السبت، 14 يناير 2017

تحرر العقل العربي.. منتهى اللاعقلانية


جورج طرابيشي
إن فكرة العقل العربي، والعقل الغربي من الأفكار التي اختلف فيها الكثيرون من المفكرين العرب وغير العرب، حتى أن هناك العديد من المجلدات والمعارك الفكرية التي احتدمت حول هذا المفهوم وأهميته، وخصائصه، ولعلنا هنا لن نتعرض لهذه المعارك الفكرية المهمة، كذلك لن نتحدث عن الكتاب المهم "نقد العقل الخالص" للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، ولا ما كتبه المفكرون العرب حول مسألة العقل العربي التي كان من أهم من كتب فيها المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتبه الأربعة "تكوين العقل العربي"، و"بنية العقل العربي"، و"العقل السياسي العربي"، ثم "العقل الأخلاقي العربي"، وهي الكتب التي رد عليها بقوة عاصفة المفكر السوري جورج طرابيشي من منطلق نقد النقد فكتب "نظرية العقل العربي"، و"إشكاليات العقل العربي"، و"وحدة العقل العربي"، ثم "العقل المستقيل في الإسلام"، ولن نذكر كذلك ما ذكره المفكر اللبناني علي حرب في هذا الشأن بقدر ما سيكون الأمر محاولة لمعرفة هل العقل العربي متوافق مع العقل الغربي أم لا، هل هناك تكاملا بينهما أم أنه مجرد خضوع عقل لآخر.
يقول المؤرخ والفيلسوف يوسف كرم في تعريفه للعقل في كتابه المهم "العقل والوجود": إذا أردنا أن نُعرّف العقل قلنا: إنه قوة في الإنسان تدرك طوائف من المعارف اللامادية. يُدرك العقل أولا ماهيات الماديات، أي كنهها لا ظاهرها، ويُدرك ثانيا معاني عامة: كالوجود، والجوهر والعرض، والعلّية والمعلولية، والغاية والوسيلة، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والحق والباطل، ويُدرك ثالثا علاقات أو نسبا كثيرة: كالعلاقة بين أجزاء الشيء الواحد، وعلاقات الأشياء فيما بينها، وعلاقات المعاني، والعدد والترتيب"[i]، ومن خلال هذا التعريف الذي يُطلقه كرم عن العقل فهو يعتمد اعتمادا فلسفيا مهما في تعريف العقل، وهو التعريف الذي يبتعد كثيرا عن العديد من التعريفات اللغوية أو الأيديولوجية التي يعتمدها غيره من الفلاسفة، ولعله هنا يقترب كثيرا من الفلاسفة الذين عملوا على تعريف العقل تعريفا فلسفيا لاسيما وأنه يُقرر بقوله: إننا نعتقد أن مؤرخ الفلسفة فيلسوف أيضا، وأنه لا يليق به أن يضع نفسه موضع الببغاء، فيقصر مهمته على حكاية أقوال الفلاسفة دون عناية يتدبرها والحكم فيها[ii]، أي أنه اعتمد هنا في تعريفه على ما يراه فلسفيا في تعريف العقل.
ربما يقترب هذا المفهوم في التعريف من تعريف ابن سينا في كتابه "النجاة" حيث يقول: "العقل يُدرك الصورة بأن يأخذها أخذا مجردا عن المادة من كل وجه بما يصلح أن يُقال على الجميع"، وقوله أيضا: "العقل يُدرك الأمر الباقي الكلي.. ويدركه بكنهه لا بظاهره".
كما يقول الجرجاني: "العقل هو ما يُعقل به حقائق الأشياء وقيل محله الرأس، وقيل محله القلب، والعقل كما يقول الفلاسفة، جوهر مجرد عن المادة في ذاته، مقارن لها في فعله، وهو النفس الناطقة التي يشير إليها كل أحد بقوله أنا، وقيل العقل جوهر روحاني، خلقه الله تعالى ببدن الإنسان"، ويرى الكندي أن العقل يرتبط بالإدراك، فيقول: "العقل جوهر بسيط، مدرك للأشياء بحقائقها"[iii]، أما ابن خلدون فالعقل عنده "ميزان صحيح، أحكامه يقينية توزن بها المعقولات، ولا دخل له بأمور التوحيد والآخرة"، أي أن العقل في نهاية الأمر هو أداة لمعرفة كنه الأشياء والعلاقات التي تربط هذه الأشياء ببعضها البعض، وهذا ما أكد عليه العديد من الفلاسفة العرب والغربيين، ولعل تأكيد ابن خلدون في تعريفه للعقل بأنه لا دخل له بأمور التوحيد والآخرة كان من الأهمية التي تعمل على التأكيد على أن العقل هو مُدرك للأمور ويحاول تحليلها ومناقشتها ومعرفة قيمتها وكنهها بعيدا عن أي تأثير للدين في هذا الإدراك.
لكن بعيدا عن هذه التعريفات الفلسفية لمفهوم العقل لابد من النظر إلى المفهوم البسيط للعقل على المستوى اللغوي عند العرب والغرب حينما نتعرض لعلاقة التأثير أو التأثر بين العقلين العربي والغربي؛ لنحاول فيما بعد معرفة مدى هذا التأثير من عدمه.
يُطلق "العقل" في اللغة ويراد به عدّة معان منها: التثبت في الأمور والإمساك والامتناع والشدّ والحبس، يقال: عقلت الناقة إذا مُنعت من السير، ويقال: عقلَ (بفتح اللام) الرجل إذا كفّ نفسه وشدّها عن المعاصي، وقيل: العاقل: الذي يحبس نفسه ويردّها عن هواها. هذه هي المعاني اللغوية الرئيسية التي تكاد تُجمع عليها كتب اللغة حول العقل، وتندرج تحتها - تقريباً - جميع المعاني الأخرى التي ذُكرت لهذا المفهوم.
محمد عابد الجابري
وورد أيضاً في هذا الخصوص: أنّ العقل سُمي عقلا؛ لأنّه يعقل - أي يحبس - صاحبه عن التورّط في المهالك. فالعقل إذن قيد يحول دون انطلاق الإنسان فيما يشينه أو يضرّ به أو ما لا يليق به، أي أنّه بطبيعته يعقل النفس عن التصرّف العشوائي الناتج من مقتضي الطبع. أما "العقل" في المعنى الاصطلاحي، فمهما اختلفت وتضاربت أو تداخلت التعريفات حوله، فإنّها تلتقي جميعاً أمام نقطة مشتركة هي اعتبار العقل هو العنصر الأساس في الفعل المعرفي البشري، وهو القاعدة الأولى التي ينطلق منها الإنسان متأملا وناظراً ومستنبطاً ومدركاً لحقائق الأشياء، وهو الوسيلة الوحيدة للاهتداء إلى الصواب، ولكن بشرط أن يعمل بعيداً عن المؤثرات السلبية.
أما العقل في المفهوم الغربي فهو مختلف تماما ويعني: الحرية في السعي لإدراك واكتشاف العلاقات بين الأشياء والظواهر وبالتالي تشكيل علاقات جديدة بينها وهو ما يسمى بالخلق والإبداع، أما تعريفه في اللغة الإنجليزية فنجد المرادف المفترض لكلمة "عقل" هو reason والمرادف لكلمة "عقلانية" هو rationalism ، ويعود المحمول الأساسي للكلمة الأولى إلى العلاقة السببية بين الظواهر، ويتسع محمول الكلمة الثانية لإدراك العلاقات النسبية بين الظواهر بصفة عامة، ولا نجد للعقل هنا وظيفة إلزام أو تقييد بثوابت، لكنه يحمل مفهوم السعي الحر لإدراك واكتشاف العلاقات بين الأشياء والظواهر، كما يحمل بالإمكان وظيفة تشكيل علاقات جديدة بينها، وهو ما نسميه الاختراع أو الإبداع.
إذا ما تأملنا التعريف اللغوي بين مفهوم العقل في اللغة العربية واللغة الإنجليزية؛ اتضح لنا أن العقل عند العرب لابد أن يكون مُقيدا في كل شيء، أي أنه غير قادر على الانطلاق إلى آفاق أرحب، بل لابد أن يكون مشدودا إلى ما هو موروث من العقل الجمعي، مُرتبط به، غير قادر على الابتعاد عنه، وإلا تم اتهامه بالشطط واللاعقلانية، وهذا ما يُطلق عليه العقل العربي: الأصالة، أي الارتباط بالموروث في العقل الجمعي، بينما الأمر يختلف تماما مع العقل الغربي الذي يرى في انطلاق العقل إلى آفاق أرحب واكتشاف المزيد من العلاقات الجديدة بين الأشياء مهما كانت تتعارض أو تختلف مع ما هو موروث هو في حقيقته لونا من ألوان الإبداع التي لابد أن تكون ركيزة أساسية من أساسيات العقل.
ربما كان هذا التقيد اللغوي في تعريف العقل لدى العرب ناتج أساسا من ارتباط مفهوم العقل لدى العرب بالدين، أي أنهم لابد أن ينطلقوا من منطلقات عقائدية ووراثية في المقام الأول كي يتصفوا دائما بصفة الأصالة التي يُصرّون عليها في كل أدبياتهم وفي كل ما يقدمونه، وهذا ما جعل العقل في المفهوم العربي خاضعا دائما لكل ما ينتجه العقل الغربي؛ ومن ثم بات العقل العربي تابعا غير قادر على الإبداع بشكل مستقل.
لا يمكن إنكار أن مفهوم الأصالة والثابت هما ثقافتان ثابتتان لدى العقل العربي، وهي الثقافة التي تسعى دائما إلى ربط العرب بثوابتهم، في حين أن العقل الغربي يرفض هذا الربط بالماضي دائما ويسعى لاكتشاف العالم من خلال علاقات جديدة من الممكن لها أن تُدمر لديه كل ما هو ثابت، غير آبه بتدمير هذا الماضي، بل مهتما بتكوين الجديد من العلاقات المعرفية.
مفهوم الأصالة لدى العقل العربي يعني لغويا مطابقة الشيء لجذره، أما الابتعاد عن هذا الجذر ومخالفته فهي تعني "الزيف" لدى العرب؛ لذلك كان العقل العربي دائما رهينا لهذا المفهوم الذي لم يستطع التخلص منه باعتبار أن الأصالة شيئا جوهريا لدى العرب، وهذا ما أدى إلى شيوع ثقافة النقل الدائم ممن سبقوا، فالأصالة إن لم تعن النقل كما هو المفهوم في الدين، فهي تعني التقاليد والعادات والعرف الذي عرفته الثقافة العربية، وهذا ما أدى إلى توقف العقل العربي دائما مقيدا في هذا الإطار، غير قادر على الانطلاق بعيدا عنه، في حين أن الثقافة الغربية لم تهتم كثيرا بهذا الشكل التأصيلي لثقافتهم، ومن ثم انفصلوا عن الكنيسة الأرثوذكسية التي هي المرادف للجانب التأصيلي الإسلامي، ولعل هذا التأصيل لدى العقل العربي هو ما دفع دائما لمقولة "الغزو الثقافي"، أي كل ما يبتعد عن الجانب الثابت في هذه الثقافة المشدودة إلى ماضيها، الغير قادرة على الانطلاق إلى آفاق أخرى أرحب، ومن هنا كانت الكارثة التي ربطت العقل العربي بكل ما هو ماضوي فلم يستطع الفكاك منه، بينما تحرر العقل الغربي من كل ذلك وبات هو المبدع والمكتشف؛ فظهرت إشكالية خضوع العقل العربي دائما لكل ما هو جديد ووارد من العقل الغربي المتحرر فيما يذهب إليه وفي اكتشافه للجديد من العلاقات بين الأشياء.
لكن هل معنى ذلك أن العقل الغربي تخلى تماما عن مفهوم الأصالة؟ لم يتخل العقل الغربي عن هذا المفهوم وإن كان قد عمل على تطويره وفقا لما يتناسب مع مستجدات العقل، فالأصالة لدى العقل الغربي يمكن فهمها على أساس تحقيق العقل والفكر لوظيفته المفترضة، وهي اكتشاف العلاقات الطبيعية بين الأشياء والظواهر، وابتداع علاقات جديدة مثمرة، هنا تكون الأصالة في مدى التطابق مع الحقيقة الواقعية، مع الظروف والأحوال الكائنة هنا والآن، وعملية القياس سهلة وموثوقة نتائجها، إذ تدل عليها النتائج المتحققة على ضوء ما تجلب من منافع أو مضار، فالأصيل هو النافع والزائف هو الضار.
لكن هل أصولية العقل العربي دفعت به إلى التحرر والانطلاق بعيدا عن العقل الغربي؟
إيمانويل كانط
الواقع الذي نعيشه يؤكد أن هذه الأصولية، أو الأصالة قد دفعت العقل العربي إلى الكسل؛ ومن ثم الانصياع الكامل للعقل الغربي، أي أنه بات مُستقبلا لكل ما يخرج به العقل الغربي، لا مُصدرا لأي شيء، ولعل ما نراه حولنا يوميا دليلا على ذلك؛ فعلى الصعيد الأكاديمي مثلا أصبح العربي، ومن خلال مؤسساته الأكاديمية، مستهلكاً للنظريات الغربية والشرقية في السلوك والاجتماع، والطبيعة، والرياضيات، وفي كل علم وفن، ولم يعد له أي إسهام يُذكر في مجال ابتكار، وإبداع، وتطوير النظريات، والنظم والقوانين العلمية. إن عملية الاجترار، أصبحت منظراً مألوفاً. في علم النفس على سبيل المثال، توزع المتخصصون بين مدارسه المختلفة، فهذا تحليلي المنهج، وآخر سلوكي، وثالث شرطي، ورابع جشتلطي إلى آخر القائمة. حتى إن المنظور الغربي، أصبح هو المنظور المعهود، والمعتبر، وما سواه يصنف بأنه غير علمي، ويفتقد المنهجية. وفي علم الاجتماع، وتكون المجتمعات والعلاقات الاجتماعية، وخصائص المجتمعات، أصبح المعيار الغربي، والنظريات الغربية، هي الأساس، والإطار، الذي يحكم خلاله على تطوير المجتمع، وتخلفه، دونما اعتبار لأسس وثوابت المجتمع المراد الحكم عليه.
كذلك هو الأمر بالنسبة للسياسة حيث تبني العقل العربي النظريات السياسية الغربية المختلفة ما بين الماركسية، والاشتراكية، والرأسمالية وغيرها من النظريات، وهو نفس الأمر الذي نستطيع ملاحظته بسهولة في مجال الفنون باتساع مفهومها؛ ففي الأدب تبنينا كل النظريات الفنية والنقدية التي أنتجها العقل الغربي من حداثة وما بعد الحداثة، والتفكيكية، والبنوية، وغيرها من النظريات، وهو ما نراه في الفن التشكيلي مثلا من التكعيبية والسيريالية والرمزية وغيرها من النظريات، أي أن العقل العربي في النهاية قد بات مجرد مستهلك لكل ما يتفتق عنه العقل الغربي، وهو مجرد مستهلك لا يمكن له أن يُنتج ما هو جديد في أي مجال من المجالات؛ ولعل هذه هي سيكولوجية الشعوب المنهزمة دائما، أو الضعيفة؛ فهي تعمل على احتذاء حذو الآخر المنتصر عليها ثقافيا وحضاريا واقتصاديا وسياسيا، وهذا ما نلاحظه لدى العرب المنبهرين دائما بمنتجات العقل الغربي نتيجة لأن العقل العربي توقف تماما عن الإنتاج.





محمود الغيطاني
 مجلة عالم الكتاب

عدد يناير 2017م






[i] أنظر كتاب "العقل والوجود"/ يوسف كرم/ دار "آفاق" للنشر والتوزيع/ طبعة آفاق الأولى 2016م/ ص 6
[ii] المرجع السابق/ ص 5
[iii] رسالة في حدود الأشياء  للكندي/ تحقيق يوحنا مخيمر/ ص 33/ دار المشرق/ بيروت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق