الاثنين، 9 يناير 2017

زهرة الصمت.. تجربة فنية لرصد تاريخ القهر في مصر


رواية زهرة الصمت
ثمة تساؤل مهم لابد من التعرض له بمجرد الانتهاء من قراءة رواية "زهرة الصمت" للروائي رءوف مسعد وهو: هل مازالت الرواية العربية خاضعة للشكل الكلاسيكي الذي تُكتب به منذ بدايتها؟ بمعنى هل لابد أن تكون هناك مقدمة تمهيدية للعمل الروائي يصل بنا إلى الذروة وتعقد الأمور وتداخل الخطوط المتوازية، ثم لا تلبث هذه العقدة أن تنحل في نهاية الأمر لنصل إلى النهاية السعيدة أو غير السعيدة للعمل الروائي؟
ربما تخيل الرواية بمثل هذا الشكل الساذج لا يدل إلا على سذاجة من يتصور هذا التصور، فضلا عن عزلته الثقافية؛ الأمر الذي يجعله لا يلتفت إلى أشكال كثيرة ومتعددة نراها في الآونة الأخيرة للأشكال الفنية في السرد العالمي، وهي أشكال تختلف اختلافا كليا لدرجة وصلت إلى القطيعة مع الشكل القديم والمعهود في كتابة الرواية.
لعل هذا يسوقنا بالضرورة إلى تساؤل آخر: هل من مهمة الناقد أن يفرض شكلا معينا من أشكال السرد على المبدع؟ أو هل من الممكن أن نضع مجموعة من الأطر والأشكال المعينة للمبدع كي يكتب عليها، ومن ثم إذا ما خرج على هذه الأشكال أو الأطر فهو لم يكتب سردا روائيا بل كتب مجموعة من التهويمات التي لا معنى لها؟
ربما كان هذا التساؤل النقدي من الضرورة بمكان حينما نتعرض لرواية الروائي رءوف مسعد؛ حيث اعتمد الكاتب في روايته شكلا مفككا/ متشظيا –بشكل عمدي- يقصده الكاتب، وإن كانت الرواية متماسكة إذا ما نظرنا إليها نظرة كلية جامعة في إطارها العام، أي أنه كان يعتمد التفكيك في البناء الروائي وعدم الترابط بين الفصول بعضها البعض، لكن النظرة الكلية لها كرواية وبناء تبدو متماسكة إلى حد كبير ومتناسبة مع الموضوع الضخم والقضية المهمة التي يتناولها الروائي.
إن النظريات النقدية بدءً من الكلاسيكية مرورا بالبنوية والحداثية وما بعد الحداثية وغير ذلك من النظريات التي وضعها العديد من النقاد لم تكن نابعة من خلال وضع أُطر لابد من اتباعها بشكل صارم، ومن ثم يصبح الخروج عليها بمثابة الخروج عن نظرية الأدب أو الرواية، كما أن النقد يستمد منهجه في نهاية الأمر من خلال النص الذي يتعرض له، أي أن النقد هو الخاضع للنص وليس العكس؛ وبالتالي يتولد المنهج النقدي المُناسب للعمل الروائي من خلال العمل نفسه، ومن هنا لا يمكن إخضاع أي نص روائي للنظرية النقدية بشكل مدرسي؛ لأنه بمثابة إجحاف للنص وللنقد معا، ومن هنا يتبين لنا أهمية الفهم الواعي للنص الذي بين يدي الناقد، لأنه من دون هذا الفهم للعملية الفنية والكتابية لن يستطيع الناقد الوصول إلى جماليات النص الروائي الذي بين يديه، وبالتالي سيقع في الخطأ الشائع الذي يؤدي إلى إخضاع النص إلى النظريات النقدية الجامدة التي لا يمكن أن تخدم النص الروائي بقدر إضراره والخروج به عن فنيته، وهنا يصبح الناقد عاجزا عن الفهم، واقعا في حالة غباء نقدي تجاه الكاتب وما كتبه.
يعتمد مسعد في روايته على شكل يرى أنه يتناسب تماما مع الموضوع الذي يكتبه، ورغم أنه شكل شديد الإرهاق بالنسبة للكاتب والمتلقي معا؛ حتى أنه يحتاج إلى قارئ متمرس وخبير في عملية القراءة، بل هو في حاجة إلى قارئ منتبه تماما أثناء قراءته حتى لا يفوته شيئا من النص الصعب الذي أمامه، إلا أنه كان الشكل الذي ارتضاه الروائي لكتابة هذه الرواية المتميزة والصعبة في آن، ومن هنا كان اللجوء إلى الكثير من المراجع والتوثيق الذي نراه أحيانا مبثوثا بين تفاصيل السرد كمكمل للعديد من الفجوات السردية الروائية، كما نراه مرة أخرى متنا روائيا يعتمد عليه السرد الروائي اعتمادا كليا، وبالتالي فمن السهل سقوط السرد الروائي إذا ما سقط المتن التوثيقي في هذه الحالة، ونراه مرة ثالثة باعتباره شاهدا على الحدث الروائي أو ما يمكن أن نسميه في السينما Cross Cutting أي القطع المونتاجي للتدليل على حدث ما في السرد الروائي.
تلاعب رءوف مسعد كثيرا بالتاريخ في روايته "زهرة الصمت"، وإن كان تلاعبه بالتاريخ هنا ليس بقصد التغيير في التاريخ بما يخدم النص الروائي، بل المقصود بالتلاعب هنا هو أنه كان يأتي بالنص التاريخي لسد الفجوة الروائية التي يرغبها في الوقت الذي يرغبه، أي أنه لم يعتمد التسلسل التاريخي للأحداث التي كان يسوقها بقدر ما كان يسوقها في الوقت الذي يراه متناسبا فقط بما يتماشى مع موضوع الاضطهاد والتمييز الديني الذي يحدث مع المصريين منذ أواخر عهد الحضارة الفرعونية وبداية ظهور المسيحية، مرورا بدخول الإسلام والاضطهاد الواقع على المسيحيين، حتى التمييز الحادث لهم في الوقت الراهن من الجميع.
إذن فالروائي هنا يرغب في متابعة تاريخ القهر والتمييز في مصر منذ أواخر الدولة الفرعونية ودياناتها، ومن هنا كان يختار من التاريخ ما يخدم هذه الفكرة ويتواشج معها في شكل يجعل كتابة النص الروائي شديد الصعوبة على السارد نفسه؛ فهو يبدأ روايته بكاهنة إيزيس والصبية الصغيرة التي معها المنذورة لإيزيس- أي أنه يبدأ روايته منذ العهد الأخير للدولة الفرعونية- بعد دخول المسيحية لمصر واضطهاد الكهنة والمصريين التابعين للأديان المصرية القديمة؛ الأمر الذي جعل عددا كبيرا من المصريين يعملون على تغيير ديانتهم إلى المسيحية، ولكن في مقابل هذا الاضطهاد والتمييز القاسي تجاه المصريين القدماء من المسيحيين، يوجد اضطهاد آخر تجاه مسيحيي مصر؛ لأن المصريين قد اتبعوا مذهبا يخصهم وحدهم في المسيحية وهو الأرثوذكسية، أي الدين القويم، أو الصحيح.
إذن فهو يتحدث في روايته عن القهر، إنه القهر النابع من الأديان على كل المستويات، سواء على مستوى الديانة الفرعونية القديمة، أو على المسيحيين، وهنا تبدأ الرواية عن الصبية الصغيرة الموجودة مع الكاهنة والتي تخبر الكاهنة أنها سمعت صوت الخيول القادمة إلى مصر من الشرق حينما وضعت أذنها على الأرض في إشارة للبدو/العرب القادمين من أجل الغزو ونشر دينهم الجديد، وهنا تبدأ رحلة الهروب الكبير والطويلة من المعبد إلى الحصن ثم إلى خارج الحصن بعد أن تلتقي الكاهنة بأخيها القس المتحول إلى المسيحية في الحصن، فتساعده على الهروب من غزو العرب ثم تستمر في رحلتها المقدسة هي والصبية الصغيرة إلى الإلهة إيزيس.
لذا نجد الروائي بعد حديثه في بداية الرواية عن الروح في المعتقد المصري القديم، وهو النص الذي ساقه من كتاب "معجم الحضارة المصرية القديمة"، ثم حديثه عن الموت يبدأ نصه الروائي المبني أساسا على ما ساقه من توثيق سابق فيقول تحت عنوان "كيف عرفت كاهنة إيزيس بقدوم الجيش العربي الغازي": "وضعت البنت أذنها على الأرض تنصت حابسة أنفاسها المتسارعة. في البداية ظنت أنها تستمع إلى وجيب قلبها القوي. سحبت قدرا من الهواء ببطء كما علمتها وأرشدتها الأم الكاهنة (هكذا تسميها الصبية) ثم مرة أخرى. حتى شعرت بأنها تسترجع هدوءها وتتحكم في خوفها. في هذه المرة وصلتها الدفقات القادمة من بعيد بيقين واضح تؤكد لها وقع الحوافر العديدة في اقترابها الأكيد".
من خلال هذه الفقرة التي بدأ بها الروائي نصه الروائي المعتمد على الجزء التوثيقي الذي سبقه لابد أن نلاحظ أسلوب السرد الذي اعتمده الروائي في روايته، وهو أسلوب سردي يقترب إلى حد كبير من التوثيقية أيضا، أي أنه يسوق السرد الروائي هنا في شكل تاريخي وكأنه يؤرخ للحدث بما يتناسب مع التوثيق التاريخي الذي يسوقه في روايته ليقوي من عضد الحدث الروائي، ولعلنا نلاحظ هذا الشكل السردي التاريخي الشكل في وضعه عنوان فرعي لبداية للسرد: "كيف عرفت كاهنة إيزيس بقدوم الجيش العربي الغازي"، كذلك نلاحظه في الأقواس والإيضاحات التي وضعي مبثوثة في السرد الروائي: (هكذا تسميها الصبية). إذن فالروائي هنا يعلم جيدا ما يفعله، ويعتمد المنهج والشكل السردي الذي يتناسب مع روايته تماما رغم صعوبة هذا الشكل، وهو الأمر الذي جعل لغته الروائية تنحو كثيرا باتجاه الجفاف والموضوعية والتجرد- بشكل عمدي- ليتناسب ذلك مع الكثير من النصوص التاريخية المبثوثة بين سطور السرد والتي قد تصل إلى عشرات الصفحات أحيانا، كما لجأ إلى المراوحة اللغوية بما يتناسب مع العصور التاريخية التي يتحدث فيها.
لكن هل هذه الصفحات الكثيرة التي حرص المؤلف على اقتباسها مثن النصوص والكتب التاريخية أدت إلى تعطيل السرد الروائي وإيقافه، أو أفقدته طزاجته والإقبال عليه من قبل القارئ؟
المتأمل الواعي للرواية سيتأكد أن عشرات الصفحات التي اقتبسها الراوائي من العديد من المراجع لم تعمل على تعطيل السرد بقدر ما دفعته أكثر باتجاه الحيوية والثراء والعمق لإيصال فكرة التمييز الديني في مصر، ومن ثم إذا ما حاولنا تجاوز هذه الصفحات من دون قراءتها باعتبارها ليست مهمة بقدر أهمية السرد الروائي سنقع في إشكالية عدم فهم السرد الروائي، أي أن المراجع كانت متنا بالنسبة للرواية، ومن ثم إذا ما حاولنا تجاوزها انفرط عقد الرواية تماما وخرجت من إطارها إلى لا شيء.
تتضح هذه الفكرة مثلا حينما نرى الكاهنة قد أخذت الصغيرة في رحلة هروبها من المعبد إلى الحصن الذي تحصن فيه أهل مصر من الجنود ورجال الدين وغيرهم خوفا من العرب الغزاة، حيث أرادات الكاهنة الاحتماء بالحصن ومقابلة أخيها القس كي تعمل على تهريبه من خلال الطريق السري الذي تعرفه قبل استكمال رحلتها هي والصغيرة إلى الربة إيزيس، هنا يقطع الكاتب من السرد الروائي إلى السرد التاريخي التوثيقي المأخوذ من بطون كتب التاريخ ليكتب تحت عنوان فرعي "الغازي وسيفه": "لم يعرف الذين في الحصن من الأهالي أو من المصريين الذين بقوا في بيوتهم وقراهم ومعابدهم- ساعتها- أن عمرو بن العاص قائد الغزاة، كان قد توجه بجيشه نحو سمنود بعد أن سار بجزء كبير من جيشه على الفرع الشرقي للنيل، وعبره عند أثريب. فقد دارت الدائرة على المسلمين وعلى من كان قد أسلم معهم من النصارى. قُتل من هؤلاء وأولئك خلق كثير، ورأى عمرو أن شمال البلاد تحميها الترع الكثيرة والخنادق، فعاد أدراجه إلى أبو صير وجعل حولها الحصون"، ثم يستمر مسعد في السرد التاريخي المأخوذ من العديد من المراجع التاريخية.
هنا لابد أن نتوقف هنية أمام النص التاريخي السابق الذي ساقه الروائي رءوف مسعد بعد سرده الروائي عن حكاية الكاهنة والبنت الصغيرة وقصة هروبهما من المعبد إلى الحصن لتبدآ رحلتهما؛ فالنص التاريخي الذي أخذه مسعد من كتاب "فتح العرب لمصر" لمؤلفه ألفريد بتلر بدا لنا هنا باعتباره متنا متواشجا بشكل لا يمكن فصله مع السرد الروائي، أي أن التوثيق والسرد هنا قد باتا وجهين لعملة واحدة إذا ما سقط أحدهما سقط الآخر لأن كل منهما يكمل الآخر، ويتضح هذا في بداية السرد الوثائقي الذي يتحدث عن الحصن أيضا، ولعلنا لا ننسى أنه أنهى السرد الروائي بعد حديثه عن لجوء الكاهنة إلى الحصن، ولعل هذا الشكل السردي هو شكل صعب بشكل فعلي على من يكتب رواية بمثل هذه الآلية التي اختارها لتكون شكله البنائي في روايته؛ لأن اختيار النصوص التاريخية التي تتناسب ومن ثم تكون وثيقة الصلة مع السرد الروائي في حاجة إلى الكثير من الجهد والبحث حتى لا يشوب البناء الروائي أي شكل من أشكال النتوءات التي ستعمل على تشويهه إذا ما بدا الاقتباس التاريخي كفاصل بين السرد الروائي والسرد التاريخي.
رءوف مسعد
من هنا نبع الإحكام في تماسك النص الروائي في رواية رءوف مسعد، حيث كان المتن الروائي يعتمد بشكل وثيق على المتن الوثائقي، والعكس كذلك، أي أن كل منهما يستند على الآخر حتى إذا ما سقط أحدهما انهار الثاني بشكل تلقائي، ولعلنا هنا لا نستطيع الزعم أن النص التاريخي كان من الجفاف ما يجعل القارئ ينصرف عن إكمال الرواية؛ لأننا إذا ما انتبهنا إلى ما كتبه في التوثيق عن عمرو بن العاص رأينا: "يتذكر الآن معركته الكبيرة في يوم السلاسل، حينما كان يقود كتيبة واشتدت عليه الحرب فأرسل يطلب المدد من النبي، فأرسل إليه مائتي رجل فيهم أبو بكر وعمر وعليهم أبو عبيدة بن الجراح. نازعه هذا إمارة الكتيبة وأبى أن يتنازل له. قال: إني أميركم وأنت لي مدد. كانت لحظة عصية خاصة أن ابن الجراح مقاتل شهير لكنه كان أيضا مؤمنا صادقا، إذ قال لعمرو: قال لي رسول الله: لا تختلفا وأنك إن عصيتني أطيعك. فقال عمرو: فإني آبي أن أطيعك. فسلم له أبو عبيدة بالإمارة ووقف وراءه في الصلاة. بعد موقعة السلاسل أمّره النبي على عُمان. فبقي بها حتى تولى أبو بكر الخلافة وجعله أحد القادة الذين سيرهم إلى الشام. نما أمره في تلك الحرب، وذاع اسمه في خبرته بمكيدة الحرب والقوة"، إذا ما تأملنا المقطع السابق هل نستطيع إنكار أهمية المتن التوثيقي الموازي والمكمل للمتن السردي الروائي فيها؟ بالتأكيد لا، كما لا يمكن اعتبار المتن التوثيقي في الرواية من الجفاف ما يجعل القارئ منصرفا عنه، فنحن نلاحظ هنا أن التوثيق يكاد يقترب أيضا من السرد الروائي ولا يخالفه كثيرا لاسيما أن اللغة الروائية في الرواية تقترب كثيرا من السرد التاريخي المُقتبس أيضا.
لكن هل سار الروائي بمثل هذا الشكل من السرد على طول روايته، بمعنى هل ظل متابعا كروائي لقصة الفتاة والكاهنة، ليقطع منهما على التوثيق التاريخي الذي يخدم النص، ثم يعود إليهما مرة أخرى؟
الحقيقة أن الكاتب لم يلتزم في روايته بمتابعة قصة الكاهنة والفتاة، صحيح أنه لم ينسهما وظل متابعا لهما بين الحين والآخر، حتى أن الرواية تنتهي بهما حينما يقول: "وفي المعبد حيث انتظر الكهنة ردحا من الزمن طويلا، يتسلم الكهنة جسد الصبية التي بدأت في الرحيل إلى الغرب، يأخذونها إلى قدس الأقداس تصاحبهم الكاهنة، هناك يستقبلهم المحنطون وقد سبقوهما ووضعوا الأقنعة فوق رؤوسهم. إنهم يستقبلون الإلهة إيزيس المتجسدة في الصبية التي حملت روح إيزيس، التي سيأخذها الكهنة الآن إلى مخبأها: يخبئونها فيه حتى يُستعاد النظام وتُكبح فوضى الجامحين فلا تضيع روح الأرضيين بين المتقاتلين بل ستبقى محفوظة حتى يحين الحين"، أي أن الروائي لم ينس القصة الرئيسية التي بدأ بها روايته والتي ظل يعود إليها مستكملا لها وسادا للفجوات فيها بين الحين والآخر على امتداد الرواية حتى انتهى بها أيضا، بل لعلنا نلاحظ من خلال هذا المقطع أن الرواية انتهت بحكاية البنت الصغيرة التي يستقبلها الكهنة ليخبئون روحها باعتبار أن إيزيس متجسدة فيها، وكأن إخفاء الكهنة لجسد الفتاة التي حلت فيها روح إيزيس يعني أن كل ما يدور في مصر من دخول المسيحية إليها، وغزو المسلمين لها هو بمثابة الكابوس الذي لابد أن ينتهي لتعود روح إيزيس الممثلة في الفتاة إلى مصر مرة أخرى.
رغم أن الكاتب لم يكن حريصا على متابعة قصة الكاهنة والفتاة الصغيرة طول الوقت، وهو الأمر الذي جعله يعود إليهما على فترات متباعدة أحيانا، ولكن لا يمكن إنكار أن هذه الحكاية والرحلة هما أهم ما في الرواية، ولكن ما الذي فعله الروائي حينما ابتعد عن هذه القصة الرئيس في متن الرواية؟
اعتمد مسعد شكلا من أشكال الحكي المعتمد على السياق العام في الرواية ألا وهو الاضطهاد الديني بكل أشكاله في تاريخ مصر، ومن خلال هذا السياق كان حريصا على أن يسوق العديد من الحكايات الأخرى المرتبطة ارتباطا وشيجا مع روح النص الروائي فرأيناه ينتقل أحيانا إلى العصر الآني، ثم يعود إلى بعض الأحداث والحكايات الروائية المعتمدة على الخيال في فترة ثورة الخامس والعشرين من يناير، ثم لا يلبث أن يحكي حكاية مجردة من الزمن وإن كانت تعتمد على روح الاضطهاد الديني التي كان يوثقها بالعديد من الوثائق التاريخية، وبين هذا وذاك تظهر لنا مرة أخرى الكاهنة والصبية الصغيرة في رحلتهما إلى الربة إيزيس، أي أن الكاتب اعتمد بناء متشظيا من الحكايات في متن روايته وإن كانت مجموعة من الحكايات التي لا تؤدي بالقارئ إلى تشتيت ذهنه بقدر ما تعمق داخله الروح والفكرة التي يتحدث فيها.
لذلك نرى الروائي يتحدث أحيانا عن أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير بقوله: "الجنود المتجهمون، الفقراء أبا عن جد، جلبوهم من جنوب البلاد حيث الأرض الجافة والجهل والفقر المدقع.. من الطبقات الفقيرة التي تسيح في الأرض التي لا تمتلك فوقها شيئا: بيتا، أو أسرة، أو قطعة أرض، أو غيارا داخليا إضافيا. وضعوهم في معسكرات أقيمت من الإسمنت القبيح، يكدسونهم بالعشرات في عنابر سيئة التهوية، يقضون حاجتهم في أماكن بدائية. يمكثون طوال يومهم يرتدون ثيابهم العسكرية الخشنة ويحملون أسلحتهم الثقيلة. يظلون ساعات طويلة في وضع الاستعداد والتأهب. يشحنونهم في اللواري التي تطوف بهم متأرجحة في شوارع المدينة الخطرة ثم يطلقونهم على جزء من المدينة، أو على مجموعة من البشر فينقضون كالكلاب المسعورة يعوون ويمزقون البيوت والبشر. الضباط الصغار ليسوا أحسن حالا: فقد تم اختيارهم من الطبقات التي يؤرقها حلم الحصول على الثروة والمكانة والاحترام.. ليس عن طريق العمل الشاق. بلى!"، وهو من خلال هذا المقطع يعمل على التأريخ في سياق النص للحدث الثوري، وهو التأريخ الذي يحمل في باطنه لونا من التحليل لهذا الاضطهاد الذي يلاقيه الكثيرين من المصريين على يد غيرهم من المصريين أيضا.
إذا كان الحديث داخل الرواية يتحدث أحيانا عن الاضطهاد الديني فهو في أحيان أخرى يتحدث عن الاضطهاد السياسي؛ حيث القهر والاضطهاد هو لب العمل الأساس؛ لذلك يقول في مقطع وثائقي آخر تحت عنوان فرعي "من بردية شاروبيم": "في النصف الأول من شهر السنة الإسلامي اسمه المحرم، أصدر الحاكم بأمر الله سجلا ألزم النصارى واليهود- دون الخيابرة- بشد الزنانير في أوساطهم ووضع العمائم السود على رؤوسهم- إذ كان السواد هو شعار العباسيين وهم العصاة في نظر الفاطميين- وأعلن هذا السجل في جوامع مصر، فامتثل لأمر الخليفة سائر أهل الذمة في أنحاء الدولة. وفي سنة 397ه/ 1006م اشتدت القيود صرامة، أمر النصارى واليهود أن يحمل النصارى في أعناقهم الصلبان وأن يحمل اليهود قرامي الخشب والجلاجل. وفي العام التالي اشترط الحاكم بأمر الله على النصارى تعليق الصلبان ظاهرة، فاتخذ النصارى صلبان الذهب والفضة، فأنكر الخليفة ذلك وأمر المحتسبين أن يأخذوا النصارى بتعليق صلبان الخشب واليهود بتعليق القرامي، كما أمر بالنداء في أهل الذمة بأنه من أراد الدخول في الإسلام فله ذلك ومن أراد الانتقال إلى بلاد الروم كان آمنا إلى أن يخرج، ومن أراد المقام بمصر فعليه أن يلبس الغيار والالتزام بما شرط عليه، فاضطر كثير من أهل الذمة تحت وطأة القيود الصارمة إلى الدخول في الإسلام"، من خلال هذا النص التاريخي المأخوذ من كتاب "أهل الذمة في مصر في العصر الفاطمي الأول"، يتضح مدى الاضطهاد الذي واجهه أهل البلاد من المصريين المسيحيين واليهود على يد الغزو العربي الإسلامي الذي جاء إلى مصر ليتحكم فيها وفي أهلها لدرجة تهجيرهم من بلدهم إذا لم يعلنوا إسلامهم أو يخضعوا للتمييز والذل والاضطهاد- تماما مثلما فعل جمال عبد الناصر مع يهود مصر بعد ثورة 1952م والتضييق عليهم وتهجيرهم جميعا-.
لكن هل أخذ الروائي- باعتباره مسيحيا- جانب المسيحيين المُضطهدين فقط؟ بمعنى هل رأى التعصب في المسلمين فقط من دون غيرهم؟
الحقيقة أن الروائي لم يكن يعنه الجانب الطائفي في شيء، بل هو يتحدث عن التعصب الديني بشكل واسع؛ لذلك نراه يدين الجانب المسيحي أيضا في تعصبه الذي لا يختلف كثيرا عن تعصب المسلمين حينما يكتب تحت عنوان فرعي "ماري دردس" في حديث القس للمصلين- الذي كان يتحدث بلهجة إحدى مناطق الصعيد- عن القديس ماري جرجس: "يسود صمت مسرحي في الكنيسة سيئة الإضاءة التي لم يُجدد طلاءها منذ سنوات، بنت العصافير أعشاشها في شقوق السقف القديم. يفرد الواعظ ذراعيه وهو يتأمل بعينين قاسيتين نافذتين جمهور المصلين الخاشعين، وقد بدأت أجسادهم تتمايل بإيقاع رتيب بطئ. يتحول إلى حركة جسدية وصوتية عنيفة، راحلوا بالسيف والحاربا والخوزا.. وهو راكب على حصانو الأبيض.. راحلوه يا قاتل يا مقتول.. وهجم عليه بكوة الرب يسوع المسيح وبشفاعة أمنا العدرا المقدسة وغرز سيفه في كلبه.. غرز إيه؟ غرز حربته فين؟ في القلب.. في القلب. ينهض المصلون هائجين يتقافزون فوق أرضية الكنيسة تصاحبهم زوبعة صغيرة من التراب. تفزع العصافير وتضرب بأجنحتها في فضاء السقف وشقوقه. يصيحون ودموعهم تسيل على خدودهم هللويا ليتمجد اسم الرب.. رب الجنود. تلمع عيونهم بشهوة القتل"، من خلال هذا المقطع يتضح أن التعصب الديني واحد سواء عند رجال الدين المسيحي أو الإسلامي أو غيرهم من الديانات، فهم حريصون على إذكاء العصبيات وشهوات القتل داخل الجميع ليتم شحن كل صاحب دين ضد الآخر.
لذا نرى الرواية تتحدث عن جماعة الملثمين من المسيحيين الذين لا يعرف عنهم أحد شيئا، لكنهم جماعة ظهرت أثناء ثورة الخامس والعشرين من يناير وتسلحت بالكثير من الأسلحة التي كانوا يشترونها أو يسرقونها من خلال السطو على الأقسام ومراكز الشرطة في المناطق النائية، وهي جماعة متدينة وإن كانت ترغب في الدفاع عن المسيحيين جميعا من الاضطهاد الديني الإسلامي: "اعترف صاحب الصوت الآمر، بأنه قد سرق السلاح الذي معه الذي يخبئه داخل الصرة التي تركها بالقرب من الهيكل. قال: إنه يطلب من الرب المغفرة من أجل السرقة التي قام بها، لأنه يريد أن يدافع بسلاحه عن بيت الرب وعن خدام الرب وعن إخوته في المسيح. قال: إنه يتمنى أن لا يستخدم سلاحه في القتل عمّال على بطّال (هذا تعبيره) قال: إنه لن يتردد في القتل، إذا ما وجد ضرورة لذلك خلال قيامه بمهمته في الدفاع عن دينه وعن إخوته في المسيح. قال له: إنه يريد منه أن يبارك سلاحهم، وأن يمسحه بالزيت المقدس"، كما يتحدث عن أثر الدين السيء في تعامل البشر مع بعضهم البعض؛ فسارة السودانية المنتمية إلى إحدى القبائل المسلمة حينما تحب الضابط المصري المسيحي الذي يخدم في السودان وتطلب من أخيها أن ترحل عن القبيلة وتغير دينها من أجل الزواج به تُطرد من القبيلة للأبد ولا تعود إليها مرة أخرى لدرجة أنهم يرفضون أن يُدفن جسدها عندهم بعد موتها؛ فلقد صارت مسيحية بعدما غيرت دينها، وهو الأمر الذي يحدث أيضا لابن زوجها الذي يذهب إلى قبيلة سارة التي يعتبرها أمه ليعيش في كنفها، وهناك يعلن إسلامه لمجرد رغبته في الزواج من ابنة خاله المسلمة زعيم القبيلة –أخو سارة زوجة الأب-، هنا نلاحظ أن الدين دائما ما يقف حجر عثرة أمام الجميع إما بالحرمان، أو الاضطهاد، أو التمييز، ومن ثم يكون السبب الرئيس في إفساد جماليات وسعادة العالم.
رواية "زهرة الصمت" للروائي رءوف مسعد من الروايات الصعبة على مستوى البناء والفكرة، ولعل رواية بمثل هذا الشكل البنائي في حاجة إلى الكثير من الجهد والتركيز من الروائي من أجل اتساق شكلها الفني، كما أنها في حاجة إلى تركيز أكبر من القارئ، بمعنى أنه لابد أن يكون منتبها تماما أثناء القراءة نتيجة تشظي الحكايات المبثوثة بين السرد الرئيس، بالإضافة إلى الكثير من التوثيق الذي عمل على إثراء الرواية وزيادة عمقها الفني.





محمود الغيطاني

جريدة القاهرة
عدد 10 يناير 2017م



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق