الثلاثاء، 31 يناير 2017

محطة توقف.. الحرب تقتل الأحياء أيضا


Voir du Pays

في الفيلم الفرنسي The Stopover أو Voir du Pays تبعا لاسم الفيلم الأصلي للمخرجتين الشقيقتين "دولفين كولين" Delphine Coulin و"موريل كولين" Muriel Coulin، تتحدث المخرجتان عن أثر الحرب على الجنود الذين يشتركون فيها، وما تؤدي إليه هذه الحرب من خلال ما يخوضونه فيها إلى الكثير من التشوهات النفسية التي تُفضي إلى عجز الجندي في العودة إلى حياته الطبيعية مرة أخرى، خاضعا لوطأة الكوابيس والمشاعر المتباينة التي تجعله بمعزل عن الآخرين مكتسبا الكثير من العدوانية تجاه العديد ممن حوله.
تبدأ المخرجتان فيلمهما بلقطة تفصيلية Detail shot على حدقة عين الجندية "مارين" التي تؤدي دورها الممثلة الفرنسية Soko، ولعل هذه اللقطة الشديدة القرب من حدقة العين كانت من الأهمية بمكان ما يُدلل على أهمية الذكريات البصرية التي يراها الجنود من خلال ما يمرون به في الحروب، حيث تتشكل الذاكرة التي يظلون مثقلين بها بالكثير من المشاهد التي لا تنمحي؛ مما يؤدي إلى حياتهم في كابوس دائم، وهذا ما أرادت المخرجتان قوله من خلال الفيلم الذي ركز بشكل أساس على معاناة هؤلاء الجنود الذين اشتركوا في حرب أفغانستان حتى أنهم حينما عادوا من هذه الحرب استعدادا إلى الانخراط في حياتهم الطبيعية لم يستطيعوا الخروج من كوابيسهم وذاكرتهم البصرية التي تشكلت أثناء الحرب؛ فظلوا يعيشون في حالة من الوحدة والعدوانية تجاه الجميع، حتى أننا نرى هذه العدوانية تجاه بعضهم البعض كجنود اشتركوا في نفس الحرب.
يحرص الفيلم على التركيز على العناصر النسائية فيه، أي أن المخرجتين قدمتا الفيلم من خلال وجهة نظر نسائية تتمثل في "مارين"، و"أورور" وقد أدت دور الأخيرة الممثلة Ariane Labed فضلا عن شخصية نسائية ثالثة هي "فاني" Ginger Roman الممرضة في هذه الحرب، ومن خلال هذه الشخصيات الثلاث تدور أحداث الفيلم من خلال وجهة نظرهن الخاصة وما يشعرن به بعدما مررن بتجارب هذه الحرب الطويلة.
ربما لم يكن غريبا على المخرجتين تقديم الفيلم من خلال وجهة النظر النسائية هذه؛ حيث يهتممن كثيرا من خلال ما قدمتاه من أفلام بمشاكل المرأة ومعاناتها في مجتمعها، يتضح ذلك إذا ما رأينا ما قدمته المخرجة "موريل كولين" التي قدمت أفلام مثل Three Colors: Red 1994م،  Three Colors: Blue 1993م، و Three Colors: White 1994م، حيث اشتركت في هذه الثلاثية الشهيرة كمساعد كاميرا، كذلك ما قدمته شقيقتها "دولفين كولين" من أفلام أخرى هي Souffle 2000م، فضلا عن اشتراك الشقيقتين في فيلمي 17 Girls 2011م، وهذا الفيلم The Stopover الذي قدمتاه هذا العام.
تدور أحداث الفيلم حول الحرب وما تؤدي إليه من أزمات نفسية، وإن لم تدر أحداث الفيلم في الحرب نفسها بشكل مباشر، بل من خلال الأثر الذي تتركه على الجنود حتى أنها تتركهم مجرد كائنات مشوهة لا يمكن لها أن تستقيم مع الحياة بشكل طبيعي مرة أخرى، وربما لهذا السبب الذي يؤدي إلى سلوك عدواني وانعزالي انتبه قادة هذه الحرب لهذا الأمر؛ فكانت رحلة الجنود من أفغانستان إلى فرنسا لابد لها من التوقف في محطة متوسطة قبل العودة إلى الوطن وهي جزيرة قبرص في جانبها اليوناني، حيث يحل هؤلاء الجنود في فندق خمسة نجوم لمدة ثلاثة أيام من أجل إعادة التأهيل للعودة إلى الحياة مرة أخرى بشكل طبيعي، ومحاولة جعلهم يتخلصون من الترسبات والذكريات التي تركها القتال داخلهم.
ربما يحاول قادة الحرب علاج هذه التشوهات النفسية التي تركت آثارها داخل كل منهم حتى لا يكتسبوا وحشا سيكولوجيا داخل المجتمع الفرنسي، لكن هل تنجح هذه المحاولة من أجل إعادة تأهليهم، وعودتهم للحياة بسلام مرة أخرى؟
تحاول "مارين" الإجابة على هذا السؤال داخل الفيلم بقولها: "أذهاننا متخمة بالأشياء السيئة، ثلاثة أيام في فندق خمسة نجوم لن يجعلنا ننسى الحرب"، وهذا بالفعل ما نراه من خلال أحداث الفيلم؛ فهؤلاء الجنود الذين اشتركوا فيها لا يستطيعون بالفعل التخلص من أهوال ما رأوه أو فعلوه؛ الأمر الذي يجعلهم دائما يفضلون العزلة والعتمة، بل يكون سلوكهم عدوانيا طول الوقت حتى مع بعضهم البعض.
تقدم لنا المخرجتان العديد من المشاكل النفسية التي يعاني منها بعض الجنود مثل الجندي الذي لا يشعر بذراعه الأيسر رغم أنه يتحرك بشكل طبيعي، كما أنه يبدو سليما تماما، لكنه فضلا عن عدم إحساسه به فهو يشعر كذلك بوجود نمل داخله؛ الأمر الذي يدفعه إلى نخزه بالسكين في الكثير من الأحيان، وتعود هذه المشكلة إلى أنه كان دائما ما يجلس في اليسار داخل الدبابة، وفي يوم من الأيام أثناء أداء مهمة حربية جاءهم مقاتل جديد وجلس في مكانه في الجانب الأيسر، وعندما حدث الهجوم عليهم تم إطلاق النار على دبابتهم؛ مما أدى إلى تحطم الجانب الأيسر بالكامل ومعه المقاتل الجديد الذي مات وهو يبتسم له، ومنذ ذلك الحين لا يشعر بهذا الذراع الأيسر ربما تأنيبا لنفسه حينما ترك الشاب يكون في مكانه، حيث كان يتصور أن هذا المصير كان مصيره هو.
هنا نجد أن الكثيرين منهم يعانون من العديد من المشاكل السيكولوجية؛ لذلك نراهم في أوقات فراغهم لا يلعبون سوى ألعاب الفيديو جيم التي تخص الحروب، وكأنما قد تحولت الحياة بكاملها بالنسبة إليهم إلى ساحة حرب كبرى لا يستطيعون الحياة بعيدا عنها، كما أن مزاحهم مع بعضهم البعض يكون مزاحا عنيفا وقتاليا قد يؤدي إلى مقتل أحدهم إذا ما استمر، وهذا ما نراه في صالة "الجيم" أثناء مرانهم، كما نراه في البحر أيضا حينما ينزلون فيه للسباحة ويحاولون المزح مع بعضهم البعض بإغراق أحدهم للآخر؛ الأمر الذي يؤدي إلى القتال داخل المياه.
تحاول كل من النساء الثلاث أداء دورتها التدريبية لإعادة تأهيلها مرة أخرى، ويلتقون بشابين من أهل قبرص المحليين اللذين يقترحا عليهن الذهاب في رحلة داخل الجزيرة لمشاهدة معالمها، ورغم أن الخروج ممنوع على الجنود إلا أنهن يرغبن في القليل من المتعة، وبالفعل تخرج الفتيات الثلاث مع الشابين، ولكن يلحقهما زملاؤهما من الجنود ويحاولون تعكير صفو الفتيات اللاتي يعدن معهن في سيارتهم بعدما يتشاجر هؤلاء الجنود مع الشابين اللطيفين مع الفتيات؛ مما جعل "أورور" تقول لأحد زملائها من الجنود الذي يعتدي على الشاب القبرصي من دون مبرر: أنت بلا خصية" You haven’t balls؛ الأمر الذي يجعله يتعامل معها بعدائية أكثر هي والشابين القبرصيين.
أثناء عودة الفتيات إلى الفندق مع زملائهم من الجنود تصطدم السيارة بعنزة في الظلام؛ الأمر الذي يجعل الممرضة "فاني" تهبط من السيارة إلى الغابة التي على جانب الطريق؛ من أجل معرفة ما الذي حدث للعنزة، ولكن ينزل خلفها للبحث عنها أحد زملائها من الجنود ويغيبا كثيرا؛ فتنزل "أورور" كذلك وخلفها جندي آخر، إلا أن الأخيرة تشاهد زميلها الأول يغتصب "فاني" بينما يقترب منها الجندي الذي قالت له أنه من دون خصيتين ليحاول الاعتداء عليها، بل وخنقها حتى الموت كذلك، ولكن لا ينقذها سوى "مارين" التي تختطف سكينه من جنبه وتحاول ذبحه؛ مما يؤدي إلى هروب الرجال الثلاثة بالسيارة ليتركوا النساء الثلاث في الظلام داخل الغابة التي تطل على الطريق.
من خلال هذا الفيلم المهم تحاول الشقيقتان "كولين" التعبير عن التشوهات النفسية التي تؤدي إليها الحروب، وما تتركه من عنف وخوف داخل كل من شارك في هذه الحرب، كما تعبران عن العنف الذي يقع على المرأة في كل مكان من خلال الجنديات الثلاث اللاتي يعانين حتى مع زملائهن الذين شاركوهم الحرب، وكيفية محاولة اغتصابهن وقتلهن بدلا من حمايتهن.
ربما كانت هذه التشوهات القاتلة داخل نفس كل جندي من هؤلاء الجنود هو ما جعل المخرجتين تقدمان مشهدا مهما ببراعة حينما نرى "أورور" وهي تجري على مشاية الرياضة بينما تقترب الكاميرا من وجهها في لقطة قريبة Zoom وكأنها تتذكر، ثم لا يلبث أن يحدث القطع المفاجئ من على وجهها إلى انفجار شديد سبق أن رأته في الحرب؛ ليكون التساؤل المهم الذي يوجهه كل جندي اشترك في الحرب على لسان "أورور": "ماذا أفعل في أفغانستان؟".
لعل هذا التساؤل المهم الذي تساءلته الجندية هو ما ترغب المخرجتان في قوله: ماذا يفعل الجنود في أفغانستان أو في أي مكان من العالم لا علاقة لهم به؟ إن هذه الحروب تؤدي إلى وجود عدد كبير من الشخصيات المشوهة والمريضة داخل مجتمعاتهم؛ وبالتالي يزداد المجتمع لديهم مرضا وعدوانية، أي أن الحروب التي يشتركون فيها تدمر المجتمع أكثر مما ينبغي بفرزها للمئات والآلاف من الجنود المرضى حينما يعودون للحياة المدنية مرة أخرى، وفشل أي محاولة تأهيل نفسي لإعادتهم للحياة؛ وربما كان هذا هو السبب الذي جعل "أورور" تقول لصديقة طفولتها "مارين" أثناء عودتهما من قبرص إلى فرنسا: إنها ستترك حياة الجندية، فترد عليها مارين: لكنك لا تعرفين سواها، إلا أن "أورور" تصر على قرارها قائلة لها: إنها ستبحث حولها وبالتأكيد ستجد وظيفة أخرى.




محمود الغيطاني

مجلة الثقافة الجديدة 
عدد فبراير 2017م



 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق