الجمعة، 31 يناير 2020

القضية الفلسطينية والسينما العربية: خمسة وسبعون عاما من النضال السينمائي

لا يمكن إنكار أن القضية الفلسطينية وما يعاني منه الفلسطينيون من ويلات ومجازر تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي، وقتل، وترهيب، وربما محاولة للإبادة أحيانا هي الموضوع الأثير، ولعله الرئيس، للسينما العربية منذ العرض السينمائي الأول في مصر 5 نوفمبر 1896م. صحيح أن السينما العربية لم تتناول القضية الفلسطينية منذ هذا التاريخ المبكر من عمر السينما العربية، لكنها بمجرد ما حدثت الكارثة، ومع إرهاصاتها الأولى كانت هذه القضية في المقدمة؛ بحيث حاولت الحديث عن الأمر من خلال سينما نضالية مهمة تترك بأثرها الكبير على المُشاهد، وغيره من الحكومات السياسية؛ الأمر الذي لعب كثيرا في صالح القضية؛ لمحاولة تغيير الوضع الذي ما زال جاثما كالكابوس حتى اليوم، ولعل فيلم "صلاح الدين الأيوبي" للمخرج الفلسطيني الأصل الشيلي الجنسية إبراهيم لاما (إبراهام لاما) كان من أوائل الأفلام السينمائية المصرية التي انتبهت إلى هذه القضية في محاولة جادة منها لنقاش أزمة فلسطين، رغم أن الاحتلال الإسرائيلي لم يكن قد بات أمرا واقعا مثلما حدث بعد هزيمة 1948م، وقد تم عرض الفيلم في 14 سبتمبر 1941م، كما تحدث الفيلم عن الحروب الصليبية بين المسلمين والصليبيين من خلال هدنة قامت بينهما أثناء مرض ريتشارد قلب الأسد؛ حيث ينتهز الشباب العربي هذه الهدنة؛ من أجل الانضمام إلى جيوشهم في أورشليم، وقد كان الفيلم بطولة بدر لاما- شقيق المخرج-وبدرية رأفت، ومنسي فهمي، وبشارة واكيم، ومحمود المليجي، وأنور وجدي، وهو العام الذي "لم تعرض فيه السينما المصرية سوى 12 فيلما فقط؛ بسبب أزمة الفيلم الخام التي سببتها ظروف الحرب العالمية الثانية"[1].
لعله في تقديم هذا الفيلم في هذا الوقت المُبكر من عمر السينما العربية ما يُدلل على أن قضية فلسطين كانت ترمي بثقلها وظلالها على ضمير صناع السينما المصرية منذ فترة مُبكرة؛ وهو الأمر الذي جعل السينما مهمومة بهذه القضية القومية؛ وبالتالي صناعة الكثير من الأفلام التي تناولتها فيما بعد؛ فرأينا عام 1948م فيلم "فتاة من فلسطين" للمخرج محمود ذو الفقار، وقد كانت "المرة الأولى التي يُذكر فيها اسم فلسطين في عناوين الأفلام المصرية"[2] وهو الفيلم الذي عُرض في 1 نوفمبر من نفس العام، حيث تناول مخرجه قصة ضابط طيار مصري يستبسل في الدفاع عن الأرض الفلسطينية ضد العدو الصهيوني، ويحدث أن تسقط طائرته في قرية فلسطينية؛ بسبب غارة جوية، وتعثر عليه سلمى الفلسطينية؛ فتستضيفه في منزلها، وتعمل على تطبيب جراحه، كما يتعرض الفيلم لقصص الفدائيين الفلسطينيين الذين يفضلون الموت على الاحتلال الصهيوني، وقد كان الفيلم بطولة محمود ذو الفقار، وسعاد محمد، وحسن فايق، وزينب صدقي، وصلاح نظمي، وقدرية محمود.
المخرج إبراهيم لاما
ربما كان وقع الهزيمة الكبرى في عام 1948م، التي كانت بمثابة الهزيمة للعرب بالكامل، وليس للفلسطينيين فقط، هو ما ترك بأثره على السينما المصرية والعربية بالكامل؛ الأمر الذي جعل مذاقها لا يمكن استساغته لدى الكثيرين من صناع السينما، وبما أن السينما في حقيقتها هي فن انعكاس الواقع، وبما أنها الفن الأكثر شعبية وتعبيرا عما تمر به الشعوب؛ فلقد باتت هذه الهزيمة هي الهاجس الحقيقي الذي ظل يطل برأسه من فترة لأخرى؛ ليتجسد من خلال السينما المصرية، محاولة من خلال ما تقدمه نقاش أسباب الهزيمة، وتجلياتها، وآثارها على أبناء المنطقة العربية بالكامل، وليس الفلسطينيين فقط؛ لذلك كانت ندبة/ جرح القضية الفلسطينية كثيرا ما يرد على أذهان صناع السينما المصرية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر؛ وهو الأمر الذي جعل الكثيرين من المخرجين المصريين يحاولون إقحام، أو الإشارة إلى هذا الجرح في أفلامهم- في حالة عدم التعرض له بشكل مباشر في فيلم يخص القضية في حد ذاتها-؛ لذلك رأينا فيلم "نادية" للمخرج فطين عبد الوهاب 1949م، ورغم أن المخرج لم يناقش القضية بشكل مباشر وواضح إلا أنه تعرض له من خلال فيلمه الاجتماعي؛ فرأينا نادية التي تهب حياتها بعد وفاة والديها من أجل شقيقيها الصغيرين- منير وثريا- وترفض الزواج من أجل تربيتهما، لكن أخيها يستشهد في حرب فلسطين ولا يتبقى لها سوى الصغيرة ثريا، التي تقع في حب مدحت، والذي هو بالمصادفة تحبه نادية وتعتبره الأمل الوحيد المتبقي لها. أي أن المخرج فطين عبد الوهاب رغم أنه لم يتحدث عن القضية بشكل مباشر، ولم تكن تعنيه من خلال فيلمه الذي قدمه، إلا أنه لم يستطع الهروب من الجرح الذي يجثم بوطأته على الجميع؛ وبالتالي رأيناه يشير إليه من بعيد وكأنه يخرج من لاوعيه؛ ليقتحم فيلمه رغما عنه، وهو الفيلم الأول لمخرجه في حياته العملية، أي أنه منذ بدايته العملية لم يستطع تجاهل الأمر الذي يلح عليه هو وغيره من صناع السينما.
المخرج السوري رضا ميسر
في عام 1953م، وهو العام الذي "قامت فيه الثورة المصرية بتأسيس شركة النيل للسينما للإنتاج والتوزيع برئاسة الضابط وجيه أباظة"[3] ظل الأمر يضغط على ضمير صناع السينما المصريين؛ الأمر الذي دفع المخرج نيازي مصطفى إلى إخراج فيلمه "أرض الأبطال" الذي يتحدث عن أجواء الحرب الفلسطينية في 1948م؛ حيث يُصدم أحد الشباب عندما يعلم أن والده الثري قرر أن يتزوج الفتاة التي يُغرم هو بها؛ فيتطوع في الجيش، ويشترك في الحرب، وفي مدينة غزة يلتقي بفتاة فلسطينية، ويتحابان؛ ويقرران الزواج؛ فيقوم الأب بتوريد أسلحة فاسدة إلى الجيش تكون سببا في فقدان الابن لبصره من خلال إحدى العمليات، أي أن الجرح الذي لم يندمل، وما زال قريبا من الضمير الجمعي العربي كان هو الدافع بالكامل من أجل صناعة هذا الفيلم الذي يناقش شيئا من أسباب الهزيمة في هذه الحرب القومية؛ حيث كان الفساد وتفضيل المصالح الخاصة والشخصية الضيقة لدى البعض سببا من أسباب هزيمة العرب جميعا أمام العدو الصهيوني المتمثل في الكيان اللقيط الذي نشأ فيما بعد تحت اسم دولة "إسرائيل".
المخرج السوري صلاح دهني
ربما كان وقع الهزيمة على مصر، ودورها التاريخي في مساندة العديد من القضايا العربية، ورغبتها في تحرير غيرها من الدول العربية، وهو الاتجاه الذي أخذه على كاهله الرئيس جمال عبد الناصر، هو ما دفع العديدين من الفدائيين المصريين إلى الاشتراك في القتال مع الفلسطينيين ضد العدو الصهيوني من أجل تحرير فلسطين رغم الهزيمة، ولعل هذه الروح القومية التي تحلى بها المصريون؛ ومن ثم نظامهم القائم على المد القومي في هذه الفترة هو ما دفع المخرج كمال الشيخ عام 1957م إلى تصوير هذه الروح التحررية القومية من خلال فيلمه "أرض السلام" الذي أنتجه المنتج حلمي حليم، وهو المنتج الذي نرى فيه الكثير من الجرأة والمغامرة لإنتاج مثل هذا الفيلم الذي لا يُعد من الأفلام الجماهيرية؛ باعتبار أن السينما مجرد فن ترفيهي، وليست فنا توجيهيا، أو فنا يهتم بالقضايا القومية الكبرى؛ ومن ثم كان من الأولى لمثل هذا الفيلم أن تنتجه إحدى مؤسسات الدولة وليس أحد المنتجين المغامرين بأموالهم من أجل هذا الجرح النازف، وقد تناول الفيلم شخصية أحمد الفدائي المصري الذي يختفي داخل قرية فلسطينية، حيث تتعاون معه سلمى- إحدى فتيات القرية- ويصور الفيلم معارك الفدائيين من أجل تحرير فلسطين، والصعوبات العديدة التي يلاقونها من نسف خزانات الوقود، وبعد انتهاء أي عملية يعود أحمد مع سلمى من دون أن يتمكن الإسرائيليون منهما، وتنمو علاقة صداقة ثم حب بينهما تنتهي بالزواج. ربما من خلال تفسير الفيلم قد نذهب، في إحدى هذه التفسيرات، إلى أن المخرج يرغب في التأكيد على أن العلاقة بين المصريين والفلسطينيين هي علاقة أبدية وكأنها علاقة زواج لا يمكن لها أن تنتهي؛ ومن ثم فالجرح النازف هو جرح واحد لا يمكن أن نتجاهله أو نتعامل مع بلامبالاة.
المخرج السوري سمير ذكري
رغم أن المخرج نيازي مصطفى سبق له أن قدم فيلمه "أرض الأبطال" الذي يتحدث عن القضية بشكل مباشر في عام 1953م، لكن يبدو أن الهاجس الذي يثقل ضميره باتجاه الأمر ظل يرزح تحت ثقله؛ الأمر الذي جعله يشير إلى الهزيمة الكبرى مرة أخرى في فيلمه "سمراء سيناء" 1959م، ورغم أن الفيلم لم يتناول القضية بشكل مباشر؛ حيث يتناول قصة مهندس يعمل في شركة بترول في صحراء سيناء، ويتعرف على بدوية تكشف له خيانة زوجته له، إلا أن الفيلم قد أشار من بعيد إلى القضية الفلسطينية وكأنها هم لا يستطيع المخرج أن يتجاوزه حتى لو بمجرد الإشارة إليه من بعيد من خلال فيلمه، وهو الأمر الذي يؤكد أن القضية باتت جزءا لا يمكن له أن يتجزأ من ضمير معظم صناع السينما المصرية.
في عام 1961م يقدم المخرج محمود إسماعيل فيلمه "طريق الأبطال"، وهو الفيلم الذي يؤكد من خلاله على المصير المشترك بين الفلسطينيين والمصريين من خلال القضية التي تُعد قضية مصرية مثلما هي قضية فلسطينية، حيث يبدأ الفيلم في حفل تكريم الشهداء الراحلين في حرب فلسطين، وتتذكر امرأة كيف كانت فتاة لاهية مستهترة، تنتمي إلى الطبقة الثرية، وقد أحبت يوما أحد الكتاب لكنها اضطرت، تحت ضغط العائلة، إلى إيهامه بأنها لا تحبه، يتم تجنيد الأديب في الجيش ويصبح ضابطا، وتعترض أسرته على الزواج من الفتاة، كما تندلع حرب فلسطين ويذهب الشاب إلى الحرب، وذات يوم يطلب مراسل حربي من الفتاة أن تتطوع في سلك التمريض، وفي الجبهة تقابل حبيبها الذي يموت في آخر لحظة وهو يرفع علم النصر، أي أن الفيلم يؤكد على المصير المشترك بين مصر وفلسطين من خلال مأساتها.
المخرج السوري محمد شاهين
لم يكن المخرج يوسف شاهين بعيدا عما يدور من حوله؛ فقدم عام 1963م، وهو العام "الذي شهد البداية الرسمية للقطاع العام السينمائي بصدور القرار رقم 48 لسنة 1963م بإدماج المؤسسة المصرية العامة للسينما في المؤسسة العامة للهندسة الإذاعية، كما أصدر مجلس إدارة المؤسسة المصرية العامة الجديدة قرارا بإنشاء أربع شركات جديدة هي: شركة الإنتاج السينمائي العربي "فيلمنتاج" التي تولى رئاستها المخرج صلاح أبو سيف، وشركة الإنتاج السينمائي العالمي "كوبرو فيلم"، وشركة ستوديوهات السينما، وشركة توزيع وعرض الأفلام السينمائية، وتولت "فيلمنتاج" مسؤولية السينما التسجيلية من خلال إدارة الأفلام التسجيلية بها، كما انتقلت ملكية ستوديوهات مصر والأهرام ونحاس وجلال إلى شركة الاستوديوهات عن طريق الشراء من الحراسة العامة، وتم نزع ملكية 11 دار عرض لصالح شركة التوزيع والعرض"[4]، نقول: إن شاهين قدم فيلمه "الناصر صلاح الدين"، ورغم أن الفيلم قد أضفى على صلاح الدين الكثير من السمات المثالية اليوتوبية مما لم يكن فيه في واقع الأمر لدرجة تقربه من درجة القداسة، ورغم أن المخرج كان يقصد من خلال فيلمه الحديث عن الحاكم البطل الواحد الذي يُقصد به في المقام الأول مغازلة جمال عبد الناصر الحاكم الأوحد، إلا أن الفيلم تناول قضية فلسطين منذ الأزل من خلال حروبها الصليبية بغض النظر عن الكثير من المغالطات التاريخية التي أوردها الفيلم، والتي كان يرغب من خلالها تصوير شخصية صلاح الدين الأيوبي بغير حقيقتها التاريخية باعتباره بطلا مثاليا مُقدسا، ولقد كان الفيلم من إنتاج آسيا داغر وهو الفيلم الذي أدى إلى إفلاسها بعدما استدانت من مؤسسة دعم السينما وكلفته 200 ألف من الجنيهات؛ حيث كانت وقتها أعلى ميزانية خُصصت لفيلم مصري، كما استمر العمل فيه قرابة الخمس سنوات، "وقد عُرض الفيلم في مهرجان موسكو وحصل على جائزة المركز الكاثوليكي المصري للسينما"[5].
المخرج السوري محمد ملص
في عام 1967م وهو العام الذي حدثت فيه الهزيمة الثانية للعرب جميعا بعد النكسة الأولى، وهي الهزيمة التي غرست بأنيابها في عمق الضمير الجمعي العربي حتى اليوم يقدم المخرج نور الدمرداش فيلمه المهم "الدخيل" عن القضية الفلسطينية من خلال الرمز، ومحاولة تفسير ووصف ما حدث؛ حيث كان الفيلم إسقاطا واضحا على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين من خلال حديثه عن بائع متجول "زكي" يدخل بلدة صغيرة ويدعي الإغماء؛ فيستضيفه العمدة في بيته؛ لإسعافه، ويطلب زكي أن يستقبل أحدهم ابنته "فتنة" فيستقبلونها ويستضيفونها؛ ومن ثم تبدأ فتنة بالتلاعب بابن العمدة حتى يشتري زكي بعض عقارات البلدة بالخداع من دون دفع ثمنها، وأخيرا يتحد أهل البلدة والبلاد المجاورة، ويقضون على الدخيلين، ولعل الفيلم كان من الأفلام المهمة التي تناولت القضية من خلال قصة اجتماعية تعمل على جذب الجمهور فضلا عن الحديث عن الأمر.
 كما يقدم المخرج حلمي رفلة عام 1974م فيلمه "الوفاء العظيم"، ورغم أن الفيلم كان يتناول حرب أكتوبر في المقام الأول، إلا أنه كان من الأفلام التي أشارت إلى القضية الفلسطينية بشكل غير مباشر، لكن في عام 1975م يقدم المخرج الفلسطيني غالب شعث فيلمه "الظلال في الجانب الآخر" عن مسرحية لمحمود دياب، وقد حاول الفيلم التجارة بقضية العبور في 1973م- حيث كُتب على أفيش الفيلم: أول فيلم يصور انتصار الجيوش العربية وعبور قناة السويس واجتياز خط بارليف المنيع لحرب 1973م- رغم أن الفيلم من إنتاج 1971م، وقد أنتجته جماعة السينما الجديدة بالمشاركة مع القطاع العام السينمائي قبل إلغاء المؤسسة المصرية العامة للسينما، حيث أنتجت جماعة السينما الجديدة هذا الفيلم بالإضافة إلى فيلم "أغنية على الممر" للمخرج علي عبد الخالق، ولكن المؤسسة ألغت نظام المشاركة بعد فيلم غالب شعث؛ فلم تتمكن الجماعة من مواصلة الإنتاج؛ بعد أن اتهمتها المؤسسة بعدم القدرة على توزيع أفلامها- الجماعة-، وبالتالي عدم قابليتها للتوزيع؛ وهو الأمر الذي أدى إلى تأخر عرض فيلم "الظلال في الجانب الآخر" حتى عام 1975م[6]، وهو الفيلم الذي رأى أن القضية الفلسطينية هي بؤرة الأحداث الراهنة في ذلك الوقت؛ فهي تلقي بظلالها على العالم العربي أجمع.
المخرج السوري مروان حداد
لكن هل اقتصر تناول القضية الفلسطينية وما حدث فيها من هزيمة على المستوى العربي بالكامل على السينما المصرية فقط من دون تناولها في السينما العربية؟

المخرج العراقي قاسم حول
لا يمكن القول أن السينما المصرية هي التي اهتمت بالقضية الفلسطينية وحدها من دون أن تنتبه إليها السينما العربية التي ساهمت بنصيب كبير في تناول هذه القضية؛ ومن ثم رأينا عام 1967م الفيلم اللبناني "الفدائيون" للمخرج اللبناني كريستيان غازي عن مسرحية "بنادق الأم كارار" للكاتب الألماني برتولد بريخت Bertolt Brecht الذي يتناول إحدى الأمهات التي عاشت في فلسطين وتم طردها من بلادها؛ فتقرر أن تقدم أبناءها فداء لوطنها، وتدفع بهم إلى العمليات الفدائية، لكنها بعد فقدهم جميعا تبدأ في مساعدة المنظمات الفدائية في عملياتها داخل الأراضي المحتلة. وإذا كان فيلم غازي قد حرص على تقديم تضحية الأم بأولادها من أجل قضية بلدها؛ فالمخرج العراقي كاري كربيتيان[7]يقدم لنا فيلمه "كلنا فدائيون" عام 1969م في لبنان، حيث يتحدث عن مجموعة من الشباب الفدائي الفلسطيني الذين يخططون وينفذون عملياتهم في الأراضي التي احتلتها إسرائيل، ويخون أحد الشباب زملائه من الفدائيين، ويرشد رجال العدو الإسرائيلي عن مكانهم، ويصطدم الفدائيون بقوات العدو، ويموتون شهداء جميعا؛ الأمر الذي يصدم الشاب الخائن الذي يدرك أن موت زملائه كان بسبب خيانته؛ فيقرر أن يقوم بعمل فدائي، ويفجر موقفا للشرطة الإسرائيلية، ويحمل السلاح، ويرتدي ثوب الفدائيين وينضم إلى فريق الفدائيين، وربما كان الفيلم من أكثر الأفلام إثارة للغط؛ بسبب ظروف تصوير الفيلم التي حولت معظم طاقم الفيلم إلى شهداء حقيقيين في الواقع مع تصوير مشاهده الأخيرة؛ فخلال تصوير المشهد الأخير من الفيلم ليلة السبت- الأحد الخامس من أكتوبر 1968م في استريو- استوديو- "البورغاتوار" بمنطقة الحازمية ببيروت، وكان مشهد تفجير يقوم به فدائي فلسطيني انتقاما لرفاقه الذين قتلتهم قوات الاحتلال، وكان من المفترض أن المكان الذي يتم تفجيره هو بار في تل أبيب يدعى "بار أستير" أمر المخرج بتفجير المفرقعات وبدء التصوير، لكن الانفجار الذي وقع كان حقيقيا، وكما تبين لاحقا فقد قام أحدهم بتبديل المتفجرات التي يقومون بالتصوير بها بأخرى حقيقية؛ أدت لتدمير موقع التصوير واستشهاد عشرين شخصا من بينهم المنتج الكبير "أدمون نحاس"- أحد مؤسسي ستوديو نحاس الشهير في القاهرة-، ومخرج الفيلم كاري كربيتيان، والممثل الشاب سامي عطار، والممثلة الشابة منى سليم المعروفة باسمها الفني "تغريد"، والمصور سركيس غوغونيان، وصاحب الاستوديو جورج غصن، وابنة أخته كوليت ناصيف عبد الساتر- 16 عاما- وبعد الحادث أجرى الأمن العام اللبناني تحقيقاته، وهي التحقيقات التي رافقتها تسريبات إعلامية عديدة نشرتها الصحافة اللبنانية وقتها، وأشار بعضها إلى احتمال تورط بعض الإيطاليين الذين كانوا مساهمين في إنتاج الفيلم، والذين بينت التحقيقات أنهم كانوا ينوون بيع نسخة منه إلى إسرائيل، كما روت التسريبات أن انفجارا آخر كان قد وقع سابقا خلال تصوير الفيلم، لكن الممثلين نجوا منه بأعجوبة، وفي النهاية لم تكشف تحقيقات الأمن العام حقيقة ما حدث في استريو "البورغاتوار"، ومع مرور السنين طوى النسيان الملف مثل الكثير من الحوادث الأمنية التي شهدها لبنان وظلت ملابساتها غامضة حتى يومنا هذا، أما المخرج كاري كربيتيان، وهو أرمني الأصل عراقي المولد؛ فقد أشارت التحقيقات إلى أنه كان قادرا على النجاة بنفسه من الحريق، إلا أنه أبى أن يغادر الاستريو إلا بعد أن يساعد كل رفاقه المصابين؛ فكانت النتيجة أنه مات اختناقا، وقد كان المخرج يحضر قبل وفاته لفيلم آخر عن العمل الفدائي يحمل عنوان "ياشا مصطفى" و"ياشا" كلمة أرمنية معناها عاش، في حين أن مصطفى هو اسم الفدائي الذي تدور حوله قصة الفيلم. وفي نفس العام-1969م- يقدم المخرج السوري رضا ميسر فيلمه "الفلسطيني الثائر" من تأليف غسان مطر، ويتحدث عن شاب فلسطيني عابث يعيش حياة لاهية، من دون أي التزام تجاه بلده المسلوب، لكنه يفقد أحد الأعزاء؛ فيقرر أن يتحول إلى النضال؛ فيتدرب على العمليات الخاصة، وفي إحدى هذه العمليات تحاصره قوات الاحتلال الإسرائيلية، لكنه بمهارته يكسر الحصار، ويهرب عائدا إلى القاعدة التي يعسكر فيها الفدائيون، ويجهز نفسه لعملية جديدة بعدما تعلم تجربة جديدة، وفي العام نفسه يقدم المخرج الفلسطيني محمد صالح الكيالي فيلمه "ثلاث عمليات داخل فلسطين" وقد كان الفيلم إنتاجا سوريا.
المخرج الفلسطيني إسكندر قبطي
في عام 1970م يقدم المخرج اللبناني كريستيان غازي فيلمه "مئة وجه ليوم واحد" عن الثورة الفلسطينية، وصراع الطبقات، وتحركات الجماهير، والحيرة، واللامبالاة اللتين تصيبان المثقف والفنان؛ ليصل الفيلم إلى حقيقة الإنسان العربي ذي المئة وجه، وهو المخرج اللبناني الذي قدم حياته الفنية والنضالية بالكامل للقضية الفلسطينية، وقد قدم المخرج حوالي 48 فيلما وثائقيا، قام بإنتاجها عن الحرب اللبنانية التي حاول تخليد وجهها البشع بمشاهد حقيقية نجح في التقاطها، لكن هذه الحرب اللبنانية أحرقت مليشياتها هذه الأفلام كلها، كما أحرق المكتب الثاني- جهاز الاستخبارات العسكرية اللبنانية 12 فيلما آخرين، ولم يبق من مسيرته النضالية السينمائية سوى فيلمه "مئة وجه ليوم واحد" الذي أنتجه عام 1970م، واحتفظت المؤسسة العامة للسينما في سوريا بنسخة منه بعدما نال الشريط جائزة لجنة التحكيم في مهرجان السينما البديلة في دمشق عام 1972م، وفي نفس العام يقدم المخرج والمنتج اللبناني أنطوان ريمي فيلمه "فداك يا فلسطين" عن رواية بنفس الاسم للكاتب اللبناني مروان العبد، وهو فيلم يتناول القضية بشكل مباشر ومن قلبها؛ حيث يتحدث عن أم محمود التي تعيش حياة هادئة مع أبنائها الثلاثة: محمود، ويوسف، وطارق، الذين يقومون بزراعة الأرض، وبعد الاجتياح الإسرائيلي يقررون استمرار حياتهم من دون مشاكل، لكن يقوم الجار أبو خالد باصطياد خمسة من الجنود الإسرائيليين ويأوى إلى بيت أم محمود، هنا يبدأ الأبناء في تعلم الثورة. يقبض الجنود على أحد الأبناء ويقتلونه أمام عيني أمه؛ الأمر الذي يشجع الآخرين من الأولاد على استكمال النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، وفي نفس العام- 1970- يقدم المخرج السوري محمد شاهين فيلمه "رجال تحت الشمس" عن رواية بنفس الاسم للروائي الفلسطيني غسان كنفاني، والذي كان من أهم الأفلام التي قدمتها المؤسسة العربية العامة للسينما في سوريا.
في عام 1972م يقدم المخرج المصري توفيق صالح فيلمه "المخدوعون"، وهو الفيلم الذي كان من إنتاج المؤسسة العربية العامة للسينما في سوريا، وقصة الروائي الفلسطيني غسان كنفاني، بعد الهجرة الغاضبة للمخرج توفيق صالح، وهي الهجرة التي انتهت إلى العراق وإخراج فيلمه "الأيام الطويلة" هناك عام 1980م، وقد دار الفيلم في البصرة عام 1958م؛ حيث يقرر ثلاثة من الفلسطينيين الهروب إلى الكويت، وهم ثلاثة ينتمون إلى أجيال متباينة، الأول هو أبو قيس من جيل نكبة الطرد في الأربعين من عمره، والثاني هو أسعد من الجيل التالي، وقد طُرد من الرملة، وها هو يُمارس الهروب للمرة الثانية بعد أن هرب من الأردن، أما مروان فهو فتى هربت به أسرته من فلسطين وهو طفل. الثلاثة لا يثقون في المهربين الذين سبق لهم أن تركوا الهاربين وسط الصحراء، ويوافقون على الاختباء داخل فنطاس عربة نقل المياه، رغم أنهم في شهر أغسطس، وعند مبنى الجمرك يقوم مجموعة من الرجال بممازحة السائق أبو الخيزران بينما يموت الهاربون داخل الفنطاس؛ لقلة الأكسجين، ثم يلقي السائق بجثثهم على كوم من القمامة، وربما كان الفيلم من أكثر الأفلام قسوة وصدقا في تناول القضية الفلسطينية من خلال هذه الرؤية الإنسانية التي كتبها غسان كنفاني في روايته "رجال في الشمس".
المخرج الفلسطيني إيليا سليمان
في نفس العام- 1972م- يقدم المخرج السوري خالد حمادة فيلمه "السكين" عن رواية "ما تبقى لكم" للروائي الفلسطيني غسان كنفاني، ويتحدث الفيلم عن حامد وزكريا اللذين يعيشان في مدينة غزة بعد النكسة، وبينما نرى حامد شابا حالما يكره الإسرائيليين، نُصدم معه عندما نجد صديقه زكريا يتعامل مع المحتلين. يقرر حامد الذهاب إلى الضفة الغربية؛ ليبحث عن أمه التي لم يرها منذ عام 1948م؛ فيقابل في الصحراء جنديا إسرائيليا تائها؛ فتأخذ حياته منحى جديد، ولقد كان الفيلم من الأفلام التي تحدثت عن القضية بشكل مباشر ومن قلبها تماما بفضل رواية كنفاني، وفي عام 1975م يقدم المخرج السوري مروان حداد فيلمه "الاتجاه المعاكس" الذي يتحدث عن تغير المجتمع عقب نكسة 1967م، ويصور الفيلم نماذج إنسانية لا تقتنع بالهزيمة وتحاول تجاوزها، وترى أن التحرك على مستوى الممارسة العملية هو الأفضل؛ وبالتالي تتجسد هذه الممارسة العملية في الكفاح المسلح، وهو من الأفلام المهمة التي قدمتها السينما السورية عن القضية.
لم يكن المخرج اللبناني برهان علوية بعيدا عما يدور حوله من هزيمة كبرى حاقت بالمجتمعات العربية جميعها؛ ومن ثم قدم عام 1974م فيلمه المهم "كفر قاسم" الذي يتحدث عن إعلان جمال عبد الناصر لتأميم قناة السويس، بينما في فلسطين المحتلة في مقهى أبو أحمد على ساحة قرية كفر قاسم يستمعون إلى خطاب الرئيس. تنتهز إسرائيل الفرصة في 29 أكتوبر من نفس العام 1956م ويرتكب الصهاينة مجزرة بشعة في حق أهالي كفر قاسم العربي، وفي هذا العالم الذي يقدمه الفيلم نتعرف على رجاء، سمسار العمال، الذي يتعاون مع المختار؛ كي يشغلهم عند رب العمل الصهيوني، أما سليم أفندي من يافا فإنه يعمل رسولا للحاكم العسكري، ويغادر أبو مرعي أرضه كي تُمنح للمستوطنين الجدد، وفي 30 أكتوبر تهاجم إسرائيل سيناء، وفي فلسطين يصدر قرار إرهاب الأهالي العرب ويقتلونهم؛ كي يظلوا هاربين، واستغلالا لحظر التجول يقومون بقتل أشخاص عائدين من الحقل فيما هو أشبه بالجزيرة، أي أن الفيلم ناقش القضية من قلبها المباشر ومن دون مواربة، وفي عام 1977م يقدم المخرج السوري صلاح دهني فيلمه "الأبطال يولدون مرتين" الذي يتحدث عن فؤاد البري الذي يبلغ الحادية عشرة من عمره؛ فيفقد أمه وأباه في حرب 1967م، ويقضي حياته التالية تحت سقف رجل عجوز طيب في مخيم اللاجئين الفلسطينيين قرب غزة. يُصدم الطفل بمشاهد هجمات القوات الإسرائيلية على المخيم، والمداهمات والاضطهاد، ونسف البيوت؛ فيقرر الانضمام إلى القوات العربية التي تقاوم الاحتلال، ويصطدم برجال العدو، وعبر المطارادات والملاحقات يفوز الطفل بالهروب والتخفي ويكتسب قوة وصلابة؛ فيترصد سيارة دورية عسكرية معادية ويلقي عليها بقنبلة مولوتوف تجعل منه بطلا حقيقيا.
المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي
تستمر السينما العربية في تقديم العديد من الأفلام المهمة عن القضية الفلسطينية محاولة علاج الجرح العميق الذي ينخر في ضمائر صناع السينما؛ فيقدم المخرج اللبناني سيف الدين شوكت فيلمه "فدائيون حتى النصر، أو عملية الساعة السادسة"[8] عن مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين تقرر القيام بعملية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلية، ويكاد أن ينكشف أمر العملية، لكنها تنجح في النهاية، وقد كان الفيلم بطولة رفيق السبيعي، وملك سكر، وهاني الروماني، وبسام لطفي، وحسن بغدادي.
في عام 1981م تعود السينما العربية للنهل مما كتبه الروائي الفلسطيني غسان كنفاني مرة أخرى؛ فيقدم المخرج العراقي قاسم حول فيلمه "عائد إلى حيفا" من إنتاج مؤسسة الأرض للإنتاج السينمائي، ويدور الفيلم في صباح الحادي والعشرين من إبريل 1948م وقد انهمرت قذائف المدفعية من تلال الكرمل العالية؛ لتدك مدينة حيفا، وفي هذا الوقت كانت سيدة قد تركت ابنها الرضيع، خلدون، في البيت وخرجت للبحث عن زوجها وسط حشود الناس المذعورة حيث يضطران للنزوح. تمر الأيام والسنون ويعود الزوجان إلى البيت بعد حرب 1967م؛ لتفاجأ بأن خلدون أصبح شابا وأن اسمه "دوف"، وهو مُجند في جيش الاحتلال وقد تبنته أسرة يهودية استوطنت البيت بعد نزوح 1948م، وهنا تبلغ المأساة ذروتها بعد أن عرف الفتى الحقيقة؛ إذ أصرّ على الانحياز إلى جانب الأم الصهيونية التي تبنته، وفي نفس الوقت كان الزوج يعارض التحاق ابنه الثاني بالعمل الفدائي، لكنه بعدما رأى حالة ابنه البكر تمنى لو أن ابنه خالد قد انضم للمقاومة، ولعلنا نلاحظ أن الفيلم من أهم الأفلام التي حاولت تناولت القضية من جانبها الإنساني بفضل رواية كنفاني، وهي نفس الرواية التي أنتجتها سوريا بالاشتراك مع إيران بفيلم اسمه "المتبقي" للمخرج الإيراني سيف الدين داد عام 1995م، وفي نفس العام- 1981م- يقدم المخرج السوري سمير ذكري فيلمه "حادثة النصف متر" عن قصة للروائي المصري صبري موسى، وهي نفس القصة التي قدمها المخرج المصري أشرف فهمي فيما بعد 1983م، وقد تناول فيلم سمير ذكري الهزيمة الفلسطينية من بعيد وليس من خلال شكل مباشر.
لم يكن المخرج السوري محمد ملص ببعيد عن التعبير عن هذه المأساة العربية؛ فنراه يقدم عام 1984م فيلمه الروائي الأول "أحلام المدينة" عبر عيني شاب يريد استعادة أبيه، ويبحث في المخفي عن ذاكرة لا يعرفها؛ فيحاول لقاء أبيه المحارب في فلسطين 1948م؛ كي يحطم جدرانا تحول دون معرفة ماضيه، وقد شارك الفيلم في مهرجان "كان" السينمائي 1984م وحصد الكثير من الجوائز منها جائزة مهرجان أيام قرطاج السينمائي في تونس 1984م.
المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي
في العام التالي مباشرة 1985م يقدم المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي فيلمه "عرس في الجليل" الذي يتحدث عن فلسطين تحت الاحتلال في قرية بالجليل، وقد مرت أربعة شهور على القرية تحت الحكم العسكري، وعلى عمدة القرية أن يحصل على إذن من السلطات؛ كي يقيم حفل زفاف ابنه عادل. توافق سلطات الاحتلال شريطة توجيه الدعوة إلى الحاكم العسكري الإسرائيلي، وبعض رجاله؛ يوافق الأب ويقام العُرس وتحدث بعض الأحداث من تقارب بين الطرفين مثل وقوف النساء الفلسطينيات مع مجندة إسرائيلية فقدت وعيها، وبعد الحفل يعجز العريس عن فض بكارة عروسه؛ فيقرر أن ينتقم من أبيه؛ لأنه سبب عقدته، وتفض البنت بكارتها بيدها، وفي عام 1986م يقدم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي فيلمه الأول "جواز سفر" الذي كان قبل الانتفاضة الأولى، لكنه لم يقدم فيلمه الروائي الطويل الأول سوى عام 1994م بعنوان "حتى إشعار آخر" الذي يتحدث عن يوم في حياة عائلة فلسطينية أثناء فرض حظر التجول من قبل الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة 1993م، حيث تتحول البيوت إلى معتقلات صغيرة، وتنخرط عائلة "أبو راجي" في واقع تتألق فيه قيم الصمود والمقاومة.
المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد
في عام 1990م يقدم المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي فيلمه "نشيد الحجر" الذي يناقش الآثار الاجتماعية على الفلسطينيين من خلال مجموعة من النماذج الإنسانية المرتبطة بالقضية؛ فنرى امرأة مثقفة هربت إلى الخارج ثم تعود، وفلاحة آثرت البقاء في الأرض، ومناضل يخرج من المعتقل، ورجل عادي يقوم بتربية أبنائه ويدافع عن الوطن، ونعرف أن المرأة كانت قد هاجرت إلى بريطانيا منذ أكثر من 18 عاما حينما ألقي القبض على عشيقها، أما هو فيعمل في مساعدة الفلاحين، وقد دخل السجن وكتب رواية ويلتقيان بعد غربة طويلة، وفي عام 1992م يعود المخرج السوري محمد ملص مرة أخرى للاهتمام بالقضية الفلسطينية من خلال فيلمه الروائي الثاني "الليل" الذي يتناول حرب فلسطين أيضا مع العدو الصهيوني، وفي عام 1992م يقدم المخرج المصري عاطف الطيب فيلمه المهم "ناجي العلي" الذي يتناول حادثة الاغتيال الشهيرة التي تعرض لها الفنان الفلسطيني ناجي العلي في العاصمة البريطانية عام 1987م ودخوله لغرفة العناية المركزة، ويعود الفيلم من خلال الفلاش باك Flash Back إلى العديد من المحطات التي مر بها العلي في حياته منذ نزوحه مع أسرته إلى لبنان، ثم عمله في الكويت، ثم عودته إلى لبنان مجددا خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية، كما يتعرض الفيلم لأبرز مواقفه السياسية التي سجلها في رسومه الكاريكاتورية، ولقد عاقب النظام السياسي المصري كل طاقم الفيلم بسبب صناعته، ومن ثم ضيّق عليهم لسنوات طويلة، وأقعدهم في بيوتهم.
المخرج اللبناني أنطوان ريمي
في عام 1996م يقدم المخرج الفرنسي الجنسية الفلسطيني الأصل إيليا سليمان فيلمه الروائي الأول "سجل اختفاء" وهو الفيلم الذي كتبه وأخرجه ومثل فيه المخرج مع بعض أصدقائه وأفراد من عائلته، وهو عبارة عن يوميات كتبها المخرج بالكاميرا؛ حيث يعود إلى فلسطين؛ ليرصد ما تغير فيها بعد السلام أملا في أن يحقق فيلما عنها، لكن زمن الفيلم ينتهي من دون أن يتمكن المخرج من تحقيق فيلمه، وقد كان الفيلم أول فيلم فلسطيني يتم عرضه في الولايات المتحدة الأمريكية، كما حصل الفيلم على جائزة "لويجي دي لاورينتيس" في مهرجان فينيسيا عام 1996م، ولم يلبث نفس المخرج أن قدم فيلمه "يد إلهية" 2002م الذي كان من أجمل الأفلام، وأكثرها شاعرية في التعبير عن المأساة التي يعيشها الفلسطينيون مع الاحتلال الإسرائيلي؛ فيتحدث عن قصة حب بين رجل فلسطيني يعيش في القدس مع امرأة فلسطينية تعيش في رام الله؛ فيضطر الرجل إلى التنقل دوما بين أبيه الذي يعاني تدهورا صحيا، وحبيبته محاولا الحفاظ على الاثنين معا، ونظرا للظروف السياسية والاحتلال؛ فإن انتقال حبيبته يصطدم بنقطة التفتيش التي وضعها الجيش الإسرائيلي بين المدينتين، وحينما لا يستطيع العاشقان العبور فإن لقاءاتهما تتم في منطقة مهجورة بجوار نقطة التفتيش.
في عام 2004م يقدم المخرج المصري يسري نصر الله واحدا من أجمل وأهم أفلامه السينمائية، وهو فيلم "باب الشمس" المأخوذ عن رواية للروائي اللبناني إلياس خوري بنفس الاسم، حيث يروي خليل للمناضل الفلسطيني، يونس، الراقد في غيبوبة في إحدى المستشفيات قصة حبه التي جمعته منذ الصبا بابنة قريته بالخليل من قبل الاجتياح الإسرائيلي وبعده، حيث كان طوال فترة الخمسينيات والستينيات يتسلل خلسة من لبنان إلى الجليل؛ ليقابل زوجته في مغارة باب الشمس؛ فتحمل منه ويعود مرة أخرى؛ لينضم إلى زملائه في تنظيم المقاومة في لبنان.
المخرج اللبناني برهان علوية
في عام 2005م يقدم المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد فيلمه المهم "الجنة الآن" الذي يتحدث عن الشابين الفلسطينيين سعيد وخالد في مدينة نابلس اللذين يخططان للقيام بعملية فدائية في قلب تل أبيب بعد التنسيق مع إحدى المنظمات الفلسطينية، إلا أن الأمور لا تسير كما هو مخطط لها، وفي عام 2008م تقدم لنا المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر فيلمها العذب "ملح هذا البحر" حيث يتحدث عن ثريا المولودة في أمريكا، لكنها تعود إلى بلدها فلسطين بعدما يموت جدها، وتكتشف تجميد حساب جدها في بنك يافا عندما نُفي عام 1948م، لكنها تُصرّ على الحصول على حقوقها كاملة، وبالفعل تقوم بذلك بالتعاون مع عماد الذي تقابله وتقع في حبه، رغم رغبته القوية في الهجرة.
المخرج اللبناني كريستيان غازي
عام 2009م يعود المخرج الفلسطيني إيليا سليمان مرة أخرى من خلال فيلمه "الزمن الباقي" حيث يروي من خلاله سيرته الذاتية، ويتمحور حول أربعة فصول من حياة عائلة فلسطينية من العام 1948م إلى أيامنا هذه، ويمزج المخرج من خلال الفيلم بين ذكرياته الخاصة وذكريات والديه، واصفا الحياة اليومية للفلسطينيين الذين بقوا على أرضهم بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948م، وهم من يُطلق عليهم اسم "عرب إسرائيل"، وفي نفس العام يقدم المخرج الفلسطيني إسكندر قبطي فيلمه "عجمي" بالاشتراك مع المخرج الإسرائيلي يارون شاني، وهو الفيلم الذي تم تصويره في حي "عجمي" في مدينة يافا، والفيلم إنتاج إسرائيلي ألماني مشترك، ويكاد يكون من الأفلام المهمة التي تتناول الحياة في هذه المدينة وداخل هذا الحي؛ حيث الجميع يعانون معاناة متساوية، ويحاولون الخلاص جميعا سواء كانوا فلسطينيين أم إسرائيليين، وقد حصل الفيلم على الكثير من الجوائز في المهرجانات الدولية منها جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان "كان" السينمائي الدولي، وجائزة "سوثرلاند" في مهرجان لندن السينمائي، وغيرها من الجوائز.
تعود المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر مرة أخرى عام 2012م حينما تستقر في الأردن لتقدم فيلمها "لما شفتك"، وهو الفيلم الذي تتناول من خلاله المخرجة حياة اللاجئين الفلسطينيين في الأردن خلال أواخر ستينيات القرن الماضي، حيث يبلغ طارق من العمر 12 عاما ويعيش بصحبة والدته في معسكر اللاجئين بمدينة "جرش" الأردنية، وهما جزء من موجة جديدة من اللاجئين الفلسطينيين. يتم فصل الأم والابن عن الأب، كما يتم اكتشاف إصابة طارق بمرض التوحد، لكنه في الوقت نفسه مفعم بالطاقة والنشاط. تعمل والدة طارق في خياطة الملابس وتناضل من أجل توفير الطعام لابنها وحمايته من المجهول.
المخرج المصري توفيق صالح
في عام 2013م يعود المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد ليقدم لنا فيلمه "عمر" الذي تدور قصته حول شاب فلسطيني مناضل يعشق مراوغة الرصاص المتساقط من أعلى الجدار العازل، إلى جانب عشقه الشديد لإحدى الفتيات، وينتقل عمر ذات يوم إلى الجانب الآخر من الجدار؛ حيث يصبح مقاتلا شرسا. يعمل خبازا ويُلاحق في عدة مطاردات حتى يتم ضبطه أثناء تنفيذه إحدى العمليات. حينها تراوده الشكوك بخيانة رفاق دربه له، أو شقيق حبيبته وهو الأمر الذي يمزقه تماما، وفي عام 2017م تُقدم المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر فيلمها "واجب" الذي يكاد أن يأخذ شكل الرحلة، حيث يبدأ الفيلم مع عودة شادي من إيطاليا، حيث يعمل مهندسا معماريا، إلى الناصرة؛ لحضور حفل زفاف أخته ومساعدة والده في تحضيرات العُرس، ويصرّ الأب، ضمن مفهوم الواجب في التقاليد الاجتماعية، على تسليم بطاقات الدعوة لحفل الزفاف إلى كل الأصدقاء والأقارب بنفسه مع ابنه؛ الأمر الذي يقودهما في رحلة طويلة للوصول إلى بيوتهم، وعبر الحوارات بين الأب والابن في الطريق تتكشف لنا الخلافات بين وجهتي نظرهما وطباعهما، كما يتكشف ماضي عائلتيهما نفسه، فضلا عن صور الحياة اليومية في الناصرة مع تلك الزيارات التي يقومان بها لأسر مختلفة، وطوافهما في شوارع الناصرة، وقد عُرض الفيلم في قسم السينما العالمية المعاصرة في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي 2017م، كما تم ترشيحه لتمثيل فلسطين في جوائز الأوسكار 2018م.
المخرج المصري عاطف الطيب
من خلال هذا العرض الموجز لتاريخ السينما العربية وأهم الأفلام التي تناولت القضية الفلسطينية يتأكد لنا أن السينما العربية كانت مهمومة إلى حد بعيد بهذه القضية- وما زالت-؛ الأمر الذي جعل صناع هذه السينما مثقلين دائما بأعباء القضية، محاولين تقديم سينما جادة تعمل على نقاش هذه الهزيمة الكبرى، والبحث فيها، ولعلنا لاحظنا أن السينما السورية واللبنانية كانتا لهما نصيب الأسد في الاهتمام والعناية بالقضية الفلسطينية، ولعلهما قدمتا للقضية أكثر بكثير مما قدمه لها أبناؤها فيما بعد، ثم يأتي دور السينما المصرية التي لم تتجاهل الأمر منذ بداياتها المبكرة؛ فاهتمت بها أيما اهتمام، ليأتي في السنوات الأخيرة دور السينما الفلسطينية نفسها على يد أبنائها من المخرجين الذين نجحوا في تقديم سينما مهمة تُعرض في جميع أنحاء العالم، بل وتحصد المزيد من الجوائز؛ من أجل تقديم قضيتهم للجميع، ولعل اهتمام السينما العربية بأمر القضية الفلسطينية هو ما أدى إلى هذا التراكم الكبير في صناعة الأفلام السينمائية حولها؛ لذلك فلقد قدمت هذه السينما على مدار ما يقارب الخمسة والسبعين عاما ما يقارب من المئة والخمسين فيلما تتناول القضية بشكل مباشر وواضح وتلج الأمر من داخله مباشرة، ناهيك عن المئات من الأفلام الأخرى التي تعرضت فقط للقضية من بعيد، أو ألمحت لها بشكل غير مباشر من دون الخوض فيها ونقاشها.



محمود الغيطاني

نشرت هذه الدراسة على جزئين:
الجزء الأول: مجلة الثقافة الجديدة عدد فبراير 2020م.
الجزء الثاني: مجلة الشارقة الثقافية عدد أغسطس 2019م.



[1] انظر كتاب "وقائع السينما المصرية 1895- 2002م" للناقد علي أبو شادي/ الكتاب ص 118/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 2004م.
[2]  انظر كتاب "وقائع السينما المصرية 1895- 2002م" للناقد علي أبو شادي/ الكتاب ص 135/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 2004م.
[3]  انظر كتاب "وقائع السينما المصرية 1895- 2002م" للناقد علي أبو شادي/ الكتاب ص 150/ مرجع سبق ذكره.
[4]  انظر كتاب "وقائع السينما المصرية 1895- 2002م" للناقد علي أبو شادي/ الكتاب ص 181- 182/ مصدر سبق ذكره.
[5]  انظر كتاب "وقائع السينما المصرية 1895- 2002م" للناقد علي أبو شادي/ الكتاب ص 181/ مصدر سبق ذكره.
[6]  يشير الناقد السينمائي علي أبو شادي في كتابة "وقائع السينما المصرية 1895- 2002م" إلى أن فيلم "الظلال في الجانب الآخر" حصل على جائزة العالم الثالث في مهرجان "كارلو فيفاري"، وكان المخرج علي عبد الخالق عضوا بلجنة التحكيم/ انظر الكتاب ص 226/ مصدر سبق ذكره.
[7]  اسمه الأصلي غرة بت بيديكيان، وُلد في بغداد عام 1935م، وذهب إلى لبنان عام 1950م، والتحق بمدرسة الجامعهة الوطنية في "عاليا" بالصف الأول الثانوي، وقد كان مغرما بالإخراج؛ الأمر الذي جعله يترك المدرسة بعد الصف الرابع الثانوي ويسافر إلى سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة؛ حيث درس الإخراج السينمائي هناك لمدة أربع سنوات، وبعدها درس سنة في لندن، وعاد ليسكن في "عاليا"- لبنان في بيت عمته.
[8]  لم نستطع التوصل إلى تاريخ إنتاج الفيلم، أو عرضه.

الثلاثاء، 14 يناير 2020

الجميع يعرفون.. حفل زفاف يُطلق عاصفة من الأحقاد الاجتماعية

في سيناريو مُحكم كتبه المخرج الإيراني أصغر فرهادي Asghar Farhadi يقدم لنا الفيلم الإسباني الجديد Everybody Knows الجميع يعرفون، أو حسب الاسم الأصلي للفيلم Todos Lo Saben؛ ليناقش من خلاله الكثير من المشاعر المتناقضة، وغيرها من الأحقاد الاجتماعية التي تُحرك العديد من الأسر والمجتمعات؛ ومن ثم تسيطر على العلاقات وردود الأفعال المتباينة غير المنتظرة من الآخرين.
إذن، كعادة المخرج الإيراني في أفلامه السابقة يهتم أيما اهتمام بالعلاقات الاجتماعية والأسرية. وإذا ما كنا قد عهدنا دائما أن الفيلم الذي يتناول العلاقات الأسرية يهتم في المقام الأول بنقاش المُثل والمبادئ والقواعد التي لا بد أن تكون عليها الأسرة؛ فإننا هنا أمام فيلم يختلف فيما عهدناه؛ لأنه يحرص على تقديم الأحقاد المدفونة والمستترة لدى العديد من أفراد الأسرة وكيفية شيوعها وظهورها على السطح للجميع من خلال حدث مفصلي في السيناريو الذي كتبه وقام بإخراجه.
بوستر الفيلم
إننا أمام أسرة في الريف الإسباني يبدو عليها التماسك والحب في ظاهرها، وإن كانت الحقيقة أن ثمة مشاعر دفينة لا يعرف عنها أحد شيئا في قلب كل فرد من أفراد هذه الأسرة. هذه المشاعر تتحين الفرصة المناسبة للخروج؛ لتنفجر في وجه الجميع، ومن ثم تصبح العلاقات بينهم متوترة شديدة الحقد، وربما الكراهية أيضا؛ الأمر الذي يجعلهم يتغيرون جميعا إلى الأبد بحيث لا يستطيعون العودة مرة أخرى إلى أسلوب حياتهم القديم الذي كان يسوده الاستقرار الظاهري الذي يبدو للجميع.
من خلال حدث مفصلي ومُحرك للجميع- حفل زفاف آنّا التي قامت بدورها الممثلة الإسبانية Inma Cuesta إينما كويستا- تعود الشقيقة الكبرى لاورا الممثلة الإسبانية Penélope Cruz بينلوبي كروز إلى قريتها في الجنوب الإسباني من الأرجنتين- حيث تزوجت إليخاندرو الممثل الإسباني Ricardo Darin ريكاردو دارين الأكبر منها في العمر وعاشت معه هناك- ومعها ابنتها المراهقة إيرينا وطفلها الصغير؛ لحضور حفل زفاف الشقيقة الصغرى.
يقدم لنا المخرج أصغر فرهادي من خلال العشرين دقيقة الأولى في فيلمه استعراضا بانوراميا للعائلة الكبيرة التي يبدو لنا أنها تمتلك مكانة كبيرة في القرية الفقيرة؛ فالأب كان مالكا لكل أراضي القرية فيما قبل، وهي الأراضي التي ضاعت منه نتيجة المقامرة عليها أو إفراطه في الشراب، ولكن رغم ضياع ثروته ما زالت الأسرة تتمتع بمكانتها غير الهينة في هذه القرية، وهو من خلال هذا الاستعراض للعائلة يقدم لنا الكثير من الشخصيات التي يبدو السيناريو مزدحما بها للوهلة الأولى، وإن كان المشاهد فيما بعد سيستطيع تمييز كل شخصية عن الأخرى حينما يعتادها على طول الفيلم الذي تعدى الساعتين.
نلاحظ منذ بداية الفيلم أن ثمة مشاعر ما، أو علاقة بين كل من لاورا- الابنة الكبرى العائدة لحضور زفاف شقيقتها- وبين باكو- الممثل الإسباني Javier Bardem خافيير باردم- الذي كان يعمل في الماضي كخادم في منزل العائلة، لكنه اشترى فيما بعد جزءا كبيرا من الأرض وحوله لكرمة يستزرع فيها العنب، ويعمل فيها عدد كبير من أهل القرية الفقراء، هذه المشاعر أو العلاقة- التي نظنها- سرعان ما تتأكد لنا حينما تصعد ابنة لاورا المراهقة لبرج الكنيسة حيث الساعة الضخمة هي وابن شقيق باكو المتعلق بها، وهناك يخبرها أن الحرفين المحفورين على جدار البرج يخصان أمها وباكو؛ حيث كانا يرتبطان بعلاقة حب ملتهبة لسنوات طويلة فيما قبل، وحينما تندهش الفتاة وتسأله عن كيفية معرفته لذلك يقول لها بثقة: الجميع يعرفون.
ربما كانت الجملة التي قالها الشاب لابنة لاورا هي المفتاح والرمز الأساس للفيلم بالكامل؛ فالجميع، بالفعل، في هذه القرية يعرفون أسرار بعضهم البعض ويتشدقون بها سرا، رغم أنهم جميعا يظنون أن أسرارهم مكتومة في صدورهم لا يعرف عنها أحد شيئا. أي أن المخرج هنا كان بارعا في تقديم مفاتيح عالمه الاجتماعي كلما تقدم في الفيلم قليلا، ولعل مشهد البداية الذي نرى فيه برج الكنيسة من الداخل والساعة العملاقة بتروسها التي تتحرك بشكل رتيب إلى أن تدق أجراس الكنيسة كان من أهم المشاهد البارعة التي تؤكد أن فرهادي يدرك جيدا كيفية تقديم عالمه من خلال المشاهد الذكية؛ فهذا المشهد يُدلل من خلاله على أهمية الوقت في هذا العالم الفيلمي، والوقت هنا يلعب دورا حيويا قاتلا إذا لم نحاول السيطرة عليه.
مشهد البداية ورمزية الوقت سنعرفها فيما بعد حينما نرى العائلة بكاملها في حفل الزفاف بينما تشعر الفتاة إيرينا بالتعب وعدم الاتزان؛ فتأخذها أمها للدور العلوي لتنام؛ ومن ثم تعود لحفل زفاف شقيقتها مرة أخرى. تنقطع الكهرباء فجأة، وتصعد الأم للاطمئنان على ابنتها التي تنام في غرفتها مع شقيقها الأصغر لكنها تكتشف اختفاء الابنة، ووجود قصاصات من الصحف في فراشها تتحدث عن جريمة اختطاف كانت قد حدثت في القرية منذ أربع سنوات ماضية، وتم قتل الطفلة المختطفة فيما بعد.
إن حدث اختطاف إيرينا يعد الحدث المفصلي الثاني والأهم في الفيلم الذي كانت أحداثه تسير بوتيرة هادئة وثابتة؛ مما يُدلل على أن المخرج كان شديد الدقة في كتابة السيناريو والقصة منذ البداية؛ الأمر الذي أكسب الأحداث ثقة واتزانا حتى المشهد الأخير؛ لأن اختطاف الفتاة المراهقة يقلب علاقات العائلة بالكامل ومن يحيطونها أيضا من المعارف. هنا يبدو الأمر ظاهريا وكأنما الأسرة كلها تتعاون وتتحد من أجل البحث عن إيرينا واستعادتها من خاطفيها، لكن الحقيقة أن أفراد هذه الأسرة بدأت مشاعرهم الدفينة من الحقد القديم تظهر على السطح ليراها الجميع وينفضحون أمام بعضهم البعض الواحد تلو الآخر. أبو لاورا ينفجر في وجه جيرانه الذين أخذوا منه الأرض واشتروها بثمن بخس منذ ثلاثين عاما، كما ينفجر في وجه باكو- صديق الأسرة والحبيب الأول لابنته- ويخبره أنه يدخل البيت ويخرج كأنه واحد من أفراد الأسرة رغم أنه كان مجرد خادم في هذا البيت هو وأبيه، وأنه قد أشترى أرض ابنته منها بثمن بخس أيضا مستغلا حاجتها المادية في التوقيت الذي اشتراها منها فيه، وأهل القرية بالكامل يبدأون في الحديث السري عن العلاقة القديمة التي كانت تربط لاورا بباكو حينما يرونه معضدا لها واقفا إلى جوارها في البحث عن ابنتها المخطوفة وكأنها ابنته هو، والأم الكبيرة تبدي الكثير من الغضب والسخط على باكو والآخرين الذين استغلوا زوجها في الحصول على أراضيه، كما أن الجميع يظن أن إليخاندرو زوج لاورا مجرد رجل ثري في الأرجنتين ويطمعون فيه.
أي أن الجميع ظهروا لبعضهم البعض بجلاء، ولم يستطيعوا الاستمرار في إخفاء مشاعرهم الدفينة التي يشوبها الكثير من الحقد والحسد تجاه غيرهم. هنا تصل رسالة لهاتف لاورا تحذرها من إبلاغ الشرطة حتى لا يقوم الخاطفون بقتل الفتاة؛ لتشتعل الأحداث وتتحول الأسرة كلها إلى باحث عن الفتاة في محاولة لإنقاذها.
يخبر فرناندو- أحد أفراد الأسرة الذي قام بدوره الممثل الإسباني Eduard Fernández إدوارد فرناندز- أحد أصدقائه - الذي كان يعمل في الشرطة وأصبح متقاعدا- بالأمر؛ لاستشارته، وهنا يبدأ المحقق في التشكك في جميع أفراد الأسرة، بل ويؤكد للاورا أن مختطف ابنتها ليس بالشخص الغريب، بل هو فرد من أفراد الأسرة، هنا تبدأ الكثير من التساؤلات التي لا تنتهي: هل قامت إيرينا بالأمر بنفسها؛ وبالتالي لا تكون قد اختطفت، بل فعلت ذلك لعلاقتها مع ابن أخي باكو وحبها له، أم أن أباها إليخاندرو نفسه هو من قام بتخطيط الأمر بنفسه من الأرجنتين؛ نظرا لأنه متقاعد عن العمل منذ عامين ويمر بأزمة مالية كبيرة هي التي دفعت لاورا لبيع أرضها لباكو بأي سعر؟ بل إن الشرطي المتقاعد يطرح سؤالا أكثر أهمية: لِمَ تم اختطاف فتاة مراهقة من الممكن أن تُشكل صعوبة للمختطفين في حين أن اختطاف أخيها الأصغر الذي كان ينام معها في نفس الغرفة هو الأسهل والأكثر ضمانا لهم؟
من خلال هذا السؤال المهم تبدأ الأمور في التكشف؛ حيث نعرف أن إيرينا ليست ابنة إليخاندرو زوج لاورا، بل هي ابنة باكو من علاقة غير شرعية حينما زارت القرية بعد زواجها بثلاث سنوات، وحينما أخبرت زوجها الذي كان مدمنا للكحول في هذا التوقيت طلب منها الاحتفاظ بالجنين وعدم الإجهاض كما تواعدا على أن يكون نسب إيرينا سرا لا يمكن لأحد غيرهما أن يعرفه، ولكن رغم أنه كان من الأسرار المقدسة للزوجين، ورغم أنهما لم يتفوها به لأحد آخر، إلا أن الحقيقة تؤكد أنه لم يكن ثمة أسرار دفينة في هذه القرية؛ فالجميع يعرفون، أو يتشككون، وهناك من أفراد العائلة من يعرف أو يتشكك في ذلك؛ لذلك تم اختطاف إيرينا ليكون هناك المزيد من الفرص لدفع فدية 300000 يورو؛ فإذا ما عجز إليخاندرو عن الدفع، فلا بد أن يدفع باكو الذي كان حبيبا للأم فيما مضى.
الممثلة الإسبانية بينلوبي كروز
ينصحهم الشرطي المتقاعد بالتظاهر بأنهم يجمعون المال بالفعل من أجل دفعه للمختطفين لحين التوصل إلى حقائق جديدة في هذه القضية التي لا يمكن لأحد إخبار الشرطة بها حتى لا يقوم المختطفون بقتل الفتاة، ولكن خلال هذا التظاهر تزداد الأحقاد وردود أفعال الجميع على بعضهم البعض. يبدأ باكو في التظاهر بأنه سيبيع نصيبه من الكرمة من أجل مساعدة لاورا، ويأتي إليخاندرو إلى إسبانيا من الأرجنتين حينما يعلم باختطاف ابنته، ويبدأ البعض في التشكك في إليخاندرو نفسه باعتباره هو من خطط لاختطاف ابنته من أجل استغلال باكو، وإرغامه على بيع أرضه ودفع المال، لكن المفاجأة الحقيقية نعرفها حينما تذهب لاورا إلى باكو مُتشككة في أنه من اختطف ابنتها انتقاما منها؛ لأنها تركته في الماضي، وهنا تطلب منه عدم إيذاء الفتاة لأنها في حقيقة الأمر ابنته هو وليست ابنة إليخاندرو؛ بسبب لقائهما الأخير منذ ستة عشر عاما.
يبدأ باكو في بيع الكرمة من أجل إنقاذ ابنته، ورغم أن زوجته تتشكك فيما قالته لاورا وترى أنها تحاول استغلاله بالكذب عليه من أجل المال، إلا أنه يؤكد لها أن الفتاة ابنته هو بالفعل، وتتأكد الزوجة من صدق لاورا حينما تذهب إليها لتقول لها: إنها ستخبر زوجها- إليخاندرو- بكذبها على باكو من أجل استغلاله؛ فتخبرها لاورا بأن الزوج يعلم بكل شيء.
نلاحظ منذ البداية أن الشقيقة الأخرى للاورا- روسيو التي قامت بدورها الممثلة الإسبانية Sara Sálamo سارة سلامو- كانت قد انفصلت عن زوجها الذي سافر إلى ألمانيا بعدما أنجبا طفلة صغيرة، وحينما تسألها لاورا عن السبب تقول لها: مجرد أننا لم نتفق. هذه الشقيقة الأخرى تذهب ذات ليلة إلى منطقة غير مأهولة على أطراف القرية، وتخوض في الوحل من أجل الوصول إلى مكان مهجور يختبئ فيه الزوج الذي ادعت للاورا أنهما قد انفصلا وسافر إلى ألمانيا، وهناك نراها ترجوه بإعادة الفتاة إلى أمها؛ فاختطافه للفتاة من أجل المال- وهو ما اتفقا معا عليه لظنهما في ثراء زوج لاورا- قد أدى إلى تدمير عائلتها بالكامل، لكن شريكه في الاختطاف يرفض ذلك، إلى أن تتوصل معهما إلى اتفاق إطلاق سراح الفتاة في الفجر. حينما تعود روسيو إلى البيت تسألها الأم الكبيرة عن سبب تأخرها عند الطبيب حينما تراها مرتبكة، لكنها تتعلل بالعديد من الأعذار، وبينما تخرج الأم من الغرفة تلاحظ حذاء الابنة المتسخ بالوحل؛ فتعود إليها متشككة لتسألها عن سبب ابتلال بنطالها، هنا تضطرب الفتاة وتخبرها أنها قد تقيأت في الطريق ومن ثم ابتلت ملابسها. لا تصدقها الأم وتخرج من الغرفة متشككة بينما تتأمل حذاء الابنة الموحل.
المخرج الإيراني أصغر فرهادي
يرسل الخاطفون برسالة صوتية لباكو بصوت إيرينا تستغيث وتبكي بأنهم سيقتلونها إذا لم يتم تسليم الأموال في موعدها الليلة وفي المكان المُحدد؛ فيسرع باكو إلى المكان لتسليم النقود، لكن بينما ينتظر في سيارته تأتيه رسالة جديدة تخبره بأنهم سيلقون الفتاة في النهر، وبالفعل يسمع صوت شيء ما يرتطم بسطح النهر المجاور له؛ فيسرع هابطا إلى الشط معتقدا أنهم قد ألقوا بإيرينا بالفعل، لكنه حينما يعود إلى السيارة لا يجد حقيبة المال، بينما يجد إيرينا موثقة اليدين والقدمين في المقعد الخلفي للسيارة وهي في حالة إعياء تام.
حينما تعود إيرينا إلى البيت يبدع المخرج أصغر فرهادي في مشهد المواجهة الصامت بين الأم وابنتها روسيو الضالعة في اختطاف ابنة شقيقتها والتي تتشكك فيها الأم بدرجة أقرب إلى اليقين؛ لا سيما أن الأم قد لاحظت أن حذاء حفيدتها إيرينا ملطخ تماما بالوحل، وهي نفس ملاحظتها السابقة بتلطخ حذاء روسيو في الليلة الماضية؛ الأمر الذي أكد لها أن روسيو لها علاقة وثيقة باختطاف الحفيدة. يعبر المخرج عن ذلك من خلال مشهد الأم هابطة من حجرة حفيدتها بينما تصعد روسيو لرؤية إيرينا والاطمئنان عليها؛ فتتوقف الأم في مواجهتها صامتة تماما متفحصة إياها بينما تبدو دلائل الاتهام في عينيها، وفي المقابل تزداد روسيو أمامها ارتباكا وعجزا عن مواجهة الأم بعينيها.
إن مشهد النهاية الذي اختتم به أصغر فرهادي فيلمه يؤكد اهتمام المخرج بالعلاقات الاجتماعية والمشاعر الدفينة داخل كل فرد من أفراد المجتمع، أكثر من اهتمامه بالحدث الذي أفرز هذه المشاعر على السطح؛ لينفضح الجميع أمام بعضهم البعض؛ فهو لم يهتم بالكشف عن المختطفين رغم أننا قد عرفناهم، ولم يهتم بإعادة أموال باكو الذي قدم كل ما يمتلكه كفدية لابنته، ولم يراع تتبع حياة باكو الزوجية التي تدمرت تماما بسبب ما حدث، وهجر زوجته له، بل جعل لاورا تعود إلى الأرجنتين هي وأسرتها بينما بدأ أفراد العائلة في التفرق بعد وداعها. هنا نرى الأم الكبيرة تجلس على أحد المقاعد في الشارع وتطلب من فرناندو البقاء معها لأنها تريد أن تُفضي إليه بأمر ما؛ لنرى تيترات النهاية مباشرة حينما يجلس إليها، أي أن كل ما يمكن أن يحدث بعد ذلك ليس مهما لدى المخرج الذي أراد التركيز في المقام الأول على الأحداث التي يمكن لها تفجير كل ما هو مُستتر لدى الجميع من أسرار ليتعروا أمام بعضهم البعض، وتنكشف الادعاءات والمشاعر المزيفة، بل ولتصبح الأمور التي يظنها البعض منهم أسرارا دفينة مجرد مشاع يعرفه الجميع ويدعي أنه لا يعرف عنه شيئا.
الممثل الإسباني إدوارد فرنانديس
إن الفيلم الإسباني "الجميع يعرفون" من الأفلام المهمة التي قدمها المخرج الإيراني أصغر فرهادي، وهو من خلاله يتابع اهتمامه الذي عرفناه عنه في أفلامه السابقة من اهتمام بالعلاقات الاجتماعية والإنسانية ومدى صدقها أو زيفها من خلال بناء سيناريو مُحكم يتسم بالاتزان والثقة والهدوء في تحريك الأحداث؛ ليفضي في النهاية إلى ما رسمه في ذهنه منذ البداية، كما يؤكد من خلال فيلمه أن خروج هذه المشاعر على السطح لا بد لها أن تؤدي إلى تدمير حياة الجميع إلى الأبد؛ فهم جميعا لن يعودوا مرة أخرى إلى حياتهم التي عهدوها بعدما حدث، ولعل وجود الممثلين بينلوبي كروز، وخافيير باردم، وريكاردو دارين ومباراتهم الساخنة في الأداء كانت من أهم العوامل التي ساعدت في تقديم فيلم جيد لا يمكن للمشاهد تناسيه بسهولة.



محمود الغيطاني

مجلة تلي سينما
عدد يناير 2020م