الثلاثاء، 27 سبتمبر 2016

الأديب الأردني مفلح العدوان: "بوح القرى" يحمل أسرار 300 قرية أردنية

المسرحي والقاص والروائي الأردني مفلح العدوان مبدع قادر على الكتابة في أكثر من حقل إبداعي ومع هذا التعدد نستطيع أن نطلق عليه لقب "حاصد الجوائز"، تميز العدوان كثيرا في كتابة المسرح والقصة القصيرة حيث أصدر ما يزيد على سبع مجموعات قصصية، والعديد من المسرحيات، ورواية واحدة، كما أنه يعمل منذ عشر سنوات على مشروع مهم يهتم بالقرية الأردنية وعاداتها وتاريخها، أصدر منه عدة مجلدات. حصد العدوان العديد من الجوائز منها جائزة "محمود تيمور" للقصة القصيرة على مستوى مصر والوطن العربي من المجلس الأعلى للثقافة في مصر- المرتبة الأولى- عن مجموعته القصصية "الرحى" 1995م، وجائزة الشارقة للإبداع في مجال المسرح -المرتبة الثالثة- 2001م، وجائزة اليونسكو للكتابة الإبداعية – فرنسا- 2001م،  كما فاز النص المسرحي تغريبة ابن سيرين/ مونودراما ضمن العشرة نصوص الأولى في مسابقة المونودراما الدولية/ الفجيرة، وغيرها من الجوائز، هنا يتحدث العدوان عن رحلته الإبداعية ورؤيته للمشهد الثقافي العربي والأردني.

حاوره: محمود الغيطاني

-        كتبت الكثير من الأعمال القصصية والمسرحية، في حين أنك لم تكتب سوى رواية واحدة هي "العتبات"، هل أخذك المسرح والقصة من الرواية في حين أنها الفن الأكثر انتشارا؟
أنا أراوح في كتابتي بين القصة والمسرح، وقد جاءت روايتي "العتبات" بشكل مبرر؛ فأنا لدي مشروع كتابي عن القرى، وهو المشروع الذي استمر حوالي عشر سنوات وهنا جاءت هذه الرواية كموازي إبداعي لمشروع الكتابة حول القرى والأماكن والتغير الاجتماعي الذي حدث في الأردن بشكل عام ولكن من خلال نموذج قرية من القرى، أما القصة والمسرح عندي فأنا أعتقد أنهما بيتي الدافئ الذي أحس معه بالألفة، وأعتقد أن كتابة الرواية بحاجة إلى خبرة وتهيئة لها، وعند كتابتها أكون بحاجة إلى فكرة وظروف وموضوع وتشعبات خاصة بها.

-        حصلت على عدة جوائز عربية وعالمية سواء في القصة القصيرة أو المسرح، ماذا تمثل الجوائز بالنسبة لك؟
الجوائز بالنسبة للمبدع العربي أعتقد أنها بقدر ما هي مكافأة في الإطار الإبداعي وتقدير له، بقدر ما هي مسؤولية أولا من قبل المبدع باتجاه إبداعه، ومسؤولية باتجاه المؤسسات في أن تفرز المبدع الحقيقي لهذه الجوائز، فإذا توافرت هذه الأطراف لابد أن يكون المنتج النهائي لهذه الجوائز هي إبراز المبدع الحقيقي والمختلف، وهنا يكون الحكم على الحالة الإبداعية بوجه عام وليس المبدع فقط.

-        كيف ترى الجوائز بالنسبة لك، هل هي قيمة معنوية بمعنى أنها تصنع كاتبا، أم انها مجرد جائزة مالية؟
الجائزة لا يمكن لها أن تصنع كاتبا، الكاتب هو من يستحق الجائزة وهو من يضفي القيمة على الجائزة التي يحصل عليها، وفي النهاية يجب أن يكون هناك كاتبا مختلفا متميزا من أجل أن يحصل على الجائزة، وأعتقد أن الكاتب الذي يحصل على الجائزة عليه ألا يتوقف أمام قيمتها المادية ولا حتى قيمتها المعنوية، ولكن عليه أن يتوقف أمام المسؤولية التي يتحملها باتجاه الكتابة، وباتجاه أنه سيصبح نموذجا بالنسبة للكتاب والقراء.

-        بعض الجوائز تكاد تكون بمثابة الصدمة بالنسبة لمن يحصل عليها، بمعنى أنه بمجرد حصوله على الجائزة يتوقف تماما عن الإبداع ولا نرى له أعمالا جديدة.
قد يكون طموحه فقط هو الجائزة، ومن ثم فالإبداع لديه ليس هو الهاجس الحقيقي بالنسبة له، وهنا يكون توقفه عند الجائزة هو نسيانه للجائزة الحقيقية التي هي قيمة الإبداع وحضوره في هذا الإبداع وإعطاؤه الأفضل كي يكون هو بحد ذاته محفزا لجوائز أخرى.

-        مع كثرة الجوائز في الوطن العربي ووجود جوائز عظمى مثل "كتارا"، "والبوكر" وغيرها من الجوائز التي تهتم بفن الرواية، هل ترى أن هناك بعض الجوائز التي تُكرس للون معين من ألوان الرواية؟
أصبحت القيمة المادية الكبيرة هي سمة هذه الجوائز الآن، كما أن الاشتغال عليها بشكل إعلامي واسع يعطيها أهمية كبيرة، كذلك دخول عنصر الترجمة إلى هذه الجوائز وتحويلها إلى أعمال سينمائية، ربما حقوق التصرف فيما بعد الجائزة هو الذي أعطى هذه المؤسسات الدافع لأن تفرز نوعا خاصا من الرواية، بمعنى أنه إذا كان أحد العناصر الأساسية لما بعد الفوز بالجائزة أن يتحول الكتاب إلى فيلم سينمائي؛ فبالتأكيد سيكون هناك أولوية للأعمال الروائية التي تخدم هذه النتيجة، وبالنسبة للترجمة أيضا هناك الآخر الذي يريد أن يتلقى هذا الكتاب، وهو لديه سقف معين أو أسس معينة وبالتالي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ستكون لجان التحكيم أو القائمين على الجائزة واضعين هذا الأمر بعين الاعتبار، ومن ثم تكون هناك روايات معينة لخدمة هذه المصالح.

-        مع وصول العديد من الروايات الضعيفة فنيا إلى القوائم القصيرة في بعض الجوائز، وفوز البعض الآخر، ما هو الدور الذي تقدمه الجوائز إذا كانت تتخير الأعمال الضعيفة؟
إذا أردت أن تحكم على الجوائز العربية عليك أن تفرز بين نوعين من الجوائز، فما قبل عام 2000م كان هناك لونا من ألوان الجوائز الكلاسيكية، ثم جاءت جوائز أخرى لاحقة، وحتى لا نظلم كل الروايات التي فازت فباعتقادي أن هناك عدد محدد ومقنن من الجوائز القديمة وكانت تفرز روايات حقيقية وكتابا حقيقيين؛ لأنه كان هناك لجان تحكيم تضم أسماء حقيقية تستطيع أن تشتغل على النص الأدبي، أما الجوائز الآن فربما تكون هناك أسس أخرى تحكمها مسبقا لإعادة إنتاج هذه الروايات وبالتالي يكون هناك مسار محدد باتجاه روايات معينة هي في حقيقتها في عرف الرواية والعمل الأدبي مجرد أعمال ضعيفة لكن بالنسبة لخدمة مصلحة القائمين على هذه الجوائز والعمل عليها بعد الجائزة كتحويلها إلى عمل سينمائي فهذه الروايات الضعيفة تخدم هذه الجوائز.

-        انشغلت منذ عام 2005م بكتابة مشروع القرية الأردنية "بوح القرى" الذي أنجزت منه المجلدين الأول والثاني، أين هي كتابتك الإبداعية من ذلك؟
المشروع بحد ذاته لم أكتبه كتابة توثيقية، فأسلوبية الكتابة كانت كتابة إبداعية، أي أنها في شكل قصة لكنها تتحدث عن المكان، فإذا اجتزأت كل نص من هذه النصوص من الممكن أن يكون له عنوان قصة، وبالتالي أنا لا أعتمد فقط على الأرقام أو أعتمد على المعلومة أو الأسطورة ولكن هناك مزج بين كل هذه المعطيات للخروج بحكاية أو قصة هذا المكان، والحديث هنا حول ثلاثمائة قصة لثلاثمائة قرية كانوا موجودين في الأردن، وكل واحدة لها قصة وعنوان وأداء مختلف عن غيرها، ولكن لأنها تحت مظلة اسم موسوعة القرية الأردنية قدمتها بهذا الشكل، وإن كانت القصة التي أقدمها للمكان في داخلها مسوغ إبداعي للكتابة، وهناك المعلومة المفيدة والكاملة كما أني ألحقت بها بعض البيانات التي قد تكون هامشا بالنسبة لهذه القصة.

-        العديد من الروائيين تأثروا بالمكان واستطاعوا تحويل هذا التأثر إلى أعمال أدبية مازالت تحيا في وجداننا الثقافي، وربما كان من أهم الروائيين الذين فعلوا ذلك الروائي المصري صبري موسى في روايته "فساد الأمكنة" التي تأثر فيها كثيرا بالصحراء وحولها إلى تجربة إبداعية مهمة، كيف ترك المكان أثره على أعمالك الإبداعية؟
ما قبل مشروعي في الموسوعة والعمل فيه كنت أحفر أولا في المكان من خلال الأسطورة، والبحث في التراث والفلكلور من خلال تعلقي بالنقوش والفسيفساء والرحلة في داخل المكان ومحيطه، وعندما بدأت في مشروع الموسوعة وبات هناك اندماج بالمكان كان هناك لهالات المكان حضورا في كتابتي القصصية والمسرحية والرواية، حينما يكون هناك مجموعة قصصية تتحدث كلها حول المنجم مثلا حيث عملت في جنوب الأردن في مناجم الفوسفات وكان هناك أجواء الصحراء والعمال حيث الإنسان والمكان مندمجين معا، حتى مجموعتي "موت عزرائيل" كان هناك التأثر بالمكان والصحراء، لكن بعد بدايتي في مشروع موسوعة القرية وجدت أن هناك بالفعل تغيرا اجتماعيا حقيقيا حدث في الأردن بشكل عام، ورأيت أني أستطيع أن أقدمه من خلال هذا المشروع الذي يتحدث من خلال أربع بنى اجتماعية وأزمنة مختلفة كلها تتعايش في مكان واحد، فهناك زمن أسطوري وزمن واقعي، كما أن الزمان منقسم، فالعتبات مثلا ليس مجرد عنوان بمعنى أنه عتبة البيت فقط، فهناك عتبة الخيمة، والبيت المبني من الحجر، والبيت الحديث المبني من البلور والقرميد، كل هذا يمثل عقليات وعناوين مختلفة لتعبر عن التغير الاجتماعي الحادث في الأردن.

-        "زرت 80 قرية أردنية لأستطيع كتابة الرواية"، هذا ما قلته عن روايتك الوحيدة "العتبات"، هل كنت في حاجة فعلية إلى هذا التنقل على مدار تسع سنوات من أجل كتابة رواية واحدة؟
لم يكن التنقل بقصدية كتابة الرواية؛ فالتنقل كان مشروعا منفصلا له علاقة بحيثيات وتفاصيل كتابة مشروعي، وجاءت كتابة الرواية لاحقا، ولقد فكرت في هذا بعد ثلاث سنوات من بداية المشروع، بعد هذه الزيارات فكرت أنه يجب أن يكون هناك فرزا إبداعيا أو شكلا إبداعيا آخر كي يكون القالب للوعي والمعرفة بهذه البنى الاجتماعية لهذه القرى؛ لذلك جاء التفكير في الرواية لاحقا، فلم يكن في ذهني عند بداية هذا المشروع، فأنا لم أزر كل هذه القرى من أجل كتابة الرواية، كما أن الشكل الأنسب للفكرة هو شكل الرواية، أما القصة فأعتقد أنها تسربت إلى كتابة حكاية كل قرية بحد ذاتها، لكن كان هناك حراك جماعي ونموذج جماعي لتلك القرى لابد من نشره بشكل أكثر تعقيدا وأكثر تنوعا ومن هنا كانت الرواية، وبالتالي لم تكن هناك قصدية لهذه الزيارات من أجل كتابة الرواية فقط.

-        كيف ترى المشهد الروائي في المنطقة العربية الآن؟
باعتقادي أن الحراك العربي الكامل أفرز موضوعات جديدة للكتابة الروائية وجيلا جديدا أيضا من الروائيين، لكني أعتقد أن هناك قطيعة في مسح هذا المشهد كاملا للحكم عليه، فنحن الآن نحكم على هذا المشهد من خلال الجوائز وما تفرزه هذه الجوائز من أسماء، فإذا لم نكن مع هذه الجوائز نقول أن المشهد سيء ولا يستحق الذكر، وهناك جانب آخر من الناس الذين يعتقدون بجدوى هذه الجوائز يقولون: إن هناك العديد من الروائيين المهمين، ولكن في أي زمن وفي أي فترة هناك الغث وهناك الثمين، هناك الجيد وهناك الأجود، والأفضل، أنا باعتقادي أنه يوجد الآن كل هذا التنوع، فهناك رداءة في جانب معين، وهناك بروز في جوانب أخرى.

-        وماذا عن الأردن؟
الأردن ليست خارج هذا السياق، فهناك كم من الكتاب الروائيين لكن العلامات الفارقة معدودة ومحددة ويمكن بنظرة سريعة إلى المشهد أن نقول: هذا روائي بارز أو نتوء عن الحالة الروائية الموجودة أو لا.

-        أين الأدب الأردني في المشهد الروائي العربي بعد غالب هلسا؟
الأردن لا ينقطع عن المشهد العربي بالنسبة للسياقات الإبداعية، أما غالب هلسا فهو يمثل المرحلة الثانية من كتاب الرواية بالنسبة للأردن؛ فقبل هلسا كان هناك تيسير سبول وهو نقطة مفصلية في الكتابة الروائية الأردنية هو وجيله، ثم يأتي غالب هلسا الذي كانت إقامته وتنقله مختلفة حيث أن جزء من أعماله الروائية وكتابته وحضوره في مصر وجزء آخر في دمشق، وثالث في العراق وهذه السياقات جعلت من غالب هلسا أردني المولد والهوية ولكن حضوره الإبداعي هو حضور عربي ومزيج من كل هذه العواصم التي كان موجودا فيها، أما بعد هلسا فهناك مؤنس الرزاز ومعه مجموعة من الكتاب لهم حضورهم ومازالوا، وأعتقد أنه ربما الحديث حول الحضور الأردني بات بطريقة مختلفة؛ فالتوزيع من الممكن أن يصل إلى كل العواصم العربية، ووسائل الاتصال الحديثة كلها تستطيع أن تخدم وتوصل الأدب، فالإشكالية القديمة هي صعوبة وصول الأدب إلى المتلقي في العديد من العواصم أما الآن فالأمر مختلف.

-        كل هذا الشغف بالمكان يكاد يكون قد أخذك من مشروعك الإبداعي فهل يستحق المكان كل هذا الشغف كبديل للإبداع؟
المكان هو جزء من هذا الإبداع، فهو ليس منفصلا عنه، ومشروعي الإبداعي ليس المكان فقط، صحيح أن المكان جزء منه، لكن الجزء الأكبر منه تلك المتعة المنبعثة من هذا المكان من أساطير وفلكلور ودين، لأن ثنائية الإنسان والمكان موجودة وإذا أردت أن تشتغل على الإبداع لا تستطيع أن تفصل الاثنين عن بعضهما، ولذلك فكتابتي المكانية في مشروع القرى أفرز لي الكثير من المشاريع الكتابية على صعيد المسرح والقصة والرواية، لكن عند حضور المشروع الإبداعي فنحن نتحدث عن جميع العناصر الإبداعية الحاضرة والمكان هو جزء منها.

-        كنت رئيسا لاتحاد كتاب الإنترنت العرب لفترة طويلة، هل ترى أن اتحاد لكتاب الإنترنت قد يكون أمرا فاعلا في الحياة الثقافية العربية؟
كان الأمر مجرد مغامرة وفكرة، ومنبع المغامرة أنه جاء في فترة كان فيها الإنترنت جديدا بالنسبة لنا كمجتمع عربي، فلقد كان تأسيس الاتحاد عام 2005م وكان هناك انبهارا بهذه الوسائط الحديثة، ومن ثم كان هناك اجتماعا لمجموعة معينة من الكتاب حيث التقينا في معرض القاهرة للكتاب في هذا التوقيت، وكان هناك إجماع على تأسيس هذه المؤسسة حول ثقافة الإنترنت وكيفية تأثيرها على الكتابة ومدى تأثرها أيضا بالكتابة، وهل الإنترنت هو حامل للكتابة بمعنى أنه بديل للكتابة الورقية أم أنه مجرد زوبعة مؤقتة وسوف تمضي، وكان لدينا في الاتحاد أكثر من وجهة نظر، فلقد كان هناك المتطرفون للثقافة الرقمية، وهناك من يرى أنها مجرد حالة جديدة قد نتأثر بها أو لا نتأثر، لكن الأساس كان التدقيق في هذا المجال ومحاولة التنظير له كلون من ألوان التنظير من أجل كتابة جديدة هي كتابة رقمية بمواصفات مختلفة، بأن يكون هناك كاتبا رقميا وناقدا رقميا ومتلقي أيضا، وهذا المتلقي لابد أن يكون معه أدواته الخاصة كي يستطيع التفاعل مع هذا اللون من الكتابة.

-        ماذا يعني الأدب الرقمي وهل من الممكن أن يكون بديلا عن الأدب المطبوع؟
كان هناك وجهات نظر في هذا الأمر، فالكتابة الرقمية في حاجة إلى تقنيات مختلفة لأنها تحكي حول الكتابة التشعبية، أي موقع ما يؤدي إلى آخر وهكذا، فالكاتب هنا يجب أن يكون مثقفا ليس فقط في إطار الكتابة ولكن في إطار التقنية الرقمية أيضا، فالكلمة هنا لا تتعدى 20% من تقنيات الكتابة؛ لأن هناك العديد من المؤثرات الأخرى وهي مؤثرات إليكترونية؛ لهذا لم أكن متحمسا لهذا النمط من الكتابة لكني كنت من المشجعين لأن يكون لدينا الوعي والمعرفة والاطلاع عليها، وهو لون من الكتابة الموجود عالميا رغم أنه ليس جماهيرا، وفي العالم العربي لدينا نماذجا محددة لكنه لم تزل في البدايات، كما أن الأدب الرقمي والرواية الرقمية صعبة على القارئ الذي لا يستطيع الاستمرار في خط واحد في قراءتها.

-        كتبت دراسة عما أطلقت عليه برواية "الواقعية الرقمية"، ماذا يعني هذا الاصطلاح؟
هي ليست دراسة، هي مجرد قراءة لكتاب حول هذا الموضوع كتبه الروائي محمد سناجلة من الأردن وكان رئيس اتحاد الكتاب، ولقد كتب هذه الرواية في إطار تحمسه لهذا الشكل من أشكال الكتابة الرقمية، ولقد كتب ثلاث روايات رقمية، وهو ينظّر في هذا الكتاب للرواية الرقمية كما ينظّر للنظرية الواقعية الرقمية، مثلما نتحدث عن الواقعية السحرية مثلا، فالعالم من حولك فيه الكثير من المؤثرات الرقمية والواقع هو جزء من هذه الرقمنة؛ لهذا فلقد نظر للرواية التي تعبر عن هذا الواقع الذي يأتينا من خلال شبكة الكمبيوتر ومن خلال "السمارت فون"، وغيرها من التقنيات الرقمية.

-        في ظل الحالات التكفيرية التي تحيط بالأردن الآن وتصاعد المد الديني بشكل متطرف، كيف أثر هذا الأمر على الثقافة الأردنية وحالة الحريات التعبيرية؟
هذا الأمر جعل من الحرية قيمة عليا من أجل المحافظة عليها، فالأردن من جميع جهاتها هناك قوى تكفيرية فنحن نتحدث عن داعش والنصرة والكيان الصهيوني وهو أيضا كيان متطرف، ومن ثم فكل هذه الكيانات لها سياقات مختلفة في هذا التطرف؛ ولهذا كان المحافظة على الوعي والصوت العالي بالنسبة للتعبير في إطار هذا المحيط مطلبا حقيقيا في الأردن وإن كان في الميزان أصبح الحفاظ على سقف من الحرية وسقف من الأمن والاستقرار مطلبا حقيقيا؛ لأنه في النهاية حتى المتطرفين أو السلفيين أو البؤر التي لها علاقة بالظلاميين في الخارج يريدون التعبير عن أنفسهم ولكن بطريقتهم، فهل الحرية تعني السماح لهم بأن يكون لهم امتداد لمن هم في الخارج من المتطرفين، أم لابد من التعامل مع الصيغة الأخرى وهي الصيغة الأمنية والحفاظ على أمن وحرية الجزء الأكبر من هذا المجتمع؟

-        أين الثقافة السينمائية في المشهد الثقافي الأردني؟
السينما حاضرة في الأردن كسينما، أي أن دور العرض موجودة فيه من فترة متقدمة من القرن الماضي، وكان لها حضورا قويا، حتى أن السينما الجوالة موجودة في الأردن في فترة ما قبل الخمسين والأربعين، حتى في القرى أيضا في الخمسينيات والستينيات كان فيها دور عرض سينمائية، لكن هذا الحضور السينمائي لم ينعكس على صناعة السينما في الأردن، يمكن في الفترة الأخيرة توجد بعض المحاولات من أجل تقديم أو الاشتغال على منتج سينمائي في الأردن، وهذا الأمر كان بعد تشكيل "الهيئة الملكية للسينما"، وهناك تجارب أفلام لكنها جميعا بشكل فردي ولكن الوعي السينمائي والحضور السينمائي في الثقافة الأردنية موجود، أما الحديث عن صناعة السينما فهو مازال غائبا.

-        كيف ترى ثورات الربيع العربي؟
بعد مرور خمس سنوات من الربيع العربي نستطيع أن نحكم حول النتائج، وهنا نستطيع القول أنه لا توجد أي منتجات مضيئة أو إيجابية لكثير من هذه الثورات، لذا فنحن نتحدث حول ثورات كانت البداية لها معلقة بالكثير من الأحلام لكننا اكتشفنا أن من صعدوا أو تسلقوا هذه الموجات هم الذين يفرضون شروطهم ويحققون حضورهم الآن، نحن بدأنا بالعسكر وها نحن ننتهي مرة أخرى إلى العسكر، كان هناك المتطرفين وها نحن ندور دورتنا ونرجع إلى ذات السياق، قبل الربيع العربي كان لدينا 22 دولة عربية أما بعد الربيع العربي فنحن مهيؤون لأن يكون لدينا دولا عربية منشطرة انشطارات قد تصل إلى ثلاثين دولة، وهذا هو إفراز ما بعد الربيع العربي، الفكرة كانت نبيلة ولكن منتج هذه الفكرة وما حدث يضع علامة استفهام كبيرة عليها؛ فبعض الأنظمة عملت على تكرار الماضي وأعادت إنتاج نفسها، وبعض الأنظمة أُريد لها أن يكون البديل هو الأسوأ، وأنت الآن بين خيارين- فالخيار الثالث ليس هو الديمقراطية أو الحرية- أنت بين خيارين إما العسكر أو التطرف.

-        مع اهتمامك الكبير بالمسرح هل ترى أن هناك أي تأثير في الوقت الراهن للفن المسرحي؟
أظن أن الرهان الحقيقي الآن ليس على الفن المسرحي فقط لكن على الإبداع بشكل عام خاصة الإبداع التفاعلي الذي فيه قرب من الجمهور بشكل مباشر؛ لأنه في سياق التطرف والظلامية المحيطة بنا الآن التي لا تعيد إنتاج الأسرة والمجتمع فهذه الذهنية المنغلقة لابد أن تُواجه بمفاتيح في الخيال والذاكرة والوعي؛ لأن العقلية المنغلقة والمتطرفة مرتبطة بالدماء والقتل وبالتفكك المجتمعي؛ لذلك أعتقد أن وزارات الدفاع الحقيقية في المجتمع العربي هي وزارات الإبداع والمسرح والموسيقى والسينما؛ لأنها التي تستطيع تحصين المجتمع وتُهيئه ليكون باتجاه حضارة أفضل.

-        ألا ترى أن الإبداع التفاعلي الذي تحدثت عنه من خلال الإنترنت أو الفيس بوك قد أدى إلى تسطيح العملية الإبداعية لأنه فتح المساحة للكثير من المجاملات؟
الإبداع الافتراضي من خلال الإنترنت والفيس بوك وتويتر ما هو إلا حاملا للإبداع وليس إبداعا، فمن لديه منتج رديء يكون الحامل له هذا الوسيط ليوصله إلى متلقي آخر قد يكون رديء وقد يكون جيد، وهنا أنت تتحدث عن مجرد حامل لثقافة هذا المجتمع، لذلك تجد على صفحات الفيس بوك مستوى الوعي مختلف ما بين شخص وآخر، وبين مجموعة وأخرى، أما استثماره فهو المشكلة الحقيقية، فالوعي المتقدم بقدر ما يستطيع أن يأخذ مساحة على هذا الوسيط يستطيع أن يؤثر لكن في الفترة الأخيرة وجدنا أن المساحة الأكبر كانت للتطرف، وللسطحية؛ لأن هؤلاء الذين وجدوا من خلال هذا الوسيط هم هكذا من الأساس سواء في حياتهم أو تفاعلاتهم في مجتمعهم الواقعي، وهذا الوسيط للأسف هو الأسرع للانتشار؛ لذلك حينما نرى التركيز على قضية معينة من خلال الفيس بوك نعتقد أن العالم بالكامل متبني هذه القضية، لذلك فأنا أرى أن الربيع العربي هو مجرد ربيع الصورة فالصورة كانت هي الأكثر حضورا في نقل هذا الأمر، لذلك فأنت حينما تركز على زاوية معينة وتُعيد تكرار الصورة فأنت تخلق حالة، في حين أنها قد تكون مجرد زاوية شارع أو جزء من المدينة لكنها ليست المدينة بالكامل في سياقها الطبيعي، الربيع العربي كان جانب كبير منه هو مجرد ربيع الصورة، أي أنه في النهاية مجرد ربيع افتراضي لم تستطع المجتمعات العربية أن تكتشف ذلك إلا متأخرا؛ فاللقطة التي تُعاد مئات المرات هي في حضورها الواقعي لا تتعدى دقيقة واحدة أو دقيقتين، ولهذا لم تكن القنوات التي تنقل ذلك بريئة ولم يتم اكتشاف ذلك إلا بعد اكتشاف الخراب الذي حدث للناس.

حوار: محمود الغيطاني
جريدة "الجريدة الكويتية 
28 سبتمبر 2016م




الأحد، 18 سبتمبر 2016

رجل عاش خارج المكان: إدوارد سعيد.. مثقف في مواجهة العالم

تأتي ذكرى وفاة المفكر والمثقف الكبير إدوارد سعيد في أتون انقلابات وثورات سياسية عربية أدت إلى تغيير وجه خارطة السياسة العالمية بالكامل، ولعل إدوارد سعيد لو كان يعيش بيننا الآن لكان قد قال لنا: "هذا ما سبق أن أكدته لكم حينما تحدثت عن الاستشراق، واليوم تتحقق نبوءتي الاستشراقية التي هاجمني عليها العالم ووقفوا في وجهي بالمرصاد متهمين إياي بالتدليس، ومحاولة تشويه صورة الغرب في مقابل الشرق".
يؤكد سعيد في كتابه "الاستشراق" بأن الدارسين الأوروبيين قاموا بوصف الشرقيين بأنهم غير عقلانيين وضعفاء ومخنثين، على عكس الشخصية الأوروبية العقلانية والقوية والرجولية، ويُعزي هذا التباين إلى الحاجة إلى خلق اختلاف بين الشرق والغرب، وهذا الاختلاق لا يمكن من تغيير جوهر الشرق، وبالتالي فالشرق دائما ثابت لا يمكن له التغير، أو القيام بالثورات حيث أنه حالم طول الوقت، وخاضع للطغيان والظلم، وعندما نشر إدوارد سعيد كتابه كانت ما تزال حرب أكتوبر وأزمة أوبك حديثة ليشير أن هذا الخلل في النظرة إلى الشرق ما زال مستمرا في وسائل الإعلام الحديثة، ولكن التغيرات السياسية التي حدثت في الخريطة العربية في السنوات الأخيرة، تُدلل على أن إدوارد إنما كان ينظر إلى الشرق نظرة استشرافية مستقبلية حينما أكد في نظرية الاستشراق على أن الغرب حاول تنميط العالم الشرقي وفقا لنظرته هو، وخلفيته الثقافية التي تطمح دائما في الريادة على هذا الشرق الرومانسي اللاعقلاني الخاضع دائما في مقابل العالم الغربي، إنه الشرق المتمتع في نظر المستشرقين دائما بأنه مكان للرومانسية، والكائنات الغريبة، وذكريات الصيد، والمناظر الطبيعية، والتجارب الرائعة.
أثار كتاب الاستشراق وأعمال إدوارد سعيد الأخرى طائفة كبيرة من الجدل والنقد، فقد رأى "إرنست جيلنر" الفيلسوف البريطاني التشيكي، وعالم الإنسانيات والاجتماع أن: زعم إدوارد سعيد بأن الغرب قد سيطر على الشرق لمدة أكثر من 2000 عام أمر مستحيل، فلقد كانت الإمبراطورية العثمانية حتى أواخر القرن السابع عشر تُشكل خطرا كبيرا على أوروبا، كما لاحظ "مارك برودمان" أن إدوارد قد ادعى بأن الإمبراطورية البريطانية قد امتدت من مصر إلى الهند في 1880م، لكن الحقيقة أن هذه المنطقة كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية والفارسيين، في حين ذهب آخرون، أنه حتى في ذروة الإمبراطوريات الأوروبية، فإن السيطرة الأوروبية على الشرق لم تكن مُطلقة وظلت تعتمد بشكل كبير على المتعاونين المحليين الذين كانوا يخدمون الأهداف الإمبراطورية، وانتقد البعض منهجية إدوارد سعيد في انتقاء الفكر الاستشراقي ضمن منطقة جغرافية ممتدة بين مصر وفلسطين وهي أمثلة فقيرة على نظريته عن الاستشراق؛ نظراً للفترة القصيرة نسبياً لخضوعها للسيطرة الأوروبية، ورأى هؤلاء أن سعيد أهمل مناطق أهم من ذلك مثل الهند عندما كانت تحت السيطرة البريطانية وأقسام من آسيا التي خضعت للسيطرة الروسية، وما كان تركيزه على الشرق الأوسط إلا تركيزاً منه على أهداف سياسية.
لقد أصـر إدوارد سعيد على ترسيخ الـصـور الحقيقية للاستشراق دون تزويقها بألفاظ تُـحـسـن صـورتـهـا ومـفـاهـيـمـهـا تـجـاه الـعـرب والـمـسـلـمـيـن، بـعـد أن أثـبـت أن الاهـتـمـام يـصـب في الشرق الأوسط من دون غيره، لاعتبارات لها علاقة بالأديان والحضارات المتعاقبة، ومن ثم العامل الاقتصادي المتمثل باكتشاف البترول والوفرة المالية، وأوضـح أن للاستشراق دورا مؤثرا جدا في الدراسات الثقافية والجغرافيا البشرية والتاريخ وغيرها من عناصر الأمـة المتوافرة، وهذه الـمـؤثـرات، الـتـي ربما نـراهـا الـيـوم بـوضـوح بعد رحـيـل إدوارد سعيد، قـد بناها من خـلال تحليل وتشخيص المعطيات في أعمال جـاك دريـدا، وميشيل فـوكـو، واسـتـنـادا إلى نقاد الاسـتـشـراق كعبد اللطيف الصيباوي، وأنـور عبد الـمـلـك، ومكسيم رودنـسـون وغـيـرهـم، على سبيل المثال، يتوافق إدوارد سعيد بصورة لافتة للنظر مع ريتشارد ساوثرن حين يضع الـدراسـات الغربية للشرق فـي مـوضـع الـشـك مـؤكـدا عـدم الـضـلـوع بقبولها مطلقا معللا ذلك بقوله: إن التاريخ الاستعماري للمنطقة والهيمنة السياسية على الشرق قد فعلت فعلتها بتشويه كتابات المستشرقين الذين عرفوا الشرق جيدا ودرسوا ثقافته ومعرفته وحضارته، وهذه نقطة مهمة لـدى إدوارد سعيد، لا بد من أن يفهمها منتقدوه من العرب أولا، وهـي أن إدوارد سعيد قد تمخضت لديه فكرة رفض الاستشراق الغربي، ليس من الناحية المعرفية القصدية، بل من ناحية ارتباط الاستشراق بالهيمنة الاستعمارية وسياقاتها السياسية التوصيفية لأبناء الشرق، فهو يرفض وصـف الشرق بالمتخلف وعـدم المعرفة وأن حضارته مكتسبة وغير لائـق للحكم، وهو ما يجعل الغرب وليا عليه وعلى ما يملك.
رأى بعض النقاد الأكاديميين بأن إدوارد سعيد لم يميز في عمله بين أنواع المستشرقين، فعلى سبيل المثال لم يميز بين الشاعر يوهان فون جوته الذي لم يسافر أبداً إلى الشرق، والروائي جوستاف فلوبير الذي أمضى فترة وجيزة في مصر، كذلك كتابات إرنست رينان التي كانت نابعة من أساس عنصري، وبين بعض الأكاديميين مثل إدوارد وليم لين الذي كان مُتقنا للغة العربية، ووفقاً لهذا النقد، فإن إدوارد سعيد قد تجاهل جنسية المستشرقين وخلفياتهم، وانتهج صورة نمطية واحدة للمستشرق الأوربي، كما يقول الناقد والروائي روبرت ايروين بأن سعيد تجاهل دراسات المستشرقين من ألمانيا والمجر في القرن التاسع عشر، وهم لم تكن لدولهم هيمنة تذكر على الشرق الأوسط.
لكن هل كان هذا الهجوم على نظرية الاستشراق التي ابتدعها سعيد في موضعه بالفعل؟ يرى مؤيدو سعيد بأن مثل هذا النقد حتى لو كان صحيحاً، فهو لا يُبطل الأطروحة الأساسية، وهذه الأطروحة صحيحة في القرنين التاسع عشر والعشرين، وهي متمثلة خصوصاً في وسائل الإعلام الغربية والأدب والسينما، كما يرى مؤيدوه بأن دراساته لم يتم تطبيقها على البعثات الألمانية، وهو ما صرح عنه في النسخة الثانية لكتاب الاستشراق الصادر عام 1995م رافضاً نقدهم حيث قال: " لكنني بدلاً من ذلك أدركت بعض المشكلات والإجابات التي اقترحها بعض منتقدي، ولأنها تبدو لي مفيدة في تركيز المحاججة؛ فإنني سأضعها في اعتباري خلال ما سيلي من تعليقات، مشكلات أخرى مثل استثنائي للاستشراق الألماني حيث لم يقدم لي سبباً واحداً يجعلني أدرج ذلك الاستشراق الذي بدا لي بصراحة سطحي وتافه وما من داع للتعامل معه".

القضية الفلسطينية والاتهام بمعاداة السامية

اهتم سعيد كثيرا بالقضية الفلسطينية من أجل إيجاد حل لهذا الكابوس الذي عاشه طوال فترة حياته، مما أثر عليه كثيرا حتى أنه قال: "نشأتُ كعربي ذي تعليم غربي، وقد شعرت أنّني أنتمي لكلا العالمين دون أن أنتمي إلى أيّ منهما انتماء كاملا"، كما قال: "إنّني قد عبرت الخطّ الفاصل بين الشرق والغرب، وولجت إلى حياة الغرب، إلا أنّني احتفظت بصلة عضوية مع مكان نشأتي، وكانت هذه عملية عبور أكثر منها عملية إبقاء على الحواجز"، وربما كانت هاتين العبارتين وغيرهما الكثير ما جعل إدوارد مهتما أيما اهتمام بقضية فلسطين والتوطين فيها، فشارك طول حياته في الجهد المبذول من أجل إقامة الدولة الفلسطينية، وكان عضواً مستقلاً في المجلس الوطني الفلسطيني طول الفترة الممتدة ما بين 1977م إلى 1991م، ومن أوائل المؤيدين لحل الدولتين معا، وقد صوت سنة 1988م في الجزائر لصالح إقامة دولة فلسطين ضمن المجلس الوطني الفلسطيني، واستقال في سنة 1991م من هذا المجلس؛ احتجاجاً على توقيع اتفاقية أوسلو، وقد شعر بأن بنود وشروط الاتفاق غير مقبولة، وهو ما رُفض من قبل في مؤتمر مدريد 1991م، وقد رأى أن اتفاقية أوسلو لن تقود إلى إقامة دولة فلسطينية حقيقية، لاسيما أن مثل هذ الخطة رُفضت سنة 1970م من قبل ياسر عرفات عندما عرضها إدوارد سعيد بنفسه على عرفات نيابةً عن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، وقد علق على الاتفاقية بأن ياسر عرفات قد فرّط في حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى أراضي الـ 48 وتجاهل تنامي الاستيطان، وقد بلغت العلاقة بين إدوارد سعيد والسلطة الفلسطينية ذروة التوتر سنة 1995م عندما منعت السلطة الفلسطينية بيع كتب إدوارد سعيد في أراضيها.
هذا الارتباط الوثيق بقضية وطنه، وحنينه إليه أوقعه في مأزق اتهامه بمعاداة السامية والعدوان على الإسرائيليين في عام 2000م، فقد التقطت في الثالث من يوليو سنة 2000م صورة لإدوارد سعيد مع ابنه وهو يرمي حجر عبر الحدود اللبنانية الإسرائيلية باتجاه إسرائيل، وما لبث أن بدأ النقد يُوجه له بصفته "متعاطفا مع الإرهاب"، وقد علق على هذا الأمر بأن وصفه بـ "رمزية الفرح" لانتهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان، وأضاف: "لم يكن هناك أحد، وأقرب مخفر كان على بُعد نصف ميل"، ورغم ادعائه بأنه لم يستهدف أحدا بحجارته، إلا أنه وفقاً لشهود عيان لجريدة السفير فإنه كان بعيداً حوالي تسعة أمتار عن جنود إسرائيليين موجودين على برج مراقبة، وأن الحجر الذي ألقاه سعيد قد ارتطم بالأسلاك الشائكة المحيطة بهذا البرج، وقد أدت هذه الصورة إلى انتقادات واسعة ضمن هيئة التدريس في جامعة كولومبيا وبعض الطلاب، ورابطة مكافحة التشهير؛ الأمر الذي دعى رئيس الجامعة لإصدار بيان من خمس صفحات للدفاع عنه مُعتبراً بأن ما قام به هو نوع من أنواع حرية التعبير وقال في دفاعه عنه: "على حد علمي أن الحجر لم يكن موجها لأحد، ولم يتم بهذا الفعل كسر أي قانون، ولم يتم توجيه أي إتهام ضده، ولم تتخذ أي دعوى جنائية أو مدنية بحق سعيد"، ولكن كان لهذا الأمر العديد من التداعيات عليه، ففي فبراير 2001م أُلغيت محاضرة كان من المقرر أن يلقيها في جمعية "فرويد" في فينا، وقد علق رئيس الجمعية على ذلك بتعبيره أن الوضع السياسي في الشرق الأوسط أصبح أكثر تعقيداً وأدى إلى زيادة معاداة السامية؛ لذلك قررت الجمعية إلغاء المحاضر تجنباً للصراعات الداخلية.

إدوارد سعيد في دفاعه عن الإسلام

عام 1981م أصدر إدوارد سعيد كتابه المهم "تغطية الإسلام" وهو الكتاب الذي عده الجزء الثالث من نظرية الاستشراق التي ابتدعها لتتناول العلاقة بين الشرق والغرب، فبدأ نظريته بكتاب "الاستشراق"، ثم تلاه بكتاب "المسألة الفلسطينية"، ليكون هذا الكتاب هو الجزء الثالث الذي يوغل فيه من أجل تأمل العلاقة المتوترة بين الشرق الضعيف دائما، الأسطوري، المنقلب، المتفجر بالإرهابيين، وبين الغرب الأقوى، المتحضر، المتحقق، ذو العقلية المنظمة، وربما كانت هذه المفاهيم هي لب نظرية الاستشراق التي ذهب إليها سعيد، وهي التي تُعطي الغرب دائما الحق في التدخل في شئون الشرق الأسطوري الضعيف.
يقول سعيد في كتابه: "سواء قرأت رواية حديثة هلل لها النقاد مثل رواية "منحنى في النهر" التي كتبها ف. س. نايبول، ومثل رواية "الضربة الرابحة" التي كتبها جون أبدايك، أو كتب التاريخ المدرسية، أو القصص المرسومة بالكاريكاتير، أو مسلسلات التليفزيون، أو الأفلام أو الرسوم الكاريكاتورية، فسوف تجد التصوير الذي لا يختلف أبدا للإسلام، وتحس وجوده من دون تغيير في كل مكان، وترى أنه يستمد مادته من نفس الصورة القديمة التي ثبتها الزمن للإسلام، ومن هنا جاءت الصورة الكاريكاتورية المتواترة للمسلمين باعتبارهم موردين للنفط، وإرهابيين، وأخيرا باعتبارهم جماهير غوغائية متعطشة للدم، وعلى العكس، لم تُفسح الثقافة الأمريكية بصفة عامة، ولم يُفسح الحديث عن غير الغربيين بصفة خاصة، مساحة تُذكر للحديث أو التفكير، ناهيك برسم صورة للإسلام أو أي شيء إسلامي بتعاطف وود، ومن المُحتمل أنك إذا سألت أحدا أن يذكر اسم كاتب إسلامي يعرفه، أن تلتقي معظم الإجابات حول خليل جبران- الذي لم يكن إسلاميا-، وأما الخبراء الأكاديميون المتخصصون في الإسلام فقد دأبوا على تناول هذا الدين وشتى ثقافاته في إطار أيديولوجي اخترعوه، أو حددت الثقافة صورته، فامتلأ بالانفعال، وبالتعصب المعهود في الدفاع النفسي، وأحيانا بالنفور، وهذا الإطار هو الذي يجعل تفهم الإسلام مهمة بالغة الصعوبة".
من خلال هذا المقطع الطويل نسبيا من كتاب "تغطية الإسلام" يؤكد سعيد على أن الغرب يعمل دائما على تنميط المسلمين في صورة الإرهابيين المتعطشين للدماء، وبالتالي سترى هذا في كل وسائل إعلامهم، وفي أفلامهم، والكاريكاتير الساخر، ومن هنا يكون الغرب لاسيما أمريكا قد وضع كل وسائل الميديا الحديثة، ووسائل إعلامه من أجل تكريس مفهوم الإسلام العنيف؛ كي يكون هناك حالة دائمة من العداء تجاه المسلمين، ومن ثم الشرق الذي هو مهد هذا الدين الحسي الذي لا يعنيه سوى مضاجعة النساء، والمتعطش للدماء من دون سبب- كما يراه الغرب-، في مقابل الغرب المثقف، المعتدل.
يستعرض لنا سعيد مثالا على هذا التشويه المتعمد للإسلام والمسلمين في وسائل الإعلام الغربية في مقال منشور في باب "استعراض أنباء الأسبوع" من صحيفة "نيويورك تايمز" بتاريخ 14 سبتمبر 1980م، والمقال كتبه جون كيفنر وهو مراسل الصحيفة الكفء في بيروت، وموضوع المقال هو مدى تغلغل الاتحاد السوفييتي في العالم الإسلامي، وأما الفكرة التي يطرحها كيفنر فيدل عنوان المقال عليها بوضوح كاف، فالعنوان هو "لا يزال التنافر قائما بين ماركس والمسجد"، ولكن الجدير بالإشارة أنه يستخدم مصطلح "الإسلام" في إقامة رابطة مباشرة ومُطلقة، وكان يمكن أن تكون مرفوضة في سياقات أخرى، بين أحد المفهومات المجردة وبين حقائق الواقع البالغ التعقيد، وحتى إذا سلمنا بأن الإسلام يختلف عن سائر الأديان الأخرى في أنه دين جامع لا يفصل بين الكنيسة والدولة، أو بين الدين والحياة اليومية، فإن الفقرات التالية من مقال كيفنر تتضمن ما يُعتبر دليلا على الجهل وداعيا للتضليل بصورة فريدة، وربما بصورة متعمدة، وإن كان كلاما تقليديا لا جديد فيه:
"إن سبب انحسار نفوذ موسكو يتسم ببساطة خادعة، ألا وهو أن ماركس والمسجد لا يتفقان (تُرى نفترض إذن أن ماركس أقرب إلى الاتفاق مع الكنيسة أو مع المعبد؟)، وفيما يتعلق بالذهن الغربي (وهذا هو بيت القصيد كما هو واضح) فلقد تكيّف منذ حركة الإصلاح الديني مع التطورات التاريخية والفكرية التي عملت بانتظام على تقليل الدور المنوط بالدين، وهكذا فهو يواجه صعوبة في تفهم القوة التي يمارسها الإسلام (وإذن فالمفترض أنه لم يتكيف مع التطورات التاريخية أو الفكرية) ومع ذلك فلقد ظل الإسلام على امتداد قرون طويلة يمثل القوة الرئيسية في حياة هذه المنطقة، ويبدو، ولو مؤقتا على الأقل، أن قوته في ازدياد، لا يفصل الإسلام بين الدين والدولة، فهو نظام جامع لا يقتصر على العقيدة بل يشمل العمل كذلك، وبه قواعد ثابتة تحكم الحياة اليومية، ودافع روحي يدفع المسلم إلى مواجهة الكافر أو هدايته للإسلام، وفي نظر المتدينين، وخصوصا العلماء وفقهاء الدين منهم، بل وفي نظر الجماهير أيضا (أي لا استثناء لأحد) تبدو الماركسية، بنظرتها الدنيوية المحضة للإنسان مذهبا غربيا بل ومذهب تجديف كذلك"، ومن هنا يحاول سعيد فضح آليات الإعلام الغربي التي تعمل جاهدة على تشويه الإسلام وجعله في صورة نمطية يراها الغرب دائما باعتبارها ضد الحياة الحرة.
دافع سعيد كثيرا عن هذه الصورة النمطية للإسلام محاولا فضح آليات الإعلام الغربي الذي يعمل على تشويهه ومن ثم تنميطه؛ ليكون الإسلام هو العدو الأول للغرب لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، لتكتسب الإدارة الأمريكية بذلك ميزة مُساندة أهلها من المواطنين الذين يرون في منطقة الشرق الأوسط بالكامل مكانا للدمار والدموية من خلال إسلامهم الناشئ من أرضهم.

سيرة "خارج المكان"

ظلت حالة الشتات التي عاشها إدوارد سعيد بعيدا عن وطنه، فلسطين، متنقلا بين لبنان ومصر وأمريكا تُمثل بالنسبة له كابوسا لا يريد أن ينتهي، حتى أنه أوصى قبل موته أن يُنثر رماده في لبنان، وفي هذا السياق كتب سيرته الذاتية تحت عنوان "خارج المكان" وهو الكتاب الذي روى فيه حياته كلها بخيباته الكثيرة، ونجاحاته المتعددة، ومعاناته، فينقلنا إلى عالمه الصغير حيث هو "كسول وشيطان"، وحيث يتوجّب عليه الانصياع للنظام الصارم والعادات، ولسوط أبيه وإهاناته المتكرّرة التي أشعرته بالخزي وغرست فيه عدم الثقة بالنفس، يكرّس سعيد صفحات طويلةً لشرح علاقته غير المتكافئة بوالده القوي، وبسطوته على الطفل الفزع المرعوب سعيد، على العيش في روتين حياتي قاسٍ يسدّ باب الحرية والتعطّش إلى الانفلات فيقول: "لم يسمح لي بأن أزور أماكن اللهو العامّة أو المطاعم، وكان والداي يتناوبان على تحذيري دائماً من الاقتراب من الناس في الباص، ومن تناول المشروبات أو الأطعمة من محلّ أو بسطة، والأهمّ أنهما صوّرا لي بيتنا والعائلة على أنّهما الملجأ الوحيد في زريبة الرذائل المحيطة بنا".
يصف سعيد طريقة والده القاسية في التعامل معه بتفصيل شديد، يبعث على الدهشة من القدرة على مكاشفة أدقّ خفايا التفاصيل الجارحة والمؤلمة، كمن يضعها على طاولة التشريح عارية حقيقية تماماً في التعامل مع طفل ككيان بشع مشوّه يُكثر من كل العلل، إلى صفعات والده الجسدية: "كان بمقدوره أن يكون عنيفاً من الناحية الجسدانية فيصفعني صفعات قوية على وجهي وعنقي فأنكمش عنها أو تجنبها بطريقة تشعرني بمذلّة كبيرة، أسفت لقوّته وضعفي أسفاً لا تستطيع الكلمات التعبير عنه"، كذلك يصف الهجوم الشرس على غرفته، وكان قد تجاوز الرابعة عشرة بقليل ليطلّ والده ملوّحاً بقرف بمنامته التي تركها في الحمّام كمن يمسك "بأداة إجراميه" قائلاً: "أنا وأمّك لاحظنا أنّك لم تستحلم، وهذا يعني أنّك تعبث بجسدك" ويطلّ من خلف والده وجه والدته الممتقع ممّا بعث في نفسه حالة من "الرعب والذنب والعيب والهشاشة".

إدوارد سعيد وتحية كاريوكا

يتحدث سعيد في مذكراته عن علاقته بجسده، وشهوته التي بدأت تتنامى في مراهقته، وهنا يصف كيف حركت الراقصة المصرية تحية كاريوكا مشاعره الجنسية فيقول: "لم يكن من مخارج لشهوتي المكبوتة غير السينما والمرح الراقص وعروض الكباريهات، وفي إحدى أماسي ربيع العام 1950م الشديدة الحرارة، تدبر سمير يوسف أمر حجز طاولة في "مسرح بديعة" في الهواء الطلق الواقع على حاجز صغير للماء تحت ما هو اليوم فندق شيراتون الجيزة، ولأول مرة في حياتي اهتززت إثارة لمشهد إيروسي بامتياز لم أشهد مثيلا له من قبل، إنها تحية كاريوكا، أعظم راقصات زمانها، ترقص، ويرافقها جلوسا المطرب عبد العزيز محمود، فتلتف حوله وتتلوى، ثم تدور حول محورها باتزان مُحكم إلى حد الكمال، وكان ردفاها وساقاها ونهداها أبلغ بوحا من كل ما حلمتُ به أو تخيلته في نثري الاستمنائي الفظ، وتنضج بشهوة فردوسية، ولمحتُ على وجه تحية بسمة تنم عن لذة متفلّتة من كل قيد، يُعبر فمها المفتر قليلا عن نعيم النشوة، يلّطف منها مزيج من السخرية والتمنع يصلان حد الاحتشام، تسمّرنا أمام ذلك التناقض الفتان، مفاصلنا مرتخية، وأيدينا متشبثة بالكراسي، يشلها التوتر، رقصت تحية ثلاثة أرباع الساعة، مؤدية تأليفا طويلا ومتواصلا يتكون في معظمه من الدوران البطيء ومن إيماءات اليدين، فيما الموسيقى تعلو وتهبط بنغماتها المتجانسة، فتكتسب معناها لا من تكرارات المطرب أو من تفاهة كلمات أغنياته، وإنما أداء تحية النوراني والشهواني إلى حد مستبعد التصديق".

عمر الشريف في حياة إدوارد سعيد

يتحدث سعيد في مذكراته عن زميله "ميشيل شلهوب" أو الفنان المصري عمر الشريف الذي رافقه في مدرسته أثناء دراسته وحياته في القاهرة فيقول عنه: "كنت بين الحين والآخر أتمرد على النزعة السلطوية المتأصلة في المدرسة التي يجسدها رئيس التلامذة "شلهوب"، وعندما جرّوا صفنا لمشاهدة مباراة كرة قدم تُشارك فيها مدرستنا، وسمحوا لنا بارتداء ثيابنا الشخصية، أثار مظهرنا الممرّغ والرث استنكار صبية الصف السادس الأعلى المتأنقين وهم لا يزالون يرفلون بزيهم المدرسي المبهرج، سار شلهوب بمحاذاتنا على حافة خطوط الملعب، كأنه مليك يتفقد حرس الشرق المخيّب لأمله؛ بسبب مظهره الزري، فلم يُخف وجهه القرف واللامبالاة اللذين نمتّ عنهما مشيته المختالة، وكان شلهوب بالقرنفلة الضخمة البيضاء في عروة سترته، وحذائه الأسود الملمع ببراعة، وربطة عنقه المقلمة المتألقة، نموذجا لرئيس التلامذة المتعجرف، فنعب "حمد الله" بصوت على شيء من الارتفاع: "ما هذا؟ من أين كل هذه الأناقة يا كابتن شلهوب؟"، فتوقف شلهوب المستفز وأشار إليّ وإلى "حمد الله" بأن نخرج من الطابور ونلحق به، إذ بدا أننا تعرضنا بالإساءة إلى الذات الملكية.
ساقنا شلهوب إلى مكتبه الواقع فوق بركة السباحة الداخلية، التي يجري تسخينها أكثر مما ينبغي، وبعد أن صفعني صفعتين، لوى ذراع "حمد الله" ورفعها خلف ظهره، ومع تزايد الضغط والوجع، أخذ التلميذ الأصغر سنا يئن شاكيا وذراعه على وشك أن تنكسر: "لماذا تفعل هذا يا كابتن؟"، فأجابه شلهوب بإنجليزيته الطليقة الخالية من أي عيب: "بصراحة، لأني أستمتع بذلك"، لم تنكسر ذراع "حمد الله" وما لبث شلهوب أن ضجر من تلك التسلية المتعبة فأصدر أمره إلينا: "عودوا إلى مباراة كرة القدم، ولا أريد أن أسمع كلمة واحدة تصدر عنكما".
رحم الله إدوارد سعيد الذي ظل مناضلا من أجل أفكاره التي اعتنقها حتى أخريات أيامه، رغم معاناته اثنى عشر عاما كاملة مع سرطان الدم "اللوكيميا"، وهو المرض الذي لم يمنعه من النضال، والتأليف، والمزيد من الصراع من أجل الدفاع عما يعتقده صحيحا.


محمود الغيطاني
جريدة القاهرة عدد 6 سبتمبر 2016م