الثلاثاء، 31 يناير 2017

محطة توقف.. الحرب تقتل الأحياء أيضا


Voir du Pays

في الفيلم الفرنسي The Stopover أو Voir du Pays تبعا لاسم الفيلم الأصلي للمخرجتين الشقيقتين "دولفين كولين" Delphine Coulin و"موريل كولين" Muriel Coulin، تتحدث المخرجتان عن أثر الحرب على الجنود الذين يشتركون فيها، وما تؤدي إليه هذه الحرب من خلال ما يخوضونه فيها إلى الكثير من التشوهات النفسية التي تُفضي إلى عجز الجندي في العودة إلى حياته الطبيعية مرة أخرى، خاضعا لوطأة الكوابيس والمشاعر المتباينة التي تجعله بمعزل عن الآخرين مكتسبا الكثير من العدوانية تجاه العديد ممن حوله.
تبدأ المخرجتان فيلمهما بلقطة تفصيلية Detail shot على حدقة عين الجندية "مارين" التي تؤدي دورها الممثلة الفرنسية Soko، ولعل هذه اللقطة الشديدة القرب من حدقة العين كانت من الأهمية بمكان ما يُدلل على أهمية الذكريات البصرية التي يراها الجنود من خلال ما يمرون به في الحروب، حيث تتشكل الذاكرة التي يظلون مثقلين بها بالكثير من المشاهد التي لا تنمحي؛ مما يؤدي إلى حياتهم في كابوس دائم، وهذا ما أرادت المخرجتان قوله من خلال الفيلم الذي ركز بشكل أساس على معاناة هؤلاء الجنود الذين اشتركوا في حرب أفغانستان حتى أنهم حينما عادوا من هذه الحرب استعدادا إلى الانخراط في حياتهم الطبيعية لم يستطيعوا الخروج من كوابيسهم وذاكرتهم البصرية التي تشكلت أثناء الحرب؛ فظلوا يعيشون في حالة من الوحدة والعدوانية تجاه الجميع، حتى أننا نرى هذه العدوانية تجاه بعضهم البعض كجنود اشتركوا في نفس الحرب.
يحرص الفيلم على التركيز على العناصر النسائية فيه، أي أن المخرجتين قدمتا الفيلم من خلال وجهة نظر نسائية تتمثل في "مارين"، و"أورور" وقد أدت دور الأخيرة الممثلة Ariane Labed فضلا عن شخصية نسائية ثالثة هي "فاني" Ginger Roman الممرضة في هذه الحرب، ومن خلال هذه الشخصيات الثلاث تدور أحداث الفيلم من خلال وجهة نظرهن الخاصة وما يشعرن به بعدما مررن بتجارب هذه الحرب الطويلة.
ربما لم يكن غريبا على المخرجتين تقديم الفيلم من خلال وجهة النظر النسائية هذه؛ حيث يهتممن كثيرا من خلال ما قدمتاه من أفلام بمشاكل المرأة ومعاناتها في مجتمعها، يتضح ذلك إذا ما رأينا ما قدمته المخرجة "موريل كولين" التي قدمت أفلام مثل Three Colors: Red 1994م،  Three Colors: Blue 1993م، و Three Colors: White 1994م، حيث اشتركت في هذه الثلاثية الشهيرة كمساعد كاميرا، كذلك ما قدمته شقيقتها "دولفين كولين" من أفلام أخرى هي Souffle 2000م، فضلا عن اشتراك الشقيقتين في فيلمي 17 Girls 2011م، وهذا الفيلم The Stopover الذي قدمتاه هذا العام.
تدور أحداث الفيلم حول الحرب وما تؤدي إليه من أزمات نفسية، وإن لم تدر أحداث الفيلم في الحرب نفسها بشكل مباشر، بل من خلال الأثر الذي تتركه على الجنود حتى أنها تتركهم مجرد كائنات مشوهة لا يمكن لها أن تستقيم مع الحياة بشكل طبيعي مرة أخرى، وربما لهذا السبب الذي يؤدي إلى سلوك عدواني وانعزالي انتبه قادة هذه الحرب لهذا الأمر؛ فكانت رحلة الجنود من أفغانستان إلى فرنسا لابد لها من التوقف في محطة متوسطة قبل العودة إلى الوطن وهي جزيرة قبرص في جانبها اليوناني، حيث يحل هؤلاء الجنود في فندق خمسة نجوم لمدة ثلاثة أيام من أجل إعادة التأهيل للعودة إلى الحياة مرة أخرى بشكل طبيعي، ومحاولة جعلهم يتخلصون من الترسبات والذكريات التي تركها القتال داخلهم.
ربما يحاول قادة الحرب علاج هذه التشوهات النفسية التي تركت آثارها داخل كل منهم حتى لا يكتسبوا وحشا سيكولوجيا داخل المجتمع الفرنسي، لكن هل تنجح هذه المحاولة من أجل إعادة تأهليهم، وعودتهم للحياة بسلام مرة أخرى؟
تحاول "مارين" الإجابة على هذا السؤال داخل الفيلم بقولها: "أذهاننا متخمة بالأشياء السيئة، ثلاثة أيام في فندق خمسة نجوم لن يجعلنا ننسى الحرب"، وهذا بالفعل ما نراه من خلال أحداث الفيلم؛ فهؤلاء الجنود الذين اشتركوا فيها لا يستطيعون بالفعل التخلص من أهوال ما رأوه أو فعلوه؛ الأمر الذي يجعلهم دائما يفضلون العزلة والعتمة، بل يكون سلوكهم عدوانيا طول الوقت حتى مع بعضهم البعض.
تقدم لنا المخرجتان العديد من المشاكل النفسية التي يعاني منها بعض الجنود مثل الجندي الذي لا يشعر بذراعه الأيسر رغم أنه يتحرك بشكل طبيعي، كما أنه يبدو سليما تماما، لكنه فضلا عن عدم إحساسه به فهو يشعر كذلك بوجود نمل داخله؛ الأمر الذي يدفعه إلى نخزه بالسكين في الكثير من الأحيان، وتعود هذه المشكلة إلى أنه كان دائما ما يجلس في اليسار داخل الدبابة، وفي يوم من الأيام أثناء أداء مهمة حربية جاءهم مقاتل جديد وجلس في مكانه في الجانب الأيسر، وعندما حدث الهجوم عليهم تم إطلاق النار على دبابتهم؛ مما أدى إلى تحطم الجانب الأيسر بالكامل ومعه المقاتل الجديد الذي مات وهو يبتسم له، ومنذ ذلك الحين لا يشعر بهذا الذراع الأيسر ربما تأنيبا لنفسه حينما ترك الشاب يكون في مكانه، حيث كان يتصور أن هذا المصير كان مصيره هو.
هنا نجد أن الكثيرين منهم يعانون من العديد من المشاكل السيكولوجية؛ لذلك نراهم في أوقات فراغهم لا يلعبون سوى ألعاب الفيديو جيم التي تخص الحروب، وكأنما قد تحولت الحياة بكاملها بالنسبة إليهم إلى ساحة حرب كبرى لا يستطيعون الحياة بعيدا عنها، كما أن مزاحهم مع بعضهم البعض يكون مزاحا عنيفا وقتاليا قد يؤدي إلى مقتل أحدهم إذا ما استمر، وهذا ما نراه في صالة "الجيم" أثناء مرانهم، كما نراه في البحر أيضا حينما ينزلون فيه للسباحة ويحاولون المزح مع بعضهم البعض بإغراق أحدهم للآخر؛ الأمر الذي يؤدي إلى القتال داخل المياه.
تحاول كل من النساء الثلاث أداء دورتها التدريبية لإعادة تأهيلها مرة أخرى، ويلتقون بشابين من أهل قبرص المحليين اللذين يقترحا عليهن الذهاب في رحلة داخل الجزيرة لمشاهدة معالمها، ورغم أن الخروج ممنوع على الجنود إلا أنهن يرغبن في القليل من المتعة، وبالفعل تخرج الفتيات الثلاث مع الشابين، ولكن يلحقهما زملاؤهما من الجنود ويحاولون تعكير صفو الفتيات اللاتي يعدن معهن في سيارتهم بعدما يتشاجر هؤلاء الجنود مع الشابين اللطيفين مع الفتيات؛ مما جعل "أورور" تقول لأحد زملائها من الجنود الذي يعتدي على الشاب القبرصي من دون مبرر: أنت بلا خصية" You haven’t balls؛ الأمر الذي يجعله يتعامل معها بعدائية أكثر هي والشابين القبرصيين.
أثناء عودة الفتيات إلى الفندق مع زملائهم من الجنود تصطدم السيارة بعنزة في الظلام؛ الأمر الذي يجعل الممرضة "فاني" تهبط من السيارة إلى الغابة التي على جانب الطريق؛ من أجل معرفة ما الذي حدث للعنزة، ولكن ينزل خلفها للبحث عنها أحد زملائها من الجنود ويغيبا كثيرا؛ فتنزل "أورور" كذلك وخلفها جندي آخر، إلا أن الأخيرة تشاهد زميلها الأول يغتصب "فاني" بينما يقترب منها الجندي الذي قالت له أنه من دون خصيتين ليحاول الاعتداء عليها، بل وخنقها حتى الموت كذلك، ولكن لا ينقذها سوى "مارين" التي تختطف سكينه من جنبه وتحاول ذبحه؛ مما يؤدي إلى هروب الرجال الثلاثة بالسيارة ليتركوا النساء الثلاث في الظلام داخل الغابة التي تطل على الطريق.
من خلال هذا الفيلم المهم تحاول الشقيقتان "كولين" التعبير عن التشوهات النفسية التي تؤدي إليها الحروب، وما تتركه من عنف وخوف داخل كل من شارك في هذه الحرب، كما تعبران عن العنف الذي يقع على المرأة في كل مكان من خلال الجنديات الثلاث اللاتي يعانين حتى مع زملائهن الذين شاركوهم الحرب، وكيفية محاولة اغتصابهن وقتلهن بدلا من حمايتهن.
ربما كانت هذه التشوهات القاتلة داخل نفس كل جندي من هؤلاء الجنود هو ما جعل المخرجتين تقدمان مشهدا مهما ببراعة حينما نرى "أورور" وهي تجري على مشاية الرياضة بينما تقترب الكاميرا من وجهها في لقطة قريبة Zoom وكأنها تتذكر، ثم لا يلبث أن يحدث القطع المفاجئ من على وجهها إلى انفجار شديد سبق أن رأته في الحرب؛ ليكون التساؤل المهم الذي يوجهه كل جندي اشترك في الحرب على لسان "أورور": "ماذا أفعل في أفغانستان؟".
لعل هذا التساؤل المهم الذي تساءلته الجندية هو ما ترغب المخرجتان في قوله: ماذا يفعل الجنود في أفغانستان أو في أي مكان من العالم لا علاقة لهم به؟ إن هذه الحروب تؤدي إلى وجود عدد كبير من الشخصيات المشوهة والمريضة داخل مجتمعاتهم؛ وبالتالي يزداد المجتمع لديهم مرضا وعدوانية، أي أن الحروب التي يشتركون فيها تدمر المجتمع أكثر مما ينبغي بفرزها للمئات والآلاف من الجنود المرضى حينما يعودون للحياة المدنية مرة أخرى، وفشل أي محاولة تأهيل نفسي لإعادتهم للحياة؛ وربما كان هذا هو السبب الذي جعل "أورور" تقول لصديقة طفولتها "مارين" أثناء عودتهما من قبرص إلى فرنسا: إنها ستترك حياة الجندية، فترد عليها مارين: لكنك لا تعرفين سواها، إلا أن "أورور" تصر على قرارها قائلة لها: إنها ستبحث حولها وبالتأكيد ستجد وظيفة أخرى.




محمود الغيطاني

مجلة الثقافة الجديدة 
عدد فبراير 2017م



 


الأربعاء، 25 يناير 2017

أن يكون الرب أنثى.. "الإنجيل الجديد"

تبدو الفكرة التي ينطلق منها الفيلم الفرنسي Le tout nouveau testament "الإنجيل الجديد" للمخرج والكاتب البلجيكي Jaco Van Dormael جاكو فان دورميل كفكرة مخيفة وجريئة للكثيرين ممن يرفضون تأمل أو نقاش الثوابت واليقينيات، أو ما يُطلق عليه الأفكار الإيمانية الراسخة التي لا يمكن تأملها، ومن هنا فالفيلم من السهل أن يُقابل بالكثير من الرفض والاعتراض عليه؛ بسبب نقاشه أكثر الأفكار التي لا يرغب أحد في نقاشها أو الخوض في الحديث فيها إلا من خلال شكل إيماني، وتسليم مُطلق لا يشوبه أي لون من ألوان الشك، وهي فكرة الله، وماهية وجوده، وسبب خلقه للعالم، وكيفية تعامله مع هذا العالم.
Le tout nouveau testament
الفيلم منذ البداية يتعامل مع فكرة الله بقدر غير قليل من السخرية والتهكم؛ ولعل منبع هذا التهكم هو رؤية صناع الفيلم في كون الله الذكر أو الله الرجل هو إله بغيض، ملول، لم يخلق العالم إلا بسبب شعوره الشديد بالملل؛ ومن ثم أراد الشعور بقدر من التسلية وإزجاء الوقت بالتجريب في خلق هذا العالم، ثم لم يلبث أن مارس الكثير من ألاعيبه ولهوه؛ لمجرد التسلية وهنا نراه يُسن العديد من القوانين التي يطبقها على البشر، ولعلنا نلاحظ أن جميع هذه القوانين كانت ظالمة، كما أنه يقصد هذا الظلم لهم مثل أن يضع قانونا ينص على أن المصائب لا تأتي فرادى، أو أن الصف الذي يقف فيه البشر من أجل قضاء مصلحة ما لابد أن يكون أبطأ من الصف المجاور، أو أن الشطيرة لابد أن تسقط دائما على الجانب الذي تكون فيه المربى، أو أن الصحون لا يجب أن تسقط وتنكسر إلا بعد غسلها، أو أن الإنسان دائما في حاجة إلى عشرة دقائق زائدة من النوم حتى يفوت عليه الموعد الذي سيصحو من أجله، أو أن التليفون لابد أن يدق في الوقت الذي يغطس فيه الإنسان تماما في مغطس الحمام.
كل هذه القوانين وغيرها التي كان يُسنها الله وهو يضحك ويقهقه بشكل فيه الكثير من الغل والحقد حينما يرى عذابات البشر بسبب قوانينه لا تدل إلا على أننا أمام إله سادي، ملول، حاقد على الجميع منذ المشاهد الأولى من الفيلم، ومن هنا فالمشاهد سيكتسب الكثير من الكراهية أمام هذا الإله الذي يلهو بعذابات البشر لمجرد اللهو فقط، كما أن الممثل Benoît Poelvoorde بينوا بولفورد الذي أدى دور الله أداه ببراعة واضحة؛ حيث تميز أدائه بالتعالي التام، والاستهانة بالجميع منهم زوجته Yolande Moreau يولاند مورو، وابنه المسيح، وابنته إيا، كما تميز بالسيطرة المطلقة، ورفض النقاش أو الاستماع لأحد، والتعامل مع الجميع بفجاجة، وتعذيب وإهانة الزوجة، والابنة دائما؛ الأمر الذي أدى بابنه المسيح إلى الهروب من مملكته ورفض الخضوع له إلى الأرض؛ ليختار من بين البشر اثنى عشر حواريا ليكونوا صوته للعالم، ولكن هؤلاء الحواريين خانوه ليتم صلبه، ورغم هذه الخيانة للمسيح وفقدانه، فكرت إيا ابنه الله أيضا في التمرد عليه ورفض هذه المملكة الظالمة التي تحيا فيها مع أم خانعة لزوجها الله، وإله يُعذب الجميع فقط من أجل الرغبة في اللهو بالتعذيب؛ مما جعلها تثور عليه غير مرة واضعة نفسها أمام سطوته وغضبه ليضربها بحزامه الجلدي عقابا لها؛ الأمر الذي جعلها تتناقش مع تمثال أخيها المسيح الذي أخبرها أن تختار ستة حواريين جدد ليكتمل عدد الحواريين إلى ثمانية عشر حواري، ومن خلالهم تعمل على إصلاح العالم الذي أفسده أبوهم، كما نصحها بإفساد البرنامج المسيطر على العالم البشري، وهو البرنامج الذي يستخدمه أبوهم الله؛ فقامت بإرسال تواريخ الوفاة لجميع البشر حتى يستفيدوا بالقدر الباقي لهم من حياتهم في أمور من الممكن أن تسعدهم، ولم تنس إفساد برمجة الكمبيوتر بالكامل حتى يفشل أبوها الله في السيطرة على البشر مرة أخرى.
هنا سألت إيا أخيها المسيح عن السبيل إلى الهروب من مملكة الرب من أجل إصلاح ما أفسده، فأخبرها أن تعمل على تشغيل الغسالة على برنامج معين وهنا سيظهر لها ممر يفضي إلى العالم البشري وتستطيع الهروب منه إلى الأرض لتندمج بالبشر وتحاول إسعاده وإصلاح ما فسد فيه.
من خلال هذه الفكرة المسيطرة على صناع الفيلم منذ مشاهده الأولى يحاولون طرح فكرتهم بجرأة صادمة للجميع، وهي أن مملكة الرب التي صنعها هي مملكة بائسة حزينة، يتفشى فيها الدمار والأوبئة، والقتل، والحروب التي جعلها دائرة في كل مكان من العالم باسمه مرة، وباسم بعل مرة أخرى، وباسم الصليب مرة ثالثة، أي أنها في سبيله في نهاية الأمر، كما تمتلئ بالكثير من الكوارث التي تسود العالم لا لشيء إلا من أجل دفع الملل عن الله، وأن الله الرجل هو إله غير مكترث إلا برغباته هو وحده، وشطحاته التي ترد على ذهنه كلما شرب المزيد من الكحول أو شعر بالمزيد من الملل الذي يملأ حياته، ولكن إصلاح كل هذا الفساد والدمار الذي يصنعه الله لا يمكن أن يكون إلا على يد إله أنثى، تكون قادرة على منح السعادة كهبة للبشر والعالم أجمع بشكل فيه الكثير من الحنو على هذه البشرية، وهم يريدون إيصال رسالة أن خلق عالم يسوده الرحمة والسعادة، والبهجة لا يمكن أن يكون من خلال رجل، بل من خلال الأنثى التي تتميز دائما بالعطاء والمنح برضى وسعادة لما تفعله.
إذن لا نستطيع من خلال الفيلم إنكار أن فكرة الانحياز إلى الأنوثة هي المسيطرة على صناعه منذ البداية، وأنها السبيل الوحيد لإنقاذ العالم وصنع عالم مُرض للجميع، بل ربما الإيغال في الفكرة إلى ما هو أعمق من ذلك وهو أن الفكرة المسيطرة على الجميع باعتبار الله هو ذكر دائما، وباعتبارنا نحيا في مجتمعات ذكورية منذ بداية الأديان هي فكرة خاطئة؛ لأن المجتمعات منذ بدايتها كانت في حقيقتها مجتمعات أمومية وليست ذكورية، كما كانت فكرة الآلهة دائما هي فكرة أمومية أي أنثوية، والتأكيد على أن الآلهة حينما كانت أنثوية لم تفكر مرة واحدة أو تحاول إقصاء الإله الذكوري، بل جعلته شريكا لها في مملكة السماء، فرأينا العديد من الآلهة الذكور إلى جانب الآلهة الإناث في الميثولوجيا التي مر بها العالم، ولكن منذ بداية الأديان السماوية طفت على السطح فكرة الله الواحد الذكر المسيطر على كل شيء، والنافي لكل ما هو أنثوي وإقصائه كي يجعل كل ما هو مؤنث في مكانة أقل دائما أو بعيدا عن دائرة الضوء، ولعل ميثولوجيا جميع الحضارات القديمة التي كانت الآلهة فيها أنثوية وتفسح معها المجال للإله الذكر كانت تتميز بالكثير من السعادة والبهجة والسلم ولم يتغير هذا المفهوم للعالم بالفعل إلا حينما ساد مفهوم الإله الذكر وحده، وبات المجتمع بالكامل ينتصر لفكرة الذكورة.
ربما بسبب هذه الفكرة قالت إيا لأبيها الله حينما اكتشفت ما يفعله بهم: "لا يحق لك أن تفعل بهم ما تفعل من أجل التسلية"، وهنا غضب عليها وعاقبها بجلدها بحزامه؛ فتهبط إلى الأرض للبحث عن حوارييها الستة وتضمهم إلى حواريي أخيها المسيح ويصل عدد الحواريين ثمانية عشر حواريا، ولأنها لا تعرف الكتابة فقد استعانت بأحد المشردين "فيكتور" Marco Lorenzini الذي كان يدون ما يقوله الحواريون في أناجيلهم الجديدة، وهي الأناجيل التي كانت تحكي قصة كل واحد من هؤلاء الحواريين؛ فإيا لم تكن راغبة أن يحكي الحواريون عنها، بل أن يحكوا عن أنفسهم وعن معاناتهم في حياتهم.
هنا تحاول إيا إصلاح العالم وتغيير مفهوم الحقائق التي بثها الله في أدمغة البشر في حين أنها مجرد وهم أوهمهم به، ومنها ردها على فيكتور حينما قال: "الجنة تأتي بعد الموت"، فردت عليه إيا ببساطة لتصحح مفهومه قائلة: "لا، لا شيء بعد الموت، الجنة هنا، وآدم كان هنا، وأخي أتى إلى هنا أيضا".
يحرص صناع الفيلم منذ البداية على تقسيمه وفقا للأناجيل المتعارف عليها، فيكون المشهد الأول باسم "فصل التكوين"، وهو المشهد الذي يروي فيه الفيلم كيف صنع الله العالم حين شعر بالملل حينما تحكي إيا متوجهة لنا بقولها: "الرب موجود، وهو يقيم في بروكسل، هو مجرد أحمق يسيء معاملة زوجته وابنته"، وهنا تصور لنا لهو الله في صناعة العالم، وكيف أنه صنعه أكثر من مرة على أشكال متعددة حينما خلق مدينة بروكسل في بداية الأمر فصنع عالما من الغزلان، ثم الدجاج، ثم النعام، وحينما شعر بالملل صنع الإنسان على شاكلته فتقول: "بخلقه للإنسان أصبح بمقدوره فعل ما يرضيه"، كما أنه سبب لهم الكثير من الحزن، والقليل من السعادة؛ حتى يمنحهم أملا كاذبا لا يأتي أبدا.
تبدأ إيا في لقاء حوارييها واحدا بعد الآخر ليكون "سفر الخروج" وليكتبوا أناجيلهم في الحين الذي يصر فيه الله على الهبوط إلى عالم البشر من أجل معاقبة ابنته على ما فعلته والعودة معه مرة أخرى إلى مملكته وإصلاح جهاز الكمبيوتر الذي أفسدته؛ ليستطيع السيطرة على العالم مرة أخرى.
هنا تقابل "أوريلي" Laura Verlinden الفتاة الجميلة الحزينة دائما والتي تحيا وحيدة رغم عشق الكثيرين لها، ورغبتهم فيها، ولكن سبب حزنها رغم جمالها اللافت هو فقدها لذراعها في محطة المترو وهي صغيرة، وبالتالي تحمل ذراعا من السيلكون كبديل لهذا الذراع المفقودة، كما تقابل "جون كلود" Didier De Neck الرجل الذي قضى حياته كلها في التنقل بين عمل وآخر حتى بلغ مكانة جيدة في الحياة ونسى تماما أن يتزوج، لكنه حينما يعلم بتاريخ وفاته يلقي بحقيبته في القمامة ويسكن إحدى الحدائق مصرا على عدم العودة لبيته أو عمله، وهناك يتقرب منه أحد الطيور ليرتبط بهذا الطير ويظل ملاحقا للطير أينما ذهب في رحلة استكشاف لحياة جديدة وأجمل، وهي الرحلة التي تنتهي به إلى القطب الشمالي حيث يتعرف على إحدى الفتيات هناك ويرتبط بها.
يظل كل حواري تصل إليه إيا يحكي إنجيله وتتغير حياته نحو الأفضل، ولذلك حينما يحكي القاتل المأجور إنجيله، وهو أنه يقوم بإطلاق النار من خلال قناصته على أي شخص سواء كان يعرفه أو لا يعرفه، فإذا ما أصابه فهذا هو عمره، وإذا لم يصبه يكون وقت وفاته لم يحن بعد، هنا أرادت إيا تغيير حياته نحو الأفضل حينما جعلت "أوريلي" ذات الذراع السيلكون تمر من أمامه وأمرته بإطلاق القناصة عليها، وحينما فعل لم تمت الفتاة؛ لأن الرصاصة استقرت في الذراع المصنوعة من السيلكون، فيقع القاتل المأجور في عشقها، ويظل معها بعد أن تطلب منه التوقف عن قتل الآخرين، فيجد كل منهما السعادة في حياته مع الآخر وتتغير مصائرهما.
الإنجيل وفقا لمهووس جنسي كان من الأناجيل المتميزة التي رواها صاحبه وكيف شعر برغبته الجنسية منذ صغره حينما كان طفلا على الشاطئ وشاهد فتاة ألمانية ترتدي البكيني وشعر اتجاهها برغبة جنسية مشتعلة، وظل طول حياته مشتعلا جنسيا إلى أن عرف موعد وفاته وسحب كل أرصدته البنكية من أجل الاستمتاع برغبته المتأججة مع النساء، ورغم ذلك ما زالت فتاة الشاطئ الألمانية هي التي تأتي له في خياله، هنا تخبره إيا أنه يمتلك صوتا جميلا لابد أن يستغله في الغناء أو التمثيل، فيعمل في الأداء الصوتي لأفلام البورنو وهناك يقابل الفتاة الألمانية التي اشتعل بسببها منذ كان طفلا تؤدي معه أيضا ويتعارفا لينتهي الأمر بهما إلى الوقوع في الحب ويرتبط بها عاطفيا وجنسيا.
إنجيل "مارتن" وهو الدور الذي أدته ببراعة الممثلة الفرنسية Catherine Deneuve كاثرين دي نوف كان من الأناجيل الدافئة عاطفيا، الشديد العذوبة لامرأة دافئة وحساسة بقى من عمرها خمس سنوات بينما بقى من عمر زوجها 39 عاما، وهذا أشعر زوجها بالارتياح الذي لاحظته مما أكسبها الكثير من الحزن والاكتئاب؛ الأمر الذي جعلها تبحث عن سعادتها لتمضية هذه السنوات الخمس، وهنا نراها تتصيد الشباب في مقتبل العمر من أجل مضاجعتها ومنحهم المال مقابل هذه المتعة، لكنها رغم ذلك لا تشعر بالسعادة، إلى أن تتعمد إيا أن تلتقي مارتن بقرد ضخم في حديقة الحيوان ويميل القرد إليها شاعرا تجاهها بالحب؛ فتشتري القرد وتحيا معه حياة عاطفية وجنسية كاملة في منزلها شاعرة بالسعادة في حياتها، وتنفصل تماما عن زوجها الذي لم يكن يشعر تجاهها بالحب.
أما إنجيل "ويلي" الذي أداه الطفل Romain Gelin فقد كان عن طفل بقى من حياته أياما قليلة، وحينما يعلم أبواه بالأيام الباقية له يسألانه عما يرغبه في هذه الأيام؛ فيطلب منهما رغبته في أن يكون فتاة، وبالفعل يخضعان لرغبته ويرتدي ملابس الفتيات ويعيش باعتباره فتاة طبيعية، وهنا يرتبط بإيا؛ لاقترابهما في العمر وتمنحه الكثير من السعادة وتتعامل معه باعتباره فتاة إلى أن يحين موعد موته كما سجله الله من قبل، ويذهب الحواريون الستة ومعهم إيا إلى الشاطئ من أجل أن يكونوا معه حين لحظة موته.
من خلال هذه القصص المختلفة التي يرويها الحواريون تكون هناك رحلة هبوط الله إلى الأرض؛ من أجل عقاب إيا واستعادتها مرة أخرى إلى مملكته كي تصلح ما أفسدته من وجهة نظره، ويعرض لنا الفيلم من خلال المونتاج المتوازي Cross Cutting رحلة الله في الأرض وكيف يتعرض للكثير من الإهانات والاعتداءات من البشر؛ بسبب صلفه وتعاليه، والتعامل مع الجميع باعتبارهم حثالة، فنراه حينما يشعر بالجوع ويذهب إلى إحدى الكنائس ليحصل على الطعام لا يلتزم بالوقوف في الصف، ويهجم على الطعام ليأخذه عنوة باعتباره أفضل منهم وأنه الله، وهنا يبرحونه ضربا وينقذه من بين أيديهم أحد الشباب الذي يأتي له بالطعام ويجلس بجانبه محاولا العناية به، ليقول لله: "الرب أخبرنا أن نحب جارنا كما نحب أنفسنا"، فيرد عليه الله: "أنا لم أقل ذلك يوما، أنا أمقت نفسي؛ لذلك يستحيل أن أقول ذلك، ربما أقول اكره جارك كما تكره نفسك، ولكن هذا الشاب هناك أفسد كل شيء" في إشارة منه للمسيح ابنه، وهنا حينما يتعجب الشاب الذي يحاول الاعتناء به يسخر منه الله فيخبره أنه خلقه بساق أقصر من الأخرى، وأنه فقد أبويه صغيرا، وأنه حرمه من فتاته التي أحبها وجعلها مع شاب آخر يمتلك دراجة بخارية؛ مما جعل الشاب يعتدي عليه ويوسعه قذفا وركلا.
ينتهي الأمر بالله الذي هبط إلى العالم بأن يتم إلقاء القبض عليه؛ ولأنه لا يمتلك أوراق ثبوتيه يتم ترحيله إلى أوزبكستان، ليعمل عاملا في أحد مصانع صناعة الغسالات على أمل أن يجد في إحدى هذه الغسالات سبيلا للعودة إلى مملكته مرة أخرى، ولكن حينما يكتمل الحواريون 18 حواريا تدخل زوجة الله إلى غرفته التي كان يتحكم من خلالها في العالم وتُعيد تشغيل برنامج الكمبيوتر المتحكم في البشر، وهنا تعمل على إسعاد العالم بسن الكثير من القوانين الجديدة.
هنا تكون الفكرة الأساسية التي رغب صناع الفيلم إيصالها للمشاهد، فمن خلال الإله الرجل فسد العالم تماما، وعاش في حزن وكوارث دائمة، ولكن حينما حاولت الإلهة الأنثى أن تتولى مسئولية العالم عملت على تغييره للأفضل أولا من خلال الابنة إيا، ثم من خلال الزوجة التي رأيناها تجلس إلى جهاز كمبيوتر الرب فتنحي زجاجات الكحول التي كانت تملأ المكتب، وتنحي السجائر لتضع مكانهما الكثير من الزهور، ثم تمنع البشر عن معرفة مواعيد موتهم، وتنقذ من حان وقت وفاته ومنهم الحواري الصغير "مارتن" الذي رغب في أن يكون أنثى، وتجعل السماء على شكل ورود مبهجة للبشر، وتوقف ذوبان قمم الجبال في القطبين رغم الانحباس الحراري، وتعمل على إلغاء قانون الجاذبية الأرضية؛ كي تمنح البشر الحرية في التحرك والتنقل، كما أعطتهم الحرية في الحياة في أعماق البحار كالأسماك، وجعل الرجل شريكا للمرأة في كل شيء حتى لا تعاني وحدها، فبات في الإمكان له أن يحبل مثلها ويشاركها في هذا الأمر.
هنا تكون رسالة الفيلم الرئيسية أن الإله الأنثى هي الأجمل؛ لأنها تمنح البهجة والسعادة للجميع وهي راضية بما تفعله، بل وتتفنن من أجل سُبل هذه السعادة.
ربما لا يمكن نسيان موسيقى الفيلم التي كانت البطل الرئيس حيث تميزت الموسيقى بالدعابة والسخرية طول الوقت؛ مما أكسب الفيلم المزيد من البهجة التي رأيناها فيه، كما كان دور المونتاج مهما؛ حيث لم يشعر المشاهد بأي لون من التطويل في الأحداث التي كانت متلاحقة تؤدي ما يرغبه صناع الفيلم في إيصاله.


محمود الغيطاني
مجلة "فنون"
عدد يناير 2017م