربصا ومُتجسسا على الجميع طيلة الوقت؛ فيؤطر لقطاته من خلال فتحة في جدار، أو التصوير في الحارات والأزقة والأماكن الضيقة حيث تتابع الكاميرا شخصياته، أو من خلال النوافذ، والممرات، والمداخل، ودرج السلم الضيق في محاولة عمدية منه للتأكيد على أن الجميع يتابعون بعضهم البعض، ويتلصصون عليهم؛ الأمر الذي جعل الكاميرا نفسها تتلصص على شخصيات الفيلم في تأكيد منه على مفهوم التلصص الذي يسود الفيلم.

بالتأكيد لا يمكن إنكار أن مُجتمع بمثل هذا الشكل تصبح أي علاقة فيه خارج إطار الزواج أمرا مُستحيلا لا يمكن له أن يتم، أو هو مُجرد مشروع فضيحة ضخمة لا بد لها أن تسود بين الجميع، أي أن المُخرج هنا يحرص على وضع الكثير من العقبات أمام أي احتمالية لعلاقة عاطفية بين الاثنين.


يتقابل كل من تشاو وسو لي كثيرا بحُكم جيرتهما القريبة، إما أثناء دخولهما أو خروجهما، أو على سلالم البناية، أو أثناء شرائهما للمكرونة من البائع؛ فيتبادلا التحية الرسمية بينهما بينما يشعر كل منهما بوحدة الآخر. لكنه يطلب منها ذات مرة أن يلتقيا في أحد المطاعم للحديث مع بعضهما البعض؛ فتوافق.

حينما يلتقيا يبرر لها تشاو السبب في طلبه للقائها أنه تعجبه حقيبة يدها التي تحملها كثيرا؛ لذلك فهو يرغب منها أن تشتري له واحدة مثلها تماما كي يهديها لزوجته في عيد ميلادها الذي اقترب، لكنها تخبره أن هذه الفكرة ليست بالفكرة الصائبة لا سيما أنهما جيران، وهذا قد يدفع زوجته للتشكك في علاقة ما بينهما، فيسألها: ألا يصنعون منها ألوانا أخرى؟ فتخبره أنها لا بد لها من سؤال زوجها عن هذا الأمر لأنه هو من اشتراها لها أثناء إحدى رحلاته في العمل، أي أن هذا النوع من الحقائب لا يباع في هونج كونج، لكنها في ذات الوقت تسأله عن المكان الذي ابتاع منه ربطة عنقه؛ لأنها تعجبها وترغب في ابتياع واحدة لزوجها، فيخبرها أنه لا يعرف؛ لأن زوجته هي من اشترتها له أثناء رحلة من رحلات عملها، أي أنها لا تباع في هونج كونج!

هنا تخبره سو لي بأنها تعرف أن زوجته تمتلك حقيبة مُشابهة تماما لحقيبتها، كما يخبرها أنه يعلم بأن زوجها يمتلك ربطة عنق مُشابهة لربطته، ويعترفا معا أنهما يدركان بأن كل من زوجيهما على علاقة مع بعضهما البعض، وأنهما يخونانهما؛ الأمر الذي يسبب لهما الكثير من الألم بسبب هذه الخيانة.


لا يفوتنا أن المُخرج وونج كار واي لا يترك أمامنا شيئا للمُصادفة أو المُفاجآت غير المتوقعة، وهو يفعل ذلك بشكل من البساطة والبديهية الذكية، والإتقان ما يجعله يقترب بفيلمه إلى الكمال؛ فقبل أن يسوق لنا هذا اللقاء بين الزوجين لاحظنا أن ثمة العديد من المُؤشرات التي تؤكد لنا وجود خيانة تجاه كل منهما من الزوجين، منها مثلا حينما عاد زوج سو لي ذات مرة من سفره وأحضر معه أرزا من اليابان قدم منه لجميع سُكان البناية السكنية أثناء اجتماعهم للغداء في الردهة؛ فيطلب تشاو من سو لي أن تخبر زوجها برغبته في أن يأتي له منه، وحينما يفعل يحاول تشاو شكره وسؤاله عن المال المُدان له به مُقابل هذا الأرز، لكن زوج سو لي يخبره أن زوجته قد دفعت له، أي أن ثمة معرفة وعلاقة بين زوج سو لي وزوجة تشاو، وفي الوقت الذي يذهب فيه تشاو إلى مقر عمل زوجته من أجل اصطحابها للعشاء ذات ليلة يؤكد له موظف الاستقبال أنها قد انصرفت مُبكرا في حين أنها مُعتادة على العودة المُتأخرة للبيت دائما أثناء نومه، ولما يدعوه صديقه لتناول إحدى الوجبات يخبره بأنه قد رأى زوجته في الشارع في الليلة الماضية بصحبة أحد الرجال، أي أن المُخرج قد مهد جيدا وبشكل مُتقن لمُلاحظة الزوج لخيانة زوجته له فضلا عن مُلاحظته لحقيبة يدها المُشابهة لحقيبة سو لو؛ الأمر الذي جعله يتيقن بأن زوجته تخونه، وعلى علاقة بزوج سو لي.


كما أنه قد وضع أمام سو لي العديد من المُلاحظات التي تجعلها تتشكك في زوجها، منها غياب زوجة تشاو في نفس التوقيت الذي يغيب فيه زوجها، كذلك ربطة عنق زوجها المُتطابقة مع ربطة عنق تشاو، بالإضافة إلى المشهد المُهم الذي تقول فيه لرئيسها في العمل: تلك الرابطة تبدو جيدة عليك، فيرد عليها هل لاحظت؟ إنها تبدو مثل القديمة تماما، لكنها تقول: الأشياء تُلاحظ لو تنتبه إليه. إن هذه الجملة الأخيرة كانت بمثابة جميلة محورية ومُفتاح رئيس لتفسير العديد من الأمور؛ فالنساء بالفعل لديهن المقدرة على الانتباه إلى التفاصيل الصغيرة أكثر من غيرهن؛ لذلك فهي مُوقنة بأن زوجها يخونها مع زوجة تشاو.

يتقارب الزوجان المُنكسران والمجروحان، بسبب الخيانة، من بعضهما البعض، وتكثر لقاءاتهما، بل ويبدآن في مُمارسة لعبة تتمثل في أن كل واحد منهما يتخيل الآخر زوجه، ويحاولان توقع كيف يتعامل زوجاهما مع بعضهما البعض في حالة من حالات التقمص وتخيل ما يدور بينهما، وهو ما نراه مثلا حينما نراهما يسيران معا ليلا فتقول له سو لي مُتقمصة دور زوجته: الوقت مُتأخر ألن تشتكي زوجتك؟ فيرد عليها مُتقمصا دور زوجها: إنها مُعتادة على هذا، إنها لا تهتم. وماذا عن زوجك؟ فترد عليه: يجب أن يكون نائما حتى الآن. لكن سو تشعر بالكثير من الألم والجرح حينما تصل إلى هذه النقطة؛ ومن ثم لا تستطيع الاستمرار في التقمص قائلة: لا أستطيع قول هذا؛ فيرد عليها: أفهم ذلك، ومع هذا فهو يحدث. وحينما يلتقيان في أحد المطاعم نرى سو تطلب منه أن يختار لها الطعام الذي تتناوله زوجته، بينما تختار هي له الطعام الذي يفضله زوجها في حالة كاملة من تبادل الأدوار والإمعان في التعذيب والضغط على المشاعر.


ربما نلاحظ أن المُخرج حريص تماما من خلال الكادرات التي تنقلها الكاميرا على التركيز كثيرا على المشاهد التي تبدو فيها كفيّ كل من تشاو وسو لي اللتين تحملان خاتم الزواج والاقتراب منها في لقطات قريبة تبدو عفوية، وإن كان يقصدها المُخرج ويقدمها غير مرة؛ للتأكيد على قدسية علاقة الزواج التي لا يجب لأحد أن يتخلى عنها. هذه القدسية هي ما تجعل الزوجين المفجوعين حريصين كل الحرص على عدم التورط في أي شكل من أشكال العلاقات العاطفية أو الجنسية مع بعضهما البعض مثلما يفعل زوجاهما، وهو ما تؤكد عليه سو لي حينما تقول له: نحن لن نكون مثلهما، رغم أنها تعرف أن زوجته في نفس اللحظة مع زوجها حينما تقول له: زوجتك في اليابان، ماذا تعتقد أنهما يفعلان الآن؟

تتوثق العلاقة بين تشاو وسو لي وتعرف أنه يكتب مُسلسلا عن فنون الدفاع الذاتية، وتبدأ في مُساعدته في الكتابة، وذات ليلة حينما كان جميع السُكان في الخارج تدخل إلى غرفته لتساعده في الكتابة، لكن الجيران يعودون فجأة ويبدأون في لعب الورق في الردهة الخارجية؛ الأمر الذي يجعلها عالقة في غرفة تشاو غير قادرة على الخروج منها؛ فيخرج تشاو لابتياع الأرز لهما لسد جوعهما، لكن المُخرج هنا يعمل على تصوير المُجتمع الثرثار الذي يتدخل في شؤون الجميع بذكاء؛ فالجيران يسألون بعضهم البعض عن سبب دخولهم أو خروجهم، وعن سبب تأخرهم أو تبكيرهم؛ لذلك نرى أحدهم يسأله: هل ستتناول كل هذه الكمية من الأرز وحدك؟ كما نلاحظ أنها حينما يدخل الجيران لغرفهم وتستطيع الخروج من غرفة تشاو تقابل إحدى جاراتها أمام باب غرفتها والتي تقول لها: أراك عدت مُتأخرة، كما إني لم أرك وأنت تغادرين في الصباح.

إن هذه الحالة من الرقابة الثقيلة والمُقيدة لتنفس الجميع هو ما يدفع مالكة المبنى السكني لأن تقول لها: لقد كنت في الخارج مُؤخرا كثيرا، من حقك التمتع بنفسك؛ فأنت ما زلت شابة، لكن لا تبالغي، متى سيعود زوجك؟ لا تدعيه يسافر كثيرا مُستقبلا، الزوجان يجب أن يقضيا وقتا معا. إن هذه القيود والتلصص الدائم يجعلهما يشعران بالكثير من القلق رغم عدم وجود أي علاقة بينهما اللهم إلا أنهما يتعاطفان مع بعضهما البعض ويحاولان علاج جروحهما التي تسبب فيها زوجيهما؛ لذلك يخبرها تشاو أنه مُضطر إلى استئجار إحدى الغرف في أحد الفنادق من أجل لقائها فيه ومُساعدته في الكتابة.


تتردد سو لي كثيرا في الذهاب إلى تشاو في الفندق حينما يخبرها، لكنها في النهاية لا تستطيع الامتناع عن الذهاب إليه، وفي إحدى المرات التي يمارسان فيها لعبة التقمص وكأنها تُحادث زوجها تقول له: أخبرني بأمانة، هل لديك عشيقة؟ فيرد عليها: أنت مجنونة، من أخبرك أن لي عشيقة؟ فتقول: لا يهم من، هل لك عشيقة أم لا؟ وحينما يجيبها بالإيجاب تصفعه، لكن تشاو يقول لها: هذا ليس برد فعل، لو اعترف لك بشكل تام؛ فعليك أن تدعيه وشأنه، لكنها ترد باكية: ما كنت أتوقع أن يعترف بمثل هذه السهولة، وتبدأ بالبكاء الحاد قائلة: لم أكن أتوقع أن أشعر بالكثير من الأذى هكذا.

إذن، فنحن أمام زوجين يشعران بدرجة عميقة من الأذى والجرح بسبب ما يقترفه زوجاهما تجاههما؛ لذلك فهما مُتقاربان بشكل كبير رغم أنهما لا يرغبان في أن يكونا مثلهما ويرتكبان فعل الخيانة مع وجود كل العوامل المُمهدة لذلك، سواء الوحدة لكليهما، أو مُبرر الخيانة التي لا بد لها أن تُرد، أو وجودهما وحدهما في غرفته، أو الفندق، أي أن كل السُبل لا بد لها أن تمهد لفعل الخيانة الذي يمتنعان عنه ويحاولا جاهدان الابتعاد عن طريقه؛ لأنهما لا يمكن لهما أن يكونا مثلهما.

لكن مع وجود فلسفة الزمن والوقت التي ينتهجها المُخرج، والتي يؤكد من خلالها على أثر الزمن على كل شيء، سواء بالسلب أم بالإيجاب؛ فإنهما يشعران بالكثير من المشاعر اللاهبة تجاه بعضهما البعض، صحيح أنهما يعملان على كبت هذه المشاعر وعدم الاعتراف بها، لكنها تبدو ظاهرة وواضحة للعيان على وجهيهما، ومن خلال نظراتهما العاشقة لبعضهما البعض، وهو الأمر الذي لا يستطيع تشاو إخفائه أو احتماله؛ ومن ثم يخبرها أنه قد قرر السفر إلى سنغافورة، وحينما تسأله حزينة عن السبب في هذه الرغبة يقول: اعتقدت أننا لن نكون مثلهما، لكني كنت مخطئا، أنت لن تتركي زوجك؛ لذا فأنا أفضل أن أسافر، فتقول: أنا لم أفكر أنك ستقع في حبي، ليرد عليها: وأنا أيضا لم أفكر في هذا، المشاعر يمكن لها أن تزحف، اعتقدت إني كنت مُسيطرا على نفسي، لكني أكره مُجرد التفكير في عودة زوجك إلى البيت، أتمنى أن يبقى غائبا.

المُمثل الصيني توني ليونج

إن هذ الكبت الكبير لمشاعر كل منهما حتى لا تنفلت منهما ويقعا في نفس الخيانة التي وقع فيها زوجاهما- رغم مثاليتها المُفرطة والتي قد تبدو غير مُقنعة- من أجل مُجرد الحفاظ على التوازن الأخلاقي، أو التقاليد والقيم- رغم أن الطرف الآخر يفعل عكسها- يسوقها لنا المُخرج بشكل فيه من الفنية ما يجعل من فيلمه مُجرد مجموعة من اللوحات الفنية التي يضمها إلى بعضها البعض من أجل رؤية لوحة فنية ضخمة من العذاب والمشاعر الرومانسية العميقة اللاهبة والمكبوتة.

نجح المُخرج في إكمال هذه اللوحة الفنية من خلال المُوسيقى التصويرية التي لا تنمحي من الذهن ببساطة، ولفترة طويلة حتى بعد انتهاء الفيلم، واستخدامه الذكي والمُتقن للألوان والظلال القاتمة التي تتناسب مع الحالة النفسية والشعورية لكل من بطليه، حيث لعبت هذه الأدوات دورا لا يمكن له أن يقل أهمية عن دور المُمثلين في نقل الحالة العشقية والأزمة التي يعيشانها والتعبير عنها، أي أن وونج هنا يحاول الاستفادة من كل التقنيات والروافد الفنية والسينمائية التي من المُمكن لها مُساعدته في تقديم فيلم شديد الاكتمال، فضلا عن حرص المُخرج دائما على تصويرهما في الشوارع المُظلمة الخالية من البشر تماما تحت الأمطار الغزيرة؛ للتدليل على أن مُجرد العلاقة البرئية بينهما لا يمكن لها أن تكون أمام الآخرين في مثل هذا المُجتمع، وبالتالي لا بد لهما أن يكونا في الظلام والشوارع الخالية دائما.

المُخرج الصيني وونج كار واي
ينتقل تشاو إلى سنغافورة للعمل في فرع الجريدة هناك، وهنا ينتقل المُخرج إلى التأكيد على أن القدر يعمل على فساد هذه المشاعر ولا يرغب لها أن تكتمل أو تستمر حينما تلحقه بعد عام إلى سنغافورة، وتذهب إلى غرفته في الفندق الذي يقيم فيه وتظل تنتظره لفترة طويلة لكنه لا يعود إلى الغرفة؛ فتترك له سيجارة عليها بصمات طلاء شفتيها كدلالة على وجودها، كما تهاتفه في الجريدة لكنه حينما يرد عليها تمتنع عن الجواب وتعود أدراجها إلى هونج كونج.

هذه الرغبة من المُخرج في التأكيد على أن هذه العلاقة لا يمكن لها أن تستمر من أجل الإيغال في ألم الفراق يعود مرة أخرى في التأكيد عليه حينما يعود تشاو إلى هونج كونج عام 1966م، ويتوجه إلى البناية السكنية القديمة التي فارقها جميع سُكانها ليحاول رؤيتها، لكنه حينما يطرق باب الغرفة التي كانت تقيم فيها يؤكد له الساكن الجديد بأن جميع سُكان البناية قد غادروها وأتى سكان جُدد، حتى أن صاحبة البناية نفسها قد سافرت إلى ابنتها في الولايات المُتحدة، وحينما يسأله عمن يسكن غرفة صاحبة البناية الآن يخبره بأنها سيدة وحيدة مع ابن لها شديد اللطف؛ فيغادر البناية وحيدا، في حين ينتقل المُخرج في المشهد التالي إلى أن السيدة التي تسكن في الغرفة مع ولدها هي سو لي التي لم يعلم تشاو شيئا عن وجودها.

ينتهي وونج كار واي من فيلمه على مشهد تشاو في كمبوديا صاعدا إلى تلة ليهمس إلى أحد الثقوب في إحدى الأشجار بأسراره ثم يغلق هذا الثقب، إيمانا منه بالأسطورة التي تؤكد على أن القدماء حينما كانوا يرغبون في التخلص من أسرارهم التي لا يريدون لغيرهم أن يعرفوا عنها شيئا؛ فعليهم قولها في إحدى ثقوب الأشجار ثم إغلاقها، وهكذا يكون الشخص قد دفن سره إلى الأبد.

المُمثلة الإنجليزية الجنسية الصينية الأصل ماجي تشانج

يؤكد المُخرج الصيني وونج كار واي من خلال فيلمه "في مزاج للحب" على أن بعض العلاقات لا يمكن لها أن تستمر رغم جمالها ونقائها وبراءتها بسبب تقاليد المُجتمعات، وتوازنها الأخلاقي، رغم وجود آخرين يقيمون العديد من العلاقات غير الشرعية التي تدمر المُجتمع، وتدمر بالضرورة الأشخاص القريبين منهم، وهو في ذلك يميل إلى الذكريات والمشاعر المكبوتة التي حرص عليها طوال فيلمه بدلا من تحول الفيلم إلى شكل من أشكال العلاقات الجنسية الحميمة التي كان من المُمكن أن يتجه إليها الفيلم مع أي مُخرج آخر، لا سيما أن كل السُبل لذلك مُمهدة تماما؛ لذلك يغلق المُخرج فيلمه بكتابته على الشاشة: إنه يتذكر تلك السنوات المُنصرمة كما لو أنه ينظر إليها من خلال لوح زجاج مُترب، إن الماضي شيء يمكن له أن يُرى، لكنه لا يُمس، وكل شيء يُرى بصورة مشوشة غامضة.

لا يمكن إنكار أن هذه الدرجة العالية من الإتقان الفني وتقديم العديد من اللوحات الفنية التشكيلية في كل كادر من كادرات الفيلم تعود في المقام الأول إلى التعاون الدائم بين المُخرج وونج كار واي والمصور الاسترالي Christopher Doyle كريستوفر دويل الذي يمتلك من الحساسية في استخدامه للكاميرا باعتبارها كائنا حيا ما لا يتأتى للكثيرين من المصورين السينمائيين، لا سيما أنه كان يحرص على تقديم كل كادر مُستخدما الظلال والألوان التي توحي بالكثير من الإيحاءات، أو حرصه على وجود أحد الشخصيات في نصف الشاشة فقط بينما نرى النصف الآخر وقد غطاه ظهر أحدهما، أو جدار أو ستارة ما، فضلا عن استخدام الحركة البطيئة Slow Motion في الكثير من مشاهد الفيلم، وهي الحركة المُوحية بالكثير من المعاني التي ترتبط بالموضوع الرومانسي، وتوحي بالكثير من إيحاءات الرومانسية والعشق والألم والحزن. أي أن وجود المصور هنا كان من أهم الخيارات التي ساعدت المُخرج على تقديم فيلم لم يترك فيه أي أداة فنية من أدوات السينما إلا وعمل على استغلالها واستخدامها من أجل الصعود بفيلمه إلى درجة غير هينة من الاكتمال؛ فالمُخرج هنا يرغب من المُشاهد التعاطف مع البطلين بدلا من الشعور بالحزن عليهما أو رفضهما؛ لذلك فنحن لن نرى الزوجين الخائنين أمام الكاميرا مُطلقا بل هما غائبين طوال الوقت رغم حضورهما القوي في تحريك الحدث والعمل على تنمية مشاعر الزوجين الآخرين.

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد مارس 2024م

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق