عسل النون |
إنه في حقيقة الأمر يعني العمل
على إعادة صياغة العالم. إعادة تركيبه مرة أخرى، أي أنه يفككه إلى عناصره الأولى
ويلعب لعبة تخصه هو من خلال رؤيته وثقافته، وروحه الإبداعية؛ فيبني عالما جديدا
موزايا للعالم الذي يعيشه. صحيح أنه ربما يُعيد هذه الصياغة في شكل أكثر بؤسا
مبنيا على رؤيته الفنية والمزاجية تجاه هذا العالم، لكنه في أحيان أخرى يستطيع
صياغته في شكل أكثر جمالا من العالم المحيط به، أي أن المبدع في نهاية الأمر يعمل
على الهروب من محيطه، غير المُرضي بالنسبة له؛ ليعمل على تفكيكه تماما وخلقه
بالشكل الذي يرضيه هو ليصبح في النهاية إله هذا العالم الذي رآه وتخيله بشكله الجمالي
والفني الجديد الذي يُرضيه، مُجنبا في ذلك رؤى الآخرين، في حرص منه على تغليب
رؤيته الجمالية التي تخصه من خلال أدواته الإبداعية التي يمتلكها.
لكن، هل كل كتابة إبداعية هي
إعادة للخلق/ الصياغة؟ من المفترض أن تكون الكتابة الإبداعية في عمومها شكلا من
أشكال إعادة الخلق، ولكن هذا الخلق لا يمكن له الاكتمال إلا من خلال امتلاك
الأدوات الإبداعية والموهبة بشكل حقيقي. في هذه اللحظة وحدها يستطيع المبدع التصريح
لنا جميعا بفخر وجرأة قائلا: أنا إله هذا العالم؛ فأنا من خلقته، وأنا من لي
القدرة على تسييره. وكلما كان المبدع متملكا لأدواته الإبداعية كلما كان أكثر صدقا
في مثل هذا القول، وأقرب إلى الحقيقة منه إلى الوهم الذي يظنه بعض الكتاب أحيانا؛
فالكتابة في النهاية كي تصل إلى القارئ كما يرغب المؤلف لابد أن يتوفر فيها الصدق
الفني الذي يتخلل كل من يقرأ هذا الإبداع؛ ومن ثم ينساق له ليصبح مؤمنا به.
ربما كان هذا الصدق وهذه
الموهبة الفنية الناضجة هما ما نراهما في عالم الروائي والقاص محمد رفيع لاسيما في
مجموعته القصصية الأخيرة "عسل النون"، هذه المجموعة التي استطاع من
خلالها خلق حالة من الدهشة الفنية في كل قصة من القصص التي كتبها، حتى نصل في
نهاية الأمر إلى عالم فني متكامل يخصه هو ويشبهه دونا عن غيره، وهو ما أعطى
المجموعة في نهاية الأمر ميزتها التي تختلف فيها عما كتبه غيره من كتاب القصة في
الآونة الأخيرة.
لغة رفيع الفنية هي أهم ما
يمكن أن يميزه سواء في هذه المجموعة الجديدة أو ما سبقها من أعمال قصصية وروائية
لاسيما مجموعته القصصية السابقة "أبهة الماء"، مرورا بروايته الوحيدة
"ساحل الغواية"، فهو مبدع يمتلك لغة سردية رهيفة لا تتأتي للكثيرين ممن
يكتبون السرد القصصي والروائي، ومن ثم تبدو لنا أعماله الإبداعية كنسج لغوي ماهر
يمتلك من الرهافة ما يمتلكه الكثيرون من الشعراء رغم أننا لا نمتلك الجسارة على
تصنيف ما يكتبه في دائرة الشعر بقدر اقترابه منه.
بالتأكيد سنلمح هذه الحساسية
اللغوية من خلال قصته "مكاشفة" حينما نقرأ: "الولدان اللذان هاجرا
إلى السماء بعد أيام من وصولهما إلى مطار القلب؛ تركا في العمر ندبتين. والله الذي
يصنع الأطفال فينا شدّ صنارهما بعد يومين فارتفعا. دارت الأرض حول شمسها في مسارها
المنبعج، وانبعجت البطن مرة ثانية، وأنتجت ولدا هو هذا الذي تنشر شرابه مسرعة قبل
أن تصحو البنت باحثة عنها"، حتى أننا نشعر به أثناء القراءة وكأنه يعزف
اللغة، لا يصُفها سردا، ولعل هذا العزف نراه أوضح في هذا المقطع السردي العذب:
"الرضيعة على بُعد ثلاثة أميال تملأ فراغ البيت صراخا، والجوع يفتك به، أي
ضوء يأتي لعينك الوحيدة التي وارت طفليك السابقين؟ أي حريق شب في العروق؟ عندما
سمعتَ أن دماء ولدك هجرت شرايينها وصارت تتجول في رأسه بحرية وتمدده كبالون الأحلام؟
هل سمعك الله عندما توسلت إليه بألا يشد صناره؟ هل رأى من عليائه أما تدور بجسدها
كالمروحة على البلاط المصقول؟ هل نظر لعينك الوحيدة تستجدي الدموع من إخمص القدم؟
هل قالت البنت الرضيعة المنسية في الدار لا تشد صنارك يارب؟ هل قالتها بلغة من
صراخ؟ هل خجل نزيف الدم في رأس الولد من دماء هاربة في عروق الأم؟ فتأني ثم توقف
بلا سبب؛ غير أن الله أرخى صناره إلى حين. هل عبر العمر وجاء عقد رابع على الولد
ومازالت رأسه تنزف بالحكايات؟ هل صعد الأب ليشكر ربه أن أرخى صناره في ذلك
اليوم؟"، من خلال هذا المقطع السردي السابق يتضح لنا تمكن رفيع من لغته التي
تقرب من الشعر رغم كونها لغة سردية ناضجة، وربما تتأتى أهمية هذه اللغة وقوتها من
رهافتها رغم أنها ليست أكثر من مجموعة من التساؤلات المحضة، ولكن رغم جفاف
التساؤلات دائما ما نلمح فيها عذوبة بديعة تجعلنا نتأملها ونتوقف أمامها كثيرا
محاولين الاستمتاع بها حتى الرمق الأخير؛ لفرط رهافتها.
هذه اللغة العذبة الرهيفة
التي تُميز المبدع هنا كانت هي العامل الأول الذي جعلت السرد في هذه المجموعة شديد
الخصوصية، فضلا عن عالمه الفني الذي يصوغه بمهارة في شكل يخصه وحده، ولا يتشابه
فيه مع الآخرين.
يقسم رفيع مجموعته القصصية
الجديدة تقسيما يتناسب مع عالم المجموعة؛ فهو يبدأ هذا التقسيم بقصته
"مكاشفة" التي هي بمثابة التمهيد لمجموعة من الحكايات/ القصص التي يمكن
أن نقرأها باعتبارها متتالية قصصية لها علاقة وثيقة ببعضها البعض، بينما يمكن
قراءتها باعتبارها قصصا منفصلة في الوقت ذاته، لكن الحقيقة الفنية التي سنتوصل
إليها حين انتهاءنا من هذه المجموعة من الحكايات/ القصص تؤكد لنا أنها كمتتالية
قصصية لها ارتباط ببعضها البعض، وشكلا من أشكال التراتبية هو الأفضل؛ لأننا في
القصة الأخيرة "غيبوبة الجنة" سنلاحظ أنه يعود بنا إلى بداية القص الذي
بدأه في قصته التمهيدية "مكاشفة"؛ ومن ثم يكون الاتصال بين هذه القصص
أفضل من الانفصال رغم إمكانية تناولها باعتبارها قصصا منفصلة.
في هذا القسم يصوغ رفيع عالما
يخصه باعتباره طفلا- ساردا-؛ لذلك كانت القصة التمهيدية "مكاشفة" بضمير
الغائب، أو الراوي العليم، بينما جاءت التسع قصص التالية لهذه القصة على لسان
المتكلم أي الضمير الأول، وهو هنا يكتب من خلال شكل فني واع لما يفعله؛ فالقصة
التمهيدية- بلغة السينما- هي عبارة عن لقطة عامة Full Shot، وربما قاربنا السرد هنا بالسينما لأن رفيع في حقيقة الأمر صاحب
ذاكرة ولغة سينمائية ناضجة لاسيما أنه يُدّرس السينما ويكتب النقد السينمائي
والسيناريو، وهذا ما جعلنا نلتفت إلى ما يفعله بشكل سينمائي محض وناضج وواع من
خلال السرد القصصي، ثم يلي هذه اللقطة العامة العديد من اللقطات التي تُضيف الكثير
من التفاصيل إلى هذه اللقطة، وتكشف الأكثر من الأمور، وكأن كل لقطة من هذه اللقطات
عند تجميعها تكاد تكون- إذا جاز لنا التشبيه- لقطة سينمائية تفصيلية Detail Shot، وهذا ما أجزم بأنه كان في وعي رفيع حينما بدأ في كتابة هذه
المتتالية من القصص في مجموعته التي تم تقسيمها إلى عدة تقسيمات كان هذا التقسيم
هو أول ما فيها.
نقول أن هذه المجموعة
المتتالية من القصص ابتكر لها رفيع شخصا ما أطلق عليه اسم "حكائيل" في
مضاهاة لأسماء الملائكة من أمثال إسرافيل، وجبرائيل، وعزرائيل وغيرهم، هنا كان
لابد أن يكون هناك "حكائيل" الذي حكى مجموعة مدهشة من الحكايات للطفل
الصغير ذي الأربع سنوات ونصف السنة والراقد في الغيبوبة، ومن خلال هذه الحكايات/
القصص ندخل إلى عالم مدهش يخص القاص الذي ينسج العالم كيفما يحلو له بروح سارد
مستمتع أيما متعة بما يفعله، واثقا أن هذا البناء القصصي لهذا العالم بالتأكيد
سيروق للقارئ آسرا إياه داخل هذا العالم؛ لاسيما وأنه يُعيد بناء العالم وتجميله
كيفما يحلو له متجردا من أي قيود خارج عالم السرد الفني، فلا مجتمع ولا
أيديولوجيات، ولا أفكار مسبقة بقدر ما هو مؤمن بهذا العالم الفني الذي يصوغه بحكمة
ومتعة ومهارة من دون أي تعجل، ولعل هذا كان واضحا في "الحكاية السادسة"
مثلا التي بدأها بجملة مهمة: "كل الحكايات تبدأ "بكان ياما كان"
لكن حكايتي هذه ستبدأ بلم يكن ما لم يكن"!
هنا يُعيد القاص تشكيل العالم
بمفهوم جديد، وتساؤلات جديدة قد تبدو خارجة عن المألوف؛ لأن خلاصة رؤيته هي
التساؤل: ماذا لو كانت الأسطورة الدينية التي نعرفها عن الخلق ونزول آدم إلى الأرض
لم تحدث، وكانت مجرد أسطورة؟ هنا يبدأ القاص في إنشاء أسطورته التي تخصه كسارد في
الإطار الأول الضيق، بينما هي أسطورة وحكاية يحكيها له "حكائيل" في
الإطار الأوسع للقص فيقول: "ففي الزمن الغابر لم يغو إبليس حواء وحدها، بل
أغوى الشجرة من قبل، قال لها: لو تنازلت عن حبة من تفاحك، لجعلك الله ربة للشجر،
فلما أعطت تفاحتها لآدم، أنزلها الله إلى الأرض، فتسيدت الأشجار بما لها من بهاء،
فأصبح الشجر بما له من سطوة ومعرفة سيدا لكل الكائنات، فاتخذ لنفسه مزارع وحقولا
وجمع ماء المطر وسمّد الأرض تحت جذوره بلحوم الوحوش والضواري، وصارت له على مملكة
الحيوان سطوة، فهيأ الأرض كيفما شاء وكيفما اتفقت نوازعه".
هكذا يستمر رفيع في نسج
أسطورته الخاصة، وإعادة تشكيل العالم فيتصور بأن الأشجار تبدأ في الغرور والتكبر
والتجبر على الوحوش وباقي المخلوقات لتتساءل: "ما لربي يخلق من له روث وتنتن
جيفته إذا مات ونحن لا فساد فينا ولا رائحة إلا التي تأسر النحلات وتغويها؟"،
هنا حاولت شجرة عاقلة من الأشجار نصيحة باقي الأشجار بالعودة إلى رشدها حتى لا
يعاقبهم الله بتحويل الماء- الذي هو مصدر الحياة للأشجار- إلى ثلج متجمد فتفقد
الأشجار حياتها، لكن باقي الأشجار تجبرت واستعلت فكانت النتيجة هي: "حين جاء
ميعاد الصباح لم يكن هناك صباح، أمسك الله الشمس أربعين ليلة فلم تشرق عليهن حتى
تجمد الماء وحُبس الشجر، وانطبقت سيقانه، وأصبح الماء له قبرا فمات جميعه إلا
الذين اتخذوا السبيل تزلجا فرفعهم الله عنده، وبدّل الله الشجر بخلق جديد، وصارت
الأرض هي جحيم الأشجار يعذبها الله فيها ولا ينزل عليها الماء إلا من عنده، وكتب
عليها أن تعيش واقفة وتموت واقفة، تمتطيها القرود ويأكل منها الحيوان والنار، ولا
يرحمها أحد ولا يعرف أحد أن حياته تلك هي جحيم الشجر ومن هو إلا خازن من خزنة
جهنم، وشاهد على عذاب الشجر، لم يدر أحد بذلك حتى جاءت الحكاية وبدأت بلم يكن ما
لم يكن"، هنا نلاحظ أن القاص يدخل عالم القص متحررا تماما من الأساطير الدينية
التي يعمل على إعادة صيغتها بشكل فني يخصه وحده ويلائم تصوراته الفنية عن هذا
العالم، أي أنه يُعيد البناء مرة أخرى بشكل يراه أفضل من الشكل الذي يعرفه معرفة
مسبقة، ولعل هذا من أهم ميزات السرد الفني الذي يعطي ظهره للعالم من أجل بناء عالم
جديد لا سطوة لأحد فيه سوى مؤلفه وفنه فقط.
ربما نلحظ في قصص رفيع شكلا
من أشكال الإغراق في الذهنية الفكرية، وهذه الذهنية المغالية هي ما تدفعه إلى
صياغة العديد من القصص في شكل تساؤلات متعددة تكاد تُقارب جل القصة تقريبا، ولكن
التساؤل الذي لابد أن يتبادر إلى أذهاننا هو: هل أثرت هذه الذهنية العالية على
العالم القصصي الذي يصوغه القاص بالسلب مما يؤدي إلى إخراجه من فنيته؟
الحقيقة التي لا يمكن إنكارها
أن ذهنية القاص المفرطة جعلته على المحك وإن لم تسقط به في النهاية إلى الابتذال
الفني، كما لم تؤد إلى ضعف السرد القصصي لديه، بل زادته نضجا؛ نتيجة استيعابه
الحقيقي لآليات السرد القصصي، الأمر الذي أدى إلى وجود قصة مكتملة العناصر من فكرة
ولغة عذبة، وتشويق للقارئ، وبناء محكم من مجموعة من التساؤلات الذهنية، وهذا ما
نلاحظه في قصته "غيبوبة الجنة" التي كانت آخر الحكايات في التقسيم الأول
الذي وضعه القاص لمجموعته، وهي القصة التي يجد نفسه في الجنة ومعه حورية من
الحوريات المختصة به وبسعادته، لكن الجنة التي يراها ليست كما قيل له عنها في
الدنيا، وبالتالي لم يكن يرى شيئا إلا إذا تخيله فقط، وكلما سأل الحورية عن شيء
كانت تبدي له جهلها عما يتحدث، إلى أن يخبره حكائيل بأكل التفاحة، فيعود مرة أخرى
طفلا في الرابعة والنصف من عمره ويفيق من الغيبوبة التي كان قد دخلها. لعلنا إذا
ما تأملنا ما كتبه سيتضح لنا أن الذهنية المفرطة والعديد من التساؤلات صالحة للسرد
المدهش أحيانا إذا ما كان السارد على معرفة ناضجة بآليات السرد حيث يقول في مدخل
قصته: "في الغيبوبة دخلت الجنة، لم أكن متحققا إن كنت في عداد الأموات، لكني
شعرت أنها الجنة، رغم أنها لم تكن حديقة غناء، لم يكن هناك غير بحر فيروزي اللون
وشاطئ ونخيل وزقزقة العصافير وصوت النوارس هي كل ما سمعت، حدقت في الماء حتى رأيت
صورة امرأة بديعة الجمال. سألتها من أنت؟ قالت: حوريتك، قلت لها: أين الأخريات؟
قالت: ليس هناك أخريات. سألتها: هل هذه هي الجنة، أم أنني مازلت في الغيبوبة؟ لم
تعرف الإجابة، قالت لي: لا أعرف إلا أني حوريتك التي هي لك".
محمد رفيع |
يتميز رفيع بميزة تأمل ما
يدور حوله في العالم الواقعي الذي بات أكثر غرابة من العالم الإبداعي، لكنه لا يكتفي
بمثل هذا التأمل والفرجة فقط، بل يعمل على إعادة صياغة ما يدور حوله بالشكل الذي
يرضيه هو، سواء كان في هذه الإعادة شكلا من أشكال السخرية، أو شكلا من أشكال
التصحيح، لكن أيا كانت أغراضه من إعادة بناء العالم فهي أغراض خاضعة بشكل خالص
للأحكام الفنية التي يلعبها القاص بشكل فيه قدر ليس قليل من المهارة، فنراه في قصة
"نرسيس الجديد" يحاول من خلال هذه القصة إعادة صياغة الميثولوجيا
اليونانية بشكل آخر، أو بسرد مواز لهذه الميثولوجيا، ولعل رفيع لم يحاول هنا
مضاهاة الميثولوجيا اليونانية فقط من خلال قصة "نرسيس" الذي كان مفتونا
بنفسه، بل هو يُعيد بناء الواقع الحياتي المعاصر المعيش أيضا من خلال ما يدور فيه؛
فالعالم اليوم أكثر فنية مما يدور في خيالنا. يتحدث القاص هنا عن طبيب وفريقه
الطبي حينما ينجحون في إجراء العديد من عمليات تحويل الجنس بكل سهولة وبشكل أقل تكلفة
مادية؛ مما حدا بالعالم كله إلى الإقبال على عمليات تحويل الجنس إما للهروب من
جريمة اغتصاب، أو لأنه ملّ جنسه، أو من أجل الميراث، وهنا قامت قائمة العالم
وهاجمه الجميع وانفض من حوله فريقه الطبي ولم يبق معه سوى تلميذته
"ليلك" الواقعة في عشق أستاذها، لكنه ينكب على المزيد من التجارب حتى
يصبح التحويل سهل جدا من دون جراحة أو الحاجة إلى طبيب من خلال الحقن المجهري فقط
ومجموعة من المحاليل ليغفو المراد تحويل نفسه لمدة ثلاثة أيام ثم يستيقظ وقد تم
التحويل من دون الحاجة إلى وسيط لهذا الأمر، وهنا يبدأ الطبيب في تجريب هذه
التجارب على نفسه فيتحول من الدكتور "آدم" إلى "ليليت" كي
يشعر بشعورها ومدى علاقتها بالله حينما يتحول إلى أنثى ويشعر بما تشعر به الأنثى،
ثم يعود مرة أخرى إلى "آدم" وهكذا ليعرف كيف هو شعوره كرجل حينما جرب
مشاعر الأنثى، ويظل الطبيب على هذا التحول عدة مرات مسجلا في كل مرة على كاميرا
فيديو مقطعا له وهو في الحالة التي انتقل إليها، لكنه يقع في حب "ليليت"،
وتعشقه "ليليت" كذلك، ويصبح الأمر شديد العبثية، فهو يحب المرأة التي
داخله في حقيقة الأمر، بينما المرأة التي داخله تعشق الرجل الذي فيها، وهنا لا يجد
سوى حلا واحدا للتخلص من هذا العذاب الذي وصل إليه وهو الانتحار.
ربما نلحظ هنا شكلا من أشكال
السخرية من المفاهيم الاجتماعية التي يبثها القاص من خلال سرده بشكل فني فيقول:
"الحكاية الأولى بدأت عندما حول آدم كثيرا من الرجال إلى نساء، وكثيرا من
النساء إلى رجال، بل أعاد المتحولين لنوعهم الأول حين طلبوا، لكن فريقا من الناس
كره تلك العمليات وكاد يفتك بآدم وفريقه، وانبرت أقلام وصدحت منابر، تتهمه بكل
نقيصة، وتطلب القصاص منه، فاعتلى المنابر من قال: إن آدم يعصف بنصف الدين، فلو
حوّل امرأة إلى رجل وهي ناقصة العقل والدين فكيف يكتمل دينها وعقلها؟ وإذا حول
رجلا لامرأة فإنه يكون قد عصف بدينه الكامل وجعله ناقص الدين والعقل"، هنا
يسخر رفيع من الأفكار الموروثة في عقلية المجتمع بشكل يبدو عفويا لا توجد فيه أي
قصدية للسخرية، وإن كان يريد أن يقول من خلال قصته إن اختبار مشاعر الأنوثة
والرجولة معا سيؤدي بالضرورة إلى المزيد من الاكتمال، ولعلنا نلحظ في هذا المعنى
المزيد من السخرية أيضا من أفكار المحيطين بنا؛ فالكثيرون من الرجال يشعرون بالخجل
من الجانب الأنثوى المتواري فيهم، وبالتالي يحاولون إنكاره دائما بإظهار الكثير من
الغلظة والفجاجة بينما يخجلون من مشاعر الحب، والحنان، والرقة، وغيرها من الجانب
الأنثوي فيهم، وهو ما نراه في المقابل أيضا لدى الأنثى التي تعتقد بأن الجانب
الذكوري فيها هو انتقاص من أنوثتها، لكن القصة هنا تريد القول: إن اختبار الجانبين
لن يؤدي بصاحبه في النهاية إلا إلى الكمال الحقيقي فيكتب: "ذهب آدم وجاءت
ليليت عدة مرات، وفي كل مرة يزداد شعور جديد لكليهما، فليليت الثالثة ليست مثل
ليليت الأولى، فالثالثة عادت رجلا مرتين، فتغير إحساسها بالأنوثة وبالحياة
وبالطبيعة، وفي كل مرة كانت تُسجل إحساسها بالفيديو وبالقلم، الغريب أن آدم أيضا
قد تغير واقترب أكثر من روح الإنسان المكتمل، تغيرت نظرته إلى الحياة وأعاد تقييم
الأشياء من جديد، إحساسه بالجمال اختلف، واهتمامه بالتفاصيل وحفاظه على مظهره،
اكتشافه لحواسه، ملمس الجرائد في يديه اختلف، لفح الشمس لخده، لون البحر، آدم
يمتلك ذكريات عديدة، ذكريات عن الماكياج والغليون، ذكريات عن تقليم الأظافر وحلاقة
الذقن، عن الخروج في الليل والتسكع في الطرقات، في الحالتين فعل ذلك مرات عديدة
حتى شعر أنه بحاجة إلى أن يسجل كل ما يعتريه من مشاعر وما يمور في عقله من
أفكار"، هنا يسخر المؤلف فعليا مما نتوارثه من أفكار مغلوطة ويؤكد أن
الاكتمال الوجداني والمعرفي والجمالي لا يتأتى لنا إلا إذا خالفنا ما ورثناه من
معتقدات لا علاقة لها بالحقيقة والواقع.
نعود إلى التقسيم الذي انتهجه
رفيع في مجموعته القصصية، فبعد التقسيم الذي قسمه إلى مجموعة من الحكايات في بداية
مجموعته نلاحظ العديد من القصص المنفردة ثم عودته إلى التقسيم مرة أخرى تحت عنوان
"عسل النون" وهو القسم الذي يضم أربع قصص قصيرة كلها تتحدث عن إناث وما
يعانينه في مجتمعهن، أو ما يشعرن به ويشغل بالهن سواء كانت مشاعر وحدة أو فقد أو
حرمان، وقد نجح القاص هنا في الحديث على لسان المرأة أكثر بكثير مما تنجح المرأة
في التعبير عن نفسها، ولعل هذه القدرة من الرجل في التعبير عن مشاعر المرأة ومشاكلها
هو ما نلحظه دائما في السرد الفني، وهو أمر يثير الكثير من الدهشة حيث ينجح الرجل
في ذلك أكثر من المرأة رغم أنها الأولى في التعبير عن نفسها بشكل أكثر صدقا.
في قصة "سيمفونية
الله" التي نكاد نجزم أنها من أهم قصص المجموعة نلاحظ الذكاء الفني والمقدرة
الفنية الحقيقة لدى محمد رفيع؛ ففي هذه القصة يمارس المؤلف لعبا فنيا حقيقيا مدركا
له تمام الإدراك؛ لذا كانت القصة تحمل الكثير من النضج الذي ربما يستغلق على
الكثيرين ممن يقرأونها. القصة هنا تعتمد على صياغة العديد من الأسئلة الوجودية في
شكل سردي قصصي مشوق لا إملال فيه، وربما يظن بعض من سيقرأ القصة أن هذا اللون من
ألوان التشويق آت من استخدامه تقنية السينما أو السيناريو الذي يبدأ بمشهد ثم
ينتهي بقطع، لكن الحقيقة ليست كذلك.
في هذه القصة تتبين لنا
القدرة الفنية الحقيقية لدى رفيع المهتم بالبناء والمعمار السردي قدر اهتمامه
بالخيال واللغة والأفكار، ففي هذه القصة القصيرة يكتب رفيع بالفعل
"سيمفونية" كما أطلق عليها في العنوان، وهو يكتب هذه السيمفونية حينما
يستعين بالعديد من الفنون داخل لعبته السردية التي لم تتعد الخمس صفحات فقط؛ فهو
يبدأ القصة "بمنظر" كما كتب، ولعلنا نعرف جيدا أن المنظر لا يكون إلا في
فن المسرح الذي يبدأ بمنظر لينتهي بالستار، أما فن السينما فهو يبدأ بمشهد لينتهي
بقطع، أما الإذاعة فهي تبدأ بمسمع لتنتهي بصمت، هذا ما نعرفه جيدا في هذه الفنون
المختلفة.
التساؤل هنا ما معنى هذا
الحديث؟
هذا الحديث يعني أن رفيع قد
استخدم في هذه القصة التي أطلق عليها "سيمفونية" كل هذه الفنون ليكون
المعمار الفني للقصة أو الشكل متطابقا بالفعل مع المضمون الذي يريد كتابته. أي أن
القصة التي كانت باسم "سيمفونية الله" هي بالفعل سيمفونية على مستوى
الشكل والبناء والمعمار الفني، ولعله أعطانا بعض الكلمات المفتاحية للإشارة إلى
ذلك أثناء السرد فهو قد بدأ القصة "بمنظر" كما سبق أن قلنا وهو منظر
عودة السارد من السوق بزوج من سمك القرموط النيلي، لكنه أثناء السرد وقبل استخدام
تقنيات السينما التي يعرفها جيدا كتب: "دائما الأسئلة تأتي حافية إلى عقلي
دون استئذان، وترحل دون إفشاء السلام. الغريب في تلك الأسئلة أنها لا تأتي فرادى
أبدا، ففي سينما عقلي يتكون مشهد جديد"، لعلنا نلاحظ في هذا المقطع السردي أن
الكاتب إنما يمهد ببعض الكلمات المفتاحية والدلالية حينما يرغب في الانتقال من فن
إلى آخر بشكل شديد العفوية والفنية والنضج. فإذا كان قد بدأ قصته بمفردة
"منظر" التي تخص المسرح، فلقد مهد للدخول في الشكل السينمائي للقصة
بقوله: "ففي سينما عقلي يتكون مشهد جديد"، وهنا كتب بخط مختلف:
"نهار داخلي: قبو مختلف"، لينتقل شكل السرد من شكل مسرحي إلى شكل آخر
سينمائي، لكنه سرعان ما يُمهد تمهيدا جديدا لدخول الصوت فقط حينما يقول بعد مفردة
"قطع" وهو ما تنتهي به السينما في مشاهدها: "تهيأ لي في إذاعة عقلي
الداخلية أن العصافير تسبني لأني لم أنتبه لتشبث السمكتين بالحياة، وسمعتهم في
مسمع يقولون".
هنا لابد من الانتباه إلى جمل
"إذاعة عقلي الداخلية"، و"سمعتهم في مسمع يقولون"، لنتيقن أن
المؤلف هنا حريص على الانتقال إلى شكل جديد من أشكال السرد داخل القصة الواحدة
التي لم تتعد الخمس صفحات، فهو يريد أن يكتب سيمفونية حقيقية باستخدام العديد من
أشكال الفنون في حيز السرد الذي يكتبه؛ لذلك حينما ينتهي من السمعي أو الإذاعي
يقول: "قمت من وقعتي، وأحسست بحلاوة تصعد إلى فمي، ونظرت لعيون القطة التي
أطلت برأسها من داخل كيس السمك كي تودعني، وسرت راضيا لأنه كلمني بصوت العصافير
وعيون القطة الناعسة ورضا الناس ودموع البنت الملتاعة حين جفت، واختفت البنت/
السؤال التي قالت في مشهد عقلي سابق"، ولعل الجملة الأخيرة من الفقرة السابقة
تؤكد ما نذهب إليه وهو أن المؤلف يعي جيدا ما يفعله، وهو هنا يكتب بذكاء يحتاج إلى
قارئ منتبه انتباها جيدا؛ لأنه حينما ذكر البنت/ السؤال التي كان قد تحدث عنها من
قبل بعد بداية القصة بقليل حرص على أن يذكر أنها ظهرت في "مشهد" عقلي
سابق، ولعل مفردة مشهد تؤكد بالفعل ما يرغب أن يفعله، وهو أنه يستخدم الثلاثة فنون
مازجا إياهم مع بعضهم البعض من دون فصل حاد وغير مبرر؛ ليبني سيمفونية حقيقية كما
أطلق عليها في العنوان، ولعلنا نشهد ذلك أيضا حينما يرغب في إنهاء القصة التي
بدأها "بمنظر"، فيقول من خلال كلمات دلالية: "اختفت وخرجت من
كواليس حياتي إلى الأبد، فقد كلمني"، وهنا لابد من الانتباه إلى مفردة
"كواليس" المستخدمة للمسرح وهي المفردة التي مهد بها للنهاية حينما كتب
بعدها "ستار". أي أنه أنهى القصة بشكل مسرحي كما بدأها بنفس الشكل
المسرحي، بينما انتهى المشهد داخل القصة "بقطع"، وانتهى الصوت أو
الإذاعة في الداخل أيضا "بصمت".
لعل ما سبق يُدلل من تلقاء
نفسه على حرفية محمد رفيع في فن القصة الذي يكاد يكون متمكنا منه إلى درجة لا
يمتلكها الكثيرون من كتاب القصة في العالم العربي، وبالتالي نستطيع الجزم أن رفيع
قدم لنا مجموعة قصصية متميزة قلما نراها في الآونة الأخيرة، مُدللا على أن فن
القصة القصيرة رغم صعوبته ما زال هو الفن الأرقى الذي لا يخوض غماره إلا من
يمتلكون الموهبة الحقيقية.
محمود الغيطاني
جريدة القاهرة
عدد 28 فبراير 2017م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق