الخميس، 2 يناير 2020

شرطي هو الفرح.. أسطورية القرية ومادية المدينة


ربما كانت جدلية/ ثنائية القرية والمدينة من الجدليات التي تبدو واضحة ومسيطرة بشكل كبير على العديد من الساردين من أبناء القرية الذين انتقلوا إلى المعيشة والاستقرار في المدينة؛ ومن ثم يظلون يجترون فيما يكتبون أخلاقيات القرية، وحياتها، وأساطيرها وخرافاتها التي ينسجونها ويصدقونها، لكنهم لم يتوقف بهم الأمر عند هذا الاجترار أو الحنين إلى المعيشة فيها فقط، بل تعدى ذلك إلى المقارنة الدائمة بين عالمي القرية والمدينة ظانين في قرارة أنفسهم أن ثمة تعال وترفع حقيقي من أبناء المدينة يواجهون به أبناء القرية؛ ومن ثم فأبناء المدن يسخرون منهم، ومن أسلوب معيشتهم وأفكارهم، وغير ذلك من الأمور الجوهرية والخلافية بين العالمين المختلفين تماما، واللذين لا يمكن لهما أن يلتقيا في نقطة من نقاطهما؛ نظرا لاختلاف الثقافات الجوهري والجذري، واختلاف طبيعة الحياة ومعطياتها بين العالمين.
لذلك سنرى الأغلبية العظمى من الكتاب ذوي الأصول القروية يدورون في فلك المقارنة الدائمة بين القرية والمدينة، بل ومحاولة المفاضلة بين العالمين، والمجتمعين لدرجة شعورهم أحيانا- في كتاباتهم التي قد تنعكس على سلوكهم- بالغبن أمام أبناء المدينة الذين يرونهم أقل منهم اجتماعيا.
نلاحظ ذلك في رواية "شرطي هو الفرح" للروائي المصري أشرف الصباغ؛ حيث الثنائية بين العالمين والمجتمعين منذ الصفحات الأولى من الرواية حينما يقول على لسان الراوي: "ثمة مدينة تنتزع منك شيئا ما. قد تمنحك حلما قديما بتحقيق أحلامك الصغيرة البائسة. ولكنه سيبقى محض حلم وأنت لا تستطيع إلا أن تحصل على أنصاف الأشياء وأشباهها. إنها تنتزع ذلك الشيء الذي وُلد معك، وكبر هناك بعيدا عن ضوضائها وبناياتها الضخمة التي تُشعرك بضآلتك وعدم جدوى وجودك. بالضبط، مثل نسائها اللائي يتحدثن عن أمثالك ككلمة في كتاب مقدس. وما أن يلمسن حرفا منك حتى يكتشفن أنك كلمة خطأ، جاءت بالصدفة في كتبهن المقدسة التي يستطعن تبديلها متى شئن. أمامك طريقان لا ثالث لهما: أن تعترف وتخضع، وتسكن قمة جبل عال لتدرك أنك مهما ألقيت بنفسك، فلن تطير، أو تعترف بأنك خسرت حبيبتك وتتجه فورا إلى الفرع الملعون لتحلق من جديد نحو الأفق البعيد. أن تخضع لفرضية، أو حتى إمكانية، الحياة في جسد بدون روح كي لا تشعر بالموت، فتظل تسكن المدينة التي تنتزع منك جوهرة قلبك، أو تغادر البنايات الضيقة، والعبارات الفضفاضة- الضيقة، وعلاقات الحب التي ضاقت بفعل التراكمات وميكانيكا التحكم والسيطرة". من الاقتباس السابق يتأكد لنا أن ثمة صراع حقيقي يدور داخل الراوي فينجذب إلى عالمه الأساس وهو عالم القرية الذي يرى فيه البراءة والصدق، وغير ذلك من الأمور التي يراها في أهل القرية، بينما ينجذب من جانب آخر إلى المدينة التي لا يقوى على فراقها وإن كان يرى أنها قاتلة للروح وللجوهر القروي- الذي يراه أصيلا- في داخله.
إذن فهو في صراع دائم بين العالمين، وإن كان عالم المدينة هو المنتصر في النهاية- على الأقل- من الناحية المادية حيث يظل يعيش فيه غير قادر على مغادرته، وإن كان يشعر فيه بعدم الراحة، والاقتراب من الموت، وربما الضآلة؛ نتيجة لأنه يرى أهل المدينة يتعاملون مع أهل القرى بالكثير من التعال والأنفة والانتقاد على كل المستويات.
هذه الصراع بين العالمين يتجلى بشكل حقيقي وجوهري بينه وبين حبيبته حينما: "قالت له يوما: شرطي هو الفرح. لا شي اسمه السعادة. الفرح هو الحياة. وقالت أيضا: إذا أردت أن تحب، فتعال؛ وإذا أردت أن تفهم، فاذهب ثانية إلى المدرسة؛ وإذا أردت حنان الأم، فدعني وشأني. اذهب إلى حضن أمك، أو ابحث لنفسك عن مربية.. أنا امرأة للحب"، إذن فهي ليست الحبيبة التي من الممكن جدا له أن يقابلها في القرية؛ حيث تصبح له الشقيقة والحبيبة والزوجة والأم كما يرى، بل هي الحبيبة التي تريد السعادة فقط، المستقلة في أفكارها ومشاعرها، التي ترغب الحياة كما تهواها هي، وليس كما يهواها أو يتخيلها هو. هنا يكون الفارق النفسي الكبير لدى السارد المتشبع بروح القرية وسلوكياتها، وأفكارها حينما يصطدم بأفكار وسلوكيات أبناء المدينة المختلفة تماما حتى في المشاعر والحب؛ لذلك لا بد له أن يشعر بالكثير من الاغتراب وعدم قدرته على التكيف مع هذا العالم الغريب عنه نفسيا.
لذلك فهي حينما تنتقد أمامه أهل القرية وسلوكياتهم حتى في تناول الطعام يرغب في الرد عليها لكنه يمتنع: "كان من الممكن أيضا أن يستفسر بسخرية عن تصورها لتربية أبناء القرى والأرياف الذين يعتبرون الخبز وجبتهم الرئيسية، وما الفرق بين أبناء القرى في الأرياف وأبناء المدن في الأحياء الشعبية والمناطق العشوائية! نحن أبناء المدن لا نأكل الخبز كثيرا. لكن أبناء الريف والقرى يعيشون على الخبز. هذا هو الفرق بيننا وبين القرويين وأبناء الأرياف. إنها ثقافة ونمط حياة. أنا ابنة مدينة. أما هي- وكما قلت لها- ابنة قرية. وأضافت ساخرة: وإلا من أين ستأتي أزمة الخبز؟! وهل تعتقدين أن أبناء الأحياء الشعبية، في مدنك التي تسكنينها، لا يعيشون على الخبز؟ هل تعتقدين أنهم يعيشون مثلك بالضبط على نظام غذائي صحي صارم تغيرينه وتبدلينه وقتما وكيفما وأينما أردت؟ كان من الممكن أن يطول الحديث ليدخل إلى مناطق خطرة ومحرمة ومسكوت عنها. لكنه فضل أن يبتسم ابتسامة ليس لها أي معنى، كست وجهه رغما عنه لتنتزع من روحه ضيقا وألما، وربما بعض الندم.. بعض الندم لأنها قالت له صراحة: أنت على سبيل المثال، عندما يكون أمامك اللحم والأرز، تمد يدك لتأكل اللحم بالخبز، وهذا غريب. ولكنه مفهوم، ويرجع لتربيتك القروية". إذن فالصراع بين طريقة المعيشة القروية في مقابل المدينة لا يمكن لها أن تنتهي، وستظل دائما في حالة شد وجذب بين أبناء العالمين ولن يلتقيا مهما حاولا التقارب، ورغم أنها ابنة مدينة وتحب الراوي ابن القرية، إلا أن انتقاداتها لسلوكياته باعتباره ابن قرية لن تتوقف وستظل على حالها دائما؛ وبالتالي ستظل الهوة بين العالمين تتسع؛ نتيجة لأن أبناء القرية غير قادرين على التعاطي والتعامل مع آليات الحياة المختلفة في المدينة.
لعل هذا هو السبب الذي يجعله ينتقد المدينة التي يحبها ويعمل على تشويهها في داخله؛ نتيجة اختلاف النظرة الثقافية التي ينطلق منها أبناء كل من العالمين: "مدينة شائخة ومشوهة. لا أحد يعترف بذلك إلا في القصص والأشعار. كلهم يفخرون بعراقتها ومجدها، ويتجاهلون عمدا تلك البثور والتجاعيد التي تغطي وجهها القبيح. يتغنون بجمالها ويتمنون العودة إلى الوراء، وإلى أزهى العصور، بينما الجيوش من أطفال الشوارع يراقبون الوضع مثل القطط الجائعة من تحت الكباري والجسور ومن الحواري المظلمة، ومن مكامنهم خلف صناديق القمامة. فعن أي خبز باللحم يدور الحديث؟ وعن أي أرز يمكن أن تأكله في تلك المدينة بلا رفيق عاش بجسد ناقص، وذهب بجثة ناقصة؟ عاش ومات في المدينة وليس في القرية، وكان يحب أن يأكل اللحم بالخبز لعله يوفر حفنة أرز للأم أو الزوجة الحامل.. أو يوفر بعض المال للطفل القادم".
تنطلق رواية "شرطي هو الفرح" من البار. كل شيء يبدأ من البار وكأنه هو محور الحياة؛ ففي البار يتحدثون في السياسة، والدين، والثقافة، والجنس وكل شيء أثناء تناولهم لخمورهم؛ لذلك نلاحظ الكثير من التناقض السيكولوجي بين مرتادي البار حينما نرى يوسف/ الراوي يرد على أحدهم قائلا: "كلنا عابرون، وسيبقى فقط وجه ربك ذو الجلال والإكرام. كل ما هنالك أن الحياة طويلا في خرارة تفقدك حاسة الشم. توجه إلى حسن- النادل، وطلب زجاجة ويسكي كاملة". إن هذا التناقض لا بد أن يثير الكثير من الدهشة؛ نتيجة هذا اليقين الإيماني العظيم في الوقت الذي يجلس فيه في بار يحتسي المزيد من الخمر.
لكن مع الغوص في عالم السُكر وبداية الشعور بخفة الجسد يتكشف أمام يوسف كل شيء، تماما كما يحدث في لحظات الكشف الصوفية لدى المتصوفة الذين يكونون في حالة سُكر طبيعي نتيجة إيمانهم، وهي حالة أشبه بحالة السكر المادي بالخمر التي يصل إليها يوسف وغيره من رواد البار؛ ومن ثم يبدأ في التأمل: "لقد خُلق العالم في البداية بسيطا وجميلا بعلاقات غير مركبة ولا صواريخ أو قنابل أو إنترنت ومواقع تواصل اجتماعي. يبدو أنهم كانوا يتصورون أن الأمور ستسير كما خططوا لها، وسيقتصر الأمر على رجل وامرأة وبعض الحيوانات البدائية ومساحات من الخضرة والماء. لم تراودهم، عندما جلسوا واتفقوا ثم خلقوه، حتى فكرة أن تكون هناك بارات بهذا الكمال المعماري خارجيا وداخليا. لم يتصوروا أن العقل الساكن في هذه البارات يمكنه أن يصمم أنساقا معمارية بديعة، يسجد ويركع لها، لينفخ فيها من روحه فتنهض بمحض إرادته ويكتمل العالم بدون قبح. لم يكونوا يتصورون أن يتطاول هذا المخلوق عليهم أو يقترب من ذلك المشروب الذي يفضح الأمور والأشياء والروايات والخرافات". إذا ما عرفنا الجدلية السابقة بين القرية والمدينة، ومعاناته النفسية مع المجتمع، بل ومع حبيبته أيضا يسهل علينا فهم سيكولوجية يوسف الذي يلجأ إلى البارات باعتبارها الملاذ الأول والأخير له في هذا العالم؛ ففي البار يجد نفسه، ويستطيع التصالح مع العالم، وتأمله، والرضى عنه من دون أي سخط يجده داخله؛ فيخرج في النهاية من البار وهو راض عن كل ما حوله غير مختلف مع الأشخاص أو العالم أو نفسه، وهو ذاته يؤكد من خلال السرد أنه يحب هذه الرحلة الدقيقة التي يراقبها ويتابعها في الإبحار إلى العوالم التي يريدها ويميل إليها من خلال تجرعه للمزيد من الخمر.
من خلال هذه الرحلة مع الخمور يبدأ يوسف في اكترار ماضيه في القرية وحياتها وعاداتها ليتأمل هذا العالم القريب إلى نفسه الذي لا يستطيع الانفصال عنه، ولعل في اكتراره لعالم القرية وما يدور فيها من حكايات وخرافات وأساطير رغبة في الهروب من وطأة المدينة عليه، وعدم قدرته على التكيف مع عالمها وثقافتها المختلفة عنه كل الاختلاف؛ لذلك يعود إلى مقام سيدي الخراشي الموجود في قريته في قلب الدلتا والذي ينسج حوله أهل القرية الكثير والكثير من الأساطير، كما يتبركون به بقدر خوفهم منه ومن المنطقة التي هو فيها فنقرأ أثناء رحلة عودته النفسية والذهنية إلى القرية: "يتجسد صوتا يرتل في الخلاء اللانهائي.. المجد لك وأنت تنام مكوما لتكتم صراخ معدتك بركبتيك الصغيرتين، وتحلم برغيف خبز كامل وبالونة حمراء، وربما بطائرة من ورق ملون تمتلك أنت حق توجيهها يمينا ويسارا.. المجد لك عندما تمسك بخيط طائرتك الورقية الملونة وتنظر إليها مبتسما، فيسقط فجأة شعاع شمس في عينيك، فتذرهما مبتسما، فينعكس النور على سنك الأمامية، فيضاء الكون بنور لا رأته عين ولا خطر على قلب بشر.. المجد لك، يا أجمل أطفال الأرض، بوجهك الصدئ المليء بالندوب وبثيابك المهلهلة المتسخة دائما، عندما يوقظك مواء القطط وعواء الكلاب في الأحلام.. المجد لك، وأنت تسير في غبشة الفجر- ولم تستيقظ بعد- فوق قضبان السكة الحديد، تعد الفلنكات إلى أن تصل إلى الورشة، وبداخلك كل فرح الدنيا، لأنك ستحصل اليوم على أجر الأسبوع كاملا قبل عيد الأم.. المجد لك، ولنظرتك المرعوبة أحيانا، والحاقدة في أحيان أخرى.. لأنفاسك الضعيفة وقلة حيلتك.. لقوة احتمالك وصبرك وجلدك وحدة بصيرتك الأولى.. لاندفاعاتك الطفولية المجيدة وأنت تدخل في خصومة مع الكبار وتعرف مسبقا أنهم سيسلخون جلدك.. المجد لك، وأنت تهز رأسك موافقا، وفي قرارة نفسك تلعن الواقف أمامك.. وأنت تبتسم له، ولسان حالك يردد أجمل ما رضعته من شتائم.. وأنت تحسم أمرك وتتخذ قرارك الأخير.. المجد لك، حين ينفذ صبرك، وتطرد كل هواجسك مع مواء القطط وعواء الكلاب في الأحلام.. حين تشب على أصابع قدميك، فتأخذ وضع الفهد فيتوتر جسدك كسهم في وتره، فتنشب أظافرك في لحم رقبته المكتنزة، فتضع أصابعك في عينيه العمياوين وتنتزع قلبه الحجري لتلقي به إلى قططك وكلابك التي شاركتك أحلامك وكسرة خبزك وشربة مائك منذ وُلدت.. المجد لك، حين تهرس جسدك الصغير، الذي لم تطأه كسرة خبز ليوم كامل، عجلات أي سيارة عابرة، فيلملمونك في ورق الجرائد، ويدفنونك كيفما اتفق في قبر لمجهولي الهوية، بينما أمك تبحث عنك وتظل إلى أبد الآبدين بحسرة غيابك.. المجد لك، حين وُلدت، وحين رحلت، وحين تُبعث حيا".
ربما حرصنا على سوق هذا المقطع السردي الطويل نسبيا، والذي كان في بداية حلم يوسف للعودة إلى عالم القرية للتدليل على أن رغبة الروائي في العودة إلى عالم القرية والحكي عنه بتفاصيله الكاملة قد بدأها بداية غير موفقة؛ فالسرد هنا يبدو تقليديا، مملا، غنائيا في جانب من جوانبه لا يتناسب مع حيوية السرد السابقة؛ لا سيما أنه من خلال هذا المقطع يُعيد علينا بعض المعلومات التي سبق أن عرفناها فيما سبق من سرد روائي مثل عمله في الورشة وغير ذلك، فضلا عن أن الروائي هنا يظل يردد ويكرر لازمة الجملة الافتتاحية "المجد لك" رغم أنه لا توجد أي ضرورة فنية لمثل هذا التكرار اللهم أن الروائي قد وجد فيها جرسا موسيقيا مطربا في أذنه فأمسك بها غير راغب في تركها، رغم أنه كان يستطيع أن يذكرها في بداية المقطع السردي ثم يذكر كل ما يرغبه بعدها من دون تكرارها كل هذا العدد من المرات؛ الأمر الذي جعل السرد بطيئا وفيه قدر غير قليل من الإملال، فضلا عن التكرار الزائد عن الحاجة مما يبدو لنا نتوءا في جسد السرد الروائي.
ينتقل الروائي فجأة- وبشكل كامل- إلى عالم القرية تاركا خلفه عالم المدينة الذي بدأ به السرد، ومن ثم تبدو لنا ثمة قطيعة سردية في العالم الروائي بين الجزء الأول من الرواية وجزئها الثاني الذي ينغمس انغماسا كاملا في عالم القرية وأشخاصها، وخرافاتها، وحكاياتها التي لا تنتهي؛ فيحدثنا عن الجد/ عزيز، وجدته الكبرى- أم الجد-، وجدته الصغرى أم أبيه، وعماته، وأعمامه، وأبناءهما، وجيرانهم من أهل القرية، وحكايات وخرافات مقام سيدي الخراشي وغير ذلك الكثير؛ حتى لكأننا نظن أننا قد انتقلنا إلى رواية أخرى جديدة غير تلك الرواية التي بدأ بها الروائي سرده.
في هذا الجزء- الخاص بالقرية- سنعرف سلطوية الأب/ كبير العائلة الذي يكاد أن يكون إلها مُهابا، قاسيا على الجميع الذين يخشونه لدرجة قد تجعلهم غير قادرين على الحديث معه، وهو بالتأكيد ما لا نراه في عالم المدينة ويتناقض معها تماما: "اجتاحني شعور بالشفقة، وتلاطمت في رأسي أفكار عديدة.. سوف يضربها على أي حال. إن لم يكن بسببي فبسبب تهشم إبريقه الذي يتوضأ بمائه قبيل صلاة الفجر.. لكن ربما يبدأ بها ثم يضعضع عظام الجميع كالعادة.. وإن قالوا له بأنني السبب في سقوط الإبريق، فسوف يسوي عظامي بعظامهن بالأرض.. بل ويمكن أن يضرب عمي الأكبر ويطرده كالعادة. في الصباح، أدمى وجه جدتي الصغرى وركل أمي بسبب انزلاق قدم بغلته؛ وبالأمس صفع عمي وبصق في وجه جدتي الكبرى، عندما نقر الديك الأحمر البقرة.. وفي الصيف الماضي، رقدت عمتي الكبرى عزيزة في المستشفى شهرا كاملا بعد أن كسر لها ضلعا بسبب سهوها عن وضع العلف للحمار؛ وفي الشتاء، أُصيبت عمتنا الصغرى أمينة بنزيف حاد لمّا ركلها في بطنها عندما دهس الجمل خروفا صغيرا.. وذات مرة، حاول إجبار عمي على تطليق زوجته- العنزة العاصية كما يسميها. ولما لم يستجب العم، ضرب نساء الدار أجمعين، ثم طلق جدتي وأعادها في اليوم التالي و..". هنا، ومع الانغماس السردي الكامل في عالم القرية يتضح لنا الفارق العظيم بين عالمي القرية والمدينة؛ حيث كبير العائلة الطاغية على جميع من فيها، والذي يتعامل معهم باستعباد باعتبارهم مجرد أشياء يمتلكها وله حرية التصرف فيها، بينما لا يمكن لنا أن نرى هذا السلوك في عالم المدينة المختلف كليا في ثقافته عن هذه الثقافة السلطوية.
أشرف الصباغ
في هذا العالم القروي يتحدث الصباغ عن القهر الواقع على المرأة في عالم القرية؛ حيث تتحول المرأة إلى ملكية خاصة لجميع الرجال، واقعة تحت سطوتهم وظلمهم وتغولهم في هذا الظلم، سواء كان بدنيا، أو معنويا، بل ويصور أن المرأة التي تعترض على هذا السلوك تجد من الأذى النفسي والمعنوي ما يعد أكثر قسوة من الأذى الجسدي الذي تناله معظم النساء هناك، والأنكى من ذلك أن النساء يمارسن الظلم ذاته على غيرهن من النسوة؛ فنرى "العضاضة" تحكي له عن عمته عزيزة: "قالت باكية: إنها لم تستطع حمايتها حتى النهاية. فبعد عودتها في المرة الثانية قرروا جميعا التخلص منها. في البداية، استدعوني بعد خروج الرجال من الدار. أحضروها بدون مقاومة. اطمأنت لما رأتني. جردوها من ثيابها. قالت الجدة الكبرى: كيف هي، يا عضاضة؟ بكر؟ وضعتُ يدي على فرجها ودموعها تتساقط دافئة على يدي. مددت إصبعي في هدوء. وقلت لهن: بكر. بكر كما وُلدت. تركوها تنتحب وتخفي وجهها بين ثيابها. اصطحبوني إلى القاعة القبلية. قالت الجدة في حسم: نريد أن نطاهرها مرة أخرى. صرختُ فيهن: كيف؟ لقد فعلتم وهي صغيرة. ردت الجدة في إصرار: لم يكن كافيا. صرختُ ثانية: ستموت. استدعوا الداية وأخفوها في القاعة الجوانية. ساقوا عزيزة كالذبيحة إلى هناك. أرقدوها على ظهرها وأمسكوا بيدها ورأسها، كتموا صراخها. جردوها من سروالها وفتحوا ساقيها. أشهرت الداية الموسى وضربته كيفما اتفق في بظرها. نزفت. استدعوني مرة أخرى. وضعتُ الحناء على الجرح، فلم تُجدِ. وضعتُ تراب الفرن. فلم يتوقف النزف. بكت العضاضة، وقالت: إنهم أخفوا عن جدي الخبر. قالوا له إنها مصابة بنوبة برد. فاستدعى الجد أبا النصر ليعطيها حقنة". إذن فمن خلال الظلم الذي تصبه النساء على بعضهن البعض، وكأنه إسقاط لما يلاقينه من الرجال، ماتت العمة عزيزة بسبب ختانها مرة أخرى وبيد أمها.
هذا القهر الواقع على المرأة نراه أيضا مع نعيمة قريبة جدة الراوي الصغرى حينما تتزوج من الشيخ السباعي، شيخ القرية وساحرها الذي يسخر الجان، وحينما يطلب منها أن تبيع أرضها، ويخبرها برغبته في مضاجعتها من الخلف ترفض الطلبين وتتجنبه؛ فيبدأ في إطلاق الشائعات عليها أمام الجميع: "في اليوم التالي، كانت القرية كلها تعرف أنها عاصية، وترفض النوم مع زوجها، لأنها تُرضع ابنها إلى الآن. وهناك من حكى أنها تلعب في ذكر ابنها أثناء الرضاعة. وروى آخرون عن الشيخ السباعي أنها تنام مع الصبي. اعتزلتها القرية. منع جدي دخولها إلى الدار من جديد. كانت العضاضة هي حلقة الوصل بينها وبين نساء دارنا. وعندما زارتها عمتي الكبرى عزيزة ذات ليلة، علم جدي من الشيخ السباعي الذي كان يسلط عليها العيون والآذان. فضربها جدي علقة نامت على أثرها شهرين. طلقها الشيخ السباعي في مشهد تناقلته القرية لسنوات طويلة. لكنها في اليوم التالي، ارتدت أزهى ملابسها، وألقت على رأسها بطرحة ملونة تظهر جزءا من شعرها. اصطحبت أمين وذهبت إلى السوق. باعت واشترت. اتفقت مع أحد البنائن على بناء دار بعيدة عن أرضها القريبة من الهضبة. وخلال شهرين صارت الدار الجديدة جاهزة. اشترت كل ما يلزم. باعت القديمة بكل ما فيها. أخذت الطيور فقط، وابتعدت هي وأمين عن القرية. ظلت تزرع وتحصد. تربي الطيور والمواشي وتذهب إلى السوق للبيع والشراء. توقف أمين عن الرضاعة في سن السابعة . راحت وقدمت له في مدرسة القرية. لكن الشيخ السباعي لم ينس ما حدث. كان لا يزال يشعل القرية ويوغر النفوس. وكلما رأى الصبي ازدادت النار في روحه. لم يتماسك ذات مرة، وأوقفه في الطريق. قال له: أمك عاهرة. وأهل القرية رأوك وأنت تنكحها. حكى أمين باكيا. ولم تنم نعيمة ليلتها. انتظرت حتى جاءت صلاة الجمعة واعتلى الشيخ السباعي المنبر. وقفت حاسرة الرأس على باب الجامع الكبير، وصاحت: الشيخ السباعي قال ما قال. وأنا أقول لكم: إنه كان يريد أن أبيع أرضي. كان يريد مواقعتي من الخلف. من منكم يواقع امرأته من الخلف؟".
هنا يتبين لنا مدى القهر الواقع على الأنثى في المجتمعات القروية خلافا للمدينة، وهو القهر الذي تسقطه الأنثى على غيرها من الإناث إذا لم تجد بالتالي من تقهره.
ثمة أساطير وخرافات لا تنتهي يعيش فيها عالم القرية وأهلها، وهم يصدقون هذه الخرافات إلى درجة اليقين من وجود إله لهم، ورغم أنهم لم يروا أي شيء مما يدور في خرافاتهم إلا أنهم يؤمنون بها، ويعملون لها الكثير من الحساب والاحترام النابع من الخوف، وهي هنا تنبع من مقام سيدي الخراشي الموجود على طرف القرية وأمامه شجرتي السنط والنبق اللتين يخشى الجميع أن يعتليهما حتى لا يسقط في الفرع الملعون من النهر خلفهما، لكن حينما يهبط يوسف مع محفوظة ابنة العضاضة إلى الفرع الملعون من النهر يقول: "خرجنا، نظرتُ نحوها، كان جسدها وكأنه لم يلمس الماء قط. اقتربتُ منها. مددتُ يدي نحو صدرها. المسافة من الشاطئ إلى باب الحرش تحولت إلى ساحة مفروشة بالأخضر.. كلما اقتربنا من الباب، كانت المسافة بين أقدامنا وبين الأرض تزداد.. قبل أن ندخل، وعلى الباب مباشرة، التفتت نحوي بابتسامة كنور البدر. وإذا بدوامة هواء باردة ترفعنا معا إلى أعلى، وصوت ارتطام هائل يزلزل كل ما حولنا. انفتحت طاقة نور، وإذا بمحفوظة تتجسد طيفا لا أول له ولا آخر.. كينونة واحدة بأطياف متعددة تسير متناغمة.. كل شيء واضح ومكشوف، ولا شيء ملموس.. انبعث صوت ليس له مصدر.. أنت لست بحاجة هنا إلى هذا العقل المحدود.. لست بحاجة إلى جسد مادي ملموس.. هنا عالم إدراكي مختلف تماما.. لست بحاجة إلى يدين أو قدمين أو عينين.. لست بحاجة إلى أذنين لسماع أي شيء.. كل شيء يسير في انسيابية غير عادية.. يسير على نسق آخر تماما من الحركة والكلام والنظر.. لا أسئلة ولا أجوبة.. عندما يبرز السؤال، تبرز إجابته.. قد تلتقي كينونة ما، أو أكثر من كينونة معا.. السؤال غير المنطوق وغير المسموع يعرف هدفه، فتأتي الإجابة دون سماع السؤال أو النطق به.. تردد الصوت في كل الأنحاء.. أن تدخل من الباب الكبير وسط تلك الدوامات والعواصف، فتتحول، فتتخلص تماما من كل شيء.. العقل هنا ليس مجرد قطعة من اللحم واللفائف والخلايا. هو أيضا كينونة تمارس ذاتها لذاتها. كينونة إدراكية مفتوحة على المطلق.. ينطلق إلى كل الوجود بلا مكان ولا زمان.. لا ذاكرة أيضا، لأن الذاكرة فقدت وظيفتها، وتحولت إلى حالة إدراكية: هنا والآن ولا شيء قبل ولا شيء بعد، فانتفت عنها صفاتها".
في هذا الاقتباس يريد الروائي التعبير عن الأسطورة التي يتخيلها أهل القرية من خلال يوسف ومحفوظة اللذين عبرا الفرع الملعون من النهر، وهو الفرع الذي لا يجرؤ أحد على النزول في مياهه، لكنه يخبرنا على لسان يوسف الذي خبر التجربة، بما يمكن أن يحدث للمرء الذي ينزل إلى مياة هذا الفرع الملعون. ربما يريد الكاتب هنا التأصيل للخرافة الشعبية في القرية، ولكن إذا ما تأملنا الاقتباس جيدا من خلال العديد من مفرداته مثل: "كينونة"، و"العقل المحدود"، و"عالم إدراكي مختلف"، و"قد تلتقي كينونة ما، أو أكثر من كينونة معا"، و"هو أيضا كينونة تمارس ذاتها لذاتها. كينونة ذاتية مفتوحة على المطلق"، و"حالة إدراكية"، وغير ذلك من المفردات الفلسفية المجردة التي لا يمكن أن يعيها عقل طفل مثل يوسف/ السارد. نقول: إذا ما تأملنا هذه المفردات المجردة يتأكد لنا أن الروائي هنا هو الذي يتحدث من خلال لغته وتفكيره المجرد، ومفرداته وليس من خلال شخصية الراوي يوسف، الطفل الصغير الذي لا يمكن له إدراك مثل هذه المعاني المجردة، أي أن الروائي أشرف الصباغ اقتحم بنفسه السرد الروائي وعمل على توجيهه كيفما يرغب من دون مراعاة للمنطق السردي الروائي؛ ومن ثم ظهر كصوت عال داخل العمل الروائي من خلال مقاطع لا يمكن هضمها، أو تقبل أن الطفل يوسف هو الذي يرويها علينا.
الخرافة هي المسيطرة على العالم القروي تماما؛ لذلك حينما تختفي العضاضة ثم محفوظة يقول يوسف: "الاختفاء في قريتنا ما هو إلا علامة. ومحفوظة اختفت. وبين الاختفاء والظهور، تجري مياة كثيرة بين المقامين: مقام سيدي الخراشي، ومقام سيدي سعيد الذي يحرس مدخل البلدة من الطرف الآخر بمقامه القديم المهدم المليء ببقايا الشموع وكسرات الخبز اليابس. ولو كان بحبح أو عمي الأصغر حلا محل العضاضة أو اختفى أي منهما فجأة وبدون مقدمات، لأصبح الآن أي منهما أو كلاهما من أولياء الله الصالحين".
نتيجة لهذه السيطرة الكاملة للخرافة على فكر أهل القرية تذهب نعيمة التي لا تنجب إلى البئر المجاورة لمقام سيدي الخراشي كي تستحم فيها؛ حيث كانت نساء القرية اللاتي لا ينجبن يذهبن إلى هناك للاغتسال بمياة البئر وسرعان ما يحبلن، لكن إذا عرفنا من خلال السرد أن شباب القرية المراهقين كانوا يذهبون إلى هذه البئر وهناك يتسابقون أمام بعضهم البعض فيمن سيقذف قبل الآخر أثناء ممارسة العادة السرية، وإذا عرفنا أنهم جميعا كانوا يقذفون في مياة البئر التي لا تتجدد لعرفنا أن سبب حبل النساء اللاتي يغتسلن في مياة البئر هو مني الشباب المراهق من أبناء القرية، وليس البركة التي تعمل الخرافة على التكريس لها ونسبها إلى سيدي الخراشي: "خلعت سروالها الداخلي وحمالة صدرها والشال. تركتهم أمانة عند سيدي الخراشي. توجهت تحت ضوء البدر نحو البئر المختبئة في الحرش الصغير. نزلت في حرص على بعض الأحجار إلى أن وصلت إلى الماء. ملأت البرطمان ووضعته على أحد الأحجار العالية. رفعت جلبابها إلى ما فوق صدرها. جلست مقرفصة على حجر كبير. دعكت النهدين بقوة. امتدت اليدين إلى ما بين الوركين. مررتهما برفق. مدت يدها وأخذت من ماء البئر. رشت على صدرها وبطنها ووركيها. أخذت مرة أخرى بكفيها ورشت على ما بين الوركين. نهضت، ونزلت إلى الماء في حذر. بعد خطوتين، كان الماء قد وصل إلى سرتها. راحت تدعك ما بين وركيها حتى شعرت بأن الماء بداخلها".
ربما لهذا السبب حينما علم زوجها بحملها؛ سألها كيف، واندهش، بل هجرها واختفى تماما في شهرها السابع ليبدأ أهل القرية في نسج الخرافات والحكايات حوله وأنهم قد شاهدوه يسبح في الفرع الملعون من الماء بعد أن ألقى نفسه من فوق شجرة النبق.
ثمة تكرار نلاحظه لدى الروائي أشرف الصباغ في روايته من دون أي دافع فني، ففضلا عن التكرار السابق الذي فصلناه منذ قليل نلحظ مرة أخرى في نهاية الرواية حدوث ذلك حينما يتحدث عن عبور الفرع المحرم أو الملعون من النهر عند مقام سيدي الخراشي، ورغم أنه سبق أن تحدث عما يحدث لمن يعبر هذا الجزء من قبل مرتين: مرة حينما عرف يوسف هذا الإحساس وحده عابرا له، ومرة أخرى حينما عبره ثانية مع محفوظة ابنة العضاضة، إلا أنه يعود في نهاية الرواية ويكتب: "ينزل من قمته، فيمتد الطريق. يرى كل الذين رحلوا. لا كلام ولا زمن ولا اختيار. كل الناس هنا يعرفون بعضهم بعضا، ولا يعرفون أي شيء. حتى المعرفة تتحرك في ذاتها ولذاتها. لا طلب عليها ولا غنى عنها. الناس لا يرتدون الثياب، ولا هم بدونها. لا يبحثون، وإنما يجدون. حتى محفوظة التي كانت تملأ الوجود، تتجلى هنا حيث اللاوجود.. لا شر ولا خير.. حالة شفافة بذاتها ولذاتها وفي ذاتها.. كل الحقائق التي كانت خافية موجودة وظاهرة ومعروفة. لا أحد ينكر أو ينفي، ولا أحد يكره أو يحب. لا أحد يذكر أو يتذكر، فالذاكرة فقدت صفاتها ومعناها وجوهرها. لم تعد موجودة.. لا أجساد هنا، وإنما صورتها في الوجود الآخر.. القط الأسود ليس أسود، إنما لحظة شفافة يسري فيها الدم مع الشعور والإحساس إلى جوار الفكرة.. حتى جواهر الأشياء تظهر من داخلها بذوت تدل عليها، لكن لا ملمس لها ولا ذاكرة".
نلاحظ هنا أن الروائي يكرر نفسه ولا يضيف أي جديد، بل إنه في تكراره يُعيد نفس المفردات المجردة التي لا يمكن أن يستوعبها عقل طفل، أو يفهم مغزاها.
إن المتأمل لرواية "شرطي هو الفرح" للروائي أشرف الصباغ يلاحظ أن الرواية تكاد أن تكون منقسمة إلى قسمين رئيسيين لا علاقة لهما ببعضهما البعض، القسم الأول وهو عالم المدينة والمقارنة الدائمة بينه وبين عالم القرية- وهو ما لم يفد الرواية في شيء-، ليأتي القسم الثاني- جوهر الرواية- الذي يتحدث عن حياة القرية وخرافاتها وحياتها الاجتماعية، وما يدور فيها. إن البداية التي بدأ بها الروائي سرده في البار تجعلك تظن أن كل شيء في العالم يبدأ من البار وينتهي إليه، وكان من الممكن أن يبني على هذا التصور رواية بديعة مختلفة تماما عما قدمه لنا، لكن الروائي سرعان ما يكسر أفق التوقع الذي هيأ له القارئ ويفاجئه بالانتقال إلى عالم القرية في قطيعة حقيقية وفعلية بين عالم المدينة الذي بدأ به الرواية وبين العالم الذي انتقل إليه، بل وينحبس داخل هذا العالم القروي بما يدور فيه من أحداث وخرافات؛ فيسرد علينا حياة الراوي الخاصة جدا والمنبتة الصلة بعالم المدينة. هنا يصبح افتتاح الرواية أمرا مدهشا للقارئ الواعي؛ لأنه منبت الصلة بالكامل عن العالم الكلي لها؛ وهنا لا بد أن يتساءل القارئ: ما هي الضرورة الفنية التي جعلت الكاتب ينطلق من المدينة لا سيما البار، ومحاولة تأكيد الجدلية بين القرية والمدينة، ثم سرعان ما ينحبس في عالم القرية الذي لن يخرج منه في حين أن العالمين لا يتقاطعان مطلقا؟ بل إن محاولته الأولى في إيهامنا بأن ثمة جدلية لا نهائية بين القرية والمدينة سرعان ما تزول مع انغماسه في السرد عن القرية؛ فليس ثمة جدلية حقيقية بينهما في العالم الروائي الذي قدمه الصباغ، بل إن الروائي هنا أراد أن يصطنعها اصطناعا ويقحمها في ثنايا السرد ويحملها أكثر مما تحتمل، وهنا يبدو لنا أن الصباغ لم يحاول اقتحام العالم الروائي الذي يريد الحديث عنه من قلب الحدث مباشرة وبشكل مباشر- عالم القرية وما يدور فيه-، بل حاول التقديم له بشكل فيه من التفلسف، وليّ عنق النص الكثير مما قد يوحي بأن ثمة صراع بين عالمين في حين أننا نكتشف أن جوهر الرواية الحقيقي هو القرية فقط وما يدور فيها، وبالتالي وقع في التزيد الذي أدى إلى ترهل جزء من الرواية كان من الممكن جدا حذفه من دون التأثير على العالم الروائي بقدر ما يجعله أكثر تماسكا وإحكاما.



محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب.
عدد يناير 2020م.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق