الاثنين، 2 يناير 2017

الشيخ حسني.. المُبصر الوحيد بيننا



محمود عبد العزيز
لم يكن محمود عبد العزيز مجرد فنان رحل وفقدته السينما المصرية، بل هو أقرب إلى الأسطورة الفنية المغروسة في وجداننا جميعا. تشعر معه بسهولة شعور الأخ، أو الأب، أو الصديق، نظرا لمكانته الوجدانية داخل كل منا؛ نتيجة أدواره المهمة والبسيطة، والمعقدة، والطريفة التي قدمها واستمتعنا بها جميعا.
مع رحيل عبد العزيز فقدت السينما المصرية فنانا قدم الكثير من الأعمال المهمة التي شكلت وجدان العالم العربي من خلال أفلامه المتنوعة التي قدمت العديد من القضايا المهمة سواء على المستوى الفني، أو المستوى الجماهيري.
قدم عبد العزيز الكثير من الأفلام التي تربو على أربعة وثمانين فيلما، لكنه بدأ مرحلة التميز اللافت في أفلامه التي قدمها منذ بداية الثمانينيات واشتراكه مع العديد من المخرجين المهمين من أمثال داود عبد السيد، وعلي عبد الخالق، ورأفت الميهي وسيد سعيد، وسمير سيف وغيرهم من المخرجين.
ربما كان أهم ما يميز محمود عبد العزيز هو أداؤه الصادق أمام الكاميرا وكأنه يحيا حياة طبيعية وليس مؤديا للدور المرسوم له، كما تميز هذا الأداء في الكثير من الأحيان بخفة الظل التي كانت سمة من سماته.
لعل دوره المتميز في فيلم "الكيف" للمخرج علي عبد الخالق 1985م يُعد من أهم الأدوار التي ما زال يتذكرها العديد من المشاهدين، وهو من الأدوار التي لا تُنسى لفنان أسعدنا كثيرا؛ فمن خلال هذا الدور قدم شخصية جمال أبو العزم الذي فشل في دراسته وتم فصله من كلية الحقوق؛ فلم يجد سوى عالم الأفراح ومطربي الدرجة الثالثة ليكون عالمه المفضل؛ ومن ثم أدمن على تعاطي الحشيش، وصدق أنه مغن له صوتا عذبا رغم نشازه. حاول شقيقه الكيميائي "يحيى الفخراني" إنقاذه من عالم المخدرات الذي يعيش فيه بصناعة توليفة من الحنة ومواد العطارة والزيوت العطرية والروائح الكيماوية تشبه الحشيش تماما في اللون والملمس والخامة والرائحة لكنها تخلو من المخدرات، إلا أنه جر شقيقه إلى عالمه بخلط هذه التوليفة بالمخدرات والإتجار فيها؛ مما أدى إلى تدمير حياة الشقيق معه. يكاد يكون هذا الدور الذي أداه عبد العزيز من البصمات التي تركها في تاريخه الفني؛ لإتقانه الأداء في هذا الدور وخفة ظله التي ميزته، ويكاد يكون هذا الفيلم من العلامات المميزة للسينما المصرية في فترة الثمانينيات نتيجة السيناريو المحكم الذي كتبه محمود أبو زيد، والأداء العفوي لمحمود عبد العزيز.
في عام 1986م قدم عبد العزيز دورا مهما مع المخرج الراحل عاطف الطيب في فيلمه المهم "البرئ"، وهو الفيلم الذي أدى فيه دور العقيد توفيق شركس الذي كان من الأدوار المهمة والناجحة؛ حيث يؤدي شخصية مزدوجة نفسيا بشكل يجعلنا نتأمل ازدوج النفسية البشرية، وكيف لها أن تتعايش مطمئنة مع هذا الازدواج. ففي الحين الذي نراه في المعتقل يمارس كل ألوان التعذيب على المعتلقلين السياسيين، بل ويعمل على التفنن في ابتكار أساليب عنف وتعذيب أشرس، نراه في منزله مع زوجته وطفلته في منتهى اللطف والحنان، حتى أنه يرفض أن يبتاع لطفلته لعبة العسكر والحرامية حينما تطلبها منه في عيد ميلادها ويفضل أن يشتري لها آلة موسيقية رقيقة وهي الجيتار، كما نراه لطيفا أيضا مع شرطي المرور الذي يعنفه حينما يقف بسيارته في مكان ممنوع، وفي المقابل نراه دمويا شرسا مع المعتقلين ويمثل القتل بالنسبة له حياة طبيعية. لعل هذه الازدواجية النفسية التي رأيناها في توفيق شركس التي أداها ببراعة جعلته من الأدوار المهمة التي لا يمكن نسيانها في أداء عبد العزيز الفني.
فيلم البريء
في عام 1985م يتعاون محمود عبد العزيز مع المخرج عمر عبد العزيز في فيلم "الشقة من حق الزوجة"، وهو الفيلم الذي أدى فيه دور "سمير" الموظف البسيط الذي تزوج بعد قصة حب من ابنة رئيسه في العمل، ونتيجة ضغوط الحياة واحتياج الأسرة يضطر للعمل كسائق تاكسي بعد الظهر؛ مما يؤدي إلى تذمر زوجته منه بسبب غيابه الدائم خارج البيت؛ ومن ثم تبدأ بينهما الكثير من المشاحنات والخلافات التي تشجعها حماته فيترك البيت لزوجته بعدما تصر على الاستيلاء على شقة الزوجية ويتخذ من المقابر سكنا له، وربما كان مشهده وهو يغسل ملابسه في حمام الشقة بينما حماته وزوجته تراقبانه وهو منهمك في الغسيل والدندنة بأغنية "زحمة يا دنيا زحمة" من أهم المشاهد التي مازالت باقية في وجداننا حتى اليوم؛ مما جعل هذا الدور من الأدوار المهمة التي تركت علامة مميزة في تاريخه الفني.
حينما يتعاون عبد العزيز مع المخرج الراحل رأفت الميهي في فيلمه "السادة الرجال" 1987م يترك علامة لا يمكن نسيانها في أذهان الجمهور المصري والعربي؛ لاسيما أنه أدى دورا لم يكن مألوفا من قبل اعتمادا على السيناريو الذي كتبه الساخر الأعظم رأفت الميهي، وهو السيناريو الذي مثل فيه دور أحمد المتزوج من فوزية والتي يعاملها بإهمال؛ فتطلب منه الطلاق لكنه يرفض، ونتيجة لأن فوزية تشعر بدونيتها باعتبارها امرأة يتعامل معها المجتمع بالكامل بإهمال واستخفاف تقرر أن تتحول إلى رجل حتى لا تحيا مسلوبة الحق دائما، وهنا نرى شكلا من أشكال الأداء البارع بين كل من محمود عبد العزيز ومعالي زايد في مباراة تستحق التأمل والتصفيق الحار على براعتهما، وخفة ظل عبد العزيز الذي يقرر في نهاية الفيلم التحول إلى امرأة كي تستمر الحياة بينه وبين زوجته التي تحولت إلى رجل، ومن أجل تربية طفلهما.
لعل نجاح التجربة مع المخرج رأفت الميهي ملك الفانتازيا في السينما العربية أدى إلى عودة التعاون مرة أخرى بينهما عام 1989م في فيلم "سيداتي آنساتي" الذي أدى فيه دور الدكتور محمود الحاصل على الدكتوراه لكنه يسخر من المجتمع ويرفضه ويعمل ساعيا في إحدى الشركات، لكن الموظفين يعرفون حقيقة درجته العلمية وهنا تقرر أربع من الموظفات الزواج منه دفعة واحدة بهدف التغلب على أزمة الإسكان وغيرها من الأزمات الاقتصادية. يبدو في هذا الفيلم الأداء المتميز لمحمود عبد العزيز الذي يوافق على الزواج بأربعتهن وكيفية معاناته معهن حتى أنه يظن نفسه قد بات حاملا؛ نتيجة الحالة النفسية المزدوجة التي يحياها معهن، ولعلنا لا نستطيع نسيان أداءه السهل الممتنع الذي كان من أهم مميزات الفيلم.
فيلم الكيت كات
في عام 1995م يُقدم المخرج محمد كامل القليوبي فيلمه "البحر بيضحك ليه"، وهو من الأفلام التي تتناول مشكلة وجودية فلسفية مهمة كثيرا ما تم تناولها في العديد من الأفلام حينما يصل الشخص إلى منتصف العمر ويبدأ في تأمل حياته التي عاشها فيشعر بعدم الرضى عنها ويرغب في نسيانها تماما وبداية حياة جديدة ومختلفة، حتى لو كانت هذه الحياة الجديدة يرفضها المجتمع بالكامل وستؤدي للكثير من العار بالنسبة لأهله، وهذا ما رأيناه في "حسين" محمود عبد العزيز الذي يترك حياته كموظف محترم له أسرة تعتز بالتقاليد البرجوازية وتهتم بنظرة المجتمع لهم، ومن ثم يُفضل الحياة في الشارع مع إحدى الفرق الجوالة، ويتعرف على العالم السفلي الذي يرى فيه الصدق الحقيقي بعيدا عن العالم المزيف الذي كان يحيا فيه، ورغم أن أسرته تحاول إعادته مرة أخرى بسبب نظرة المجتمع لهم فقط، إلا أنه يرفض ويرى في الحياة التي اختارها الصدق الحقيقي الذي يكشف كل هذ الزيف الذي كان يحياه من قبل.
في عام 1997م يشترك مع المخرج سيد سعيد في تقديم فيلم "القبطان" الذي يدور في إطار يكاد يكون أقرب إلى الحلم منه إلى الواقع رغم أن الفيلم تدور أحداثه في عام 1948م في مدينة بورسعيد، ولكن شخصية القبطان التي أداها عبد العزيز في الفيلم تكاد تكون شخصية أسطورية، لا يمكن الجزم بوجودها في الواقع رغم أن كل الدلائل تشير إلى وجودها بالفعل. تدور حول القبطان الكثير من التكهنات والظنون: هل هو موجود بالفعل أم أنه مجرد خيال، هل هو مصري أم يوناني، لكنه كان في النهاية رمزا للحلم بالنسبة لجميع كل من يحيون حوله.
عام 2000م يقدم محمود عبد العزيز دورا من أهم أدواره التركيبية في فيلم "سوق المتعة" مع المخرج سمير سيف، وهو الفيلم الذي يناقش قضية الاعتياد وما يؤدي إليه من قتل للروح الإنسانية، حيث يقدم دور أحمد حبيب الذي يقضي في السجن فترة طويلة جدا؛ ومن ثم حينما يخرج إلى الحياة مرة أخرى يعجز عن التكيف معها ويظل يحنو إلى عالم السجن، كما أنه صور تدمير سيكولوجيته حينما يعجز عن الاستمتاع مع إحدى فتيات الليل بشكل طبيعي ويُفضل الاستمناء عليها ناظرا لها وقد طلب منها أن تتعرى جزئيا أمامه في إشارة من الفيلم والمخرج إلى أنه قد اعتاد على ممارسة العادة السرية داخل سجنه ولطول عهده بها فسدت سيكولوجيته ولم يعد صالحا للحياة الطبيعية مرة أخرى.
فيلم الشقة من حق الزوجة
رغم العديد من الأدوار المهمة التي قدمها محمود عبد العزيز يبقى دور الشيخ حسني في فيلم المخرج داود عبد السيد "الكيت كات" 1991م هو الدور النموذجي والأمثولة الذي أداه في حياته الفنية، وهو ما ترك في نفوسنا أثرا لا يمكن زواله من ذهنية المشاهدين العرب. الفيلم مأخوذ عن قصة "مالك الحزين" للروائي إبراهيم أصلان؛ حيث أدى عبد العزيز دور الشيخ حسني ببراعة لم تحدث من قبل. واستطاع تقمص دور الرجل الكفيف الخفيف الظل الذي يعرف كل شيء يدور حوله ويعمل على فضحه وتعرية الجميع، لدرجة أن المشاهد يكاد يظنه بصيرا أكثر ممن حوله من المبصرين، كما أن إصراراه على أنه ليس بأعمى بل هو مبصر بينما كل من حوله هم الذين لا يرون كان من الفلسفة العميقة التي ميزت هذه الشخصية التي قدمها بشكل جعل الفيلم من أهم أفلام السينما المصرية رغم عدم تجاريته، ولعلنا لا ننسى مشهده وهو يركب الدراجة البخارية بينما طرف جلبابه في فمه مُصرا على تحقيق حلمه في قيادتها في مشهد يوحي برغبته في الانطلاق في الحياة بعيدا عن أسوار العزلة التي سببها تعطل بصره. كما كان مشهده في العزاء حينما بدأ يحكي حكايات وأسرار الحارة بعد جلسة حشيش بينما لا يدري أحد أن "المايك" أمامه، وصوته يسود الحارة كلها من خلال الميكرفون عاملا على فضحهم جميعا وكشفهم أمام بعضهم البعض من المشاهد الخالدة في التاريخ البصري للمشاهد العربي. ولعلنا ما زلنا نذكر القطعات المونتاجية التي تخللت المشهد تارة عليه وهو يروي، وتارة أخرى على وقع كلامه على أهل الحارة أو عن الشخصية التي يتحدث عنها.
رحم الله محمود عبد العزيز الذي أثرى السينما المصرية والعربية بالعديد من الأدوار المهمة التي تركت أثرا لا يمكن له أن ينمحي من الوجدان الجمعي للمشاهد العربي بأدواره البسيطة ظاهريا، الموغلة في أعماقنا بثرائها الفني.




محمود الغيطاني

مجلة الشارقة الثقافية 
عدد يناير 2017م



هناك تعليق واحد: